الصفحة 51
بمنأى عن قانون الحركة والتكامل لذلك فاتته دلالات مركزية هامة ومضامين عميقة لاصول الدين عبر تاريخ علم الكلام غير أن (باقر الصدر(قدس سره)) يحدث نقلة نوعية تثور على هذا الاطار الثبوتي السكوني ويعتمد منهجاً ديناميكياً تكاملياً. وهذا من شأنه أن ينتقل بالبحث الكلامي إلى مدارات جديدة لم يعهدها لهذه النقلة ان تقنن وتُقَعّد.

ولعل العديد من النتائج الجديدة التي وصل إليها الصدر في جملة من القضايا تعود إلى هذه النقلة المنهجية الهامة:

لقد دَرَس مفكرنا جملة من القضايا العقائدية عبر هذا المنظور التكاملي وأخذ بعين الاعتبار عامل الزمن والتغير الذي يطرأ على نفس المفهوم، فتجاوز الاحكام الاطلاقية والتصورات الثبوتية. ويمكن أن نعطي لذلك نموذجين من نتاج الشهيد في هذا المضمار:

النموذج الأول: التوحيد وتكامل الوعي التوحيدي

في هذا المقام يحلل الصدر التوحيد لا كأصل ثابت وانما يدخل في حسابه عامل الزمن وتكامل النبوات المبشرة بالتوحيد فيرى أن الوعي التوحيدي بلغ أوجه مع رسالة الإسلام لأن القرآن قد أوصل الفكر الانساني إلى أعلى درجات التنزيه والتعظيم لله عزوجل (ليس كمثله شيء) (الشورى: 11)، (وما قدروا الله حق قدره) (الانعام، 91)، ولم تبلغ الرسالة هذه المرحلة طفرة واحدة وإنما ارتقت بالوعي الديني تدريجياً بواسطة نبوات عديدة لتدرك هذه الدرجة العالية يقول الشهيد الصدر:

(ان فكرة التوحيد ليست ذات درجة حدية وانما هي بنفسها ذات درجات من العمق والاصالة والتركيز والترسخ فهذه الدرجات متفاوتة كان لابدّ بمقتضى الحكمة الإلهية أن يهيأ لها الإنسان بالتدريج هذا الانسان الذي غرق بمقتضى تركيبه العضوي والطبيعي

الصفحة 52
في حسه ودنياه بالتدريج لكي ينفتح على فكرة التوحيد التي هي فكرة الغيب)(1).

ويستقرىء الصدر هذا التكامل للوعي التوحيدي عبر مقارنة بين أهم دينانتين سابقتين وبين الإسلام فيسجل أن التوحيد في التوراة يعطي فكرة اله لكن لا يستطيع أن ينزع عنه الطابع القومي المحدود وفي الانجيل صعدت فكرة الله مرتبة وذلك لانه تخلص من الطابع القومي واصبح الاله الهاً عالمياً ولكنه لم يجرد كلية وبقي أسير ذهنية الانسان الحسية وبهذا يعبّر الانجيل عن المسيح بأنه ابن الله ـ فالاله هو الأب لكل البشرية.. لكن القرآن يعطي لفكرة التوحيد مداها الاعظم من التنزيه والتجريد فيجرد الله عن أي علاقة مادية مع أي إنسان كان(2).

النموذج الثاني: تكامل النبوات

إن إشكالية الثابت والمتغير أو الثابت والمتحول تطرح نفسها بقوة لا في المجال الفقهي والتشريعي فقط وانما تمتد لتفرض نفسها في المجال الفكري والعقائدي حيث يثار التساؤل القديم الجديد: كيف يعالج الدين بصيغته الثابتة وتعاليمه المحدودة المحصورة في صيغ معينة ومفاهيم محدودة وأحكام مخصوصة كل قضايا الانسان ومشاكله وهمومه وآفاقه على مدى الزمن التي لا يحدها شيء؟ لقد فحص هذه الاشكالية العديد من المفكرين الاسلاميين ولئن تعددت الاجابات إلاّ أنها تلتقي تقريباً حول نفس المبدأ(3)، وهو أن تكامل الرسالات مهما امتد واستمر لابد أن ينتهي عند نقطة يبلغ معها نهايته ومن المستحيل أن يستمر إلى ما لا نهاية لابدّ أن نصل إلى رسالة خاتمة تختزن داخلها كل المقومات الاساسية لقيادة الانسان وهدايته وتستوعب كل

____________

1- محمد باقر الصدر: أهل البيت (م. س) ص39.

2- انظر تفاصيل هذا التطور في كتاب: أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف ص39 ـ 40.

3- لاحظ بحث الشهيد مطهري: ختم النبوة، ودراسة السيد الطباطبائي حول النظام الاجتماعي في الإسلام.


الصفحة 53
الحلول لكل المشاكل والهموم التي يفرضها التقدم التقني والصناعي والاجتماعي.

لقد أجاب (باقر الصدر) عن السؤال السابق في بحثه (التغير والتجديد في النبوة) فاستعرض عوامل هذا التجديد وهي أربعة أسباب أساسية:

ـ أولا: أن تكون النبوة قد استنفذت اغراضها واستكملت أهدافها بأن تكون النبوة جاءت وصفة لمرض طارىء في المجتمع الانساني مرضاً من الناحية الفكرية أو الروحية أو خللا في النظم الاجتماعية، فحينئذ لا يمكن أن تصلح النبوة كوصفة مؤقتة لكل زمان ومكان مثل ذلك ما يقال عن المسيحية من أنها تحث إلى التركيز على النواحي الروحية نتيجة لإفراط بني اسرائيل في الانغماس في الدنيا.

ـ ثانياً: أن لا يبقى تراث يمكن أن يقوم على أساسه العمل والبناء ويمكن تصور ذلك في فرض موت النبي وتولد ظروف وانحرافات تعصف بالرسالة وتذهب التراث الروحي والمفاهيمي حينذاك تبقى النبوة مجرد مسألة تاريخية ولا يوجد في حياة الناس ما يجسد مفهومها ومنظارها إلى الحياة.

ـ ثالثاً: السبب الثالث لمحدودية الرسالة بأعتبار محدودية النبي نفسه فالأنبياء كغيرهم من البشر غير متساوين في درجات تلقيهم للمعارف الإلهية عن طريق الوحي فبعضهم غير مؤهل لأن يحمل هموم البشرية على الاطلاق في كل زمان ومكان بل هو مؤهل لأن يحمل هموم عصره فقط أو هموم مدينته أو هموم قبيلته فقط. (فإذا كانت النبوة محدودة بطبيعة هذا النبي كان لابد في خارج هذه الحدود الزمانية والمكانية من نبوة أخرى تمارس عملها في سبيل الله سبحانه)(1).

ـ رابعاً: تطور البشرية: فان هذا التطور يجعل الرسالة السابقة غير مهيأة لهداية الانسان الجديد وهنا يؤكد باقر الصدر على مفهوم تكامل الرسالات مصرّحاً بأن كل

____________

1- محمد باقر الصدر: أهل البيت (م س)، ص38.


الصفحة 54
رسالة تهيء الانسان لرسالة جديدة فـ (فالانسان المدعو يتصاعد بالتدرج لا بالطفرة وينمو على مرّ الزمن في أحضان هذه الرسالات الإلهية فيكتسب من كل رسالة الهية درجة من النمو تهيئه وتعده لكي يكون على مستوى الرسالة الجديدة وأعبائها الكبيرة مسؤولياتها الأوسع نطاقاً)(1). ويحلّل باقر الصدر أبعاد ومستويات التطور البشري فيرجعها إلى ثلاثة أبعاد:

أ) الوعي التوحيدي.

ب) المسؤولية الاخلاقية في تحمل أعباء الرسالة.

ج) خط التقدم الفني والتقني والسيطرة على الطبيعة.

ويرى ان التطور بلغ اوجّه في البعد الأول (كما أشرنا في النموذج الأول) وكذلك في البعد الثاني حين ارتقت النبوات بالإنسان وعودته على التضحية في سبيل الرسالة إلى أن بلغ أعلى المراتب.

أما البُعدِ الثالث فهو خط متطور دائماً لا يمكن أن يتوقف لأن التقدم التقني والتكنولوجي الصناعي يمتاز بالتراكم الكمّي فكلما سيطر الإنسان على مجال ما في الطبيعة رمى بصره نحو ميدان آخر وهكذا.. وتغير النبوات قانون أو سنة ترتبط بالبعد الأول والثاني ولكنها لا تتأثر بالعنصر الثالث ولا تنفعل به وإلاّ لو كانت متوقفة عليه لكَانت النبوة متغيرة ومتجددة بين الحين والآخر خاصة في عصورنا الاخيرة حيث يشهد العالم نقلات سريعة في مجال التقدم العلمي والصناعي. ولكن لما كانت النبوة مرتبطة فقط بخط الوعي التوحيدي وخط المسؤولية الاخلاقية ولما بلغ هذان الخطان نهايتهما ختمت النبوة مع رسالة الإسلام التي تمثّل (رسالة شاملة كاملة عامة للحياة جاءت على أبواب وصول الإنسان إلى رشده الكامل من ناحية استعداده لتقبّل وعي

____________

1- محمد باقر الصدر: أهل البيت (م س)، ص38.


الصفحة 55
توحيدي صحيح كامل شامل ومن ناحية تحمله لمسؤولية اعباء الدعوة)(1).

ولقد تصدّى أحد أبرز طلاب باقر الصدر(2) لتعميق هذا المفهوم (تكامل النبوات) وحقب تاريخ الأنبياء وقسمه إلى مراحل عديدة مهدت لبلوغ الإنسانية أوج استعدادها لتلقّي الاطروحة الكاملة والنهائية التي ستطبق في المجتمع العالمي المنشود على يد صاحب العصر والزمان (عج).

وطرح أربع مراحل كنسق تكاملي يحكم تطور النبوات:

أ) النبوات العقائدية.

ب) النبوات التشريعية.

ج) النبوات القبلية.

د) النبوات العالمية(3).

في التحليل السابق لاحظنا كيف تعامل باقر الصدر مع النبوة في تكاملها الزمني بلحاظ جذورها في التاريخ ويشهد له بحثه حول الولاية تعاملا مع نفس ظاهرة النبوة ولكن هذه المرة في تكاملها وامتدادها في المستقبل حيث اثبت بمنهجية فريدة مبتكرة قائمة على طريقة الاحتمالات ضرورة الولاية كإستمرار لخط النبوة في التاريخ وسنعود لهذه النقطة في الفصل الثالث من الدراسة بحول الله تعالى.

النقلة المنهجية الرابعة: الابعاد الاجتماعية للعقيدة:

من عقيدة الفرد إلى عقيدة المجتمع

بحكم المهام التي آمن بها المتكلمون وحددوها (ذكرناها في الفصل الأول) اصطبغ

____________

1- م. ن، ص43.

2- هو السيد محمد الصدر: في موسوعة الإمام المهدي (عج): الجزء الرابع، اليوم الموعود.

3- انظر تفاصيل وخصائص كل مرحلة في كتاب: اليوم الوعود للسيد محمد الصدر من ص426 فما فوق.


الصفحة 56
هذا العلم بصبغة تجريدية تستند على الجدل والتبكيت ومحاولة تبرير التناغم والانسجام بين معطيات العقيدة وضرورات العقل بعيدة نسبياً عن الواقع وعالم الانسان. لقد انقلبت وتحولت العلاقة الثنائية بين الانسان والعقيدة ففيما كانت هذه العلاقة في فجر الرسالة قائمة على اعتبار الوحي في خدمة الإنسان والدفاع عنه وعن قضاياه صار الإنسان في صراع جدلي حول الوحي بعيداً عن طموحاته وأهدافه والبحث الدؤوب عن حلول لِمَشاكل الحياة في مختلف مجالاتها.

هذه الاتجاه عمق من جانب آخر الصبغة الفردية لعلم الكلام حيث تعالج العقيدة كعقيدة فرد وتتعاطى مع قضية المسلم فيما يجب معرفته واعتقاده وتوسّعت هذه النزعة التجريدية بمنأى عن واقع الناس وهموم الجماهير بل استغرقت أكثر فأكثر في عالم خاص من المصطلحات والرموز والصياغات البرهانية.. تضخم مع مرور الأيام.. ليعلن الانفصال عن التحديات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تواجه المسلمين خاصة في عصرنا الحالي.

من هنا كان علم الكلام بحاجة إلى نقلة ثورية تعيده إلى مهمته الأساسية في نحت الانسان وهدايته انطلاقاً من قاعدة فكرية أساسية لأن العقيدة في قاموس الصدر هي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون وهذا لم يغب عن وعي العديد من زعماء الاصلاح في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حين اتفق هؤلاء حول اعطاء العقيدة عامة والتوحيد خاصة مدلوله الاجتماعي والسياسي في حياة المسلمين حتى ينفضوا عن أنفسهم غبار التخلف ويهبوا مندفعين نحو قيام مجتمع متحضر ومتقدم يحتل مكانة على الأرض بجدارة ولا يرضى بالهوان والضعف(1)، ويلتقي مع هؤلاء بعض المفكرين المحدثين أيضاً: (لقد

____________

1- انظر أمين أحمد: زعماء الإصلاح في العصر الحديث.


الصفحة 57
أدرك بعض المفكّرين المسلمين المحدثين إشكالية علم الكلام هذه فراحوا يبحثون عن علم كلام جديد إن أمكن القول علم للكلام يكون فيه للتوحيد وظائف جديدة ويكون علماً محرراً للإنسان وعلماً خالصاً صافياً من الشوائب والأكدار وان علماً تكون له هذه الخصائص بقادر حقاً على ان يدفع بأصحابه إلى الإمام)(1) وبقراءة هذه المحاولات الهامة في بناء هذه القواعد الجديدة يبدو مشروع باقر الصدر متميزاً لأنه قام على معالجة أصول الدين معالجة اجتماعية نهضوية تسعى أساساً لتقديم الدين كحل للمشكلة الاجتماعية والتوحيد كبرنامج ثوري ضد الظلم والجهل والانحراف والنبوة كصلة موضوعية بين الله والانسان تقود زمام هذه الثورة الالهية وتنتصر لطموحات البشر في الكمال والسعادة، لقد قرأ الصدر هذه الاصول الاعتقادية قراءة مستحدثة مستنيرة لم تفصل الله عن الانسان والسماء عن الأرض والاعتقاد عن الحياة.. والتصور عن العمل والحركة ان هذه الازدواجية بين الغيب والشهادة بين الأرض والسماء تتهاوى عندما تتحرك عقيدة الامة في اتجاه إلباس الأرض أطر السماء(2) وتعميم روح المسجد على كل فضاء.

ان هذه النقلة الهامة يتحول معها الدين من شأن فردي وقضية شخصية إلى مشروع مجتمعي ويغدو حينذاك الملاذ الواقعي الصحيح لحل المشكلة الاجتماعية، ولا غرابة ان يعمد باقر الصدر لاحداث هذه النقلة إذا التفتنا إلى أن حل المشكلة الاجتماعية كان دائماً هاجسه الكبير لذلك حاول على طول مسيرته العلمية أن يؤسس النظريات الإسلامية التي تقدم حلولا لهذه المشكلة في ابعادها المختلفة: السياسية والاقتصادية والدستورية.. الخ.

لقد كان همه الأكبر الوصول إلى صياغة دقيقة متكاملة للنظام الاجتماعي الأصلح

____________

1- فهمي جدعان: اسس التقدم، (مصدر سابق)، ص189.

2- محمد باقر الصدر: منابع القدرة في الدولة الإسلامية (الإسلام يقود الحياة)، دار التعارف، ص228.


الصفحة 58
في بحث دؤوب عن الاجابة عن سؤال محوري هام: (ما هو النظام الذي يصلح للانسانية وشعوبها في حياتها الاجتماعية؟) هذه المشكلة متجذرة في أعماق تاريخ الانسان لأنها طغت على السطح منذ أن تشعبت النواة الأولى للمجتمع الانساني وظهر أفراد عديدون تتجاذبهم ميولات مختلفة وطموحات متفاوته وتجمعهم من جهة أخرى هموم مشتركة ومصالح موحدة.

ولكن الاحساس المعاصر بهذه القضية أقوى وأشد لأن الإنسان المعاصر يعي جيداً ان المشكلة هو الذي صنعها ولا تُعرض عليه من فوق إضافة إلى أن التراكم التاريخي للتجارب العديدة والنظم المختلفة والتي باء أغلبها بالفشل عمق في الوعي الانساني الحاجة إلى التمحيص والتدقيق في المسألة.

لقد ابدع باقر الصدر حقاً في مناقشة المدارس الكبرى التي طرحت حلا لهذه المشكلة وخاصة المدرسة الماركسية والرأسمالية في كتابيه (فلسفتنا واقتصادنا) وأبرز فشل هذين المذهبين في تشخيص حقيقة المشكلة وبالتالي في وصف النظام الذي يقود إلى السعادة والكمال والرفاه، ان الخطوة الأولى للوصول إلى النظام الاجتماعي الاصلح: دراسة جوهر المشكلة النابعة من طبيعة الإنسان والتي جبلت على حب الذات والأثرة أقوى الغرائز الإنسانية المؤثرة على المسار الاجتماعي ومن جهة ثانية: ان التواصل الانساني والعلاقات الاجتماعية يقتضيان التنازل عن جملة من المصالح الفردية ولا تستقيم حياة المجموعة إلاّ من خلال نظم حاكمة تحد من مصالح كل فرد لأجل الصالح العام: هنا يصطدم النظام الاجتماعي بهذه العقبة: كيف نوفق بين الدوافع الذاتية ومقتضيات الحياة الاجتماعية؟ سلكت الرأسمالية طريقاً ضحت معه بالمصالح الجماعية من أجل الفرد وسلكت الاشتراكية طريقاً موازياً: قمدت فيه مصالح الجماعة على الفرد وعمقت كل هذه الاتجاهات وغيرها الأزمة الاجتماعية ولم تحلها بسبب تفسيرها المادي للحياة ورؤيتها المحدودة للكون والإنسان ورسالته في الوجود مما

الصفحة 59
جعل الإنسان أسير الحاجات المادية يعيش أزمة عميقة في نفسه نتيجة هذا التمزق الشديد بين الفرد والجماعة.. والانشطار بين المادة التي أوغل في متطلباتها والآفاق الروحية التي... أُقصي عنها... اما الصدر: فهو يبدأ بداية مغايرة: (ان يطور المفهوم المادي للإنسان عن الحياة وبتطويره تتطور طبيعياً أهدافها ومقايسها)(1)، (فالاسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من انظمة... فإن نقطة الارتكاز الاساسية لما ضجت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي هي النظرة المادية إلى الحياة التي يختصرها بعبارة مقتضية في.. افتراض حياة الإنسان في هذه الدنيا في كل ما في الحساب من شيء وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكل فعالية ونشاط)(2). فالبشرية بحاجة إلى معين آخر غير التصورات المادية عن الكون التي تسجن الإنسان في سجن الطبيعة وضيق التاريخ، يستقي منه نظامه الاجتماعي بلغة باقر الصدر لابدَّ من (وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة ويتبنى القضية الإنسانية الكبرى ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم)(3).

فالعقيدة هي القاعدة الفكرية المركزية التي ينبثق عنها هذا النظام العادل الكفيل بتحقيق السعادة المنشودة. فالاسلام يمنح الإنسان نظرة روحية للحياة ومقياساً خلقياً جديداً يشخص من خلاله: ما يجب وما لا يجب فيخترق بذلك حجب الأنانية والانغلاق على الذات لينفتح على الآخرين وهمومهم ومشاكلهم بل ليقدم مصالحهم على مصالحه وهو بذلك يوفق بين الدوافع الذاتية المركوزة فطرياً في الإنسان وبين مقتضيات الحياة الاجتماعية القائمة على المصالح المشتركة.. إن هذا المقياس الخلقي الجديد تغذيه عقيدة المعاد والإيمان باليوم الآخر وان الحياة الدنيا شوط عابر نحو

____________

1- محمد باقر الصدر، المدرسة الإسلامية، دار الكتاب الإيراني، ص84.

2- م. ن، ص87.

3- م. ن، ص88.


الصفحة 60
الحياة الآخرة الخالدة حين توفى كل نفس ما عملت ولا تظلم مقدار ذرة.

ويشرح باقر الصدر مفصلا محاولة التوفيق التي يعتمدها الدين: (ان التوفيق الوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة وتتخذ العملية اسلوبين:

الأسلوب الأول: هو تركيز التفسير الواقعي للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح كمقدمة تمهيدية إلى حياة أخروية يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياتها المحدودة هذه في سبيل تحصيل رضا الله. فالمقياس الخلقي أو رضا الله تعالى يضمن المصلحة الشخصية في نفس الوقت الذي يحقق فيه اهدافه الاجتماعية الكبرى...

وأما الأسلوب الثاني: الذي يتخذه الدين للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو لمصالح الاجتماعية فهو التعهد بتربية اخلاقية خاصة تعنى بتغذية الإنسان روحياً وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخلقية فيه...)(1).. في ضوء هذه الرسالة الحضارية الهامة للدين يقدم الصدر أخصر تعريف للإسلام ليكشف عن مركزية ومحورية العقيدة: (وهذا هو الإسلام في اخصر عبارة واروعها فهو عقيدة معنوية وخلقية ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية يرسم لها شوطها الواضح المحدد ويضع لها اهدافاً أعلى في ذلك الشوط ويعرفها على مكاسبها منه)(2).

هذه الاطروحة للدين في قاعدته العقائدية والمفاهيمية وكيف تمثل حلا للمشكلة الاجتماعية يرتقي بها باقر الصدر ويطورها أكثر في (المدرسة القرآنية) حيث يؤصل أكثر فأكثر هذه النظرية في بحث مقارن بين النظرية الاجتماعية الإسلامية والنظريات الوضعية الأخرى حيث تستند الثانية إلى صيغة اجتماعية ثلاثية مقابل الصيغة الاجتماعية الرباعية التي تؤمن بها النظرية الاسلامية: ان كل المجتمعات تؤمن بوجود

____________

1- م. ن، ص91 إلى 93.

2- م. ن، ص97.


الصفحة 61
عصرين اساسيين: الإنسان والطبيعة ففي كل مجتمع لابدَّ من انسان ولابدَّ من ارض وموارد طبيعية ليمارس في ظلها الإنسان دوره الاجتماعي.

لكن العنصر المرن والمختلف من نظام اجتماعي إلى نظام آخر هو العلاقة الاجتماعية فلكل مجتمع خصوصيات في نسج هذه العلاقة المعنوية بين الإنسان واخيه الإنسان وبين الإنسان والطبيعة.

هذا العنصر المرن له صيغتان:

ـ صيغة ثلاثية: لأنها تحدد الأطراف في ثلاثة (الإنسان ـ الطبيعة ـ الإنسان).

ـ صيغة رباعية لأنها تؤمن باربعة أطراف (والله ـ الإنسان ـ الطبيعة ـ الإنسان).

ولا يتوهم أن الصيغة الرباعية تمتاز باضافة عددية لعنصر جديد فحسب بل (إن هذه الإضافة تحدث تغييراً نوعياً في بنية العلاقة الاجتماعية وفي تركيبة الاطراف الثلاثة الاخرى نفسها من هنا ليس هذا مجرد عملية جمع ثلاثة زائد واحد بل هذا الواحد الذي يضاف إلى الثلاثة سوف يعطي للثلاثة روحاً اخرى ومفهوماً آخر سوف يحدث تغييراً أساسياً في بنية هذه العلاقة... إذ يعود الإنسان مع أخيه الإنسان مجرد شريك في حمل هذه الامانة والاستخلاف وتعود الطبيعة بكل ما فيها من ثروات وبكل من عليها وما عليها مجرد امانة لابدَّ من رعاية واجبها وأداء حقها)(1).

ان الطرف الرابع مغيّر نوعي لتركيب العلاقة: فتنقلب العلاقة مع الطبيعة من هيمنة واستئثار إلى استخلاف واستئمان وعلاقة الإنسان باخيه الإنسان من تجاذب استغلالي إلى تكامل وشراكة في المسؤولية والخلافة هذه الصيغة الرباعية هي المدلول الاجتماعي العام للتوحيد والقرآن يقدّمها بما هي سنة تاريخية وقانون عام والعرض القرآني لهذه السنة يتخذ شكلين اثنين تارة يعرضها من زاوية دور الله في الكون بما

____________

1- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (م. س)، ص131.


الصفحة 62
هي عملية ربانية (إني جاعل في الأرض خليفة) فتتخذ مفهوم الخلافة وتارة أخرى يعرضها من جهة تقبل الإنسان لها (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها وحملها الإنسان) (الاحزاب / 72).

(إن هذه العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الأربعة لم تكن لتصبح قانوناً تاريخياً إلاّ لأنها داخلة في تكوين الإنسان في تركيب مسار الإنسان الطبيعي والتاريخي)(1) فالله قد صاغ هذا الإنسان باستعدادات وقابليات وميول منسجمة تماماً مع العلاقة الاجتماعية الرباعية.

وبالتفاتة ذكية رائعة يطابق بين مدلول الآيتين اللتين تحدثنا عن الصيغة الرباعية (الآية: 30 البقرة) و(الآية: 72 الأحزاب)، وبين الآية: (.. فاقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (الروم: 30).

فالتعبير بالدين القيم تأكيد على أن ما هو الفطرة وما داخل في تكون الإنسان وتركيبه وفي مسار تاريخه هو الدين القيم يعني أن يكون هذا الدين قيماً على الحياة أن يكون مهيمناً على الحياة هذه القيمومة في الدين هي التعبير المجمل في تلك الآية عن العلاقة الاجتماعية الرباعية التي طرحت في الآيتين في آية: (اني جاعل في الأرض خليفة) وآية: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض) اذن فالدين سنة الحياة والتاريخ والدين هو الدين القيم والدين القيم هو العلاقة الاجتماعية الرباعية الاطراف التي يدخل فيها الله بعداً رابعاً)(2).

ولكننا بحاجة ماسة في اطار النظرية الإسلامية للصيغة الرباعية ان نوضح أكثر فعالية الله في المجتمع والتاريخ حتى ندفع توهّم قد يثيره الخصوم وهو ان هذه الصيغة بإدخالها العنصر الرابع (الله) جل جلاله تلغي دور الإنسان وتفسر كل الظواهر

____________

1- م. س، ص134.

2- م. ن، ص136.


الصفحة 63
الاجتماعية تفسيراً غيبياً لاهوتياً يعزل هذه الظواهر عن أسبابها وعن القوانين التي تحكمها لتربطها مباشرة بالإرادة الإلهية.. وتقصي نهائياً إرادة الإنسان في التاريخ.. وتسقطنا في حبائل الجبر والصرف.. ان هذا التوهم مدفوع بحزم وقوة... لأن فعالية (الله) في المجتمع والطبيعة والتاريخ لا تعني البتة تحنيط الإنسان وتجميد إرادته... (وسنبيّن في الفصل الثالث ذلك من خلال شرح مفصل لهذا الدور الإلهي.. في حياة الإنسان...).

وعلى مستوى (الدولة) لا تخلو العقيدة من مدلولات هامة... ففي رسالة (منابع القدرة في الدولة الإسلامية) تحدث باقر الصدر عن عطاءات العقيدة في هذا المضمار واعتبر الدولة الإسلامية نموذجاً فريداً لما تمتاز به من خصائص تجعل حركتها الحضارية حركة مستمرة لاستنادها إلى عقيدة توحيدية صلبة. فالتركيب العقائدي للدولة الإسلامية الذي يقوم على أساس الإيمان بالله وصفاته وتجعل من الله هدفاً للمسيرة وغاية للتحرك الحضاري الصالح على الأرض هو التركيب العقائدي الوحيد الذي يمد الحركة الحضارية للإنسان بوقود لا ينفذ(1).

ان العقيدة الإسلامية تحول عمل المسلم وحركته في ظل المجتمع المسلم والدولة المسلمة إلى عبادة تتهاوى معها الحواجز بين السماء والأرض.. والحياة والغيب ويندمج الإنسان في مسيرة متوازنة بالله نَحوَهُ سبحانه وتعالى.

النقلة المنهجية الخامسة:

من المذهبية الجدلية إلى الإنسانية اليقينية

قدم (علم الكلام) في تاريخه الطويل خدمات جليلة للعقيدة الإسلامية في نصرة

____________

1- محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، (م. س) ص202.


الصفحة 64
الدين ودحض الشبهات وتبكيت الخصوم إلاّ انه بقي قاصراً إلى مراحل تاريخية متقدمة ان يتجاوز طابع الجدل الذي انعكس بقوة على مطالب العلم وموضوعاته ومناهجه وآلياته.

إن السمة الجدلية لهذا العلم خاصة في المرحلة الثالثة من تاريخه افرزت عدة عوائق ساهمت في تعطيل نمو هذا العلم بالشكل المطلوب وحبسته في دائرة ضيقة فأفتقد الحس الموضوعي في عرض آراء الخصوم ومناقشة المذاهب الأخرى وكتب الملل والنحل شاهدة على ذلك بما تعج به من افتراءات واختلاق فرق لا وجود لها إلاّ في مخيلة بعض المصنفين بغية ان تأتي تصنيفاتهم مطابقة لحديث رسول الله(صلى الله عليه وآله): (تنقسم أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة...).

لقد بلغ التعصب المذهبي الذي غذاه المنحى الجدلي أن تتوسل بعض الفرق بالسلطان للتنكيل بالفرق الأخرى والشواهد التاريخية على ذلك عديدة.

النقلة الهامة والخروج عن دائرة الجدل إلى الصبغة البرهانية كانت اساساً على يد الخواجة (نصير الدين الطوسي) كما اشرنا في الفصل الاول من هذه الدراسة فاتحدت مطالب هذا العلم بالفلسفة والتفكير الفلسفي، (ويكفي الاشارة هنا إلى أن بدء محاولة شرح موضوعات علم الكلام بالموضوعات الفلسفية كانت على يد أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي... ولكن الرائد الحقيقي لهذا التطبيق هو نصير الدين الطوسي في كتبه الفلسفية والكلامية خاصة في كتابه (التجريد) وليس من الإنصاف العلمي ان نجعل هذه المحاولة بدأت مع عضد الدين الايجبي ونغفل عن الإشارة إلى الرائد الاول لها كما فعل الدكتور ابراهيم مدكور في الفلسفة الإسلامية)(1).

إن الحقبات المظلمة لتاريخ هذا العلم من التحجر والجمود هو مظهر من مظاهر

____________

1- جعفر آل ياسين، الفكر الإسلامي عند العرب، دار المناهل، 1993 ص98.


الصفحة 65
تاريخ المذهبية المغلقة والتعصب المقيت في تراثنا الفكري حيث لا يرى الباحث الحق إلاّ من خلال معتقده ومذهبه ولا يشاهد في الآخر سوى معالم الكفر والزندقة والانحراف فينبري طاعناً في المذاهب الأخرى رافعاً سيف التشهير والتبري. حتى اشتهر عن الغزالي قوله: (اعلم ان للفرق في هذا مبالغات وتعصبات انتهى بعض الطوائف إلى تكفير كل فرقة سوى الفرقة التي يعزى إليها) فكلامه ليس بعيداً عن الواقع التاريخي الذي غابت عنه الموضوعية في عرض المذاهب ودراسته الاديان والمدارس الاخرى وبتأمل متفحص في كتب الملل والنحل نلمح بجلاء هذا الجنوح إلى تزكية (مذهب الأنا) وإلغاء الآخر ورميه في قاع جهنم موصوفاً بكل النعوت المنفرة: فهذا (عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ )) لا يكاد يعرض مذهباً من مذاهب الخصوم على وجهه الصحيح، و(الشهرستاني نفسه (ت 548هـ )) صاحب الملل والنحل رغم ما شرطه على نفسه في مقدمة كتابه (وشرطت على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم من غير تعصب لهم ولا كسر عليهم دون أن أبين صحيحه من فاسده واعين حقه من باطله وان كان لا يخفى على الافهام الذكية في مدارج الدلائل العقلية لمحات الحق ونفحات الباطل وبالله التوفيق)(1)، ولكنه لم يلتزم بما شرطه على نفسه وجاوز حد الموضوعية في كثير من المسائل يقوم عن ذلك أحمد أمين (ورأيت مؤلفي العرب كالشهرستاني والقفطي وامثالهما قد خلطوا حقاً وباطلا فكثيراً ما نسبوا القول إلى غير قائله...)، لقد بحث كل من ممثلي العلم المللي النحلي الإسلامي ضمن اطار انتمائه الفكري والعقائدي عن الفرقة التي كان بإمكانه أن يقول هنا الحقيقة وان كانت هذه الصياغة ظاهرة مميزة للكتابات الأولى على الأقل في مفاهيمها المباشرة فإنها تعمقت في وقت لاحق إلى الدرجة التي لم يعد الحاسم فيها مفهوم الانتماء المباشر

____________

1- الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، ص16.


الصفحة 66
للإسلام فقط بل ومضمون العقائد الإسلامية ذاتها (فالنوبختي) الذي لم يشر إلى الحديث (حديث الفرقة الناجية) لم يُفته ان يحقق واقع الانقسام القائم في صراع الفرق ودعوى التمثل الانتمائي للفرق الناجية (أو أهل السنة والجماعة) بعبارة (كل منهم يدعي نفسه جماعة رغم أن واقعهم أو ما ينطبق عليهم ليس معنى الاجتماع بل معنى الافتراق)(1).

ولم يفلت كذلك (ابن حزم (ت 456هـ )) و(الرازي (ت 606هـ )) و(الملطي (ت377هـ )) من هذه الضوابط الصارمة الموغلة في التمذهب والإصرار على تمثيل الجماعة ونصرة اعتقاد أهل السنة والجماعة.

لقد كسرت النقلة من الجدل إلى التفلسف على يد الخواجة إلى حد كبير هذا الطوق ولكنَّ.. النقلة الهامة التي حدثت في تاريخنا المعاصر هي الانتقال من البرهان إلى اليقين هذه النقلة أبدعها باقر الصدر من خلال المذهب الذاتي في المعرفة حيث جعل التوالد الذاتي هو الأساس القائم على اساس تراكم الاحتمالات (راجع النقلة الأولى من هذا الفصل) كما جعل اليقين الذاتي هو الأساس في التوالد المعرفي وقنّن هذا التوالد واليقين الذاتي كما شرحنا سابقاً.

إنه اليقين الذي يحصل بتراكم القيم الاحتمالية.. والذي يوجب الاقتناع وفناء القيم الاحتمالية الضعيفة.. هو الطريق الاوسع لاكثر معارفنا.. ولذلك ينفتح الباب واسعاً لأي كان.. للوصول إلى معرفة الله.. وبقية الاصول الاعتقادية.. لن ينغلق الباب تحت أي عنوان فئوي أو مذهبي أو طبقي أنها طريقة معهودة لدى الناس جميعاً فالنهج الاستقرائي قريب إلى اذهان الناس لانهم عهدوه في تجاربهم الحسية اليومية وعهدته الحضارة الغربية وشادت عليه بنيانها وصرحها العلمي والحضاري ولذلك فانه قريب

____________

1- ميثم الجنابي، علم الملل والنحل، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، ص53.