موسوعة من حياة المستبصرين
عامر سلو رشيد
( العراق ـ يزيدي )

ولد عام 1967م في العراق بمدينة الموصل في ناحية "بعشيقة" التي تقطنها الفرقة اليزيدية، ومن خلال التقليد وجد نفسه يزيدياً على طريقة آبائه، واستمر على هذا المذهب حتى أخذ الباري بيده فأخرجه من الظلمات إلى النور.

 

معلومات حول اليزيديّة:

يقول الأخ عامر حول اسباب تسمية اليزيدية بهذا الاسم: "لقد ذكر بعض من كتب عن ملتنا أنّ سبب التسمية هي نسبة إلى "يزد" المدينة الايرانية، وبعضهم احتمل نسبتهم إلى يزيد بن معاوية ـ لعنهما الله ـ، ولكن الحقيقة ليست كذلك، فاليزيديون يعتقدون أن الشيطان كان نبياً بعثه الله إلى العالم كلّه، ولكن المسلمين لعنوه ولم يتّبعوه، وهكذا انحرف المسلمون! وظل اليزيديون وحدهم يتبعون هذا النبي ـ الخرافي ـ الذي له عدة اسماء في عقائدهم منها (طاووس ملك) ومنها (يزيد) ومن هنا جاءت تسميتهم باليزيديين، ولكن لا ننسى أن تأسيس هذه الفرقة جاء من شخص من نسب يزيد بن معاوية لعنة الله عليهما".

ويضيف الأخ عامر حول بعض عقائد هذه الطائفة: "لليزيدية حج كما للمسلمين حج، ولكنهم يحجّون إلى قبر منسوب إلى بلال الحبشي، وبالقرب منه


الصفحة 2
عين ماء يعتقدون أنها ماء زمزم يأتي من مكة إلى منطقتهم! ويعتقدون أن المسلمين سرقوا منهم آية الكرسي وعيد الأضحى!". 

 

السلطة الدينية اليزيدية:

يقول الأخ عامر حول الجهة المتولية على الجانب الديني في الطائفة اليزيدية: "هناك سلطة دينية تشرف على الفرقة اليزيدية وتتولاها أسرة (بيت الأمير)، حيث يعود نسبهم إلى عدي بن مسافر الأموي الصوفي الذي ينتهي نسبه إلى بني أمية، ومن أجل بقائهم في هذا المنصب سعوا إلى نشر سياسة التعتيم بين أفراد اليزيدية ليبقى كل شيء غامضاً، ثم اباحوا لأنفسهم كل شيء وحرّموا أشياء وأشياء عن بقية أفراد قاعدتهم، مثل الدراسة، فقد حرموها على اليزيدية ليعيشوا الجهل المطبق، بينما اباحوا التعلم لأنفسهم، إلى أن عرف الناس كذبهم واخيراً سمحوا لنا بالدراسة منذ عام 1980 للميلاد".

 

بداية تأثره بالاسلام:

ويقول الأخ عامر حول بداية تأثره بالاسلام:

"اذكر اني رأيت والدتي وهي صائمة في شهر رمضان مع أن اليزيدية لا يصومون فيه، ولما سألتها عن ذلك ـ وكان عمري آنذاك 10 سنوات ـ أجابت: لقد حدثت لنا مشكلة خطيرة جداً في يوم ما، فتوسلت بملك طاووس (الشيطان في العقيدة اليزيدية) كي يكشف عنا هذه الملمة ولكن دون جدوى، ثم توسلت بنبي النصارى عيسى بن مريم(عليهما السلام)، فلم أرَأي نتيجة وما زال الخطر محدّقاً بنا، ثم فكرت أن أتوسل بنبي المسلمين محمد(صلى الله عليه وآله) وكنت قد نذرت ان اصوم شهر رمضان كما يصومه المسلمون ان خرجنا من هذا المأزق ببركة النبي محمد(صلى الله عليه وآله) وفعلا فقد رأيته في عالم الرؤيا وكان نورانياً بهياً وقد بشّرني بفرج زوال الخطر عنا، وأخذت


الصفحة 3
اصوم شهر رمضان من كل عام. 

هذه القصة شدّتني إلى النبي العظيم، وضعف بالمقابل اعتقادي بـ (طاووس الملك)".

 

دواعي توجهه للبحث حول الاسلام:

ويقول الأخ عامر حول بداية اندفاعه للبحث حول الاسلام: "اسلم شخص من قومنا وكان هذا الشخص من الجادين بتقصي المعالم والخفايا التاريخية المتعلقة باليزيدية، كما أنه ابن أحد المعروفين نسبياً عند قومنا (ابن أحد المشايخ اليزيدية)، ومتابعات الشخص الحثيثة لكل ماله علاقة باليزيدية ـ بما فيها المؤلّفات والمطبوعات التي تناولتهم ـ قد تركت بمجموعها في نفسه احباطاً وانقباضاً غير عاديين اتضحت مصاديقها على وجهه، أو من صمته المطول، وهذه الحالة النفسية ترجمت الدوامة والطريق المسدود الذي انتهى إليه بعدما تأكدت لديه جملة من الحقائق، وهي أن ابرز سمات فرقة اليزيدية هي: لا تاريخ معلوم، ولا أصول معروفة، ولا عقائد مفهومة، ولا قومية ثابتة، ولا ثقافة مشهودة، ولا حضارة، ولا تراث يفتخر به بين الناس ـ عدا الخرافة ـ.

ومرّت الأسابيع والشهور والشخص يكابد عذابه ومعاناته، حتى فوجئنا بعد فترة بخبر تركه الديار، من بعد أن أودع خبر اسلامه... وكما نقل لي بشخصه تفاصيل تحوّله والأدلة التي اعتمد عليها في تغييره للانتماء الذي كان عليه، ثم ودّعني وقال لي أنا راحل إلى مدينة النجف الأشرف لأشهد الشهادتين واعتنق الإسلام عند مرقد سيدنا الامام علي(عليه السلام)".

ويضيف الأخ عامر: "فتأثرت بهذا الشخص ومررت بفترة حيرة وأخذت اتابع ما ذكره لي هذا الشخص من الأدلة التي اوصلته إلى الاسلام ثم أخذت أسأل


الصفحة 4
من بعض اصدقائي ـ اليزيديين ـ عن كتابنا المقدس أين هو؟ وماذا فيه؟ ولماذا لا يطبع؟ بل لماذا لا يسمح لنا برؤيته كبقية الديانات؟ فكنت أواجه بالنفي وعدم التدخل بهذا الموضوع لأنّه من اختصاصات بيت الأمير وهم وحدهم لهم صلاحية النظر في هذا الكتاب (المقدس) الذي يطلقون عليه اسم (رش) وهو يعني الكتاب الأسود وهو مؤلف من سبع صفحات فقط! 

ولكني تابعت البحث والسؤال من الناس بل من المقرّبين من بيت الأمير حتى وصلت إلى نتيجة قطعية أنه لا وجود لمثل هذا الكتاب، وانما هو مجرّد اكذوبة حاكها بيت الأمير لخلق هالة من القداسة الزائفة لهذا الدين الخرافي، فأيقنت أني أؤمن بأشياء لا وجود لها.

ثم اتصلت بأحد المسلمين الذي زودني بالكتب الاسلامية، فقرأت أول كتاب وهو عن قصص الأنبياء فتأثرت بقصة سيدنا محمد بن عبدالله(عليه السلام) مع ما كنت أحمل في ذهني من صورة الإعجاب والقداسة والاحترام له(صلى الله عليه وآله)، إلاّ أن الرجل المسلم كان على المذهب السني، وطالما كان يحذّرني من الشيعة حتى تحوّل تأكيده هذا الى فضول دفعني للسؤال عن الشيعة وقراءة الكتب الشيعية، فقرأت بعضها".

 

أهم كتب الشيعة التي تأثّر بها:

يقول الأخ عامر حول أهم الكتب التي دفعته لاعتناق مذهب أهل البيت(عليهم السلام):

"انه مقتل الإمام الحسين(عليه السلام)، فحينما قرأته تأثرت كثيراً وتألمت على تلك الفاجعة التي تعرض لها الإمام الحسين(عليه السلام)، وبقيت في حيرة من أمري حول مصداقية هذا الكلام، وهل أنّه حقيقة أم لا؟ وإذا كان حقيقة فكيف يحترم أهل السنة يزيد بن معاوية المجرم؟ بل لماذا لا يتكلمون حول مأساة الحسين الدامية؟

 


الصفحة 5
لقد تألم قلبي كثيراً لهذه المأساة المروعة، واجهشت بالبكاء.. وأشرق الحق في قلبي فأتصلت ببعض الشباب الشيعة ودرست عندهم بعض الفقه الشيعي من خلال الرسالة العملية، بالاضافة إلى دورة في العقائد والاخلاق واللغة العربية، ومنذ ذلك الحين عرفت حقيقة التشيع". 

ومن هذا المنطلق استبصر الأخ عامر واعتنق مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، ثم توجّه إلى نشر الحقائق التي توصّل إليها إلى قومه، وشرع يدعوهم إلى مدرسة عترة الرسول(صلى الله عليه وآله).

 

مؤلفاته:

(1) "من الظلمات إلى النور":

صدر عن مؤسسة الفرات ـ بيروت.

أورد المؤلّف في كتابه هذا موجز النتائج التي توصّل إليها خلال بحثه عن الفرقة اليزيدية، وقد تطرّق في بحثه هذا حول اليزيدية إلى اصولهم الدينية، وكشف ملابسات الفتنة التي أدت إلى نشأتهم، واعتمد في ذلك على الأدلة المحكمة المستلة من المصادر المحايدة.

 


الصفحة 6

وقفة مع كتابه: "من الظلمات إلى النور"

وهو كتاب صغير من حيث الحجم، لكنه كبير من حيث القضية المطروحة فيه، فهو كتاب يبحث عن الاصول الدينيّة لليزيديين، وظروف نشأتهم الغامضة، والتي بحث فيها الكثير من الباحثين والمؤلّفين ولكنهم لم يصلوا إلى نتائج متوافقة، نتيجة لتضارب المعطيات فيها والغموض الشديد الذي يلف العقائد والتاريخ اليزيدي.

وقد حاول الكاتب ـ وهو يزيدي المولد ـ أن يتقصّى اصول قومه الدينية، ويجمع أطراف الخيوط المبعثرة والمتشابكة في يده لمعرفة الواقع الحقيقي لهذه الاصول لأنها مسألة حياتية مصيرية بالنسبة إليه وإلى قومه لا كما يفعل بعض الباحثين الذين لا يهمهم أن يتكهّنوا بما شاؤوا في مثل هذه القضايا الحساسة كما صرّح الكاتب حيث قال:

"وأما عن بحثنا، فقد فرّق بيننا وبين الباحثين عامل معنوي ناهض، فهذا الكراس وبالرغم من أننا لم نستقصِ كل الأدلة المساعدة فيه، أستطيع القول باطمئنان بأننا أنجزنا النتيجة كُلّها، (والحقيقة بعينها)، لأن الالتزام الذي يُنقّب به متنوّر بالحق ـ من بعد اعتناق مجهول ـ ليس كاستطراق هاو، أو ما أهمّه إن أصاب مرّة، وتكهّن مرّات".

وقد وفق الكاتب في كشف مؤامرة اموية خبيثة تلبست بلباس التصوف في خداع هؤلاء القوم ـ الذين كانوا يكثرون من اللعن(1) لبني أمية وأمثالهم من

____________

1- لاحظ كتاب (اليزيديون في حاضرهم وماضيهم": 22، لعبد الرزاق الحسني، ط11.


الصفحة 7
الظالمين والمنحرفين ـ فاستغلت عزلتهم واستضعفتهم دينياً ودنيوياً وجعلتهم بقرةً حلوباً تدر على الأمراء الأمويين كما عبّر أحد الكتاب حيث قال عن عوامهم الذين يسمونهم "المريدين": 

"ربما كانت كلمتا (البقرة الحلوب) أحسن ما يوصف به (المريد) من اليزيدية فالمردة (أي المريدون) هم عوام الشعب، وسائر أفراده، ذكوراً كانوا أم إناثاً، كباراً أم صغاراً، سواء كانوا من القبائل أو من أهل القرى، يخضعون لأوامر رؤسائهم الروحيين خضوعاً مطلقاً، ويتقبلون أوامرهم ونواهيهم دون مناقشة أو اعتراض، فقد فرضت الشريعة عليهم الإطاعة العمياء، وأوهموا أنّ التدخل في الأمور الدينية، أو التساؤل عن أسرار العقيدة اليزيدية يخرجانهم من الايمان، ويحلان بهم الذل والهوان.

ولابدّ أن يكون لكل مريد أو مريدة، شيخ وپير معاً، فيقدم إليهما النذور والخيرات، ويتلقى منهما التعليمات والإرشادات، فإذا مات أحدهما، أو حرمه الأمير، ولم يكن بين سلالته من يحل محله، لجأ المريد إلى الأمير فيختار له بدل المتوفي، أو المحروم، أحداً ما، لقاء مبلغ يتفقان عليه. والمريد الذي لا شيخ له ولا پير، يعدّ خارجاً عن العقيدة اليزيدية(1)، والمردة يتزاوجون فيما بينهم، فلا تحق لهم مصاهرة السلالات الأخرى، أي كالمنبوذين في الهند"(2).

والذي يجعل القضية كبيرة ومهمة هو أوجه الشبه بين الخداع الذي مارسه الشيخ عدي بن مسافر الأموي وأولاده وأحفاده من أمراء اليزيدية على هؤلاء القوم المعزولين وبين الخداع الذي مارسه معاوية وسلالته الأموية على كل الأمة

____________

1- حتمت التقاليد اليزيدية على كل يزيدي أن يتخذ له له أخاً وأختاً من رجال الدين يكل أمره اليهما، ويرجو بهما الشفاعة يوم الآخرة ومفروض عليه أن يصافحهما عند كل صباح، ويتحبب إليهما.

2- عبدالرزاق الحسني في كتابه "اليزيديون في حاضرهم وماضيهم": 73، ط11.


الصفحة 8
حتى حاول أن يمحو الاسلام من أساسه كما اعترف بذلك لنصيره المغيرة بن شعبة. 

وقد نجّى الله الأمة وحفظ الاسلام بفضل أهل البيت(عليهم السلام) الذين تعبدوا لهذه الشجرة الملعونة كما سمّاها الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل(1)، وبقي هؤلاء القوم المعزولين على الضلال عبرة لمن يعتبر ويريد أن يعرف بني أمية ومكائدهم للدين وللمسلمين، والحمدُ لله الذي أمرنا بلعن أعداء أهل البيت(عليهم السلام) والبراءة منهم، وهذا ما وفق إليه مؤلف هذا الكتاب بطلبه الحق وهداية رب العالمين.

 

الأصل الديني لليزيديين قبل القرن السادس:

اختلف الباحثون في أن اليزيديين قبل مجيء الشيخ الصوفي عدي بن مسافر الأموي(2) إلى مناطقهم في جبال هكّار على أي دين كانوا.

وقد أورد الكاتب مجملا لأقوال الباحثين في هامش كتابه حيث قال: "تفاوت المؤلفون والباحثون في احتمالات الأصل الديني للقوم قبل القرن السادس الهجري، فكان أبعد الاحتمالات للدملوجي في كتابه (اليزيدية) ط1، والذي قال "إن أصولهم من المانوية (وهي عقائد فارسية قديمة)، أسلموا على يد عادي، ومتّبعين طريقته الصوفية، ويأتي بعد حين من خلفاء عادي فيضلّهم،

____________

1- الاسراء: 60، ولاحظ ما قاله المفسّرون من أن الشجرة الملعونة بني أمية أو بني الحكم، ولاحظ أن الشيخ عدي الذي ابتدع اليزيدية من أحفاد الحكم.

2- عدي بن مسافر (ويُعرف عند القوم بعادي أو شيخ آدي) ولِد في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري في قربة بيت فار (من قرى الشام، إلى الجنوب من بعلبك)، سافر إلى بغداد عاصمة الدولة العبّاسيّة آنذاك، درس فيها التصوف (الإسلامي!)، وانتقل بعدها إلى الموصل وإلى وادي لالش، أقام له زاويةً هناك، تبعه الكثيرون من أهل تلك الأنحاء والجبال، أحدث الطريقة الصوفية والتي عُرِفت باسمه (العدوية)، انضم إليها جمعٌ كبير; مات عام (557هـ) عن تسعين عاماً ودفن في زاويته، مستخلفاً ابن أخيه. ذكره عدد من المؤرخين، منهم الجزري، وابن خلكان..


الصفحة 9
فيكون هذا سائغاً للعودة بعد قرن أو قرن ونصف القرن مع بعض الممارسات الاسلامية إلى مانويتهم القديمة" (انتهى). والأبعد من هذا الإحتمال كان للسامرائي في كتابه (الغلو والفرق الغالية في الحضارة الاسلامية) إذ قال: 

"إن اليزيدية تفرّعت عن الأباضية ومؤسسها يزيد بن أنيسة الخارجي" (انتهى). وقال ابن حزم في (الفصل في الملل والأهواء والنحل) "هو زيد بن أبي أبيسة".

ثم اللواء حسن صادق في كتابه (جذور الفتنة في الفرق الاسلامية) حيث استخلص عن الشهرستاني بقوله "إن الباحثين اختلفوا في سبب تسمية هذه الطائفة كما اختلفوا في أصل دينهم" (انتهى). اما احتمال الحسني في (اليزيديون) ط11 فقد قال "أصلهم من قبائل مجوسية (زرادشتية) تسمّى تيراهيّه أو ترهايا، ثم اعتنقوا الاسلام بضعف، ولما حلّ عادي بين ظهرانيهم وأسس طريقته العدويّة، اتّبعوها، ثم من بعد موت عادي ظهر بين خلفائه من أضلّهم وبعدهم عن التعاليم الاسلامية، فظهرت فيهم براعم المجوسيّة (الزرادشتية) القديمة، وعاد القوم إلى معتقدات توارثوها كابر عن كابر" (انتهى). وتحرّز تيمور باشا المصري من بحث الاصل.

أما عدنان حسين فقد جمع في بحثه المنشور في صحيفة (الشرق الأوسط) احتمالات سابقة أخرى من أنهم قد يكونون من أصل صابئي أو كلداني... إلخ، وان تسميتهم قد تكون مُشتقة من مدينة قديمة تسمى (يزدم)، ثم نقل عمّن نسبهم إلى مدينة (يزد) الفارسية، أو أتباع ليزدان وهي كلمة تعظيم كردية أو فارسية للإله (انتهى). وبعضهم من قال أنهم أمويون حُوصِروا في تلك الجبال، وبقوا هناك... وهناك احتمالات أخرى، ولم تزد دائرتا المعارف البريطانية والأمريكية شيئاً عن الاحتمالات المذكورة".

لكن الكاتب لا يقبل بهذه الأقوال، ويرى ان اليزيديين كانوا قوماً من


الصفحة 10
المسلمين، وان الشيخ عدي وأولاده قد خدعوهم عن دينهم باختراع الطريقة العدوية الصوفية التي بدأها الشيخ بمحاربة اللعن بما في ذلك الشيطان نفسه، وبالدفاع عن أجداده من بني أمية بدون هوادة، ثم واصل الخداع ابن اخيه صخر بنسبة الكرامات التي ما أنزل الله بها من سلطان للشيخ عدي، وكذلك واصل حفيده الشيخ شمس (الذي يسمّونه الحسن البصري اشتباهاً) في تحريف الدين الاسلامي من اساسه فاخترع عبادات مقلوبة عن الدين الاسلامي كالحج إلى قبر الشيخ عدي والطواف به والشرب من ماء هناك سمّاها "زمزم"، كما رسخ عبادة الشيطان وسمي بـ (طاووس ملك) وكذلك الاعتقاد بامامة يزيد الاموي قاتل الحسين(عليه السلام) وكونه على الحق. 

يبدأ الكاتب بالاستدلال على اسلام قومه بالقول:

"فهل أفصَحُ من دليل كالذي سجّلَه المختصّون بأنساب القبائل والعشائر وذكرهم لبطون يزيديّة منها، والتي يعود تاريخ إسلام أجدادها وجهادهم في سبيل الله إلى حياة سيدنا النبي(صلى الله عليه وآله)(1).

والنماذج المذكورة تنطبق حالتها على القبائل اليزيديّة الكرديّة أيضاً، إذ أن المؤامرة أو الفتنة التي اعترضت المسيرة الدينية في القرن السادس الهجري من كرد وعرب استهدفتهم من إسلامهم....؟!".

ويواصل استدلاله موضّحاً أنّ هناك خطة تحريفية أموية بالقول:

"ثم.. ما عسى أن يكون ذلك الأمر المريب الذي أحال مسيرة هؤلاء المسلمين إلى انتكاسة وضياع؟

 

____________

1- أولا: راجع (عشائر العراق) للعزاوي: 2 / 201 ـ 204.

ثانياً: راجع أيضاً (موسوعة العشائر العراقية) للعامري: 6 / 203 ـ 216.

ومن اليزيديين من ينتمي إلى عشائر: العبيد، وطيء (الهبابات)، وعنزة، وشهوان، والجنابيين، وجحيش، والخالدي... الخ.


الصفحة 11
والأمر المريب الذي عبّر المؤلفون والباحثون عن مجموعه بالغموض، عبّرنا بدورنا عنه بالفتنة أو المؤامرة، وكما سيبدو فإن الفارق بيننا وبينهم في التحليل، كالفارق أحياناً بين الصدفة والخطّة... 

فعن الاحتمال القائل باشتقاق (يزيدية)، لأنهم من أهل (يزد) الفارسية، أو أتباع ليزدان، سيجد المطالع نفسه آخذاً بأحد أمرين لا ثالث لهم، وهما:

 

  • هل هي الصدفة التي قاربت بين الحروف والأسماء (يزد، يزيد، يزدان)، فدفعت بأهل أو أتباع (يزد أو يزدان) للارتماء في أحضان أبناء يزيد؟

     

     

  • أم هي خطة، عَمَدَ أصحابها إلى تضليل لا أساس له، بخلط مجرد أسماء (يزد، يزدان) إلى أسم يزيد؟

     

    وشتان بين الصدفة والخطة.

    فإن الفاصل بين الصدفة والخطة، كالفاصل بين الأرض والسماء، وأنا بدوري ممن يكذّب هذه الصدفة، لعلمي اليوم أنّها خطة متقنة استمر على مواصلتها نسلٌ حقود (منذ القرن السادس الهجري)، وخطة أبناء هذا النسل ما زالت سارية منذ ذلك الحين وحتى هذه الساعة، وبأشكال مختلفة; إذ ما زال قومي يتذكرون حدثاً في أيام الحرب، وهذا الحدث (النموذج) لوحده سيفتح الأذهان عن مدى استهانة أمراء اليزيدية المتعاقبين واستهتارهم بمقدراتنا وتلاعبهم بمصائرنا كيف ما شاءوا..

    (فثمة صفقة بيع وشراء رابحة تمت بين أمير اليزيدية ـ في أواسط الثمانينيات ـ وبين ممثّلي الحكومة نقلت اليزيديين بدقائق من قومية إلى قومية أخرى)..!!

    فما بالك عن أصلنا الديني، وأبناء هذا النسل أحاطوا به طعناً وتجريحاً، ومنذ أكثر من ثمانمئة عام؟".

     


    الصفحة 12
    ثم يبحث الكاتب في الوثائق والشواهد التي تدل على اسلام القوم فيقول: 

    "ووثائقياً.. فإن (زعماً!) فات الأستاذ الحسني التفحص فيه، والتعامل معه، حيث ذكره سريعاً في كتابه (اليزيديون) من أن ـ في بعشيقة ـ معبد شيخ محمد ويزعمون أنه محمد بن سيدنا الإمام علي والذي يُعرف باسم قبيلة والدته أيضاً (محمد بن الحنفية).

    أما الدملوجي (صاحب الاحتمال المانوي) وفي الصفحة (44) من كتابه فقد ناقض نفسه ونقض بدليله التالي احتمالات أخرى حين راح يؤكد من أن بعض الأسر اليزيدية ـ ممن التهمت أسلافهم الفتنة ـ تنتمي بنسبها إلى سيدنا الإمام علي(1).

    وميدانياً.. فيسيراً تلمّس ذلك الحب والشغف الغامضين عند بني قومنا، فتراه انطبع مباشرةً على الأسماء; وإلاّ ما تفسير هذا الاحتضان المتواصل ومنذ القدم للأسماء الكريمة (حسين، علي، حسن، قاسم(2)،...) واتخاذها لأبنائهم وذويهم جيلا بعد جيل ـ وبنسب ممتازة قياسياً لبقية الأسماء ـ حتى وَجَدَت طريقها إلى بيوت الأمراء من قبل لكثرتها. غير أن أسماء مرتعشة ـ حيث لا تجد بينها علاقة ما غير تضليل القوم ـ تحكي عن الحقيقة الكذوب للأمراء وأقربائهم، وإلاّ ما معنى اجتماع الأسماء التالية.. فرعون وزرادشت ومعاوية ويزيد فيهم..؟".

    ثم يتابع الكاتب استدلاله بالقول:

    "إن كان أجدادنا غير مسلمين فما علاقتهم بعادي؟

    إنه تساؤل مطروح بصيغ متعددة، ليدحض بدوره شبهات البحوث المضطربة، ما إن تمعّن به أي شخص لاكتشف بسهولة من أن فجوة عريضة، أو

    ____________

    1- ما الذي منع المؤلف من إستلال الدليل على إسلامية قومنا قبل عادي، على ضوء النموذج المذكور.

    2- إسم الابن الأكبر لسيدنا النبي(صلى الله عليه وآله).


    الصفحة 13
    حلقة مفقودة جسّدت "لا ترابط واضحاً". 

    فلو كان أجدادنا (مانويين، أو يزيديين، أو صابئة...) فما القاسم المشترك الذي يجمعهم بعادي؟ والتساؤل المذكور نعني به إلفات الأنظار إلى الأصل الصادق قبل الفتنة، والذي لا تنتظم صورة الحقائق إلاّ به، لهذا.. سيبدو شرحنا وتحرّينا ـ بُغية فكّ الملابسات ـ جديداً على الأسماع، فلو عرضنا أول بَدء دوافع خطّة الأمراء والمتمشيخين من تحريم التعلّم والتعليم على اليزيديين(1) لما تبيّنت منها غاية غير قطع الطريق أمام إحتمال عثور هؤلاء القوم على أصلهم الديني".

    ثم ان الكاتب وهو يبحث ويستدل على اسلام القوم ينتقد المؤلفين والباحثين ـ الذين تناولوا اليزيدية بالبحث ـ مرة اخرى ويقول: "عندما أهمل المؤلفون والباحثون التفصيل في بديهيّات وثوابت مهمة، اتجهت رؤاهم بالضرورة إلى فرض التكهنات والاحتمالات. فالبديهيّات المتفق عليها أدرجناها بلغة مُبسّطة وبالشكل التالي:

     

  • إنّ عادي شيخ لطريقة صوفية.

     

     

  • وإنّ شيخ الطريقة (بالضرورة) مسلم ومن مظاهره التنسك والزهد.

     

     

  • اقتصار الطريقة أو الطرائق الصوفية (لما فيها) على مسلمين(2).

     

     

    ____________

    1- شذ هؤلاء المنتسبين للأموية (وأعني بيوت الأمراء وأقربائهم) عن تطبيق خطّتهم المذكورة، إذ أن القراءة والكتابة كانت حصراً بهم على مدى عصور التحريم، وبالتالي فإن تحريمهم التعليم استهدف الأبعدين من القوم ـ ممن لا علاقة لهم بالأموية ـ وبدءُ توجه القوم إلى طلب العلم لم يكن لتساهل الأمراء أو تسامح متمشيخيهم ـ كما كتب البعض ـ، بل جاء نتيجة ردّة فعل غاضبة لشعور متراكم بالتفرقة، فكان البغض للأمراء وجماعتهم طبيعياً حينما يرى قومنا حتى بعض الأناث من بيت الأمير وأقربائه ممن نِلنَ الشهادات، أو من خريجات الجامعات.

    2- أي أنها وقفاً على مسلمين ممن يجدون في الممارسات الروحيّة الطرائقية وسائل لبلوغ هدف (القربة والرضى).


    الصفحة 14
    إذن والحديث سيتركّز عند هذه الفجوة، والتي ستأخذ بنا ثانيةً إلى الأصل الديني ما قبل عادي. 

    فهل أن عادي دعا إلى طريقته الصوفية أُناساً غير مسلمين، كمانويين، أو صابئة، أو مجوس، أو.. مثلا؟

    ومثل هذا غير ممكن لما تفرضه إجماعات الطرائق الصوفية على أتباعها من قراءات.

    أم أنّ عادي استطاع بتلك السنوات أو العقود التي قضاها في تلك المواطن، أن يهدي أهلها إلى الإسلام مرة، ومن ثم يدفع بهم إلى التصوف والطريقة مرة أخرى؟

    إن أدلة تنقض هذا الافتراض هي:

    الدليل الفلسفي:

    أ ـ إنّ تصوف قومنا السابقين (من بعد تحولهم المفترض إلى الإسلام) يوحي بانشدادهم العميق للدين، فما الداعي إلى عودتهم لأفكار قديمة مثل زرادشتيه أو مانويّه،.. الخ (على فرض أنهم كانوا غير مسلمين)؟..

    ب ـ ما يدل على تفعيل أولئك المسلمين الأبرياء لأفكار الطريقة وشيخها ـ بدعوى نيل غاية أُخروية ـ هو انغمارهم في التصوّف ـ كما ستثبت أدلة الفصول اللاحقة لا الاحتمال القائل أنهم عادوا إلى أفكار قديمة ـ يفترض أنهم كانوا عليها ـ وبعد مرور أكثر من مائة عام.

     

    الدليل التاريخي:

    لكي نتلافى الالتباس، فإن مفهوم هداية قوم ما إلى الإسلام، مستقل تماماً عن مفهوم ضم قوم إلى طريقة صوفية، ولا مجال للقياس بينهما.

    فلو أن عادي سعى في هداية قوم إلى الإسلام لَوَرَدَ ذكر ذلك في التاريخ


    الصفحة 15
    أضعاف ما تواتر من ذكر تأسيسه لطريقة صوفية والتي اشتهر بها; وما لمسناه هو وفرة الأدلة وتواترها إلى حدود تأسيسه الطريقة المذكورة، وانضمام أتباع لها من أهل تلك المناطق; أما هدايته لقوم، فلم يَرِد ذكر شيء من ذلك. 

    وإجابة التأريخ على تلك الاحتمالات، هي:

    إن أجدادنا من قبل نفوذ عادي في مواطنهم كان دينهم الإسلام، وما استطاعه عادي هو استقطابه إياهم للتصوف ولطريقته الصوفية، لا غير.

    كتب المرحوم أحمد تيمور المصري في كتابه (اليزيدية) ط2 في الصفحة (57)، ونقلها الحسني في كتابه (اليزيديون):

    ".. وتسامع به الناس (أي بعادي) فقصدوه من الأطراف للاسترشاد، ثم انتقل إلى جبال هكّار موطن الأكراد، فتبعه خلقٌ كثير منهم، إتخذ منهم المريدين، وأحدث الطريقة العدوية".

    فما الذي دفع بأولئك الناس ليقصدوه ويسترشدوه إلاّ كونهم مسلمين.

    ودوّن ابن خلكان من قبل والمتوفى في (681هـ) في كتابه(1) ذات الرؤية المذكورة، وذكرها الدملوجي بتغافل كعادته. فهل أن أهل تلك النواحي مالوا إلى عادي بتأثير دافع ديني إسلامي، أم بدافع مانوي، أم يزدي، أم يزداني، أم كلداني، أم صابئي..؟

    والهدف من ذكر عبارات، ورؤى المصادر الجديدة والقديمة، إثبات أمرين كما أسلفنا: 1 ـ إسلامية القوم من قبل عادي (من خلال الأدلة والقرائن التأريخية).

    2 ـ عدم وجود أيّ دليل تاريخي يصرّح بانتماءات أخرى للقوم، كالتي ذكرها أصحاب البحوث واحتملها بعض المؤلفين.

     

    ____________

    1- جاء في كتاب (وفيات الأعيان) لإبن خلكان المجلد الأول الصفحة (316): "ومال إليه أهل تلك النواحي..".


    الصفحة 16
    وتكمّل الوثائق التي ذكرناها شهادة جديرة في (الكامل في التأريخ) نافيةً بدورها تلك المزاعم والفرضيات الحائرة: "مانوية، أموية، زرداشتية، يزد،.. الخ". فأهمية تلك الشهادة تكمن في ميزات لابن الأثير مدوّن التأريخ المذكور، فهو وليد الفترة التي عاش فيها عادي، كما وأنه ابن تلك المنطقة الموصلية، والأعرف بتحولاتها، لم يأتِ أو يدلي في سطوره الأربعة عند ذكر ملّتنا ـ آنذاك ـ وعادي بقرينة أو إيحاء أو علاقة أو أيّة سابقة باحتمالات المؤلفين، أو أن فضلا لعادي بهدي قوم ما إلى الإسلام، إنما أشار ابن الأثير إلى صفة دينية مثل التزهد لعادي، والتي تجد وقعها عادةً في نفوس أهلها من المسلمين لطبيعتهم الدينية، وعلى هذا: ".. تبعه أهل السواد والجبال بتلك النواحي وأطاعوه، وحسنو الظن به.."(1) ثم شرع يستحدث منهم طريقته الصوفية". 

     

    كيف حصلت الفتنة:

    بعد أن دافع الكاتب عن الأصل الإسلامي لقومه يتساءل عن كيفية حصول الانحراف وتمكن حلقات الفتنة من محاصرتهم، فيقول:

    "التناقض بين الماضي الديني لقومنا وحاضرهم يبعث بدوره سؤالا عميقاً هو:

    هل أن تحوّل القوم عن دينهم الإسلام من قبل، كان بإرادتهم أم بغير إرادتهم..؟

    والجواب الكبير: إن تحول القوم عن دينهم لم يكن بإرادتهم، ذلك لأن أفكار الانحراف الصوفية كانت تُمرّر بغطاء ديني مُحبّب في عقائد أولئك المسلمين، وإنفاذها كان بطيئاً وبصفةً روحية، ولو أن انفصالهم عن دينهم كان شعورياً أو بمباشرة منهم لما تعيّنت صورته بعد أكثر من مائة عام، بدءً من يوم حطّ

    ____________

    1- الكامل في التاريخ: 11 / 108.


    الصفحة 17
    فيه عادي في موطن الأجداد. 

    وأنجزت رواية السمعاني أهم مفردات ما ذكرنا ـ والذي توفي في (562هـ) ـ أي بعد موت عادي بخمس سنوات، يشرح فيها السمعاني عن قومنا آنذاك في كتابه (الأنساب) في الصفحة (600): ".. يتزهدون في القرى التي في تلك الجبال، ويأكلون الحال، وقلّما يخالطون الناس، ويعتقدون الأمانة ـ أي الإمامة ـ في يزيد ابن معاوية (!)، وكونه على الحق، ورأيت جماعة منهم في جامع المرج، وسمعت أن الأديب الحسن بن بندار البروجردي، وكان فاضلا مسفاراً، نزل عليهم بسنجار، ودخل مسجداً لهم..".

    ومن الشاهد التأريخي نلمس أمرين، أحدهما: أن قومنا مسلمون وسِمَتهم المسجد والجامع. والآخر: بروز واحدة من مؤشرات الانحراف ـ آنذاك ـ من إيهام عادي لأجدادنا بقدسيّة رمز بغيض هو يزيد الأموي، وإدماج تلك الفكرة الشاذّة والمنشقة في عقيدة القوم الدينية، عبر توظيفه (أي عادي) مزالق التصوف لاعتبارات أمويّة.

    وحاضرنا، ما زال يكتظّ بالنماذج المحرّفة والمبدّلة، والتي يكاد البعض منها ينطق لحاله عن أصل القوم الديني، والنموذج الآتي يُعبّر عن نتاج روحي مُشوّه لتلاقح فكري خاطىء، وكذلك يحمل نموذجنا دلالات عدة لموضوعات مختلفة سنطّلع عليها لاحقاً.

    فقد يستحضر الذهن من كلمة (الحج) زيارة البيت المحرم في مكة المكرمة وما تضم من اعتلاء لجبل عرفات أيضاً، والارتواء من بئر زمزم هناك.. وغيرها، حيث تؤدى تلك الشعائر ـ كما هو معروف ـ في شهر ذي الحجة الحرام.. وعيد الأضحى.

    أما حج ملتنا الممسوخ ـ وللأسف ـ ففي قرية موصلية نائية حيث قبر


    الصفحة 18
    المدّعو عدي الأموي، وصعود تل بمقربة من القبر يسمونه جبل عرفات، وعين ماء أُلبست من قبل أسم زمزم، وكذلك في شهر ذي الحجة، أما عيد الأضحى فقد احتضنوه، واعتزوا به إلى اليوم ـ وإن دخل اعتزازهم أحاديث أخرى ـ لكنهم ظلّوا بحق يتوارثونه بصفاء إسلامهم من قبل عادي. 

    وهنا... لابدّ من صورة ما بدأت تترسّم أيضاً أمام القراء عن معنى وجود قبر ذلك الأموي بين تلك الموهمات، وهذا الأمر الذي عرضناه بما يكفي، يكشف عن مدسوسات فكرية أرساها الأموي في عقول أولئك المسلمين المعزولين.

    ويدعم الكاتب كلامه هذا ببعض الشواهد ويوضّح سوء الفهم الحاصل عند البعض حولها، فيقول:

    "وتتبين صحة هذا الأمر من شواهد مُلفتة:

    الأول: التلاقف الأموي لمشيخة الطريقة الصوفية.

    والآخر: تسخير مجالها الروحي لصالحهم وغاياتهم.

    فمن عادي إلى صخر ومنه إلى عدي الثاني وثم إلى شمس.. وعن الأخير تنبعث التأوّلات أيضاً، إذ يبدأ المؤلفون بالسرد عن ظهور الزيغ والضلال والغُلو بين أتباع الطريقة الصوفية المذكورة في عهد مشيخة شمس للطريقة(1)، والقاء هؤلا المؤلفين فتنة الانحراف بكلها على عاتقه دون تسمية سابقيه، وذلك من خلال استدلالات ظاهرية، من انه أراد تنفيذ مطامح سياسية قديمة بالمريدين(2)، وأنه أملى في كتابه الجلوة عقائده المخالفة للإسلام، وانه وجد نفسه ـ أي شمس ـ بمنزلة حتى نُبِزَ بالمتألّه.. إلى آخر الأقوال.

    ونحن نتفق مع المؤلفين، غير أنَ لنا أنْ نسأل عن إمكانية حدوث كل تلك

    ____________

    1- راجع (اليزيديون) للحسني: 27.

    2- راجع كتاب الدملوجي (اليزيدية) ط1، الصفحات: 84 ـ 85.


    الصفحة 19
    المفاجآت في عده الأخير شمس، ما لم تُخصّب لها الأرضية من قبل؟ 

    وهذا التساؤل يجيب بذاته، من أن التفجّر السلبي الحاصل، كانت نتيجة تراكمات صوفية مضطردة، إنما طَفحت دلائلها في عهد شمس المذكور، ليستغلها بالشكل الذي ذكره المؤلفون.

    وبمعنى أيسر، إن شمس أفصح بعدائه عن اتجاه المقاصد الأموية الخفيّة لسابقيه، فلو أن التركيبة الأموية من قبل شمس (أي عادي، صخر، عدي الثاني) أهمهم أمر الدين، وعملوا للغاية الدينية في أوساط المريدين لما استطاع شمس أن يملي عقائده ضد الدين، ولما استدعى ظهور الزيغ والضلال، ولما تمرّد لإعادة الجاهلية، أو يُنبز بالمتألّه، ولكن النفر السابقين عملوا لترسيخ منحرفات التصوف وإشاعة أمويتهم.

    ومن مفارقات الفتنة الظاهرة في عهد شمس، كان أهمها انشعاب غايتين، فالرباعي الأموي أراد من وسيلة التصوف الانفتال عن الإسلام والانفكاك عنه، واعادة الحلم الجاهلي القديم، أما الضحايا المريدون فقد أرادوا من وسيلة التصوف المغلوط نيل الآخرة، والغايتان المتشابكتان بدخولها باكورة الأحداث الدامية في عهد مشيخة شمس، خرجت بانتصار الغاية الأموية على غاية المريدين(1)، ليضحى الشيطان والأموية ورضاهما، هما معيار القربة والسخط، أو قبول الأعمال وردّها إلى هذا اليوم.

    ثم.. وعلى هذا الضياع تُولَد أجيال قومنا، وعلى الظلمات ترحل أخرى".

     

    ____________

    1- احتمل الدملوجي في كتابه (اليزيدية) وفي الصفحة (84): أن شمس هو الذي بدأ بإضلال الأتباع والمريدين، وألبس في روحياتهم الأفكار الصوفية المنحرفة، والتي أراد منها إبراز نفسه بمنزلة المتألّه على القوم، ـ وهذا خطأ شائن في تحليل المؤلف المذكور ـ، إذ أن الشواهد التاريخية والحاضرة التي ذكرناها تشير إلى من أفرغ فيهم أول بدء تلك الأفكار (ليتخذوا من قبره قبلة..).


    الصفحة 20

    المنتفعون من الفتنة:

    يوضّح الكاتب هنا مَن هو المستفيد من ضلال القوم بصورة أوضح مع إيراد امثلة وشواهد، فيقول:

    "كما بدأت الفتنة ـ في القرن السادس الهجري ـ بالمكر، مضت على طبيعتها إلى اليوم تعتمد المكر، ولعل من فروق الفتنة بين أمسها وحاضرها، أن زارعها فرد، ورُعاتها اليوم كثُر (الأمير ومتمشيخوه).

    لهذا كان وما زال التصنع، والتلفيق، والخرافة، والزيف هي السائدة في ظلمات هذا الضياع، فالمتمشيخون ولطمر الحقيقة الدينية للقوم، ولملأ الفراغ الحاصل، عمدوا منذ ذلك الوقت إلى صناعة بدائل روحية، أو التقاطها من عقائد أخرى، لترقيع المتطلبات الروحية التي فقدها القوم باستمرار على مدى ثمانية قرون أو أكثر. فلو راجعنا (وهذا فرض) كتابين يسمع بهما اليزيدي ولم يقرأهما هما الجلوة ورَش، لَعُرِف القصد من البدائل المزيفة، وبالأحرى التلفيق الأموي، والمكر.

    ومن المكر أيضاً، ترويجهم بين البسطاء، الخوف من الوهم، أو الخرافة، أو الخوف من بيراجنوكي، وهي العجوز التي تخنق كل من يستحم، وكل خيّاط في الأربعاء.

    وتلك المصطنعات لم تكن لتجد موقعاً في العقول ما لم يمهِّد له من قبل تحريم متمشيخي الأمراء للتعليم، وإلاّ من أين السبيل لاستبعاد عقول القوم باسم السماء، أو فرض سلطتهم عليهم بوجود الثقافة والعلم.

    وسياسية التجهيل لها علاقة مباشرة مع مصالح الأمراء والمتمشيخين، وهنالك أمثلة كثيرة تعبر عن انتهازيتهم للجهل، الجهل الذي فرضوه علينا والمحمول على هالة تقديس مصطنعة، والقصة التي يذكرها أهل خوشابا مثالا


    الصفحة 21
    لائقاً ينطبق على المنتفعين من التجهيل، فذلك المتمشيخ الذي أراد إبهام أهل القرية ـ لجمع دراهمهم ـ من أن الشيء السيّار اللامع في السماء هو طاووس ملك، والذي ما مرّ من سماء القرية إلاّ للاحتفاء به (!) ولولا أن تدارك الموقف في الليلة الثانية زائر راح يبين لهم أن الضوء السيّار اللامع (ومن بعد شرح) لم يكن إلاّ قمراً صناعياً، اقتضى مروره من فوق سماء القرية. 

    والشيء الطافي في القصه اسم طاووس ملك، حتى ليبدو أنه شيءٌ ذو هيبة، فالطاووس هو المميّز بين الطيور بألوانه وتكبره وتغنجه، أما ملك فيعنون به الملائكة، وحين تُقلب الأسماء الممقوتة إلى أسماء دعائية رقية فللتخفيف من وطأتها على السامعين، وبذلك وجد الرجيم ـ وبمكيدة الأموية السوداء ـ مكاناً بين هؤلاء القوم المغلوبين على أمرهم.

    ثم إن المتمشيخين ـ ومن بعد إحلالهم الظلمات بالمكر ـ من قبل، لم يجدوا ما ينتفعون به بعدئذ من طاووس الضلال، فجسّدته مخيلتهم القديمة الضالّة دمية من معدن، ثم غدوا يدورون به القرى التابعة المسكينة، للتكسّب.

    غير أن مواقف تكررت للأهالي الغاضبين من تلك الألاعيب جعلت من المتمشيخين لا يخرجون بطاووسهم من تلك النواحي والقرى إلاّ فراراً، حيث انتظرهم الأهالي، وبدلا من أن تتطاير النقود، جاءتهم الحجارة من كل صوب، وما دخلوا بحزاني بعد تلك الحادثة إلاّ بعد توسّط العجائز، ومثلها هزيمة المتمشيخين في قرية دهوله في سنجار.

    وهؤلاء المتمشيخون ليس لهم إلاّ الفتات، إذ يبقى المنتفع الأول يقف وراء الستار، وهو على سرّ آبائه، ونفع الأمير من إبقاء قومنا على الظلمات أن تتضاعف أمواله الشخصية في مصارف الأموال الأجنبية، وتتكدس أرباحه من عائدات مصانعه في الخارج، وكأن كل هذا لم يكفه فتراه يبدأ في مطلع كل موسم بإجراء


    الصفحة 22
    مزايدة علنية على قبر (..؟) في لالش، عدا ما يجمعه في المناسبات وبعناوين مختلفة. 

    ومن هنا يمكن استقراء الفاصل بين المتخم وأتباعه من جهة.. وبين الضحايا".

     

    الخلاصة:

    استطاع الكاتب أن يدافع عن قضيته بأدلة مقنعة ـ كما تقدّم ـ في صفحات قليلة، والانجاز الرئيسي له في هذا الكتاب هو اثبات الأصل الاسلامي للقوم قبل حصول التحريف الأموي، وهذه نقطة مهمة لكل يزيدي يعمل عقله للخلاص من الضلال، فهو إذا اهتدى إلى دين الله الحق يكون قد عاد إلى أصله الذي ضيّعه عليه ابناء الشجرة الملعونة وهذا ما يزيد في اخلاصه لدين الإسلام ورفضه لترهات الشيطان.

    هذا وقد لخّص الكاتب نفسه ما أراد أو يوضّحه في هذا الكتاب، بالقول:

    تعذّر على أكثر الباحثين ـ ممن تناولوا اليزيدية ـ تشخيص الأصل الديني لليزيديين، نظراً للتعقيد والتناقض الكبيرين في تقاليدهم الروحية،ويتضاعف مثل هذا الغموض والحيرة عند عامة اليزيديين.

    وأورَدَت أهم البحوث والمؤلفات اِحتمالات شتّى عن الأصل الديني لليزيديين فألحقتهم بأصل زرادشتي تارة، ومانوي تارة أخرى وغير ذلك مثل صابئي، كلداني، مثرائي.. إلخ، أما "يزيدية" فقد احتمل بعض المؤلفين والباحثين عن كونه مشتقاً من مواطن وانتماءات محتملة مثل، يزد، يزدان، يزدُم.. أو قد يكونون من أصل أموي...

    ولعل الملاحظة الأبسط على أسباب اضطراب التشخيص عند المؤلفين كانت حُسْن ظنِّهم بعادي أيضاً.

     


    الصفحة 23
     

    غير أن هذا البحث استطاع دحض تلك الأقوال والاحتمالات ليثبت العكس من أنهم ـ أي أجداد اليزيديون ـ وقبل القرن السادس الهجري.

    ـ أُناس مسلمون صرفاً، غير أن انعطافتهم اللاشعورية عن دينهم كان بسبب نفوذ شخص صوفي تظاهر بالزهد في مواطنهم الموصلية آنذاك وإقامته فيها، استطاع الصوفي الأموي والذي اتَّخذ من كنية (أبو المكارم) أن يستدرج أولئك المسلمين بأساليب دينية حيث حسّنوا الظنّ به، والصوفي الأموي المذكور (عدي ابن مسافر: يسمونه القوم آدي أو عادي) الذي استحدثَ لنفسه طريقة صوفية (العدويّة) اتخذها وسيلة لتمرير الأفكار الباطنية الصوفية والتي استطاع بها خداع أولئك المسلمين وتضليلهم بغطاء ديني.

    وقد أثبت هذا البحث حصول تلابس ديني فعلي لأولئك المسلمين في حياة عادي والتي كان باعثها ازدواجية السلوك الصوفي من استخدام الدين أداة لتزريق بدعة أو بدع فكرية "كما هي عليه ضلالة تساوي العاصي والمطيع والناتجة عن المقولة الصوفية بوحدة الوجود والتي جعلت بمرور الزمان من عناصر شر ـ كالشيطان ويزيد ـ مقدسين عند هؤلاء القوم" وما أوصى به عادي لابن أخيه (صخر الأموي) لاستخلافه كان دليلا آخر على رغبته لتكريس الانحراف، لينتهي الأمر بأولئك المسلمين إلى انسلاخ تدريجي عن الدين، بينما ظَلَّ الاستخلاف تقليداً متبعاً إلى اليوم عبر تعاقب الأمراء (والذين هم أمويون أيضاً).

    وما خسره اليزيديون من سياسة التجهيل أو تحريم العلم، ربحهُ متمشيخو الأمراء من تمكينهم للجهل والخرافة والتي ما زالت تسيطر على عقول بسطاء هؤلاء القوم.

  •  

    العودة

     

    www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>