والتعميمات الاستقرائية كلها تمر بهاتين المرحلتين:
مرحلة أولى: يعتمد فيها المنهج الاستنباطي والمرحلة الثانية: يعتمد طريقة التوالد الذاتي لتصعيد المعرفة الاستقرائية إلى درجة اليقين. ففي المرحلة الأولى يقوم (الدليل الاستقرائي) على أساس التوالد الموضوعي للفكر وتسمى هذه المرحلة بالمرحلة الاستنباطية في الدليل الاستقرائي لأن الدليل في هذه المرحلة يمارس عملية استنباط عقلي وفقاً لقواعد التوالد الموضوعي للفكر التي يحدّدها المنطق الصوري والدليل الاستقرائي في هذه المرحلة ينمي احتمال التعميم الاستقرائي ويصل به إلى أعلى درجة من درجات التصديق الاحتمالي مستنتجاً تلك الدرجة بطريقة استنباطية من المبادىء والبديهيات(2).
ولذلك اعتبر باقر الصدر أن درجة احتمال المبرهن عليها في هذه المرحلة قضية مستنبطة ودرس في (الأسس) خطوات هذه المرحلة وشروطها مستدلا على ان التعميم الاستقرائي في هذه المرحلة الأولى لا يحتاج إلى مصادرات إضافية سوى مصادرات نظرية الاحتمال نفسها ويحتاج إلى افتراض عدم وجود مبرر قبلي لرفض علاقة السببية بمفهومها العقلي (استحالة الصدفة) (وهذا لا يكلف الدليل الاستقرائي
____________
1- م. ن، ص141.
2- م. ن، ص251.
ولأجل ذلك لا يصلح الدليل الاستقرائي في المرحلة الاستنباطية لمن يرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي رفضاً كاملا ولا يمكن له أن يفسّر الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية ولذلك يفرق صاحب النظرية بين من يبدأ هذه المرحلة وعند احتمال استحالة الصدفة المطلقة فهذا يمكنه أن يثبت بدرجة كبيرة من الاثبات من هذه الاستحالة بنفس الدليل الاستقرائي خلافاً لمن يبدأ من الاعتقاد بأن كل ما يوجد فهو صدفة ويرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي فإنه لا يمكنه أن ينمّي احتمال القانون السببي بالدليل الاستقرائي(2). ويحلل باقر الصدر كل المبررات التي تقدمها بعض الاتجاهات لرفض مبدأ السببية: المبرر المنطقي للمدرسة الوضعية، والمبرر الفلسفي لدى التجريبيين والمبرر العلمي لدى الفيزيائيين الذريين... الخ.. ويناقش كل هذه المبررات وينفي أي مبرر قبلي لرفض السببية وبالتالي يحافظ على هذا المبدأ.
ولابدَّ من الاشارة ان (المرحلة الاستنباطية) لا تنحصر فقط في تعميم ورفع درجات التصديق بشيء نعلم ثبوته من خلال تجربة بل يشمل أيضاً شيئاً مشكوكاً ومحتملا بدرجة محدّدة... إن الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية تارة يواجه شيئاً ثابتاً نعلم بوجوده خلال التجربة فينمي قيمة احتمال سببيته وليطلق عليه اسم (الشكل الأول من الاستدلال الاستقرائي) وأخرى يواجه شيئاً مشكوكاً ومحتملا بدرجة محددة على أساس علم اجمالي قبلي فيتجه إلى تنمية احتمال وجوده على أساس علم اجمالي آخر وتطبيق قاعدة الضرب أو بديهية الحكومة ولنطلق عليه اسم الشكل الثاني من الاستدلال الاستقرائي)(3).
____________
1- م. ن، ص301.
2- م. ن، ص301.
3- م. ن، ص340.
أ) اليقين المنطقي: العلم بقضية معينة والعلم بأنه من المستحيل الا تكون القضية بالشكل الذي علم.
ب) اليقين الذاتي: جزم الإنسان بقضية من القضايا بشكل لا يراوده أي شك أو احتمال للخلاف فيها.
وليس من الضروري في اليقين الذاتي ان يستبطن أي فكرة عن استحالة الوضع المخالف لما علم.
ج) اليقين الموضوعي: التصديق بأعلى درجة ممكنة على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع ما تفرضه المبررات الموضوعية.
فالفرق بين اليقين الذاتي والموضوعي أن الأول هو التصديق بأعلى درجة ممكنة سواء وجدت مبررات لذلك أم لا أمّا الثاني فهو أن تصل بك المبررات الموضوعية إلى الجزم.
(فاليقين الموضوعي له طابع موضوعي مستقل عن الحالة النفسية والمحتوى السيكولوجي الذي يعيشه هذا الإنسان أو ذاك فعلا أما اليقين الذاتي فهو يمثّل الجانب السيكولوجي من المعرفة)(1)، واليقين الذي تتكفّل به المرحلة الذاتية هو اليقين الموضوعي. وهذا ما فات بعض الدارسين أن يلتفتوا إليه فالتبس عليهم الأمر فلم يدركوا قيمة المذهب الذاتي وتخيلوا ان المذهب الذاتي يرجع المعرفة إلى سيكولوجية صرفة لا علاقة لها بالمبررات الموضوعية(2) مع أن باقر الصدر حاول في أكثر من
____________
1- م. ن، ص360.
2- انظر: مناظرة في الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش واشتباهات هذا الأخير.
كما هو الحال عندما احتجنا إلى المنطق الصوري لنعرف صيغ التلازم بين القضايا التي تجعل طريقة التوالد الموضوعي صحيحة (أشكال القياس).
ولأجل تحقيق اليقين الموضوعي في المرحلة الذاتية لابدّ من مصادرة مؤادها ان هناك درجات من التصديق الموضوعي غير مستنبطة بل بديهية أولية لأنه إذا لم تكن هناك درجات تتمتع بالصحة الموضوعية بصورة مباشرة لا يمكن أن توجد درجات مستنبطة ومن هنا انطلقت الحاجة والبحث نحو صياغة هذه الخطوة التي يحتاجها الدليل الاستقرائي في المرحلة الثانية لكي يبرّر حصول أعلى درجات التصديق الموضوعي وهي الجزم واليقين، هذه المصادرة التي نفسّر بها الدليل الاستقرائي ترتبط بالمعرفة ولا علاقة لها بالواقع الخارجي ولخصها السيد الصدر في قوله: (كلما تجمع عدد كبير من القيم الاحتمالية في محور واحد فحصل هذا المحور نتيجة لذلك على
____________
1- محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للاستقراء، ص140.
هذه باختصار ملامح نظرية المذهب الذاتي في المعرفة مع تحليل لطريقة التوالد الذاتي في المعرفة ولقد بسطنا الكلام فيها حتى نمتلك رؤية واضحة لِما لَهَا من أهمية في النظريات الجديدة لباقر الصدر لا في مجال علم الكلام فحسب والبحث العقائدي بل ان هذه النظرية اعتمدها الصدر في فروع شتى من العلوم الإسلامية كعلم الاصول مثال ذلك تطبيقها في بحثه عن وسائل الاثبات الوجداني للدليل الشرعي حيث يفسّر التواتر والاجماع والشهرة استناداً إلى نظرية المذهب الذاتي وتراكم القيم الاحتمالية على محور واحد.
ومن تطبيقات هذه النظرية في علم العقائد نرصد أكثر من مثال كإثبات الصانع
____________
1- م. ن، ص369.
النقلة المنهجية الثانية:
من الاتجاه التجزيئي إلى المنحى التوحيدي الموضوعي
لم يفتأ باقر الصدر في مواطن عديدة، ينتقد المنهج التجزيئي المعتمد في تحليل القضايا وطرح المسائل حيث أن الرؤية التجزيئية كثيراً ما تجني على الفكرة وتسيء إليها، لأنها تقدمها مشوهة ومنقوصة وأحياناً تحملها ما لا تريده، والمتتبع للتراث الكلامي يلحظ بيسر ما لهذه النزعة التجزيئية في التعامل مع النص من نتائج وخيمة وعلى التفكير العقائدي بسبب النتائج الخاطئة أحياناً وغير الدقيقة أحياناً أخرى التي تؤدّي إليها.
فالنظرة التجزيئية هي التي جعلت بعض الاتجاهات تتجمد في حدود حرفية بعض الآيات لتثبت لله يداً ورجلا ووجهاً، وتنسب له الاستواء على العرض بمعانيها الحقيقية غافلين عن الآيات المحكمة الأخرى والكثيرة التي تنزّه الله عن الجسمية والتشبيه وتجزم أنه (ليس كمثله شيء) وأنه (ولا يحيطون به علماً).
لقد تغلغلت هذه النزعة وحطمت الوحدة الموضوعية للمقطع القرآني الواحد أحياناً بعزل الآيات عن سياقها فيستشهدون بقوله عزوجل (والله خلقكم وما تعملون )(الصافات: 96) لإثبات أن الله خالق أفعال العباد في حين أن الآية أجنبية عن هذا المدلول إذ أنها تتحدّث عن الأصنام بما هو عمل من أعمال العباد وفي النهاية هو خلق الله يقول تعالى: (قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) (الصافات: 95 ـ 96)، إن
لقد حاول باقر الصدر (واعتقد انه نجح في محاولته)، أن يتجاوز هذا الطوق الذهني والقيد الفكري الذي حجب عن المؤمنين اكتشاف العلاقات بين هذه الاصول بل بين مفردات الأصل الواحد نفسه. تعرض الصدر لمشكلة المنهج التجزيئي وعالجها في معرض محاضراته القرآنية (المدرسة القرآنية) عندما نادى بتأسيس (النهج الموضوعي التوحيدي في التفسير) مقابل التفسير التجزيئي وهذه المعالجة وإن كانت متصلة مباشرة بميدان التفسير لكن يمكن أن يستفاد منها في المجال العقائدي لأن العقلية التجزيئية واحدة هنا وهناك والمنحى نفسه. وبالتالي فإن تجاوز هذا الاتجاه هناك يعني تجاوزه هنا بالتبع. اضافة إلى ان النصوص القرآنية تتضمن جملة من أدلة المتكلمين فتنعكس طريقة تعاملهم مع الآيات وآليات تفسيرهم على نتائج بحوثهم ولقد ضرب الصدر بالفعل أمثلة من مجال العقيدة للتدليل على اهمية المنهج الموضوعي يقول: (فالمنهج التجزيئي في التفسير حيث أنه كان يستهدف فهم مدلول (الله) حيث أن فهم مدلول (الله) كان في البداية متيسراً لعدد كبير من الناس ثم بدأ اللفظ يتعقد من حيث المعنى بمرور الزمن وازدياد الفاصل وتراكم القدرات والتجارب وتطور الاحداث والأوضاع من هنا توسع التفسير التجزيئي تبعاً لما اعترض النص القرآني من غموض ومن شك في تحديد مفهوم (الله) حتى تكامل في الطريقة التي نراها في موسوعات
ولم يكن غياب المنهج التوحيدي ظاهرة تمسح كل العلوم، حيث استفادت بعض العلوم من المنهج الموضوعي، (وأكثر ظني ان الاتجاه التوحيدي والموضوعي في الفقه بامتداده وانتشاره ساعد بدرجة كبيرة على تطوير الفكر الفقهي وإثراء الدراسات العلمية في هذا المجال بقدر ما ساعد انتشار الاتجاه التجزيئي في التفسير على إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النمو المكتمل وساعد على اكتسابه حالة تشبه الحالات التكرارية حتى تكاد تقول ان قروناً من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي ولم يحقق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقية جديدة)(2).
إن الاتجاه الموضوعي التوحيدي يمتاز عن نظيره التجزيئي بخصلتين اساسيتين أشار إليهما الباحث:
أولا: ان الاتجاه التجزيئي دوره تجاه النص سلبي حيث يبدأ بتناول النص القرآني ويحاول أن يجد مدلول النص فيما يسعفه به اللفظ مع ما يتاح له من قرائن متصلة ومنفصلة فدور المفسّر هنا دور المصغي والمتفهم والمتلقي فالقرآن يعطي بمقدار ما يفهم هذا المفسر من مدلول خلافاً لذلك المفسّر الموضوعي التوحيدي فإنه لا يبدأ عمله من النص بل من واقع الحياة يركّز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الانساني حول ذلك الموضوع من مشاكل وما قدمه الفكر الانساني من حلول ما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ ثم يأخذ النص القرآني لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع فحسب بل ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً ويبدأ مع النص عملية استنطاق وهو يريد من كلّ ذلك اكتشاف موقف القرآن من القضية
____________
1- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، دار التعارف، ص10.
2- م. ن، ص18.
ثانياً: إن الاتجاه الموضوعي لا يكتفي بالمدلولات التفصيلية للنص وإنما يسعى جاداً لاكتشاف الرابط الموضوعي التي تشد النص إلى مركب نظري تحتل في حدوده كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعها المناسب وهذا ما يُسمى بالنظرية. فالاتجاه الموضوعي هو السبيل للوصول إلى نظريات الإسلام في النبوة وسنن التاريخ والتغير الاجتماعي.. الخ.
وقد يثار في المقام تساؤلٌ حول اهمية هذا المنحى بلحاظ أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) نفسه لم يعط هذه النظريات تفصيلياً وإنما منح للمسلمين نصوصاً وأحكاماً كما هي متناثرة بين أيدينا ويرد باقر الصدر عن هذا السؤال بأن الصحابة وان كانوا لم يتعلموا هذه النظريات تفصيلا ولم يتلقوها كذلك ولكنهم تلقوها إجمالياً وارتكازياً ورسخت في أفكارهم ووجدانهم (كان المناخ العام الاطار الاجتماعي والروحي والفكري الذي يعتبرونه مساعداً على تفهّم هذه النظريات ولو تفهماً إجمالياً وعلى توليد المقياس الصحيح في مقام التقسيم. أما حين لا يوجد ذلك المناخ، أما حيث لا يوجد ذلك الإطار إذن تكون الحاجة إلى النظريات يعني الحاجة إلى دراسة نظريات القرآن والإسلام.. خصوصاً مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين انسان العالم الإسلامي وانسان العالم الغربي بكل ما يملك من رصيد عظيم ومن ثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية)(1).
إن هذا التفاعل بين الإنسان المسلم والإنسان الغربي جعل المسلمين وجهاً لوجه مع نظريات كثيرة ولكي نحدد موقف الإسلام من هذه النظريات (كان لابد أن يستنطق نصوص الإسلام ويتوغل في أعماق هذه النصوص لكي يصل إلى مواقف الإسلام
____________
1- م. ن، ص36.
وكتطبيق لهذا المنهج الموضوعي في بحوثه العقائدية يمكن أن نتلمس موارد عديدة لكننا نكتفي بمثالين لهذا التطبيق يتضح من خلالهما الثمرات العلمية والمنهجية الهامة لهذا الطبيق.
المورد الأول: التحليل الموضوعي والقراءة التوحيدية الترابطية لمفردات اللوحة الخماسية لأصول الدين.
المورد الثاني: التحليل الموضوعي الترابطي لحياة الأئمة الاثني عشر.
المورد الأول:
عندما طبق الصدر هذا المنهج الموضوعي تبين أن اصول الدين في وحدتها الترابطية تمثّل رؤية في فلسفة التاريخ وقاعدة لنظام اجتماعي مميز يعتمد صيغة رباعية في العلاقات الاجتماعية عكس كل النظريات الوضعية التي تستند إلى صيغة ثلاثية لقد كشف باقر الصدر عن اللوحة الخماسية (التوحيد ـ العدل ـ النبوة ـ الإمامة ـ المعاد) رؤية حضارية تقدمية تختزن داخلها كل مقدّمات الدفع والتحريك والتغيير (فالتوحيد) يقدم مثلا أعلى مطلقاً هو الله عزوجل وهو اللامتناهي من جميع الجهات وهذا ما يجعل المسيرة البشرية تصاعداً لا يهدأ ولا يفتر: (يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كَدْحاً فملاقيه) إن عقيدة التوحيد تؤمن بمثل أعلى خارج الساحة التاريخية مما يجعل المسيرة.. في دفع متواصل مستمر وكلما قطعت شوطاً انفتحت امامها اشواطاً جديدة وهذا هو التغيير الكمي الذي يطرأ على مسيرة البشر باعتناقها التوحيد واتخذها (الله) مثلا أعلى مطلقاً. وهناك أثر آخر هام وهو الأثر الكيفي للتوحيد
____________
1- م. ن، ص37.
(والعدل) كصفة من صفات الله.. لها ميزتها الاجتماعية حَيْثُ تساهم بفعالية في توجيه البشرية وحمايتها من السقوط في متاهة الظلم والنبوة توفر قاعدة الاتصال والرابطة الموضوعية بين الانسان والمثل الاعلى: هذه الصلة التي توجه فيها هذا المثل الأعلى البشرية من خلال انبيائه ويهديهم إلى سبيل السعادة والرفاه. (والامامة) هي الامتداد القيادي للأنبياء في حياة الناس، والحاجة إليهم تنبع من الحاجة في استمرارية رسالة الثورة التي يقوم بها الأنبياء في مجتمعاتهم ولا يستكملونها أما (المعاد) فهو الركيزة التي تمنح الإنسان الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية (اذن اصول الدين في الحقيقة وبالتعبير التحليلي على ضوء ما ذكرناه هي كلها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الأعلى وفي إعطاء تلك العلاقة الاجتماعية بصيغها القرآنية الرباعية)(1).
المورد الثاني:
في هذا المجال يطبق باقر الصدر المنهج الموضوعي على حياة أئمة أهل البيت(عليهم السلام)فيتجاوز التقليد السائد في دراسة سيرة الأئمة ويسعى لاكتشاف الخيط الرفيع الذي يشدّ حلقات هذا الخط الإلهي الممتد والمستمر في التاريخ لأن المدارس الكلاسيكية تدرس عادة الأئمة بشكل تجزيئي وتفصل مرحلة كل إمام عن الإمام الذي يسبقه والذي يليه ولا تهتم بالأهداف التخطيطية المشتركة التي يلتقي حولها أكثر من إمام ولا تحاول
____________
1- م. ن، ص199.
أ ـ تكرر ظواهر في حياة الأئمة: يذكر الصدر منها: استشهاد الإمام علي بنصوص الإمامة وتكرر الموقف نفسه من قبل الإمام الحسن والحسين، والباقر(عليهم السلام) الخ...
ب ـ عقيدة الإمامة يترقى الصدر أكثر في مجال الاستدلال على الدور المشترك حيث يؤكد أن هذه الفرضية مما تفرضه عقيدة الإمامة (وفي عقيدتي أن وجود دور مشترك مارسه الأئمة جميعاً ليس مجرد افتراض يبحث عن مبرراته التاريخية وإنما هو مما تفرضه العقيدة نفسها وفكرة الإمامة بالذات لأن الإمامة واحدة في الجميع بمسؤولياتها وشروطها فيجب أن تنعكس انعكاساً واحداً في شروط الأئمة(عليهم السلام)وأدوارهم مهما اختلفت أدوارهم الطارئة بسبب الظروف والملابسات ويجب أن يشكل الأئمة بمجموعهم وحدة مترابطة الاجزاء ليواصل كل جزء من تلك الوحدة الدور للجزء الآخر ويكمله)(2).
____________
1- محمد باقر الصدر، أهل البيت: تنوع أدوار ووحدة هدف، دار التعارف، ص141.
2- م. ن، ص142.
في ظل هذا الاعتقاد بالدور الايجابي للأئمة(عليهم السلام) ووحدة هدفهم وتنوع ادوارهم وفق ما تمليه خصوصيات المرحلة الظرفية لكل امام يطرح باقر الصدر أَدْوَاراً ثلاثة أو مراحل ثلاث لخط الامامة في التاريخ.
ـ الدور الأول: مرحلة تفادي صدمة الانحراف نتيجة المسار الذي اتخذته الاحداث عقيب وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) هذه الصدمة التي تجرع أئمة أهل البيت(عليهم السلام) مرارتها والتي
____________
1- م. ن، ص144.
2- م. ن، ص144.
يبدأ هذا الدور بعد وفاة الرسول ويستمر إلى حياة الإمام الرابع: زين العابدين(عليه السلام).
ـ الدور الثاني: بعد ان نجحت (الإمامة) في تحقيق الهدف المركزي من الدور الأول وتجاوزت الأمة الخطر الداهم على الرسالة وكل التحصينات ضد صدمة الانحراف تصل النوبة إلى هدف جديد وهو بناء الكتلة الخاصة أي الطليعة الشيعية التي تتمتع بدرجة أعلى من التحصين وتتوفر على عناصر أعمق من الوعي حتى تكون الفئة المتميزة على طريق حفظ الإسلام ومبادئه لقد أدى هذا الدور الإمام الباقر(عليه السلام) واستمر إلى زمان الإمام الكاظم(عليه السلام).
ـ الدور الثالث: ببناء الكتلة الطليعية الواعية والمجاهدة أصبح الأئمة بمقدورهم السعي الحثيث لاستلام السلطة ومن ذلك رهبة وخوف السلطات القائمة من أئمة أهل البيت في المرحلة التاريخية أكثر من أي فترة أخرى. لأنه بدا لهم أن قيادة الأئمة أصبحت على مستوى تسلم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام النقي مما صعد من مواجهة السلطة ومحاربتها للأئمة من زمن الكاظم(عليه السلام) إلى أيام الإمام العسكري والإمام المهدي (عج) الذي تواترت عن جده رسول الله(صلى الله عليه وآله)أخبار تفيد أنه سينتصر على كل الطواغيت ويملأ الأرض قسطاً وعدلا.
هذا الاعتقاد بتكامل أدوار الأئمة(عليهم السلام) يشكل الوجه الآخر لايمان الصدر بانبثاق قيادة أهل البيت(عليهم السلام) من رسالة النبي(صلى الله عليه وآله) وأنها الامتداد الطبيعي والاستمرار المستقبلي الضروري لولاية النبي(صلى الله عليه وآله) لحفظ الرسالة والبلوغ بالمسيرة الإسلامية أسمى غاياتها متمثلة في قيام مجتمع الحق والعدل الذي لا يشوبه ظلم ولا انحراف مجتمع يحقق الوعد الإلهي الصادق (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم
النقلة المنهجية الثالثة:
من النزعة الثبوتية إلى الاتجاه التكاملي
ينعت الفكر الديني بالجمود وتحجر آلياته ويتفاخر الفكر المادي بأنه فكر متطوّر يدرس الطبيعة والمجتمع من منظور متحرك يرصد التحولات الحاصلة فلا ايمان بقضية مطلقة إلى الابد والحقيقة دائماً تتغير وتتبدل. ولقد أسست لهذا الأمر المادية قوانيناً طبقتها على الطبيعة والتاريخ خاصة المدرسة الماركسية التي طرحت المادية الجدلية (الديالكتيك) لتفسير الطبيعة والمادية التاريخية لفهم التاريخ فالتناقض والجدل هو أساس الحركة والتطور سواء على مستوى المادة أم على مستوى التاريخ.. إن الماركسية تتبجّح أنها حولت الجدل من أسلوب في المناظرة في المنطق القديم إلى منهج في تفسير الأشياء وقراءة الواقع وقانوناً كونياً شاملا قابلا للانطباق على الطبيعة والتاريخ (فالجدل الجديد عند الديالكتيكيين قانون للفكر والواقع على سواء ولذلك فهو طريقة للتفكير ومبدأ يرتكز عليه الواقع في وجوده وتطوره)(1). ويزعم المنطق الجدلي بأن أصحاب المنطق القديم عموماً والالهيين خصوصاً يستندون إلى ثلاثة مبادىء لا أساس لها من الصحة هي مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض ومبدأ السكون والجمود في الطبيعة الذي يرى الأشياء ساكنة جامدة لا تغير فيها لقد تجاوز المنطق الجدلي هذه الأسس والمبادىء الثلاثة وآمن بمبادىء أربعة أخرى: حركة التطور وتناقضات التطور وقفزات التطور وقانون الارتباط العام(2).
لقد ناقش الصدر هذه المبادىء الأربعة في المصدر المشار إليه وأكد ان الالهيين لا
____________
1- محمد باقر الصدر: فلسفتنا، دار التعارف، ص191.
2- انظر فلسفتنا من ص192 إلى ص260.
وعمقت الفلسفة الإسلامية نظرية الحركة على يد ملا صدرا(قدس سره) الذي أثبت أن الحركة لا تمس ظواهر الأشياء فحسب بل تمس صميم الطبيعة وجوهر الأشياء وهذه الحركة الجوهرية العميقة هي منشأ كل التغيرات والتبدلات التي تطرأ على الظواهر وهكذا يكشف الصدر أن الماديين في اتهامهم للميتافيزيقيين أو الالهيين بأنهم يعتقدون جمود الطبيعة وسكونها لا مبرر له سوى سوء فهم الماديين الديالكتيكيين للحركة بمعناها الفلسفي الصحيح.
ويفرّق باقر الصدر بين مفهوم الحركة عند الماديين والحركة في الفلسفة الإسلامية ويرجع الاختلاف إلى نقطتين اساسيتين:
ـ أولا: ان الديالكتيك يرى ان التناقض مفهوم أساسي للحركة فالصراع بين المتناقضات هو القوة الدافعة للتطور والحركة.
أما في المفهوم الفلسفي الميتافيزقي فان الحركة سير من درجة إلى درجة أعلى مختزنة داخل الشيء نفسه لكنها في حالة كمون.
ـ ثانياً: ان التطور الداخلي للأشياء لا يتوقف (كما رأينا) في حدود الطبيعة وانما يتعدّى إلى عالم الافكار والمفاهيم التي يراها التحليل الماركسي انعكاساً للواقع الخارجي فقوانين الديالكتيك هي القوانين العامة للحركة سواء في العالم الخارجي أو في الفكر البشري، وهذا ما لا توافق عليه الفلسفة الميتافيزيقية التي ترفض عموم
____________
1- م. ن، ص200.
إن المفكرين الاسلاميين رغم انتسابهم إلى فلسفة الهية لا تلغي الحركة وتُقِرِّ بِهَا كفمهوم أساسي للطبيعة وكذلك للفكر بالمعنى التكاملي الذي طرحه باقر الصدر، نراهم يعالجون الظواهر الاجتماعية والمفردات العقائدية خاصة، غافلين عن تكامل هذه المفاهيم فنراهم يسلكون منهجاً ثبوتياً ستاتيكياً في تحليل المسائل العقائدية دون أي نظر إلى تكامل وتطور هذا المفهوم أو المراحل التي قطعها لبلوغ هذه المرتبة كما انهم لا يلتفتون إلى الاستعدادات التي يختزنها هذا المفهوم والذي يتحرك من خلالها إلى آفاق مستقبلية فلا يحاولون استشرافَها.. باستقراء تاريخ التكامل والاحاطة بمنحى التطور..
إن التفكير العقائدي القديم حاول أن يدرس التراث العقائدي والمسائل الكلامية
____________
1- م. ن، ص210.