الفصل الثالث
توثيق الحديث
واليقين في غير الأحكام
38 ـ
أحاديث النبي وأهل البيت تحرّم، ولدينا في ذلك تحفظ فتوائي.
39 ـ
حرمة أكل لحم الأرنب مبنية على الاحتياط.
سئل البعض:
لماذا لا يؤكل لحم الأرنب؟!
فأجاب:
«لأن الأحاديث الواردة عندنا عن أئمة أهل البيت،
والمروية عن الرسول تقول بحرمته ذكراً كان أو أنثى. ولدينا تحفظ فتوائي
حول الموضوع فإن الحرمة ـ عندنا ـ مبنية على الإحتياط »([1]).
1 ـ إن
جوابه هذا يوضح: أن المنهج الذي يلتزم به هذا البعض، ويسير عليه هو أن
الرسول «صلى الله عليه وآله» وأهل البيت «عليهم السلام» يقولون: حرام
وهو يتحفظ على قول الرسول «صلى الله عليه وآله» وأهل بيته «عليهم
السلام»، فلا يفتي في الفتوى بما قالوه، بل تبقى الفتوى عنده مبنية على
الاحتياط.
فهل ثمة من جرأة أعظم من هذه الجرأة؟!
2 ـ إن
هذا البعض يقول في العديد من الموارد: «إن الاحتياط عنده ميل إلى القول
بالجواز..».
ولم يزل يستشهد بفتاوي العلماء بالإحتياط الوجوبي
بالمنع، على صحة قوله هو بالجواز، فيقول: فلان يوافقنا على القول
بالجواز، لأنه يقول: الأحوط وجوباً الحرمة([2])..
فتبارك الله أحسن الخالقين.. كيف يمسخ: الأحوط وجوباً الحرمة أو
النجاسة، فيصير فتوى بالجواز والطهارة، ثم يبقى على حاله من كونه
احتياطاً وجوبياً بالتحريم!!
فهل هذا إلا من قبيل قول البعض للإمام الرضا «عليه
السلام»: هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو
تكسر البيضة؟!
لكن الإمام الرضا «عليه السلام» أجابه بقوله: «نعم، وفي
أصغر من البيضة، وقد جعلها في عينك وهي أقل من البيضة، لأنك إذا فتحتها
عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو يشاء لأعماك عنها..».
وقريب منه مروي عن الإمام الصادق «عليه السلام» أيضاً..
وروي ما يقرب من ذلك عن الإمام علي «عليه السلام»، وعن
عيسى «عليه السلام».. لكن الجواب المروي عنهما يختلف عن هذا، لكنه قاطع
ومفحم([3]).
ولو أن الإمام «عليه السلام» عاش في هذا الزمن لأراه
هذا البعض كيف أنه قد أخطأ ـ والعياذ بالله ـ في جواب ذلك الشخص. وأن
ذلك ليس ممكناً فقط، وإنما هو سهل ويسير على بعض مخلوقات الله سبحانه..
فها هو الإحتياط الوجوبي بالتحريم قد أصبح قولاً بالجواز، مع أنه باق
على حاله من كونه احتياطاً وجوبياً بالتحريم، كما أنه لا يزال قولاً
بالجواز، يؤيد به البعض مقولاته وفتاويه، ولكنه حينما يقول الأحوط
وجوباً كذا.. فإنه لا يجيز لك أن تنسب إليه القول بالجواز، وسينكر عليك
ذلك أشد الإنكار، وينسب إليك الكذب، والافتراء عليه! ولا بد من أن
نكرر، ونكرر: تبارك الله أحسن الخالقين.
39 ـ
توثيق الأحاديث عاش الكثير من المشاكل التاريخية.
40 ـ
توثيق الأحاديث عاش الكثير من المنازعات المذهبية.
41 ـ
كثرت علامات الاستفهام أمام توثيق أي راوٍ.
42 ـ
كثرت علامات الاستفهام أمام توثيق أي حديث.
43 ـ
لا بد من الحذر في الأخذ بالأحاديث.
يقول البعض في أحد هجوماته على الحديث الشريف:
«إنّ توثيق الأحاديث قد عاش الكثير من المشاكل
التاريخية، والمنازعات المذهبية، بحيث أصبحت علامات الاستفهام كثيرة
أمام الباحث الذي يريد أن يوثق راوياً أو حديثاً، فلا بدّ من الحذر في
الأخذ بالأحاديث لا سيّما إذا كان متضمناً لتغيير الظاهر القرآني»([4]).
ونقول:
1 ـ
إن أئمتنا «عليهم السلام»، وعلماءنا الأبرار «رضوان
الله تعالى عليهم»، وبالخصوص من كانوا قريبين من عهد صدور النص قد
رسموا لنا ضوابط ومعايير، وبينوا لنا شرائط قبول الرواية، وطرائق توثيق
الرواة. وقد بيّن لنا القرآن، والمعصومون الطاهرون «صلوات الله وسلامه
عليهم»: أن الحديث الشريف حجة لا بد من الأخذ بها في المعارف والأحكام
شرط أن لا يخالف كتاب الله.
2 ـ إن
المنازعات المذهبية، والمشاكل التاريخية لا تعنينا ولا تهمنا ما دمنا
نملك الوسيلة التي رضيها الله سبحانه وتعالى لنا في تمييز الحديث ـ
الذي هو حجة ـ من غيره. ولا نحذر من الأخذ بالحديث في هذه الحالة.. بل
الحذر هو من عدم الأخذ به..
3 ـ
إنه إذا تمت شرائط الحجّية في الحديث فلا بد من الأخذ
به، حتى لو كان متضمناً لتغيير الظاهر القرآني، في مستوى تقييد
مطلقاته، وتخصيص عموماته. وتبيين مجملاته. وإيضاح مبهماته.
علماً أنه لا بد من التفريق بين دليل حجّية الخبر..
فإنه قد يكون قطعياً. وبين الخبر نفسه، الذي قد يكون ظنياً دلالة، أو
سنداً، أو كليهما..
44 ـ الحديث المتفق على ضعفه مقبول عنده.
45 ـ الحديث المتفق على رفض الاستدلال به مقبول عنده.
46 ـ «الوثوق الشخصي» بالخبر هو المعيار ولو خالف كل
العلماء.
47 ـ توثيق أحاديث أهل البيت مشكلة معقدة.
48 ـ مشكلة السند بسبب كثرة الكذب على
أهل البيت
«عليهم السلام».
49 ـ فتح باب العمل بروايات العامّة.
ثم هو يوثق الحديث الذي ينقل اتفاق العلماء على ضعفه
ورفض الاستدلال به بدعوى أنه لا داعي للكذب فيه([5]).
وهذا يعني:
أنه يقول بجواز العمل بالروايات بدون وثوق نوعي. إذ مع الاتفاق على ضعف
الحديث ورفض الاستدلال به كيف يمكن الوثوق النوعي به.
ثم هو لنفس السبب ـ أعني عدم وجود داع للكذب ـ يصحح
العمل بروايات العامة
([6])
غير ملتفت إلى لزوم قيام القرائن العامة والشواهد المفيدة للوثوق
النوعي بها، مع أنه قد صرّح في بعض مؤلفاته الأخرى بأنه يشترط الوثوق
النوعي، فراجع([7]).
أما بالنسبة لروايات أهل البيت «عليهم السلام»، فله
موقف آخر، حيث إنه يعتبر توثيق أحاديثهم «عليهم السلام» مشكلة معقدة
لوجود الركام الهائل من الكذب في حديثهم «عليهم السلام». ويرى أن كثرة
الكذب على أهل البيت «عليهم السلام» تجعلنا نواجه مشكلة السند.
ويقول:
«ربما كان توثيق أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» مشكلة
معقدة، من حيث اختلاف الرأي في أسس التوثيق للنصوص المأثورة عنهم، وعن
النبي محمد «صلى الله عليه وآله»، وفي طبيعة الحقيقة التاريخية، في
وثاقة هذا الراوي أو ذاك، مما يجعل الصورة غير واضحة الملامح في
التعبير عن الخطوط الفكرية والفقهية في منهج أهل البيت الإسلامي.
وقد تزيد المسألة إشكالاً إذا لاحظنا اضطراب
الأحاديث المرويّة عنهم، من حيث التعارض والتنافي بين الروايات، لا
سيّما أن بعضها قد يكون صادراً عن راوٍ واحد، يروي الفكرة برواية،
ليروي خلافها برواية ثانية، وهنا يقع الخلاف حول تفسير ذلك، وتوجيهه
بالتقية تارة، وبغير ذلك أخرى»([8]).
ويقول:
«إن المشكلة هي أن الكذب على أهل البيت كان كثيراً،
ولذلك فهناك مشكلة السند»([9]).
ويقول:
«علينا أن نفهم السنة النبوية الشريفة فهماً جديداً،
ونفهم ما يأتينا من أحاديث أئمة أهل البيت «عليهم السلام»، وأن ننقي
الأحاديث، لأن هناك ركاماً من الأكاذيب، ومن المواضيع التي دخلت إلى
واقع الناس، وأصبحت حقائق»([10]).
50 ـ تصحيح الروايات التاريخية.
ومن جهة أخرى، فإن هذا البعض، بنفس الطريقة، وبنفس
الأسلوب، الذي حاول فيه العمل بروايات العامة، وتصحيح الأخذ بها ـ مع
مخالفته لما درج عليه علماء المذهب ـ حاول ذلك بالنسبة لما يرتبط بسيرة
النبي «صلى الله عليه وآله»، باستثناء ما يرتبط بالخلافة، فهو يقول:
«نعتقد: أن الكثير من سيرة النبي «صلى الله عليه وآله»،
أخذه المسلمون يداً بيد، ولم تكن هناك ضرورة للكذب في بعض الحالات،
فيمكن أن يقع التحريف في بعض ما يتعلق بالخلافة، ولكن الأحاديث التي
تتحدث عن أخلاقه لا ضرورة للكذب فيها.
وكان هناك اهتمام كبير، من قبل الصحابة لملاحقة أوضاعه،
كيف يأكل، وكيف يلبس، وكيف كان كذا وكذا..
فهناك حالة ارتباط عضوي رائع، ولذلك فقضية نقل سيرة
النبي «صلى الله عليه وآله» كان أمراً طبيعياً، بحيث يتناقله الناس
جيلاً إثر جيل، لأنها كانت محل اهتمامهم.
فنحن نلاحظ:
أنه ليس هناك في التاريخ شخصية اتفق عليها المسلمون كشخصية النبي «صلى
الله عليه وآله»، ولم يحدث هناك أية حالة سلبية حيال النبي في كل واقع
الإسلام»([11]).
ونقول:
قد أشرنا إلى الإشكال في الفقرة الأخيرة في موضع آخر
تحت عنوان: «عدالة الصحابة».
ونشير هنا أيضاً:
إلى أن محاولة حصر التحريف في بعض ما يتعلق بالخلافة غير سديد، فقد روي
عن الإمام الجواد «عليه السلام»: أنه «صلى الله عليه وآله» قال في حجة
الوداع:
«قد كثرت علي الكذّابة، وستكثر، فمن كذب علي متعمداً،
فليتبوّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث، فاعرضوه على كتاب الله
وسنتي الخ..»([12]).
وعن علي «عليه السلام» أنه قال:
«وقد كذب على رسول الله «صلى الله عليه وآله» على عهده
حتى قام خطيباً، فقال: أيها الناس، قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي
متعمداً، فليتبوّأ مقعده من النار، ثم كذب عليه من بعده الخ..»([13]).
وقد تحدثنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم
«صلى الله عليه وآله» عن الكثير من الموارد في سيرة النبي «صلى الله
عليه وآله» التي كُذِبَ فيها عليه، فراجع ذلك الكتاب.
وإذا كانت كل الفئات والفرق تريد أن تحصل على
الشرعية، وعلى المبررات لمواقفها، وتحتاج إلى الإرتباط برسول الله «صلى
الله عليه وآله»، وإلصاق نفسها به، والتقوي على خصومها، أو منافسيها
بما تنسبه إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» وتبرير التصرفات
والفتاوي والحركات وغير ذلك، فإن الكذب والحال هذه لا يعرف قيوداً ولا
حدوداً، ولن يقتصر التحريف على بعض ما يتعلق بالخلافة كما يقوله هذا
البعض، ولسنا ندري كيف يدّعي اقتصار الكذب على موضوع الخلافة في حديث
أهل السنة، وهو يؤكد على الركام الهائل من الروايات الموضوعة في حديث
أهل البيت«عليهم السلام»، حسبما تقدّم، مع أن حديث أهل البيت «عليهم
السلام» ليس بأقل من حديث غيرهم، إن هذا لشيء عجاب.
51 ـ لا بد من شروط أخرى لقبول الأخبار في غير الأحكام.
52 ـ لا تكفي مطلق الحجة في تفاصيل العقيدة بل المطلوب
اليقين.
53 ـ مفردات الوجود تحتاج إلى اليقين، لا مطلق الحجة.
54 ـ لعل إهمال تقويم الأحاديث أوقعنا في فوضى المفاهيم
في العقيدة.
55 ـ إهمال تقويم الأحاديث أوقعنا في فوضى المفاهيم في
الكون والحياة.
وبعد أن أنكر البعض:
أن يكون المعنى الباطن للقرآن مخزوناً لدى الراسخين في
العلم، وأنه لا فائدة في ذلك حاول.. أن يقرّر قاعدة مفادها: أنه لا بد
من تحصيل اليقين في مثل هذه الأمور، فهو يقول:
«والسؤال كيف نفهم ذلك؟!
قد يكون من المفيد، أن نتحدث في هذا المجال عن نقطة
مهمّة في تكوين أيّة فكرة حول القضايا الفكرية الإسلامية، وهي ضرورة
التأكد من صحة الأحاديث المروية عن النبي محمد «صلى الله عليه وآله»
وعن الأئمة من أهل البيت «عليهم السلام»، من حيث السند أو المتن،
بالطريقة التي تتجاوز الشروط المعروفة في حجية الأخبار في عملية
الاستنباط الاجتهادي للأحكام الشرعية، لأن تلك الشروط قد تكون مطروحة
في دائرة التنجيز والتعذير من خلال الآثار الشرعية العملية للمضمون
الخبري، وذلك من خلال النظرية الأصولية العامة التي ترى في حجية الخبر
لوناً من ألوان التعبّد الذي لا معنى له في المضمون الذاتي للخبر، فلا
بدّ له من الأثر العملي الذي يكون هو الملحوظ في معنى التعبّد.
أمّا القضايا المتصلة بتفاصيل العقيدة، وبمفردات
الوجود، أو بالخصوصية التفسيرية للقرآن، فإنها بحاجة إلى القطع، أو ما
يقترب من القطع، ويحقق الاطمئنان؛ لأنه ليس خطاً للعمل، بل هو خطّ
للقناعة الفكرية على مستوى الالتزام الداخلي، في الاقتناع بالمفاهيم
المتنوعة التي تحكم الأشياء المطروحة في الواقع، لئلا يكون الموقف
متحرّكاً في إثباتها.
وقد تكون الخطورة في هذه المسألة، أن الخلل في المسائل
العقيدية والمفاهيم العامة في الصورة التي تقدمها للإسلام، أكثر مما
يؤدي إليه الخلل في الأحكام الشرعية التي تتصل ببعض جوانب السلوك
الفردي والاجتماعي في دائرة خاصة.
ولعلّ إهمال هذا الجانب، هو الذي أوقعنا في فوضى
المفاهيم المتنوعة المتصلة بالكثير من قضايا العقيدة في تفاصيلها،
وقضايا الكون والحياة، من خلال الأحاديث الكثيرة التي لم تخضع لتقويم
علمي في صحتها وضعفها في قاعدتها العّامة.
وفي ضوء ذلك، قد نحتاج إلى الوقوف أمام الأحاديث
الواردة في قضايا التفسير بشكل دقيق؛ لأن صورة المضمون التفسيري هي
صورة القرآن في الوجه الفكري الذي يتقدّم إلى الناس في تخطيطه للإنسان
وللحياة، وفي تكوينه للذهنية العامة للمسلم في نظرته إلى الوجود كله،
مما قد يترك تأثيراته السلبية أو الإيجابية لدى الباحثين في حركة
الصراع بين الإسلام والكفر، أو بين الهدى والضلال»([14]).
ونقول:
1 ـ
إن هذا البعض نفسه يحتج لكثير من الأمور التي يلتزم بها
في التفسير وفي المفاهيم، وفي العقائد وفي التاريخ، وفي مفردات الوجود
وغير ذلك بأحاديث ضعيفة السند، وبعضها مروي من طرق غير أهل البيت
«عليهم السلام»..
ويقول:
«إن الحجة عنده هو الخبر الموثوق، لا خبر الثقة»([15]).
فكيف حصل له القطع أو الاطمينان بصحة كل تلك الأخبار
الضعيفة والموهونة، وفقاً للمعايير المعتمدة لديه إلا إذا كان يرى أن
الوثوق الشخصي هو المعيار، وليس ما يوجب الوثوق النوعي عند كل من يلاحظ
النص، وما احتف به من قرائن تفيد الوثوق به.
فإذا كان يرى: أن
الوثوق الشخصي هو المعيار فتلك هي الكارثة الحقيقية الكبرى، لأن دين
الله يصبح ألعوبة في أيدي الناس.. ولا تبقى أية ضابطة أو رابطة للقبول
أو الرد.
وإذا كان يرى:
أن الوثوق النوعي هو المعيار كما صرح به في مورد آخر سيأتي بعد صفحتيين،
فإن السؤال يبقى الذي طرحناه آنفاً عليه عن الأدلة التي جعلته يقطع أو
يطمئن بتلك الأخبار الموهونة التي يطرحها هنا وهناك.
2 ـ
إنه ليس لديه أي دليل يثبت له هذه الدعوى التي يطلقها
حول لزوم تحصيل اليقين أو حتى الإطمينان (العلم العرفي) في تفاصيل
العقيدة، وقضايا الوجود والتفسير والمفاهيم العامة وغيرها إلا
الاستحسانات العقلية، والتحليلات الذوقية التي يبالغ في تصويرها،
ويستخدم الكثير من التهويل والتضخيم للأمور من أجل التأثير على النفوس
لقبولها..
3 ـ إن
غاية ما استدل هذا البعض به هنا هو: أن الخلل في المفاهيم العامة، في
الصورة التي نقدّمها للإسلام وتفاصيل العقيدة أكثر خطورة من الخلل الذي
ينشأ من الخطأ في الأحكام الشرعية في قضايا السلوك الخاص والعام في
دائرة خاصة..
ونحن لا نجد الكثير من ملامح هذه الخطورة المميزة لهذا
عن ذاك، إلا في موارد معينة بقيت مصونة بجهود العلماء الأبرار عن أي
خلل.. إلا ما نشأ أخيراً بسبب إثارات هذا البعض نفسه.. ولذلك نجد: أن
هناك اختلافاً في كثير من المفاهيم العامة بين الناس.. وفي كثير من
التفاصيل العقيدية في قضايا الوجود، وفي كثير من خصوصيات التفسير..
ولكن ذلك لم يزد خطر ذلك على خطر الخلل والاختلاف في الأحكام الشرعية
المتعلقة بالسلوك الخاص والعام..
بل قد يكون للخلل في بعض الأحكام خطورة أكبر بكثير من
الخلل في بعض مفردات التفسير أو في التفاصيل في العقيدة، أو المفاهيم
أو غيرها..
فإن الفتوى بجواز أو وجوب ضرب الوالدين وحبسهما،
والإغلاظ لهما بالقول في مجال النهي عن المنكر، كالكذاب مثلاً مع
التساهل في الإلحاد الذي هو من أعظم المنكرات، وعدم إيجاب الإغلاظ لهما
فيه..
وكذلك الفتوى بجواز النظر إلى العراة في نوادي العراة،
والفتوى بجواز نظر المرأة إلى عورة المرأة، وجواز نظر الرجال إلى عورة
المرأة المسلمة إذا كانت لا تنتهي إذا نهيت، ثم القول بأن في الشهادة
لعلي بالولاية في الأذان والإقامة مفاسد كثيرة، ثم تجويز قول آمين، و
التكتف، دون الإشارة إلى تلك المفاسد، ثم الفتوى بطهارة كل إنسان،
وانعقاد الزواج بالمعاطاة، أي بمجرد الفعل والممارسة من دون حاجة إلى
عقد، وما إلى ذلك.
نعم..
إن أمثال هذه الفتاوي أشد خطورة على الإسلام من الخلل
في بعض خصوصيات التفسير، أو في فهم بعض مفردات الوجود، وأعظم من الخلل
في بعض تفاصيل العقيدة التي قد لا تخطر للإنسان على بال طيلة حياته،
كالإعتقاد بأن الملائكة معصومون بالإجبار على حد زعمه لا بالاختيار، أو
ما يشبه هذا.
4 ـ
إن الذي أزعج هذا البعض ودفعه إلى أن يطلق هذه الدعاوي
هو ما ورد عن النبي «صلى الله عليه وآله» وأهل بيته «عليهم السلام» في
معنى الراسخين في العلم، وأنهم هم الأئمة من أهل البيت «عليهم الصلاة
والسلام»..
وأنهم هم الذين يعرفون المعنى الباطني للقرآن.. مما
يعني: أن لديهم «عليهم السلام» علوماً ليست لدى غيرهم.
ومن الواضح:
أن هذه الأحاديث قد بلغت حداً من الكثرة والوثاقة بحيث
لا يستطيع حتى من يدعي أنه يحتاج إلى تحصيل القطع أو الإطمئنان في كل
ما سوى الأحكام الشرعية الفرعية، أن يتملّص أو أن يتخلص منها..
فكيف وهو يقول:
«وإذا كان الحديث ضعيف السند، فإنه لا يخلو من إيحاء
بالمضمون في الآية، مع ملاحظة: أننا لا نقتصر في حجية الخبر على خبر
الثقة، بل نضيف إلى ذلك الخبر الموثوق به نوعاً، لأن سيرة العقلاء أو
بناءهم هو الأساس في حجيته؛ وربما كان ضعف احتمال الكذب، لعدم وجود
أساس لرغبة الناقل في تعمّده هو القرينة الطبيعية على وثاقة الحديث»([16]).
ولا ندري لماذا لم توحِ له كل تلك الأحاديث في المراد
من الراسخين في العلم بمضمون الآية الشريفة؟!
ويقول أيضاً:
«ونحب أن نشير هنا إلى مبنانا في حجية خبر الواحد، وهو
حجية الخبر الموثوق لا خبر الثقة، فإذا لم تكن هناك أي مصلحة في الكذب
عند الراوي ـ كما في مقامنا ـ فلا بأس بالأخذ بالخبر وإن كان ضعيفاً،
ولا يعني ذلك أننا نلغي السند بشكل كلي، بل نعتبر أن ضعف السند من
القرائن التي قد توجب عدم الوثوق ـ كما هو الغالب ـ وقد لا توجب، وعلى
هذا يكون المدار على الوثوق لا الوثاقة»([17]).
فهذا الكلام من هذا البعض يجعله ملزماً بقبول هذه
الأخبار، ولا يبقي له أي عذر لردها أو تجاهلها.
56 ـ
الأخبار كلها ليست حجة في غير الأحكام.
57 ـ
لا يصح الأخذ بالحديث الضعيف في جوانب الحياة.
58 ـ
لا بد من اليقين في الأحاديث عن أسرار الواقع.
59 ـ
لا بد من اليقين في الأحاديث عن ملكات الأشخاص.
60 ـ
أخبار الآحاد لا تقوم لها حجة في التفسير.
61 ـ
الإخبارات الكونية لا يكفي فيها خبر الواحد.
62 ـ
الإخبارات التاريخية لا يكفي فيها خبر الواحد.
63 ـ
لا بد من القطع والاطمئنان في الكونيات وفي التاريخ.
64 ـ
القضايا الدينية المتصلة بأفعال الأنبياء لا بد فيها من اليقين
والتواتر.
65 ـ
اشتراط اليقين في غير الشرعيات يخلصنا من كثير من الروايات.
ونقول:
إن البعض يناقش الروايات التي تتحدث عن طبيعة القبضة
التي قبضها (السامري) من أثر الرسول، ويقول عن هذه الروايات:
«..وعلى أي حال فهي أخبار آحاد لاتقوم بها حجة في
التفسير لأن حجية خبر الواحد، فيما لم يفد القطع والإطمئنان، لا تعني
إلا ترتيب الأثر الشرعي على مضمونه، فيما كان له أثر شرعي.. أما الأمور
التي تتضمن أخباراً عن قضايا كونية في السماء أو في الأرض، أو عن أحداث
تاريخية فلا مجال للإعتماد على الخبر الواحد فيها بنفسه، بل يتبع القطع
أو الإطمئنان، من باب حجتها في ذاتها بعيداً عن الخبر.. فلنترك الموضوع
لعلم الله كالكثير مما أجمله القرآن ولم نصل فيه إلى يقين، لا سيما إذا
كان الأمر مما لا يتعلق به خط العقيدة فيما يجب اعتقاده، أو خط العمل،
فيما يجب الالتزام به»([18]).
ويقول في موضع آخر:
«..وقد نحتاج إلى أن نثير أمام هذه الأمور، الفكرة
القائلة، بأن القضايا الدينية المتصلة بالمفاهيم والأوضاع المختلفة في
أجواء الكون وأفعال الأنبياء وغير ذلك مما يتعلق بالأحكام الشرعية، لا
بد في الالتزام بها من اليقين، فلا يكفي فيها الظن الحاصل من رواية
خاصة لم تبلغ حد التواتر.. وبذلك نستطيع التخلص من كثير من الروايات
المتعلقة بالتفاصيل الدقيقة لخصائص الأوضاع، وملكات الأشخاص، وأسرار
الواقع، لنرجع الأمر فيها إلى أهلها أو لنأخذ منها بعض الإيحاءات
والأجواء بعيداً عن جانب العقيدة.
وربما كان من الضروري أن يتوفر الباحثون في مسألة
حجية الخبر الواحد، في علم الأصول على إثارة المسألة بشكل واضح أمام
الناس، لأن المشكلة أن الكثيرين قد اعتمدوا على الروايات في الأمور
الخارجة عن شؤون التشريع، بنفس الشروط التي اعتمدوا فيها على التشريع،
بل ربما تطور الأمر إلى التوسع في ذلك باعتماد الروايات الضعيفة، مما
أدى إلى أن يكون عندنا ركام هائل من الأحاديث المذكورة في الكتب
الدينية، التي يعتمد عليها الناس في تكوين التصورات والقناعات الدينية
في جانب العقيدة والحياة»([19]).
إننا نسجل هنا مايلي:
1 ـ
تقدم في هذا الكتاب: أن الذي يطلب فيه اليقين هو خصوص الأمور
العقائدية، التي يجب الإعتقاد بها على كل حال، وهي التي يتوقف عليها
الإسلام والإيمان، كالتوحيد والنبوة واليوم الآخر، وكذا يطلب اليقين في
المعجزة التي يتوقف عليها ثبوت أصول العقيدة، كالتي يتوقف عليها إثبات
نبوة النبي، أما ما عدا ذلك، فإنما يجب الاعتقاد به لو التفت إليه لا
مطلقاًً.
وهذه الأمور التي تحدث عنها هذا البعض هنا، لا دليل
على اعتبار اليقين فيها، بل يكفي أن تثبت بالحجة المعتبرة شرعاً وعند
العقلاء، وذلك مثل الاعتقاد بكرامات النبي «صلى الله عليه وآله»،
كتسبيح الحصى بيديه «صلى الله عليه وآله»، وسجود الشجر له «صلى الله
عليه وآله»، وتكليم الحيوان له، ونحو ذلك.
فإن ذلك لا مدخلية له في تحقق أصل الإيمان والإسلام،
نعم.. لو ثبت للإنسان بحجة معتبرة وجب عليه الاعتقاد به، لئلا يلزم رد
الخبر على أهل البيت «عليهم السلام»، وقد روي عن الإمام الباقر «عليه
السلام»، وهو يتحدث عن أصحابه:
«إن أسوأهم عندي حالاً، وأمقتهم إليّ، الذي إذا سمع
الحديث ينسب إلينا، ويروى عنا، فلم يعقله، ولم يقبله قلبه، اشمأز منه
وجحده، وكفر بمن دان به، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج، وإلينا
أسند، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا»([20]).
وعنه «عليه السلام»: «لا تكذبوا بحديث أتاكم به أحد،
فإنكم لا تدرون لعله من الحق، فتكذبوا الله فوق عرشه»([21]).
2 ـ إن هذا البعض يقول بعدم حجية أخبار الآحاد في
التفسير، وفي التاريخ وفي الكونيات، وفي القضايا الدينية المتصلة
بالمفاهيم والأوضاع المختلفة في الكون، وأفعال الأنبياء، وغير ذلك،
وكذا الحال بالنسبة للروايات التي تتحدث عن ملكات الأشخاص وأسرار
الواقع.
ونقول:
لا ندري السبب في حكمه هذا، فإن حجية خبر الواحد لم
تخصص من خلال أدلتها، كبناء العقلاء، أو (آية النبأ) أو غيرها مما
يستدل به على حجيته ـ لم تخصص ـ هذه الحجية في نوع دون نوع. فمن أين
جاء هذا التخصيص البديع ـ بل المستهجن ـ يا ترى؟!
3 ـ إن هذا البعض يقول بعدم إمكان الأخذ بالحديث
الضعيف في جوانب الحياة.
ونقول:
إن من يقول بالأخذ بالحديث الموثوق ـ وهذا البعض يدعي
دائما أنه منهم ـ لا بحديث الثقة، لا يحق له أن يقول بلزوم الاقتصار
على الخبر الصحيح سنداً في أمور الشرع، ولا في سائر ما تقدم.
4 ـ إن خبر الواحد حين ينقل لنا ملكات الأشخاص، أو
حادثة تاريخية لا يزيد عن كونه ينقل خبراً في موضوع من الموضوعات، فإذا
كانت حجيته من باب بناء العقلاء، فلماذا لا تشمل ما هو من قبيل الإخبار
بعدالة أو بحياة زيد من الناس، أو بوقوع حادثة القتل الفلانية، وكذا
الحديث عن الكونيات، والتبدل فيها ووقوع زلزال أو خسف في البلد
الفلاني، أو كالشهادة بالهلال؟!
أما القضايا المتصلة بأفعال الأنبياء، فما هي إلا كنقل
صلاتهم، وحجهم، وصيامهم «عليهم السلام» لنا، ومن هذه الأفعال نقل خبر
شجاعة النبي، والإمام الخارقة للعادة في بعض المواضع، كخبر ثباته «صلى
الله عليه وآله» يوم أحد، وكخبر قلع باب خيبر، وقتل علي «عليه السلام»
لعمرو بن عبد ود، حيث كانت ضربته تعدل عبادة الثقلين.
5 ـ
إنه قد اعتبر أنه لا بد من القطع أو الإطمئنان في كل ما ليس حكماً
شرعياً، مؤكداً على أن حجيتهما الذاتية هي المنشأ، للأخذ بهما بعيداً
عن الخبر.
وهذا معناه:
لزوم إلقاء معظم الحديث المنقول عن أهل البيت «عليهم السلام» من أصله
والاستغناء عنه؛ لأنه لا حجية له، بل الحجية لليقين بذاته، وللاطمئنان
بذاته كما يقول. (وهذه مقولة خطيرة ).
مع ما في هذا الأخير ـ أي حجية الاطمئنان بذاته ـ من
إشكال ظاهر.
ومن الطرائف أن تكون سيرة العقلاء التي يستدل بها هذا
البعض على حجية الخبر هي نفسها التي يستدل بها على حجية الإطمئنان،
فكيف ساغ له قبول حجية الإطمئنان في غير الشرعيات، وهجر حجية الخبر
فيها وتوصيف الحجية في الأول بالذاتية وإنكار حجية الثاني من رأس؟!
وبعد.. فإن من الواضح: أن الموارد التي يحصل فيها
اليقين محدودة ومعدودة، فيبقى هذا الكم الهائل من أحاديث أهل البيت
«عليهم السلام» بلا فائدة ولا عائدة.
ولا ندري مدى ابتعاد مقولة الاكتفاء بما في القرآن،
وبما دل عليه العقل، وبالمتواترات، لا ندري مدى ابتعادها عن مقولة ـ
(حسبنا كتاب الله)، ولا نعرف كثيراً عن المواضع التي تختلف فيها هذه عن
تلك.
66 ـ
القرآن يوسّع الحديث ويضيّقه.
67 ـ
الحديث لا يخصص ولا يقيد القرآن.
إن البعض يعتبر:
أن القرآن هو الذي يوسع الحديث أو يضيقه. ومعنى ذلك: أن لا يستطيع
الحديث تضييق المفهوم القرآني.
فهو يقول:
«إنه لا بد من أن يرجع الفقهاء إلى القرآن».
على قاعدة أساسية هي:
«أن العناوين القرآنية هي العناوين الأصلية التي تحكم
وتفسر كل مفردات العناوين الموجودة في السنة فهي التي توسعها وتضيقها،
لأنها هي الأساس في حركة الأحكام في الموضوعات. كما أن المفهوم القرآني
هو المفهوم الحاكم على كل جزئيات المفاهيم الموجودة في الأحاديث، لأنه
هو المقياس لصحة الأحاديث وفسادها..»([22]).
والذي نلفت النظر إليه:
هو خصوص الفقرات الأولى من النص المذكور، فإذا كان مراده غير ما هو
الظاهر، أو كان لديه توضيحات وقيود، فقد كان عليه أن يذكر ذلك في هذا
الموضع بالذات، لأنه موضع الحاجة للتوضيح والتصحيح.
68 ـ
نحن نميل إلى الرأي السلبي في وثاقة أبي هريرة.
69 ـ
اختلف الرأي في توثيق أبي هريرة.
يقول البعض:
«هذا مع التحفظ الذي نسجله على شخصية أبي هريرة، التي
اختلف الرأي في توثيقها وعدم توثيقها. ونحن نميل إلى الرأي السلبي،
ونحتمل أن يكون الحديث من موضوعاته»([23]).
ونقول:
1 ـ
إن من يقرأ هذه العبارات يظن لأول وهلة: أن الإختلاف في
وثاقة أبي هريرة واقع بين علماء الشيعة، وذلك لأن قائل هذا القول يحمل
شعار هذا المذهب بل هو يعلن نفسه مرجعاً فيه..
2 ـ
ولو أغمضنا النظر عما سبق، فإننا نقول:
لماذا لم يجزم بعدم وثاقة أبي هريرة، بل أظهر الميل إلى
الرأي السلبي؟!
وهذا الأمر أيضاً يشير إلى وجود درجة من الاعتبار يحظى
بها أبو هريرة لديه!!
([1])
الندوة ج1ص 828 وتحديات المهجر ص139.
([2])
راجع: فقه الحياة ص33 و 34 متناً وهامشاً.
([3])
بحار الأنوار ج4ص143 و 141 وج58 ص252 و 253 وكتاب التوحيد
للشيخ الصدوق (نشر دار المعرفة بيروت لبنان) ص122 و 123 و 127
و 130.
([4])
المعارج ص544 و 545.
([5])
كتاب النكاح ج1 ص58.
([8])
مجلة المنطلق عدد 113 ص24
([11])
فكر وثقافة عدد 6 بتاريخ 27 ـ 7 ـ 1996.
([12])
البحار ج2 ص225 وج50 ص80 عن الاحتجاج.
([13])
البحار ج2 ص229 وج34 ص169 عن الخصال وعن نهج البلاغة وعن تحف
العقول وعن غيبة النعماني وعن الاحتجاج ج1 ص263 ط بيروت.
([14])
تأملات في المنهج البياني للقرآن ص11 ـ 13.
([15])
كتاب النكاح ج1ص48.
([16])
من وحي القرآن (الطبعة الثانية ـ دار الملاك) ج4 ص311.
([17])
كتاب النكاح ج1 ص48.
([18])
من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج15 ص156 157.
([19])
من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج14ص 12 و 14.
([20])
البحار ج2 ص186 والكافي ج2 ص223 حديث 7.
([21])
البحار ج2 ص186 وراجع ص187 و 188 وراجع المحاسن للبرقي ص230 و
231.
([22])
مجلة المنطلق، العدد 113 ص32.
([23])
من وحي القرآن (الطبعة الثانية ـ دار الملاك) ج17 ص313.
|