صفحة : 83-99  

الفصل الثاني

الغاية تنظف الوسيلة وقاعدة التزاحم..

 

26 ـ قاعدة التزاحم هي المصالح المرسلة عند السنة.

وهو يعتبر قاعدة المصالح المرسلة التي يستند إليها أهل السنة في اجتهاداتهم، هي نفس قاعدة التزاحم في مدرسة أهل البيت «عليهم السلام»! مع أن الفرق بينهما كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار.

فهو يقول:

«هناك قاعدة في العلم الأصولي تسمى بـ «قاعدة التزاحم» في المذهب الشيعي الإمامي، وتسمى بـ «المصالح المرسلة» في مذهب المسلمين السنة»([1]).

   ثم يضرب مثالاً لهذه القاعدة بالغريق الذي يتوقف إنقاذه على أن تكسر باباً، أو تهدم غرفة للغير([2]).

   ولا يفوتنا التذكير: بأن اعتماده لقاعدة «الغاية تبرر الوسيلة» قد كان مبتنياً عنده على قاعدة التزاحم أيضاً.

   وقال وهو يتحدث عن ولاية الفقيه، وبعد أن قدّم آية الله العظمى السيد الخوئي «رحمه الله»، كنموذج لمن يقول بولاية الفقيه الخاصّة، ثم يتصدّى لهذا الأمر حينما واجهته التطورات في أيام ما عرف باسم «الإنتفاضة» في العراق:

«ولذلك فالذين يقولون بالولاية الخاصّة عندما تجابههم التطورات، فانهم تلقائياً يقولون بالولاية العامة، ولكن بالعنوان الثانوي، أو المصالح المرسلة، أو ما شاكل..».

   ولا نورد قوله هذا كشاهد على ما ذكرناه، ولكننا أحببنا: أن نسأل من أين عرف أنهم استندوا في قولهم بالولاية العامّة إلى المصالح المرسلة؟! وهل يمكن له أن يذكر لنا مورداً صرحوا فيه بذلك؟!

   وهو مع ذلك كله يقول: إنه يلتزم بالمنهج الجواهري في الإستنباط([3]).

27 ـ المحرم ما حرّمه القرآن، والحلال ما أحله القرآن.

28 ـ يجب موافقة الحديث للقرآن في حجم دلالته.

وقيل له: ذكرتم أن المحرم هو ما حرم في القرآن، وكذلك الحلال هو ما أحل في القرآن..

   فأجاب: «ما ذكرت ذلك، قلت: هناك بعض العمومات التي تدل على حصر المحرمات في مورد معين، وهناك أشياء واردة في السنّة، فعلينا أن نكتشف القاعدة التي نستطيع فيها أن نوفق بين ما جاء في القرآن وما جاء في السنة»([4]).

   فهل إذا لم يكتشف القاعدة سيرفض ما جاء في السنّة؟!

29 ـ ما من عام إلا وقد خص من موارد مسألة التزاحم.

30 ـ الغاية الكبرى تبرّر الوسيلة المحرّمة.

31 ـ الغاية تجمّد الوسيلة المحرمة.

32 ـ الأخلاق في الإسلام لا تمثل قيمة إيجابية.

33 ـ الأخلاق في الإسلام تمثل قيمة سلبية متغيرة تبعاً للعناوين الثانوية.

34 ـ وضع يوسف صواع الملك في رحل أخيه يؤكد: أن الغاية تبرّر الوسيلة.

35 ـ إنما تبرّر الغاية الوسيلة، لأنها تنظفها وتطهّرها.

36 ـ قاعدة الغاية تبرّر وتنظف وتطهّر الوسيلة هي مسألة التزاحم.

يقول البعض:

«إن القاعدة العقلية التي أقرها الفكر الإسلامي الفقهي، انطلاقاً من آيات الله وسنة رسوله، تفرض اختيار الجانب الأهم في حسابات المصالح والمفاسد. إذا تعارض حكمان شرعيان يأمرنا أحدهما بشيء، وينهانا الآخر عنه، ولم يكن هناك مجال لامتثالهما معاً، لأن الحكم الشرعي ينطلق من المصلحة الأساسية للإنسان، من خلال ما ثبت لدينا من أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها. فإذا رأينا المصلحة الأهم في جانب، فمعنى ذلك: أن الحكم الذي لا يصل الموقف فيه إلى هذا المستوى من الأهمية، يفقد معناه في حدود ذلك، وتكون النتيجة تقييد فاعلية الحكم الشرعي وحركته في غير هذا المجال.

وهذا ما واجهناه في الآيات السابقة التي تتحدث عن القتال في المسجد الحرام فيما إذا قاتل المشركون المسلمين فيه، وفي هذه الآية التي تتحدث عن القتال في الشهر الحرام في صور مبرراته الإسلامية.

فلو دار الأمر بين أن تهتك حرمة الشهر أو المكان، وبين أن تهتك حرمة الإسلام ويسقط صريعاً أو مهزوماً أمام ضربات الكفر، فإن من الممكن أن نتجاوز حرمة الشهر والمكان لمصلحة حرمة الإسلام العليا؛ بل قد يجب ذلك في بعض المجالات، إذ وإن كانت حرمتهما جزءاً من التشريع الإسلامي، لكن لا يمكن أن تتقدم على سلامة الإسلام نفسه. وهذا ما يعبر عنه علماء الأصول، بحالة «التزاحم بين الحكمين».

وقد نجد هذه القاعدة متمثلة في أكثر من مسألٍة فقهيةٍ في نطاق المحرمات الشرعية، التي جاءت الرخصة فيها في بعض مواردها، وقد تعددت نماذجها حتى أصبحت بمثابة «القاعدة الثانوية الاستثنائية»؛ حتى قال الأصوليون: «ما من عام إلا وقد خُصَّ»، مما يوحي: بأن التخصيصات الواردة في العموميّات القرآنية والنبوية تحولت إلى ظاهرة شرعية من خلال تزاحم المصالح العامة، والتي يعبّر عنها بالخاص في دائرة الخصوصيات الحاكمة على العنوان العام.

وهذا ما نراه في الغيبة التي جاء الإستثناء فيها في قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا([5]). فجعل حالة الظلم استثناء من حرمة الغيبة التي جاء فيها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ([6])، فأطلق للمظلوم الحرية في أن يتحدث عن ظالمه بالسوء من أجل الضغط عليه لرفع ظلمه، باعتبار أن مصلحة رفع الظلم عن المظلوم أكبر من مفسدة الغيبة في إظهار عيب الظالم؛ كما جاء الإستثناء في مقام النصيحة للمؤمنين، لأن إغلاق باب النصيحة في التحدث عن عيوب الإنسان الذي قد يقع الناس في مشاكل كثيرة نتيجة كتمان عيوبه، أكثر من مشاكل الحديث السلبي عنه؛ وفي مقام تجاهر الإنسان بالفسق الذي تمثل الغيبة وسيلة من وسائل الضغط عليه، وإبعاد الناس عن التأثر به من أجل إصلاحه أو إنقاذ الناس من أضراره؛ وفي مقام تترّس الكفار في الحرب بأسرى المسلمين، ليمنعوهم من الهجوم عليهم، خوفاً من تأدية ذلك إلى قتل إخوانهم، وبذلك يفقد المسلمون فرصة النصر، فأجاز الإسلام قتل الأسرى المسلمين إذا توقف النصر أو الدفاع على ذلك؛ وهكذا نجد ذلك في كثير من الموارد الشرعية.

وهذا باب ينفتح على أكثر من قضية من قضايا الناس العامة والخاصة، التي قد تؤكد الفكرة القائلة: بأن الغاية الكبرى تبرر الوسيلة المحرمة، بمعنى أنها تجمدها وتنظفها من خلال ارتباطها بسلامة الخط العام، فلا يتجمد الإنسان المسلم في أخلاقياته إذا تحولت إلى خطر على حياته أو على مصير الإسلام والمسلمين، كما لو أريد له أن يتحدث، وهو في سجن الكافرين والمستكبرين، عن أسرار المسلمين السياسية والأمنية والاقتصادية، التي يمثل إظهارها خطراً على السلامة العامة؛ فيجب عليه في هذه الحالة، أن يكذب من أجل حماية القضية الكبرى؛ ويحرم عليه الصدق الذي يؤدي إلى السقوط الكبير، لأن الكذب يمثل القيمة السلبية الأخلاقية، كما يمثل الصدق القيمة الإيجابية الأخلاقية في الخط العام.

لا يجوز للإنسان أن يكذب باختياره، بل يجب عليه أن يأخذ بالصدق في أحاديثه في الحالة الطبيعية العامة، لكن الحالات الطارئة الضاغطة تفقد الكذب سلبيته، ليكون قيمة إيجابية كما تفقد الصدق إيجابيته ليكون قيمة سلبية، لأن المسألة في السلب والإيجاب لا تنطلق من الطبيعة الذاتية للصدق والكذب، بحيث يكون علة تامة للسلب هنا أو للإيجاب هناك، بل تنطلق من الحالة الإقتضائية المنفتحة على النتائج بشكل عام، ولكنها قد تصطدم ببعض الموانع التي تمنعها عن التأثير في المقتضى بدرجة فعلية.

وهذا ما يجعلنا نؤكد: أن الأخلاق في الإسلام لا تمثل قيمة إيجابية، بل تمثل قيمة سلبية قابلة للتغير في حركتها في الواقع الإنساني، تبعاً للعناوين الثانوية الطارئة التي تختلف الأحكام الشرعية باختلافها.

ولا بد في هذه الحالة من التدقيق كثيراً في المواقف والقضايا قبل الدخول في عملية الموازنة بين الأحكام، لأن المسألة تحتاج إلى وعي عميق واسع في فهم أسس الحكم الشرعي، وفي الواقع الذي يتحرك فيه، ولا يمكن إخضاعها للأفكار السريعة الانفعالية في مواجهة الواقع في ضغوطه العملية على حركة الإنسان في الحياة.»([7]).

ويقول البعض أيضاً، وهو يفسر وضع صواع الملك في رحال إخوة يوسف «عليه السلام»، ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ([8]):

«وفي تلك الحادثة يمكننا أن نستوحي فكرة: أن الغاية تبرر الوسيلة، إذا كانت الغاية أعظم من ناحية الأهمية، لأنها بذلك تنظّف الوسيلة، وتطهّرها. وهكذا واجه فتيان يوسف إخوته باتهامهم بالسرقة، وفوجئ هؤلاء الشباب»([9]).

ثم يوجَّه إلى هذا البعض سؤال يقول:

ما هو المراد من قولكم: الغاية تنظّف الوسيلة؟!

فأجاب:

«إنَّ الغاية تبرر الوسيلة مبدأ مرفوض من قبلنا؛ لأن الغاية الشخصية التي تبرّر هدم كرامة هذا وهتك حرمة ذاك غير جائزة إطلاقاً. ولكن عندما يكون الهدف كبيراً وله أهمية عند الله، كما لو فرضنا بأن حريقاً شبَّ في بناية كبيرة، وتوقف إنقاذ حياة الناس في البناية أن نهدم كثيراً من البناء ونتلف الأثاث، فهذا جائز، لأن الغاية تبرّر الوسيلة، ولأن الغاية هي هنا إنقاذ حياة الناس الموجودين، أو إنقاذ الجيران، فذلك أهمّ من البناية.

نحن نقول: إن «الغاية تنظف الوسيلة» والفقهاء يضربون في ذلك مثلاً، فلو فرضنا أن شخصاً يغرق، والطريق إلى النهر أرض مغصوبة، وصاحبها لا يقبل أن نجتازها إلى النهر.. وعندنا حكم شرعي يقول بحرمة المرور في الأرض المغصوبة، فهنا يجب عليك أن تنجي الغريق من جهة، ويحرم عليك أن تمر بالأرض المغصوبة من جهة، والحكمان لا يمكن العمل بهما معاً. هنا يقول الفقهاء بأن الغريق أهم، وأن الحرام يتجمد عند ذلك لمصلحة الغاية الأهم.

ومن الأمور التي تمثل ذلك: (الكذب) فهو ليس حلالاً، ولكن لو توقف إنقاذ أخيك المؤمن على أن تكذب حينما تعرف بأن هناك ظالماً يريد أن يقبض عليه ليقتله أو ليحبسه، وأنت تعرف مكانه، فهل تقول بسذاجة: بأنّ الكذب حرام، والحديث عن الإمام الصادق «عليه السلام» يقول: «إحلف بالله كاذباً ونجّ أخاك من القتل»!

ومن الأمور التي يذكرها فقهاء السنّة والشيعة: إذا كانت هناك حرب كما هي الحرب بيننا وبين إسرائيل بحيث يترتب عليها نتائج كبيرة، وقد اتخذ العدو من أسرى المسلمين دروعاً بشرية، فهنا يجوز لك قتلهم من أجل القضية الكبرى إذا كان الإنتصار يتوقف على ذلك..

من كل ذلك نخلص: إلى أن الغاية الكبرى المهمة التي تتصل بقضايا المصير تنظِّف الوسيلة»([10]).

وسئل البعض أيضاً:

وفقاً لرأيكم «الغاية تنظِّف الوسيلة» لو أنّ شخصاً يعمل في تهريب المخدرات ويقدم من الربح دعماً للعمل الإسلامي لرفع راية الحق، فهل يجوز له ذلك؟!

فأجاب: «هذا غير ما قلناه. لقد تحدثنا عن القضية التي تتوقف عليها الحياة، أما هذا المثل فإنه يشبه قول الشاعر:

كمطعمة الأيتام من كدّ  فرجها        لك الويلُ لا تزني ولا تتصدّقي!!

لا تدعم العمل الإسلامي بهذه الطريقة، فالعمل الإسلامي الذي يتوقف على تهريب المخدرات وعلى بيع الخمور هل تراه يكون عملاً إسلامياً»؟!([11]).

وقفة قصيرة:

1 ـ إننا قبل أن نسجل بعض تحفظاتنا على هذا المنحى الخطير، نودُّ التعبير عن رغبتنا الأكيدة والشديدة في أن لا يلجأ هذا البعض إلى نظريته في أن «الغاية تنظف الوسيلة» فيما نناقشه فيه من أمر الدين والعقيدة، وفي تعامله مع الناس.. ومع العلماء.. وفيما يطرحه في وسائل الإعلام التي تقع تحت اختياره، أو يوفّرها له محبّوه في داخل لبنان وخارجه.. سواء في ذلك المنابر، والمؤتمرات، والإذاعات، وأجهزة التلفزيون، أو الجرائد أو المجلات، حتى تلك المجلة الخلاعية التركية التي أجرت مقابلة معه، ونشرت صورته على صفحاتها، وهو يهدي صورته لمراسلها..

فإن اعتماده على نظريته هذه في هذا الأمر، لسوف يفقد كل أقواله ومواقفه مصداقيتها، ويفقد الحوار معه معناه، ومغزاه، وجدواه. وعلينا أن لا ننتظر أية نتائج إيجابية على مستوى التأكد من رجوعه إلى الصواب والتزامه به.

2 ـ إن هذا البعض قد خلط مسائل العام والخاص بمسائل التزاحم، وبمسائل اجتماع الأمر والنهي وغيرها، ونوضح ذلك في ضمن النقاط التالية:

ألف: إننا لا نريد أن نناقش هذا البعض في صحة تعابيره وسلامتها حيث قال:

«إذا تعارض حكمان شرعيان، يأمرنا أحدهما بشيء، وينهانا الآخر عنه، ولم يكن هناك مجال لامتثالهما معاً».

إلى أن قال: «وهذا ما يعبر عنه علماء الأصول بحالة التزاحم بين الحكمين».

فإن ظاهر كلامه: أن الأمر والنهي إذا تعلقا بشيء واحد فهو من موارد التزاحم.. مع أن التزاحم هو في مورد وجود حكمين يتعلق أحدهما بأمرٍ، ويتعلق الآخر بأمر آخر، وتضيق قدرة المكلف عن الإتيان بهما معاً، فتلزمنا القاعدة العقلية بالإتيان بأحدهما وهو الأهم، وترك الآخر..

ب: إننا لتوضيح خلط هذا البعض بين قاعدة التزاحم، وبين موارد العموم والخصوص، وموارد اجتماع الأمر والنهي نقول:

إن كان الأمر والنهي متوجهين إلى شيء واحد، وعنوانٍ فارد، فإنهما يكونان متكاذبين متعارضين، وذلك مثل: صلِّ. ولا تصلِّ.

وإن تعلّق الحكمان بعنوانين، كأن تعلق أحدهما بعنوان إزالة النجاسة عن المسجد، وتعلق الآخر بالصلاة، وضاق الوقت عن امتثالهما معاً، فيقع التزاحم بينهما، ويقدم الأهم.

وأما إذا كان الحكمان من قبيل الأمر والنهي وقد تعلقا بعنوانين مختلفين، بأن تعلق الأمر بالصلاة، وتعلق النهي بالغصب، ففي مورد اجتماع الغصب مع الصلاة، وحيث لا بد من أدائها في الأرض المغصوبة، فهناك حالتان:

إحداهما: أن يكون العنوان المأخوذ في متعلق الأمر والنهي قد لوحظ فانياً في مصاديقه، شاملاً لها بما لها من كثرات ومميزات، فهو في حكم النافي لأي حكم آخر، فإذا تصادق مع عنوان آخر في مورد، فإنه يكون نافياً بنحو الدلالة الإلتزامية لحكم ذلك العنوان في ذلك المورد، ويقع التعارض بينه وبين حكم ذاك في مقام الجعل والتشريع، لأنهما يتكاذبان في موضع الالتقاء في دلالتهما الإلتزامية. ومع التعارض يتساقط الدليلان في مورد الإلتقاء؛ فلا بد من التماس دليل آخر.

الثانية: أن يكون العنوان ملحوظاً في الخطاب فانياً في مطلق الوجود للطبيعة، من دون نظر إلى أفرادها، فلا دلالة فيه على سعة العنوان للأفراد كلهم. بل المطلوب هو صرف وجود الطبيعة وامتثالها بفعل أي فرد من أفرادها، فلا تعارض بين الدليلين، ولا تكاذب بينهما، إذ لا يتعرض أحدهما للآخر في هذا الفرد أو ذاك، لأن المتعلق هو صرف الطبيعة لا الأفراد كما قلنا.

فإن صادف وابتلي المكلف باجتماع العنوانين في مورد، كما في الصلاة في الأرض المغصوبة.. ولم يكن له بدّ من الجمع بينهما، فيقع التزاحم بين التكليفين الفعليين ـ إذ الدليلان لم يتعارضا في مقام الجعل ـ بل المنافاة كانت بسبب ضيق قدرة المكلف عن التفريق بين الإمتثالين.

وبعد ما تقدم نقول:

إن هذا البعض قد خلط بين هذه الأمور، فهو تارة يتحدث عن تعلق الأمر والنهي في شيء واحد، ويجعله مورداً للتزاحم، مع أنه من موارد التعارض..

وتارة يطبق قاعدة التزاحم هذه على موارد العموم والخصوص، مع أن العموم والخصوص لا ربط له بمقام الإمتثال ولا بمقام الجعل، وإنما هو من موارد الجمع الدلالي بين دليلين متخالفين لفظاً وشكلاً، متوافقين مضموناً، فلا ربط لهما بمقام الجعل.. ليتساقط الدليلان في مورد التعارض، كما لا ربط له بمقام الامتثال، وضيق قدرة المكلف عن امتثالهما معاً. ليكون من موارد التزاحم ويختار الأهم منهما..

3 ـ إننا نعود إلى التأكيد على أن تطبيق قاعدة التزاحم على القول المعروف «ما من عام إلا وقد خص» لا معنى له.. فان التخصيص ليس فيه اختيار للأهم، كما هو الحال في باب التزاحم في مقام الامتثال.. بل التخصيص هو جمع دلالي فقط.

وليس جعلاً لحكم مغاير لحكم العام في مورد الخاص.. بل هو استثناء ووضع حد يمنع العام من السريان والشمول في مقام الدلالة.

فإذا قيل مثلاً: أكرم العلماء إلا الفساق ـ في المخصص المتصل ـ أو قيل: أكرم العلماء.. ولا تكرم الفساق العلماء ـ في المخصص المنفصل ـ فإنه ليس من قبيل اجتماع الأمر والنهي على مورد واحد.. بل من قبيل القول: بأن حكم وجوب الإكرام لا يشمل فسّاق العلماء.. لا أن فساق العلماء قد تعلق بهم وجوب الإكرام أولاً.. ثم تعلق بهم حرمة الإكرام ثانياً.. ثم قدمنا الأهم وهو الحرمة بسبب تزاحم المصالح العامة.. لا، ليس الأمر كذلك.

بل الخاص يريد أن يقول: إن المصلحة التي أوجبت الإكرام للعالم غير موجودة في العالم الفاسق، فشمول العموم للخاص ليس فيه مزاحمة لحكم الخاص، وإنما ذلك مجرد شمول أمر شكلي ولفظي وظاهري، سرعان ما يزول بمجرد النظر إلى الكلامين، والمقارنة بينهما. وذلك ظاهر لا يحتاج إلى مزيد بيان..

4 ـ أضف إلى ذلك: أن هذا البعض تارة يقول: إن المصالح العامة قد تزاحمت في مورد تخصيص العموم..

وتارة أخرى يقول: إن قاعدة التزاحم كثيراً ما تكون متمثلةً في نطاق المحرمات الشرعية، حتى أصبحت بمثابة القاعدة الاستثنائية.. حيث تتزاحم المصلحة مع المفسدة، كما صرح به في أمثلته التي أوردها.. مثل قوله: إن مصلحة رفع الظلم أكبر من مفسدة الغيبة.

5 ـ بالنسبة للأمثلة التي ساقها نقول:

إن ما ذكره من تقديم مصلحة رفع الظلم على مفسدة الغيبة على أنه من موارد التزاحم في مقام الإمتثال. ليس من صغريات قاعدة التزاحم، بل هو من باب تقديم الخاص على العام، فإن حرمة الغيبة تشمل مورد الخاص في نفس الخطاب الإلهي الموجه إلى المكلف.

بل قد يقال: إن هذا المثال لو كان من قبيل جلب المصلحة.. فإنه لا يتناسب مع ما هو مقرر في محله، من أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة..

وإن كنا نناقش في إطلاق وتعميم هذه القاعدة، حيث إن بعض المصالح أهم بكثير من بعض المفاسد، فلا يكون دفع المفسدة أولى من جلب تلك المصالح.

7 ـ إن هذا البعض قد قال هنا:

«إن الغاية الكبرى تبرر الوسيلة المحرّمة، بمعنى أنها تجمدها وتنظفها من خلال ارتباطها بسلامة الخط العام».

ثم عمد إلى تطبيق هذا المبدأ على اتهام إخوة يوسف بالسرقة.

فإذا أردنا أن نأخذ بهذا الكلام على إطلاقه. فإننا نخرج بنتيجة مفادها: أن علينا: أن نزني، أو أن نبيح الزنا إذا وجدنا أن الزنا أو إباحته للشباب سوف يزيد من إقبالهم على دين الإسلام، وهذا يزيد من قوة الإسلام في العالم. وبه يتم تحصينه في مقابل أعدائه، حيث إن كثرة المسلمين وقوتهم ودخول الشعب الأمريكي، والأوروبي في الإسلام سوف يمنع أعداءه من محاولة إبادة المسلمين!!

أو يمكن إباحة وضع بعض البدع في الإسلام أو حذف بعض الأحكام منه إذا أوجب ذلك حفظ الإسلام والمسلمين!!

بل ربما يصبح الابتداع واجباً، والزنا والسرقة مما يقرب إلى الله، ما دام أن الغاية تنظف الوسيلة!!

ومجرّد إنكاره ذلك في السؤال الموجه إليه أخيراً لا ينفع! إذ إن ما بنى كلامه عليه لا بد أن ينتهي إلى مثل هذه النتائج شاء أم أبى؛ فإن المهم هو القاعدة التي يؤسسها، وعليها يكون المدار وليس المهم هو إطلاق الشعار، إلا إذ أردنا أن نعتبر كلامه الأخير يمثل تراجعاً عن قاعدته التي أسسها ولكن ذلك لم يظهر لنا بعد.

8 ـ إن هذا البعض قد أنكر في كتاب الندوة ـ حسب النص الذي ذكرناه آنفاً ـ أن يكون مبدأ الغاية تبرر الوسيلة مقبولاً عنده.. خصوصاً في الغايات الشخصية التي تبرر هدم كرامة هذا، وهتك حرمة ذاك، مع أننا نلاحظ:

أولاً: إن عبارته الأولى التي أوردها في كتاب: «من وحي القرآن»، ونقلناها عنه:

«إن الغاية الكبرى تبرر الوسيلة المحرّمة. بمعنى أنها تجمّدها وتنظفها».

فاستعمل كلمة «تبرر».

وثانياً: إن الأمثلة التي ساقها في كتابه: «من وحي القرآن» وقد نقلناها عنه آنفاً قد كان من بينها ما يرتبط بالحالات الشخصية. كمثال غيبة الفاسق. وجواز تكلم المظلوم بالسوء عن ظالمه.. وكما في مورد النصيحة للمؤمن في تجارة، أو في زواج أو ما إلى ذلك.

وذلك يتضمن هدم كرامة هذا، وهتك حرمة ذاك. وليست هذه الأمثلة مما يتصل بقضايا مصيرية كبرى.. حتى لو كان في حجم الحريق الذي ينشب في بناية «كبيرة» ونريد إنقاذ حياة الناس بإتلاف بعض الأثاث.

تذكير:

ذكرنا في هذا الكتاب قول هذا البعض: إن قاعدة التزاحم هي نفس قاعدة المصالح المرسلة عند أهل السنة، وقد قلنا هناك: إنه كلام غير دقيق.. فراجع..


 

([1]) المصالح المرسلة: قد يجد المجتهد فعلا من الأفعال ورد من الشارع فيه حكم، ويرى فيه وصفا يناسب حكما آخر، من حظر، أو طلب، أو إباحة، أو لم يرد عنه حكم في ذلك الفعل أو الوصف ليناسب حكماً، وهذا الوصف قام الدليل على اعتباره بنوع من الإعتبارات الثلاثة السابقة بأن ورد عن الشارع ما يؤذن باعتبار عينه في جنس الحكم المراد إعطاؤه له أو اعتبار جنسه في عين ذلك الحكم، أو جنسه.

      وهذا الحكم يسميه الأصوليون: المناسب المرسل الملائم، ويسميه المالكية المصالح المرسلة، ويسميه الغزالي: الإستصلاح. مجلة المرشد العددان 3 و 4 هامش ص246 عن محمد الخضري، أصول الفقه (طبعة دار الفكر) ص311.

([2]) للإنسان والحياة ص169

([3]) فكر وثقافة بتاريخ 6/7/1996. ص2.

([4]) راجع مجلة المرشد ص265.

([5]) الآية 148 من سورة النساء.

([6]) الآية 12 من سورة الحجرات.

([7]) من وحي القرآن (الطبعة الثانية ـ دار الملاك) ج4 ص202 ـ 205.

([8]) الآية 3 من سورة التين.

([9]) المصدر السابق ج2ص245.

([10]) الندوة ج2 ص460 و 461.

([11]) الندوة ج2 ص461.

 
   
 
 

موقع الميزان