لكن سرعان ما يخبو هذا الشعور عوضاً أن ينمو (وذلك لأنه حينما يأتي إلى الحوزة لا يعيش تطبيقياً حياً لهذا الاتصال بالله تعالى وإنما يعيش على أفضل تقدير دروساً معينة ومناهج معينة هي في حدود كونها مفاهيم وأفكار لا تغذي هذا الشعور فيبقى فراغ كبير في قلبه في وجدانه)(1)، وهكذا يتميّع الشعور بالارتباط بالله... (ويتحول هذا الشعور في بداية الأمر إلى شعور مبهم غامض ثم في مرحلة ثانية يختفي في الأعماق وتتراكم عليه مشاعر أخرى لا ترتبط بالله فتعود تلك التصورات الروحية الضخمة في البداية تعود خواء تعود كلها فراغاً لأنها بعد أن جمدت وأصبحت شعوراً إجمالياً بعد هذا فقدت أي غذاء وإمداد متصل حتى تمزقت وهذا هو معنى نسيان الله تعالى وأنتم كلكم تعرفون أن من ينسى الله ينساه الله ومن ينقطع عن الله ينقطع عَنْهُ الله سبحانه وتعالى...)(2).
إن تنمية الشعور التفصيلي بالله وتجسيد حالة الاتصال الدائم بالله... هي أحد العوامل الأساسية لنجاح العامل واستمرارية عمله وصحواه أيام المحن وتجاوزه الصعوبات التي تعترض طريقه مما يمنح لهذا المفهوم التوحيدي الارتباط بالله بعداً نفسياً حركياً... يلتقي مع العبادة في تأصيلها لهذا الحس العميق والانفتاح الروحي على الله عزوجل ويتكامل مع توفر الشرائط اللازمة الاخلاقية للإنسان العامل (في امتلاك وعي تغييري تجديدي والتخلص من النزعة الاستصحابية المحافظة وامتلاك عقلية اجتماعية مرنة)... لنجاح أي مشروع في الحياة... وتخطى العقبات مهما عظمت.
____________
1- م. ن.
2- م. ن.
الاصل الثاني: العدل
بحث الصفات لا ينفك في الحقيقة عن الذات (إلاّ لضرورة منهجية) حتى ان الدليل الاستقرائي في مقام إثبات الصانع بالنتيجة لا يسعه إلاّ أن يتجه للترجيح فاليقين بفرضيته وجود ذات حكيمة(1) وهذا الاتحاد بين الذات والصفات ليس غريباً على العدلية عموماً والإمامية خاصة الذين آمنوا إن صفاته عين ذاته.
اتجه البحث الكلامي القديم إلى تقسيم الصفات (صفات ذات، صفات افعال) (صفات ثبوتية/صفات سلبية)... (صفات اضافية/صفات نفسية)... الخ... وإلى تعداد هذه الصفات وكيفية اجرائها على المولى بطريقة لا يلزم منها نسبة النقص إليه... وفي ضوء هذه المطالب الأساسية للبحوث القديمة... انقلب الأمر رأساً على عقب... وصار التوحيد مثار جدل وفُرقة وتَمذهُبْ وصفات الله طريق للتكفير... والتفريق... عوضاً أن تكون قاعدة للتقريب والتوحيد النفسي والاجتماعي... لقد غفل البحث القديم عن مسألة مركزية وهي قيمة البحث عن الصفات ولماذا نريد معرفتها؟ وهل علاقتنا بصفات الله كعلاقة اليونان باسماء آلهتهم؟ يؤكد باقر الصدر: (إن عقيدة التوحيد تعلمنا أن نتعامل مع صفات الله وأخلاق الله لا بوصفها حقائق غيبية منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الإغريق وإنما نتعامل مع هذه الصفات بوصفها رائداً عملياً بوصفها هدفاً لمسيرتنا العملية بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للإنسان نحو الله سبحانه وتعالى)(2)... لقد حول الجدل الكلامي البحث في الصفات إلى تجريد ذهني صرف... وتكريس لاهوتي للاله... بعيداً عن الإنسان وهمومه ومشاكله.
ان باقر الصدر في مجال نظريته حول المثل الأعلى المطلق والارتباط بالله شرح
____________
1- انظر الاسس المنطقية للاستقراء، ص441 ـ 451.
2- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، م. س، ص193.
إن التخلق باخلاق الله وتكريس صفاته في الحياة ومسيرة الفرد والمجتمع تعني إرساء نظم اجتماعية وعلاقات بعيدة عن الظلم والعجز والجهل (فالسير نحو مطلق كله علم، كله قدرة، كله عدل، وكله غنى يعني ان تكون المسيرة الإنسانية كفاحاً متواصلا باستمرار ضد كل جهل وعجز وظلم وفقر)(2)، ولكن كيف يكون السير والكدح نحو الله لمصلحة الإنسان وفي خدمته؟ السرّ في ذلك أن الله كما رأينا سابقاً هو المطلق وهو المثل الأعلى للبشرية لذلك كان سبيله وطريقه هو الطريق لخدمة الإنسان (وسبيل الله هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الإنسان لأن كل عمل من أجل الله فإنه من أجل عباد الله لأن الله هو الغني عن عباده ولما كان الإله الحق المطلق فوق أي حد وتخصيص لا قرابة له لفئة ولا تحيز له إلى جهة كان سبيله دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الانسانية جمعاء فالعمل في سبيل الله ومن أجل الله هو العمل من أجل الناس ولخير الناس جميعاً وتدريب نفسي وروحي مستمر على ذلك)(3)، بعد أن بينا طبيعة علاقة الإنسان بصفات الله في المنظور الصدري يطرح سؤال هام: لماذا خص (العدل) بالذات من بين
____________
1- محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، م. س، ص200.
2- محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة، م. س، ص710.
3- م. ن، ص716.
الجواب: (لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم في مقابل القدرة ولكن الميزة هنا اجتماعية ميزة القدوة لأن العدل هو الصفة التي توحي للمسيرة الاجتماعية التي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة إليها أكثر من أي صفة أخرى.. إذن من هنا كان العدل له مدلوله الأكبر بالنسبة إلى توجيه المسيرة البشرية ولأجل ذلك أفرز)(1).. فالكَوْنُ قائم على أساس العدل والإسلام أراد للعلاقات الاجتماعية أن تؤسس على موازين العدل وحينما يحصل هذا التوافق والانسجام التكويني مع النظم التشريعية يسود الرفاه وتنزل البركات (ولو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءً غدقاً)(2)، عندما أحاط الصدر بالعمق الدلالي للعدل في بعده الاجتماعي والسياسي لمْ يصرف جهوداً كبيرة في بحوثه في إثبات أصل العدل بقدر ما تحدث عن أبعاده وآثاره، فهو اكتفى بالاشارة إلى دليلين عابرين على صفة العدل في بحثه: (موجز اصول الدين):
الأول: ان حسن العدل وقبح الظلم من أحكام العقل النظري وهذا العقل النظري هو من الله وبالتالي فهو محيط بهذه الأحكام والقيم.
والثاني: أنه من بحكم قدرته الهائلة وسيطرته الشاملة على الكون ليس بحاجة إلى أي مساومة ولف ودوران ومن هنا نؤمن بأن الله عادل لا يظلم أحداً(3)، ولما كان الصدر يولي العدل أهمية بالغة على مستوى العلاقات الاجتماعية أرجع جملة من الظواهر إلى العدل وفسر عدة قضايا في منظور العدل وأسس جملة من الرؤى استناداً إلى هذا الاصل ونكتفي هنا بثلاث نماذج نقتبسها من فكر باقر الصدر:
* النموذج الأول: ايمانه بأن العدل الاجتماعي هو الركن الثالث للهيكل العام للاقتصاد الإسلامي هذه العدالة التي جسّدها الإسلام فيما زود به نظام توزيع الثروة في
____________
1- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، م. س، ص197 ـ 198.
2- الجن: 16.
3- محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة، م. س، ص54.
* النموذج الثاني: تصنيفه لطبقات المجتمع الفرعوني على أساس قيمة العدل حيث قسم هذا المجتمع إلى فئات مختلفة يحدّدها موقفها من الظلم والفئات الستة هي:
أ) ظالمون مستضعفون (اعوان الظلمة).
ب) الحاشية المتملقون.
ج) الهمج الرعاع.
د) المهادنون.
هـ ) الرهبانيون.
و) المستضعفون(2).
* النموذج الثالث: اكتشافه لقانون وسنة تاريخية تقوم على التناسب بين العدل وبين ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة وبالمقابل يتناسب مدى الظلم في المجتمع تناسباً عكسياً مع علاقات الإنسان بالطبيعة (فمجتمع الفرعونية المجزأ المشتت مهدور القابليات والطاقات والإمكانيات ومن هنا تحبس السماء قطرها وتمنع الأرض بركاتها واما مجتمع العدل فهو على العكس تماماً هو مجتمع تتوحد فيه كل القابليات وتتساوى فيه كل الفرص والإمكانيات هذا المجتمع الذي تحدّثنا الروايات عنه تحدثنا عنه من خلال ظهور الإمام المهدي(عليه السلام) تحدثنا بما تحفل به الأرض والسماء في ظل الإمام
____________
1- محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، م. س، ص47.
2- تفصيلات هذا القسم، انظر المدرسة القرآنية، من ص230 إلى ص236.
العدل الإلهي والفعل الإنساني:
من المطالب الأساسية التي طرقت في هذا الباب قضية الجبر والاختيار ولقد عكس لنا تاريخ الجدل الكلامي اتجاهين ضحى احدهما بحرية الإنسان لمصلحة التوحيد الافعالي (الأشاعرة) وضحى الآخر بالتوحيد الأفعالي لمصلحة إرادة الإنسان (المعتزلة) ووقفت مدرسة الإمامية موقفاً وسطاً (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين).
ومسألة الجبر والاختيار تنحل إلى مسألتين مسألة كلامية: كما بينا في أصل النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة. ومسألة فلسفية وروح البحث فيها يرجع إلى أن فاعل هذه الأفعال سواء فرضناه في المسألة الأولى الإنسان أو الله أو هما معاً هل تصدر منه اختياراً أو بلا اختيار ومن هنا يعرف أن المسألة الكلامية لا تكفي وحدها لحسم النزاع في بحث الجبر والاختيار(2). وَفي بحث الطلب والإرادة في علم الأصول استعرض الشهيد الصدر في المستوى الكلامي من البحث خمسة احتمالات:
الاحتمال الأول: أن يكون الفاعل محضاً هو الإنسان ولا نصيب لرب العباد في الفاعلية وهذا مذهب التفويض وهو مذهب المعتزلة الذين اعتقدوا امكانية استقلال المعلول بقاء عن علته وانه بحاجة إلى هذه العلة أو إلى سببه حدوثاً لا بقاء.
الاحتمال الثاني: أن يكون الفاعل محضاً هو الله وأن الانسان له القابلية فقط كقابلية الخشب أن يكون مقعداً وهذا الاحتمال قريب من نظرية الكسب الاشعري ولكنه باطل بالوجدان.
____________
1- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، م. س، ص238.
2- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، م. س، ص238.
الاحتمال الرابع: أن يكون الله هو الفاعل المباشر لكن الارادة ومبادئها مقدمات إعدادية.
الاحتمال الخامس: فاعلية واحدة تنسب إلى الله بنظر وإلى العبد بنظر آخر بناء على قوله إن نسبة العبد إلى الله نسبة الربط والفناء ونسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ويرى باقر الصدر أن هذا الاحتمال الأخير مبني على تصور صوفي لا يفهمه وبالتالي لا يبقى سوى احتمالين الثالث والرابع ويكون كلاهما صورة معقولة لمبدأ (الأمر بين الأمرين)، ولكنه في الأخير يبطل الرابع (لكن مجرد اختيار المذهب الشيعي في المسألة الأولى (المستوى الكلامي من البحث) القائل بأن للإنسان دخلا في الفاعلية كما أن لله دخلا فيها أو اختيار المذهب المعتزلي القائل بأن الانسان هو الفاعل محضاً لا يحتم كون الإنسان مختاراً غير مجبور في فعله فلعل صدور الفعل من الإنسان كصدور الإحراق من النار بناء على فاعلية النار للاحراق)(1).
ولذلك فالمشكلة لا تنحل إلاّ ببحث (المسألة الثانية الفلسفية): وهي ناشئة من (شبهة فلسفية تنفي الاختيار حتى بعد الاعتراف بأن الفعل فعل الإنسان وهذه الشبهة مركبة من مقدمتين:
المقدمة الأولى: ان الاختيار ينافي الضرورة فان الضرورة تساوق الاضطرار المقابل للاختيار من قبيل حركة يد المرتعش التي هي ضرورية.
المقدمة الثانية: أن صدور الفعل من الإنسان يكون بالضرورة لأن الفعل صادر منه
____________
1- م. ن، ص30.
____________
1- م. ن، ص30.
2- انظر مباحث الدليل اللفظي، ج2، للسيد محمود الهاشمي، ص30 إلى 35.
3- م. ن، ص37.
ويرى باقر الصدر ان السلطنة موجودة في الإنسان والدليل على ذلك منحصر في الشرع والوجدان.
الأصل الثالث: النبوة
ترتبط ظاهرة النبوة بقانون الهداية العامة الذي ينص أن (كل شيء في هذا الكون الواسع يحمل معه قانونه الرباني الصارم الذي يوجهه ويرتفع به مدى ما يتاح له من ارتفاع وتطور فالبذرة يتحكم فيها قانونها الذي يحولها ضمن شروط معينة إلى شجرة والنطفة يتحكم فيها قانونها الذي يطورها إلى إنسان وكل شيء من الشمس إلى البروتون ومن الكواكب السيارة في مدار الشمس إلى الالكترونات السيارة في مدار البروتون يسير وفق خطة ويتطور وفق امكاناته الخاصة)(1)، والإنسان ليس استثناء من هذا القانون فهو كغيره من مفردات الكون خاضع لقانون الهداية العامة: (الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) (الاعلى: 3) ولكن خصوصية الاختيار وحرية الارادة الذي يتمتع بها تجعل لتطبيق هذا القانون ظروفه الخاصة فبينما تَعْملُ الكائنات الطبيعية البحتة من أجل أهداف مرسومة من قبل واضع الخطة لا من أجل أهداف تعيشها هي وتتوخى تحقيقها فإن الإنسان كائن هادف يعمل من أجل هدف يريد هو تحقيقه. من الطبيعي أن تكون هذه الأهداف التي يحددها الإنسان وفقاً لمصلحته وحاجاته، ولكن من جهة اخرى إن خلق الإطار الموضوعي لضمان عمل الإنسان وسعيه لمصالح
____________
1- محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة، م. س، ص59.
النبوة الخاصة والدليل الاستقرائي:
كما طبق باقر الصدر الدليل الاستقرائي لإثبات الصانع يجريه هنا لاثبات نبوة النبي محمد(صلى الله عليه وآله) واهمية هذا الاستدلال انه يتجاوز الطريقة القديمة والمتعارفة لاثبات النبوة والتي تعتمد اساساً المعجزة كمظهر خارق للعادة يكشف كشفاً إنياً عن اتصال صاحب المعجزة ـ بالغيب ـ ويقوم هذا الدليل على أربع خطوات.
الخطوة الأولى: إن هذا الشخص الذي أعلى رسالته إلى العالم ينتسب إلى شبه الجزيرة العربية وهي بيئة متخلفة فكرياً وحضارياً وينتمي إلى مجتمع الحجاز بالذات الذي يعيش تخلفاً اجتماعياً تطغى عليه العقلية القبلية ولم ينل حظاً من ثقافة عصره
____________
1- الزلزلة: 7 ـ 8.
2- م. ن، ص61.
الخطوة الثانية: يستقرىء في هذه الخطوة خصائص الرسالة التي جاء بها النبي، وهي رسالة القرآن الكريم والشريعة الإسلامية التي تميزت بخصائص عديدة منها:
أ) تتضمن ثقافة دينية واسعة وفريدة وهي أكبر من كل الثقافات الدينية التي عرفها العالم.
ب) جاءت بقيم ومفاهيم عن الكون والإنسان والحياة من أروع من عرفه الإنسان من قيم وتشريعات.
ج) تحدثت الرسالة عن تاريخ الإنسان والأمم السابقة بما لم يكن معروفاً بين العرب.
د) بلغ القرآن قمة الروعة والجمالية في أساليب البيان.
الخطوة الثالثة: يؤكد في هذه الخطوة وفي ضوء الاستقراء العلمي أن هذه الرسالة بتلك الخصائص السابقة وغيرها مما لم نذكر (اختصاراً) هي أكبر بدرجة عظيمة من الظروف والعوامل التي حددناها في الخطوة الأولى.
الخطوة الرابعة: يطرح التفسير الوحيد المعقول للموقف: كيف نشأت هذه الرسالة بتلك الخصائص الرفيعة في تلك الظروف الموضوعية المتخلفة؟ ان الجواب الوحيد: هو (افتراض عامل اضافي وراء الظروف والعوامل المحسوسة وهو عامل الوحي عامل النبوة الذي يمثل تدخل السماء في توجيه الأرض)(1).
____________
1- م. ن، ص73.
ضرورة النبوة:
لقد غاب عن البحث الكلامي القديم الحاجة الاجتماعية للنبة لأنها استغرقت في قضايا (العصمة) وعلاقة النبوة باللطف والمعجزة... الخ... لكن التحديات الفكرية المعاصرة جعلت باقر الصدر ينظر إلى النبوة كما نظر إلى بقية اصول الدين نظرة مغايرة تُبْرِزُ الابعاد الاجتماعية لهذه الاصول الاعتقادية ودورها في البناء الحضاري ولذلك كشف في بحوثه المتفرقة عن الحاجة الماسة إلى النبوة... والرابط بين كل ما كتب في هذا الموضوع هو تأكيد الحاجة الملحة والضرورة الحضارية للنبوة:
أ) النبوة حاجة معرفية: الانسان بحكم جهازه الادراكي حسي اكثر منه عقلي فهو ينفعل بالمحسوس أكثر من أي شيء آخر. ولذلك كانت الحضارات في التاريخ متأثرة بهذا الميل نحو الحس. والحضارة الغربية اليوم في ثقافتها وانتاجها العلمي والتقني تكشف عن نزوع للحس والتجربة أكثر من أي شيء آخر، ولكن هناك معارف اخرى: المعقولات والقيم الاخلاقية التي لا يمكن أن يدركها الإنسان بالحس والتجربة بل يتفاعل معها عادة بالعقل والوجدان. ولكن إدراك هذه القيم الروحية والمعنوية لا يرقى إلى الحس ولذلك نرى عبر التاريخ أن التفاعل معها يبقى باهتاً فاتراً... لا يبلغ حرارة الادراك الحسي وقوته... من هنا نشأت الحاجة إلى الأنبياء في تعميق الإدراك لهذه القيم ولقد تمكن الإنسان عبر هؤلاء الأنبياء من الانفتاح الحسي على القيم العقلية والروحية. ولولا الوحي لما كان للبشرية من إدراك حسي للمعنويات فالأنبياء هم الطليعة البشرية التي عايشت حسياً هذه الأحكام العقلية والمفاهيم الروحية والعنوية وهم بدورهم يعسكون هذه التربية الحسية على الناس ولولا الوحي لا نحصر الحس بالمادة ولتضخم الوعي بها على حساب المعنويات (فالوحي حسب الحقيقة اذن هو المربي الأول للبشرية الذي لم يكن بالإمكان للبشرية ان تربى بدونه لان البشرية بدون الوحي ليس لها إلاّ حس بالمادة والإدراك عقلي غائم قد يصل إلى مستوى
ب ـ النبوة وتحرير الإنسان: إن النبوة في المنظور الصدري تحرر الإنسان على المستوى الذاتي وعلى المستوى الموضوعي: اما على (المستوى الذاتي) فهو ما بيناه في هذا الأصل ومعرض الاستدلال على النبوة العامة وارتباطها بقانون الهداية العامة من حلّ الجدل الداخلي والتمزق الداخلي بين مصالح الذات والنظام المدني ومقتضياته.
أما (المستوى الموضوعي): فهي ما تتحرك فيه النبوة على قاعدة (لا اله إلاّ الله) لتحطيم كل القيود الإجتماعية والسياسية المتمثلة في جميع أنواع الظلم والاستغلال فدور الأنبياء في مكافحة الاستبداد ومقاومة الطغيان من أكثر الأدوار أهمية.
ج ـ النبوة والثورة: يرى باقر الصدر ان النبوة ثورة تحررية (وان الإسلام الذي كان من أجله الأنبياء ثورة اجتماعية على الظلم والطغيان وعلى الوان الاستغلال والاستعباد)(2).
هذه الثورة فريدة في نسيجها لانها حررت الإنسان من الداخل وحررت الكون من الخارج في وقت واحد ويفسر باقر الصدر في أطروحته خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء كيف أن هذه الثورة تعد ضرورة لمقاومة الانحراف الطارىء على خط خلافة الإنسان لله في الكون وحتمية تدخل الأنبياء ليعيدوا المسيرة إلى مسارها الصحيح.
وهذه الثورة تمتاز عن غيرها لأنّها لا تحاول كما هو الحال في كل الثورات استبدال مواقع الاستغلال وإنما تسعى جاهدة لاستئصال الاستغلال كقيمة سلبية ومدمرة للمجتمع واقتلاع جذورها من نفوس الظالمين أنفسهم.
فالثائر الذي يتحرك في إطار النبوة ورسالتها لا ينطلق في حركته وحربه على
____________
1- محمد باقر الصدر، أهل البيت: تنوع ادوار وحدة هدف، م. س، ص51.
2- محمد باقر الصدر: الإسلام يقود الحياة، م. س، ص171.
د) النبوة وقيادة المجتمعات: إن النبوة بما هي الصلة الموضوعية بين الناس والمثل الأعلى المطلق للمسيرة الانسانية هي الأقدر على قيادة الجماهير وتنظيم قواها ودفعها إلى الأمام نحو الغايات السامية الواقعية والسعادة الحقة لذلك فإن القيادة من لوازم النبوة التي لا تنفك عنها والتي تفرضها المهمة الأساسية لها المتمثلة في (الشهادة) على خط خلافة الإنسان ويتمثل هذا الدور في الأبعاد التالية(2):
اولا: استيعاب الرسالة السماوية.
ثانياً: الاشراف على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة.
ثالثاً: التدخل لمقاومة الانحراف واتخاذ كل التدابير الممكنة من أجل سلامة المسيرة.
وكمدلول واقعي لهذه القيادة وانسجاماً مع هذه الأدوار للنبوة يعتقد الصدر أن الدولة ظاهرة نبوية يقول (فمن ناحية تكون الدولة ونشوئها تاريخياً نرفض إسلامياً نظرية القوة والتغلب ونظرية التفويض الالهي الاجباري ونظرية العقد الاجتماعي ونظرية تطور الدولة عن العائلة ونؤمن بأن الدولة ظاهرة نبوية وهي تصعيد للعمل
____________
1- م. ن، ص172.
2- م. ن، ص163.
هـ ) النبوة والعدالة الاجتماعية: لم يستطع القانون الوضعي... على طول التاريخ أن يحقق العدالة الحقة... فالعقل البشري رغم عظمته يبقى قاصراً عن إرساء المعالم التفصيلية للتشريع الذي يستجيب لحاجات الفرد والجماعة الواقعية والذي يحقق التوازن بين الفرد المجموعة ولا يخضع للهوى وإيحاءات المصلحة الضيقة ولا يسقط في حبائل الميولات الفئوية والعرقية والعشائرية إن النبوة برفضها أي سيادة وأي سلطة إلاّ لله وانه وحده مصدر السلطات تكون أنجزت ما يعتبرها باقر الصدر (اعظم ثورة شنها الأنبياء مارسوها في معركتهم من أجل تحرير الإنسان وتعني هذه الحقيقة أن الإنسان حرّ ولا سيادة لانسان آخر أو لطبقة أو لأي مجموعة بشرية عليه وإنما السيادة لله وحده وبهذا يوضع حد نهائي لكل ألوان التحكم وأشكال الاستغلال وسيطرة الإنسان على الإنسان)(2).
(لقد أعطى الأنبياء لهذه الحقيقة (تحرير الإنسان من أي سيادة اخرى وسلطة اخرى) مدلولها الموضوعي المتمثل في الشريعة النازلة بالوحي من السماء فلم يعد بالامكان ان تستغل لتكريس سلطة فرد أو عائلة أو طبقة بوصفها سلطة الهية)(3).
الأصل الرابع: الإمامة
تُعَدُّ الإمامة السبب الرئيسي في النزاعات والخلافات والحروب التي مزقت المسلمين حتى قال الشهرستاني: (وأعظم خلاف في الامة خلاف الإمامة وما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان)(4)، من هنا نفهم الشروخ العميقة التي تفصل بين الذهنيات المذهبية المختلفة حول حقيقة الإمامة
____________
1- م. ن، ص29.
2- م. ن، ص21 ـ 22.
3- م. ن، ص21 ـ 22.
4- الشهرستاني: الملل والنحل، م. س، ج1 ص24.