صفحة :217-268   

الفصل الأول

سمات الأنبياء.. ومستوياتهم..

                               

بداية:

نذكر في هذا الفصل مقاطع من كلمات البعض حول ملامح النبوة العامة وحول أنبياء الله «عليهم السلام» وتصرفاتهم وحالاتهم مع الله سبحانه وتعالى، ومع الناس، وحركتهم في الحياة وأساليبهم، نحسب انها تكفي لإعطاء تصور دقيق عن نظرة هذا الرجل اليهم وإلى دورهم، ومواقفهم، ولتقديم الدليل الحي على حقيقة ما وكيف يفكر هذا البعض تجاه القضايا الإسلامية والإيمانية وغيرها.

وحيث إن فريقاً من الناس هم في منأى عن وعي هذه الحقيقة بصورة كافية وسليمة، فقد رأينا من اللازم الوقوف عند العهد الذي قطعناه على أنفسنا بضرورة ذكر طائفة كبيرة من الموارد تعطي بمجموعها تصوراً أوفى عن تشعب وتخالف وتنوع القضايا التي تعرض لها، وعن أن ذلك يدخل في دائرة نهج تشكيكي عريض له ميزاته وخصائصه، التي تهيء من خلالها الفرصة لتكوين تيار يحاول الإنفصال عن القاعدة الإيمانية الأم، ليواصل هجرته عنها إلى غيرها.

ولربما نلمح في ضمن أسطر يسيرة إلى بعض أوجه الخلل ومواقع الإشتباه فيما يرتبط بتفسير الآيات القرآنية، وقد نهمل ذلك اعتماداً على وضوح فساد الفكرة المطروحة، فإلى ما يلي من مطالب وموارد نقرؤها في الصفحات التالية:

89 ـ ضعف النبي بشريا في أكثر من موقع.

90 ـ النبوة لا تفرض الكمال.

91 ـ القرآن لا يريد إعطاء النبوة هالة مقدسة.

وبعد، فإن نظرة هذا البعض للنبوة وللأنبياء نظرة عجيبة وغريبة، فهو يقول في قصة النبي آدم «عليه الصلاة والسلام»:

«إننا نستفيد منها نقطتين:

   الأولى: أن النبوة تلتقي بمواقع الضعف البشري في الإنسان في أكثر من موقع، ولا تفرض الكمال الذي يبتعد عن المواقع الطبيعية لديه.

   الثانية: أن القرآن لا يريد إعطاء النبوة هالة مقدسة، غائمة في مجال التصور»([1]).

وظاهر العبارة لا يأبى عن القول: إن النبي قد يقع في ما يخالف العصمة، مما يلتقي في مواقع الضعف البشري، وإرادة خلاف ذلك تحتاج إلى بيان.

أما حديثه عن «الهالة المقدسة والغائمة»، فإن كان يقصد به: أن القرآن لا يعطي انطباعا عن الرسول يفيد أن لديه قدرات تفوق قدرات البشر.. فكيف يجيب عن ما يذكره القرآن من إحضار عرش بلقيس من قِبَلِ من لم يكن نبيا، بل كان من أتباع أحد الأنبياء؟! وماذا يصنع بإحياء عيسى «عليه السلام» للموتى، وإبراء الأكمه والأبرص؟! وبقاء يونس «عليه السلام» في بطن الحوت؟! والإسراء والمعراج؟! وما إلى ذلك.

وإن كان يقصد به: أنه ليس للأنبياء أي تميز في أنفسهم، فذلك معناه: عدم صحة ما ذكره القرآن من أمر الله للملائكة بالسجود تحية وتكريما له، وكذلك ما ورد حكاية عن قول عيسى «عليه السلام»: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا([2])، وعدم صحة ما ورد من أن النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة «عليهم السلام» كانوا أنوارا قبل خلق الخلق، أو في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة. أليس هذا الأمر مقبولاُ ومتواترا عند الشيعة وعند السنة أيضا؟!! ألا يعطيهم ذلك هالة مقدسة، ويفرض كمالا يبتعد عن المواقع الطبيعية لديهم؟! فهل الاقتراب من تصور مواقع الأنبياء الطبيعية الواقعية، يقتضي منا أن نكذب كل ما دل على قداستهم؟!

92 ـ لا أسرار فوق العادة في شخصية الأنبياء.

93 ـ الضعف في طبيعة الروح للأنبياء.

94  ـ  أوضاع سلبية في التصور والممارسة لدى الأنبياء.

وهو يقول:

«إن الأسلوب القرآني لا يريد أن يعمق في ذهننا الإسلامي الفكرة التي تتحدث عن شخصية الأنبياء، بالمستوى الذي يوحي بأنّ هناك أسرارا فوق العادة تكمن في داخل شخصيتهم، في ما هي الخصائص الذاتية للشخصية، فهناك أكثر من نقطة ضعف خاضعة للتكوين الإنساني في طبيعة الروح والجسد.

   ويمكن أن تتحرك لتصنع أكثر من وضع سلبي على مستوى التصور والممارسة»([3]).

ونلاحظ: أننا لا نعرف مدى هذا الضعف الروحي للأنبياء، الذي تنشأ عنه أوضاع سلبية على مستوى التصور والممارسة. فقد يظهر ذلك في صورة أخطاء في السلوك وفي تلقي الوحي، أو في سلوكهم الأخلاقي، وحتى في دائرة الإيمان والكفر وغير ذلك مما قد يناله هذا الضعف الروحي ويؤثر فيه. حيث لا يوجد أية ضمانة، وأية حدود يمكن أن ينتهي إليها.. وقد ظهر ذلك فيما يأتي من أمور نسبها إلى الأنبياء، إذا لوحظت جميعا فإنها تظهر أن الضعف الذي يتحدث عنه لا حدود له ولا قيود..

ومع غض النظر عن ذلك، فإن مراجعة التراث الإسلامي تعطينا: أن لأنبيائنا ولأئمتنا «عليهم السلام» مقامات عظيمة، وأن هناك أسرارا فوق العادة في شخصياتهم، حتى لقد روي عن النبي «صلى الله عليه وآله» أنه قال لعلي «عليه السلام»:

«يا علي ما عرف الله حق معرفته غيري وغيرك، وما عرفك حق معرفتك غير الله وغيري».

ويكفي أن نشير إلى حديث الأنوار المروي عن نبينا «صلى الله عليه وآله» عند الشيعة والسنة، بل لقد رواه السنة عن ثمانية من الصحابة، فضلاً عما روي عن أئمة أهل البيت «عليهم السلام»، كما أن الأئمة وفاطمة «عليهم السلام» هم موضع سر الله سبحانه كما صرحت به الأحاديث الشريفة.

95 ـ نسيان المعصوم في أمور الحياة الصغيرة.

وعن نسيان المعصوم يقول:

«لا نجد هناك أي دليل عقلي أو نقلي يفرض امتناع نسيان النبي لمثل هذه الأمور الحياتية الصغيرة، لأن ذلك لا يسيء إلى نبوته من قريب أو بعيد.

ولكن ربما نلاحظ ـ في هذا المجال ـ: أن النبي إذا كان لا ينسى أمر التبليغ ـ كما هو المتفق عليه بين المسلمين ـ فلا بد أن يكون ذلك من خلال ملكة ذاتية تمنعه من النسيان بحيث تجعل وجدانه واعياً للأشياء، فلا تغيب عنه عندما ينفصل عنها.. مما يجعل المسألة غير قابلة للتجزئة، كما هي القضايا المتصلة بالملكات النفسية..

وقد يثير البعض أمام هذه الملاحظة: أن مسألة التبليغ قد تكون موضعاً لتدبير إلهيّ غير عادي من أجل حفظ الرسالة عن الضياع أو التحريف بحيث يعطي وجدانه الرسالي إشراقة قوية، تختلف عن وعيه للأشياء الأخرى والله العالم»([4]).

فهو إذن، لا يجد أي دليل عقلي أو نقلي يمنع من نسيان هذه الأمور الحياتية الصغيرة..

وحين تحدث عن أن عدم النسيان في التبليغ يدل على وجود ملكة تمنع من النسيان في كل شيء، سجل إشكالاً نسبه إلى البعض، مفاده: أن عدم النسيان في التبليغ لا يكشف عن وجود ملكة، بل قد يكون نتيجة تدبير إلهي.. ثم لم يتحفظ على هذا الإشكال ولا أجاب عليه.

   ونتيجة لذلك فإن قوله:

«لا نجد هناك أي دليل عقلي أو نقلي يفرض امتناع نسيان النبي لمثل هذه الأمور الحياتية الخ..».

يبقى محتفظاً بقوته وبدرجة اعتباره.

96 ـ سهو المعصوم في الأمور الحياتية.

ويقول:

«على أن هناك من يتحدث عن أن السهو عن بعض الأشياء التي لا تتصل بالتبليغ على أنه لا ينافي العصمة، وطبعاً هناك وجهة نظر أخرى لا تقول ذلك.

   وهذا الرأي ليس رأياً مطلقاً بالنسبة للسهو والنسيان، بل هناك من يقول: إن السهو ليس منافياً للعصمة في القضايا الحياتية، ونحن نقول بذلك»([5]).

97 ـ لا يجب أن يكون النبي هو الأعلم في كل شيء.

   يقول البعض:

«أما وجوب أن يكون النبي أعلم الأمة في كل شيء، حتى ما لا علاقة له بمهمّته الرسالية، ولكن الله قد يعلمه من ذلك ما يحتاجه فيه، أو إذا أراد علم، فليس لدينا دليل على هذا »([6]).

98 ـ أحاديث الأسرار الخفية في الأنبياء أحاديث مبالغة.

99 ـ أحاديث الأجواء النورانية في أجواء القدس للأنبياء مبالغة.

100 ـ أحاديث الأسرار والأجواء النورانية لا تملأ الوجدان.

101 ـ أحاديث الأسرار والأجواء النورانية لا تغني الفكر.

يقول البعض:

   «ونلاحظ في هذا الإتجاه كيف يتحدث الله عن إبراهيم «عليه السلام» كنموذج حي للنبي المطيع والموحد له، والذي اختاره الله لرسالته وهداه إلى صراط مستقيم، وذلك هو الحديث عن الأنبياء في الدائرة الإنسانية المنفتحة على ساحة المسؤولية بين يدي الله.. من دون الدخول في أحاديث المبالغة التي تتحدث عن الشخصية الغامضة ذات الأسرار الخفية والآفاق النورانية السابحة في أجواء القدس.. وغير ذلك من الكلمات التي قد تثير في داخلك الكثير من مشاعر التعظيم، ولكنها لن تثير في نفسك المعرفة التفصيلية التي تملأ وجدانك وتغني فكرك»([7]).

وقفة قصيرة:

لا ندري كيف سوّغ هذا البعض لنفسه أن يحكم على الأحاديث المروية عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» وعن أهل بيته الطاهرين «عليهم السلام»، والتي لا يملك دليلاً صالحاً بأنها «أحاديث مبالغة»؟! ومن أين عرف أنها كذلك؟! وكيف ولماذا؟!

فهل أطلعه الله على غيبه، فعرف أنها أحاديث لا حقيقة لها ولا واقع وراءها؟!

   وهل يصح من رسول الله «صلى الله عليه وآله» والأئمة الطاهرين «عليهم السلام» أن يبالغوا في الأمور، ويتكلموا بغير ما هو حق وواقع؟!

   أم أنه يريد أن يحكم على هذه الأحاديث بأنها موضوعة ومكذوبة. لمجرد استبعادات ذهنية خطرت له؟!

وهل يستطيع أن يحكم على هذه المئات، بل الألوف من الأحاديث التي تتحدث عن قدسيتهم ومقاماتهم الشريفة «عليهم سلام الله» وما أعده الله لهم، وما لهم من شأن عند الله، هل يستطيع أن يحكم على ذلك كله بالوضع والافتعال؟!

أليست هذه الأحاديث فوق حد التواتر الإجمالي الذي يعلم معه على نحو اليقين صدور جزء من هذه الأحاديث عنهم «عليهم السلام»، مما يعني: قطع الطريق على ردها وتكذيبها؟!

وقد تقدم في أوائل هذا الفصل ما ينفع هنا فليراجع.

وإذا كان سبب حكمه على هذه الأحاديث بأنها مبالغة هو أنها لن تثير في نفسه المعرفة التفصيلية، فهل يصلح هذا مبرراً لإصدار حكمه هذا عليها؟!

وهل إن كل ما لا نستطيع معرفته بالتفصيل تطرح معرفته الإجمالية ويحكم عليه بأنه مبالغات؟!

وهل نستطيع أن نجري هذه القاعدة حتى بالنسبة إلى ما ورد في القرآن من حديث عن أمور لا نملك معرفة تفصيلية فيها؟! كما صرح هو نفسه بهذا الأمر في موارد تعد بالعشرات في كتابه «من وحي القرآن»، حيث يطلب باستمرار أن نجمل ما أجمله القرآن، ولا نرجع إلى التفاصيل التي تكفّل بها الحديث الشريف.. فهل تعتبر تلك الموارد القرآنية من أحاديث المبالغة؟! فنطرح ما علمناه منها بالإجمال؟!

102 ـ الدور الرسالي.. يفجر المشكلة من الداخل، ويحولها إلى صراع يثير النزاع والخلاف والإهتزاز..

ويقول البعض:

   «ذلك لأن الدور الرسالي يمثل إرادة التغيير في المفاهيم والوسائل والأهداف.. وتفجير المشكلة من الداخل وتحويلها إلى حالة صراع يثير النزاع والخلاف والإهتزاز وتجاذب المواقف.. من أجل أن تكون النتائج النهائية خاضعة لعملية غربلة وتقييم وتفتيت للواقع الذي يراد تغييره.. لئلا تبقى الرواسب الماضية عقبة نفسية أمام التغيير الداخلي الذي يفسح المجال لتغيير الواقع.. وهكذا أراد الله لرسوله «صلى الله عليه وآله» أن يتجاوز كل المخاوف التي قد تعطل الحركة وتمنع المبادرة وتربك المسيرة.. يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك..»([8]).

 وقفة قصيرة:

لا نريد أن نتهم هذا البعض بأنه يريد التسويق للفكرة التي تقول: «إن كل شيء يحمل نقيضه في داخله».

ولكننا نقول:

إننا لا نتفاعل كثيراً مع قوله: إن الدور الرسالي يعمل على تفجير المشكلة من الداخل وتحويلها إلى حالة صراع يثير النزاع والخلاف والاهتزاز.. فهل يسمح لنا بهذا المقدار من التحفظ على هذا القول؟! إذ كيف نقبل بأن يقال: إن الدور الرسالي هو دور يثير النزاع، والخلاف، والإهتزاز.

نعم، ربما استلزم الدور الرسالي ذلك أحياناً؛ لكن هل هذا الأمر أعني إثارة النزاع والخلاف هو من مقدمات الدور الرسالي كما يظهر من كلام هذا الرجل؟! كلا، وحاشا!.

103 ـ عجز النبي عن الإتيان بالخوارق، إلا في مواقع قريبة من التحدي.

104 ـ الوحي هو الفارق بين النبي وبين والناس.

105 ـ لم نعهد تحدُّث النبي عن المغيبات في المجتمع لا في الشؤون العامة ولا الخاصة.

106 ـ لم تحتج الرسالة إلى الحديث عن المغيبات العامة أو الخاصة.

ويقول البعض:

   «..وقد يلاحظ المتأمل في القرآن: أن الآيات تؤكد دائماً على جانب الوحي كفارق بين الناس وبين النبي، كما تثير مسألة عجزه الذاتي عن القيام بكل الأمور الخارقة للعادة في غير النطاق المحدود للمعجزة في طبيعتها القريبة من مواقع التحدي الذي يجتذب ذلك للمحافظة على شخصية الرسالة وفاعليتها في المجتمع.. كما أن هناك نقطة مهمة في سيرته، وهي أنه لم يُعهد عنه التحدث بالمغيبات في مجتمع المسلمين فيما يتعلق بشؤونهم العامة والخاصة لأن رسالته لم تحتج إلى ذلك »([9]).

 وقفة قصيرة:

1 ـ لا نريد أن نقول:

إن مما يؤسف له أشد الأسف: أن يكون مقام النبي «صلى الله عليه وآله» قد نزل إلى درجة أنه لم يعد الفارق ـ بنظر البعض ـ بينه وبين الناس إلا الوحي.

فقد يتهمنا البعض ـ كما عودنا ـ بأننا نفهم كلامه بطريقة غرائزية أو من خلال العقدة، أو ما إلى ذلك.

ولكننا نريد أن نقول:

ماذا تعني دعوى كون هذا النبي عاجزاً ذاتاً عن أي أمر خارق للعادة في غير النطاق المحدود للمعجزة، فيما هو قريب من مواقع التحدي.

   فهل معنى ذلك: هو أن كل ما ورد من أحاديث في مناقبهم، وخوارق عاداتهم في غير مواقع التحدي مكذوب ومخالف للواقع؟!

   أو هل أن هذا البعض يرى.. أن هذه المئات من خوارق العادات التي صدرت عن النبي «صلى الله عليه وآله» وعن الأئمة «عليهم السلام» قد كانت كل مفردة منها في مواقع قريبة من التحدي؟!  

   فهل كان ذلك الرجل الذي دخل على الإمام الصادق «عليه السلام» وكان قد ارتكب مخالفة مع الجارية على الباب، فأخبره الإمام «عليه السلام» بما كان منه([10])، هل إن ذلك الرجل كان في مواقع قريبة من التحدي؟!

وهل كان ذلك الرجل الذي دخل على الإمام الصادق «عليه السلام» والإمام الحسين «عليه السلام» وهو جُنب، فنهاه «عليه السلام» عن ذلك([11])، هل كان هو الآخر في موقع قريب من مواقع التحدي؟!

   وحين جاء رجل إلى النبي ليفدي أسيراً له وكان معه عدد من الجمال، فاستحسن جملاً منها وخبأه في الطريق، فأخبره النبي «صلى الله عليه وآله» بذلك، هل كان ذلك الرجل في موقع التحدي؟!

وحين اشتكى ذلك الجمل صاحبه إلى النبي «صلى الله عليه وآله»، هل كان النبي «صلى الله عليه وآله» في موقع التحدي([12])؟!

وحين سبّح الحصى بيده الشريفة، وحين حنّ الجذع إليه، ونبع الماء من بين أصابعه، وأطعم الجيش كله من فخذ شاة، وكلّمه كتف الشاة بأنه مسموم، وطلبت الغزالة منه أن تذهب لإرضاع ولدها ثم تعود، وغير ذلك مما يعد بالمئات من المنقول عنه «صلى الله عليه وآله»، وكذا الكثير مما نقل عن الأئمة الطاهرين «عليهم صلوات الله وسلامه»، وكذلك حين تحدثت النملة عن سليمان وجنوده، وغير ذلك، هل كان ذلك كله في مواقع التحدي. أو أن ذلك من الأكاذيب والموضوعات؟!

2 ـ إن الآيات حين أكدت على افتراق النبي «صلى الله عليه وآله» عن سائر الناس بالوحي، فإنما أرادت أن تحصن كلامه عن التشكيك والريب: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى([13]). أو أرادت أن تنفي عنه «صلى الله عليه وآله» صفة الألوهية، أو صفة الملك، التي يريد الكفار أن يجدوها فيه.

ولم تذكر هذه الآيات أبداً.. أن الفارق بين النبي «صلى الله عليه وآله» وبين الناس محصور بالوحي، بحيث لا يملك أية ميزة أخرى سوى ذلك.

على أنه إذا كان الفارق بين النبي وبين الناس يقتصر على خصوصية الوحي ـ كما هو صريح كلام هذا الرجل هنا ولم يزل يردد ذلك في كثير من المواضيع ـ فإن السؤال الذي نطلب الإجابة عليه هو:

   ما هو الفارق بين الإمام وبين سائر الناس يا ترى، فإن الإمام لا يملك خصوصية الوحي التي يتحدث عنها هذا الرجل؟‍!

3 ـ إن تعبير هذا الرجل بـ «العجز الذاتي» لا يغير في الحقيقة شيئاً، لأن من يثبت هذه الكرامات والمعجزات للأنبياء والأصفياء، لا يدعي استغناء هذا النبي عن قدرة الله تعالى، لأن الفقر هو قوام كل من عداه سبحانه.

والأنبياء والأصفياء هم أولى الناس بتذكر هذه الحقيقة، وبالتذكير بها على الدوام.

4 ـ وأما أنه لم يعهد من النبي «صلى الله عليه وآله» التحدث في المغيبات في الشؤون العامة والخاصة. لأن الرسالة لم تحتج إلى ذلك.

فلا ندري كيف نفسره، وتلك هي كلمات النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة «عليهم السلام» التي يخبرون فيها عن العشرات بل المئات من المغيّبات في الشؤون العامة والخاصة، قد زخرت بها المجاميع الحديثية السنية والشيعية، وغيرها من مؤلفات علماء الإسلام.

فكيف يقول: لم نعهد أن النبي تحدث بشيء من ذلك؟!

هذا عدا عما ورد في القرآن من إخبارات غيبية كثيرة، يتداولها الناس ويسألون عنها باستمرار، كما في قوله تعالى: ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ([14]). وقوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا([15]).

   فكيف يقول: إن الرسالة لم تحتج إلى الحديث عن المغيّبات، لا العامة منها ولا الخاصة؟! ولماذا امتدح تعالى في كتابه المؤمنين بالغيب؟!

إلا أن يدّعي هذا البعض: أن الله سبحانه قد تحدَّث بأمور لا فائدة فيها، ولم تكن لها مناسبة تقتضيها.

أو أن يكذّب بكل هذا المنقول الذي لا يرتاب أحد في تواتره الإجمالي!

أو أن ينكر كل ما نقل عن الأئمة «عليهم السلام» في هذا السبيل!

فإنه إذا لم يحتج مجتمع المسلمين إلى الحديث عن المغيّبات في المجتمع في الشؤون العامة أو الخاصة؛ فهل احتاج المسلمون إلى ذلك بعدها حتى زخرت كتب الحديث والتاريخ بما أخبر به علي «عليهم السلام» من بعده؟!

وما الفرق بين أن يحدثنا الكتاب العزيز عن هذه المغيّبات، أو يحدثنا بها وعنها أحد المعصومين «عليهم السلام». سوى قطعية الصدور في الكتاب ولزوم التثبت والتأكد من السند في الثاني.

107 ـ تفضيل نبي على نبي مبعث خصام وانقسام.

108 ـ تفضيل الأنبياء على بعضهم هو في مواقع العمل.

109 ـ تفضيل الله لبعض الأنبياء لا يمثل مسؤوليةً لأتباعهم.

110 ـ التفضيل هو في نوعية الكتب.

111 ـ التفضيل في طبيعة المعجزة.

112 ـ لا تستغرقوا في الأنبياء كأشخاص. (كلام تكرر عشرات أو مئات المرات في خطبه وفي كتبه).

113 ـ لا فائدة في الوقوف عند تفضيل نبي على نبي.

يقول البعض:

   «..﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ([16]). فيما ميزناهم به من مواقع العمل، وطبيعة المعجزة، ونوعية الكتب، من قاعدة الحكمة التي أقام الله الحياة عليها..»([17]).

   ويقول في موضع آخر:

   «..وربما كان لنا أن نستوحي من ذلك: أن الله يريد أن يعلمنا ويقول لنا: لا تستغرقوا في الأنبياء كأشخاص، بل استغرقوا فيهم، كخط وكهدى وكرسالة.. ولا تقولوا: إن هذا النبي أفضل من ذاك، ليكون ذلك مبعث خصام وخلاف وانقسام فيما بينكم، لأنهم لا يعيشون في حياتهم هذا الهاجس، ولا يتحركون من أجل تأكيده، وإن كان الله قد فضّل بعضهم على بعض، لكن ذلك لا يمثل مسؤولية أتباعهم، ولا يباعد بين خطواتهم.. بل كل ما هناك هو السير على الخط الذي ساروا عليه، في اتجاه الهدف الذي استهدفوه، لأن الله هو الذي يفاضل بينهم، في الدرجات عنده، بعد أن فاضل بينهم في المسؤوليات في الحياة، وليس لنا في ذلك دخل من قريب أو من بعيد، فلنقف حيث يريد الله لنا أن نقف، ولنوفّر على أنفسنا جهد البحث فيما لا سبيل لنا إلى الإحاطة به ولا فائدة لنا في الوقوف عنده، ولندّخر تفكيرنا لما أرادنا الله من الخوض في معرفته، والجهاد في سبيله، وهو الرسالة من خلال قيادة الرسول، في الفكر والحركة والعمل»([18]).

  وقفة قصيرة:

أما بالنسبة للحديث عن تفضيل نبي على نبي، فإننا نقول:

أولاً: قد ادعى هذا البعض: أن الحديث عن تفضيل نبي على نبي يوجب الخلاف والخصام والإنقسام.

 مع أننا لم نجد في كل الحقب التاريخية أي مفردة تشير إلى أي نزاع نشأ عن الحديث عن تفضيل نبي على نبي، فضلاً عن أن يكون، هناك خصام أو انقسام بسبب ذلك.

ثانياً: إننا لم نعرف كيف تكون نوعية الكتب من أسباب تفاضل الأنبياء، فأيهما أفضل: إبراهيم «عليه السلام» الذي جاء بالصحف فقط؟! أم موسى «عليه السلام» الذي جاء بالتوراة والألواح والصحف أيضا؟! وأيهما أفضل موسى «عليه السلام» صاحب التوراة أم عيسى «عليه السلام» صاحب الإنجيل؟!

ثالثاً: قوله: إن الأنبياء يتفاضلون بحسب طبيعة المعجزة أيضاً، يثير لدينا السؤال: كيف نفهم أن التفاضل بين إبراهيم «عليه السلام» وعيسى «عليه السلام» وموسى «عليه السلام» عن طريق المعجزة!؟‍ وهل إنزال التوراة والألواح زيادة على الصحف، يعني أن موسى «عليه السلام» كان أفضل من إبراهيم «عليه السلام»؟!‍ إن ذلك لا يقبل به أحد.

رابعاً: قوله: إن التفاضل بين الأنبياء إنما هو فيما ميزهم به من مواقع العمل، فإن ذلك يطرح أمامنا أسئلة كثيرة؛ فهل كان موقع العمل من الأنبياء مختلفاً، فيشتغل أحدهما بتبليغ الدين، ويشتغل الآخر بأمر آخر غير ذلك؟!

أم أن المقصود بمواقع العمل، هو أن يكون شغل هذا مع بني إسرائيل، وشغل ذاك مع آخرين، وهذا مع عاد، وذاك مع ثمود.. وهكذا؟!

ثم إننا لا ندري لماذا يصر هذا الرجل على كون المفاضلة هي في المسؤولية في الحياة، ولا ربط لها بمقاماتهم الغيبية «سلام الله عليهم». مع أنه لا يملك دليلاً على دعواه هذه.. سوى الادعاء والاستحسان!

خامساً: إن كان يريد: أن التفاضل في المسؤولية هو الموجب للتفاضل في الآخرة وعلو الدرجات؛ بسبب كثرة العمل الناشئ عن حجم المسؤولية، فمعنى ذلك: هو أن لا يبقى ثمة من فرق في ذات الأنبياء بين نبي ونبي، وذلك يعني: أن ما جوّزه هذا البعض على يونس «عليه السلام» وآدم «عليه السلام»، ونوح «عليه السلام»، وموسى «عليه السلام» و.. الخ.. لا بد أن يجوّز صدوره من نبينا الأكرم «صلى الله عليه وآله»، فيمكن أن يكون نبينا «صلى الله عليه وآله» ساذجاً، وأن يرتكب معاصي، تشبه معصية إبليس، ثم يتوب كما جرى لآدم «عليه السلام»، وأن يرتكب جرائم دينية، ويقتل أنفساً بريئة، وأن لا يعرف تكليفه الشرعي فيما يرتبط بهداية الناس، كما يزعم البعض جريانه في حق موسى «عليه السلام» وهارون «عليه السلام»، وأن.. إلى آخر القائمة التي سنذكرها قريباً.

فإن كان مراده غير ذلك، فعليه أن يشرح لنا كيف؟! ومن أين جاء ارتفاع الدرجات وتدانيها في الآخرة؟!

سادساً: ليت هذا البعض يدلنا على وجه التفاضل بين مسؤولية إبراهيم «عليه السلام» ومسؤولية نبينا الأكرم «صلى الله عليه وآله»، أو مسؤولية عيسى، ومسؤولية سليمان «عليهم السلام».

سابعاً: إن قول هذا البعض: إن تفضيل الله تعالى بعض الأنبياء على بعض لا يمثل مسؤولية أتباعهم.. غير سديد، فقد حدثنا النبي والأئمة «عليهم السلام» عن أفضلية السيدة الزهراء، «عليها السلام» على مريم بنت عمران، وعن أفضلية الإمام المهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف» على بقية التسعة من ذرية الإمام الحسين «عليه السلام». وعن أفضلية الإمام أمير المؤمنين على الحسن والحسين «عليهم السلام»: «وأبوهما خير منهما».

وحدثونا أيضاً: عن أفضلية سلمان.. إلى غير ذلك مما لا مجال لاستقصائه..

أضف إلى ما تقدم: أن على الإنسان المؤمن أن يلتزم خط القرآن، ونهج أهل البيت «عليهم السلام» في كل تفاصيله وحيثياته، فلا يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه الآخر. بل عليه أن يؤمن بكل ما جاء به، ولا حرج عليه من الجهر بحقائقه، رضي الناس لأجل ذلك أم غضبوا، وكذا الحال فيما جاء به الرسول الكريم، والعظيم، لا بد من الالتزام به ولا حرج من التصريح به ونشره وإشاعته .

ثامناً: لو سلمنا حصول نزاع بسبب الجهر ببعض الحقائق الدينية؛ فإن ذلك لا يمنع من نشرها وبلورتها في أذهان وعقول الناس على نحو لا توجب التنازع، لا أن تلغى هذه المعاني من أساسها واللازم على المتنازعين الذين يخالفون أمر الله أن يكفّوا عن نزاعهم الذي لا يرضاه الله، وأن يلتزموا بحقائق الدين مهما كانت، ولولا ذلك للزم الكف عن تبيان أية حقيقة دينية اختلف عليها المسلمون، فلا نتحدث عن الإمامة والإمام، ولا عن غير ذلك من التعاليم والأحكام، لأن ذلك يغضب فريقاً من الناس وهو من أسباب انقسام الناس قطعاً إلى فريقين.

ولنفرض جدلاً، صحة ما يدّعى من نزاع أو خصام؛ وصحة لزوم التحاشي عن ذكر مثل هذه الأمور، فإنما تقدّر الضرورات بقدرها، وبالتالي يكفّ عن ذلك حيث ينشأ عنه خصام وحيث يلزم منه تضييع الدين الواجب حفظه والعمل به، ولا يكفّ عنه حيث لا يلزم ذلك.

تاسعاً: قوله: إنه لا فائدة من هذا الأمر فلا داعي للوقوف عنده. لا يصح: لأن الله سبحانه لا يتحدث عن شيء بلا فائدة، وكذلك النبي «صلى الله عليه وآله» الذي لا ينطق عن الهوى، وفي حكمه «صلى الله عليه وآله» الأئمة الأطهار «عليهم السلام».

عاشراً: لا ندري كيف عرف هذا البعض: أن تفضيل الله سبحانه نبياً على آخر إنما هو فيما ميزهم من مواقع العمل، وطبيعة المعجزة ونوعية الكتب، وأين هي القرينة التي اعتمد عليها في حكمه هذا؟!

114 ـ الرسالة الإلهية تجربة واقعية في مستوى التطبيق.

115 ـ حركة الأنبياء مجرد تجارب عملية.

116 ـ لا مصلحة في إعطاء الصورة الإنسانية للنبي، ثم إعطائه قدرات مطلقة تمتد من الله في ذاته.

يقو ل البعض وهو يتحدث عن صفة الرسولية في الرسول:

أن دراسة هذه القضية «من خلال القرآن في ظواهره من حيث يريد للناس أن يفهموه، ويعتقدوه، ويعيشوه، لا سيما في عهد الرسالة الأول في المرحلة التي كان يعيشها النبي مع الناس من أتباعه وخصومه، مما كانت تثير الكثير من المشاكل، والتعقيدات، وعلامات الإستفهام، لأن الوحي كان ينطلق من الفكرة العامة في مستوى النظرية، ومن حركة التجربة الواقعية في مستوى التطبيق، فكان الناس يرون النبي في مضمون الآيات الخ..» ([19]).

ويتحدث عن الصورة النبوية في الوجدان الإسلامي، فيقول:

«ما هي المصلحة في أن يقدم الله لنا الصورة في ملامحها الإنسانية المنسجمة مع الواقع الإنساني في قدراته المحدودة، وفي تجاربه العملية، في الوقت الذي قد تكون الصورة الحقيقية تنطلق في البعد الإلهي، الذي يمتد في القدرات المطلقة، التي تحلق بعيداً في أجواء الغيب، الذي يقترب من قدرة الله بفارق واحد، وهو ذاتية القدرة في ذاته، وامتدادها منه في ذات النبي..»([20]).

 وقفة قصيرة:

ونقول:

1 ـ ماذا يعني تعبير هذا البعض عن حركة الرسالة، التي تحظى بالتوجيه والرعاية الإلهية من خلال جهد النبي «صلى الله عليه وآله» وتضحياته ومواقفه؟!

ما معنى التعبير عنها بـ: «التجربة الواقعية في مستوى التطبيق»؟!

وعن حركة النبي الرسالية بـ: «تجاربه العملية»؟!

إنه تعبير غير سليم، وله إيحاءاته التي تختزن مفهومي الخطأ، والإصابة، والقصور عن إدراك ما يصلح، وما يفسد.. وتختزن أيضاً جهلاً، وضعفاً.. وما إلى ذلك.. مما لا يصح نسبته إلى التوجيه الإلهي والتسديد الرباني الذي ما زالت حركة الأنبياء تعيش آفاقه.

2 ـ لماذا يصر هذا البعض على إظهار محدودية قدرات الأنبياء، وأنها قدرات تقترب، بل هي لا تزيد عن قدرات أي إنسان عادي؟!

وما هو دليله على: أن الله لم يعط أنبياءه وأولياءه فوق ما أعطى البشر من قدرات، ومن طاقات، وذلك من خلال طاعتهم لله سبحانه، وفقاً لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا([21]). وهو عام مطلق لم يحدد أي سبيل..

كذلك وفقاً للحديث القدسي المأثور الذي أيده هذا البعض، والذي سنذكر كلامه حوله فيما يأتي من فصول:

«عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون».

فطاعة الله إذن ـ حسب اعتراف هذا البعض ـ تضاعف قدرات المطيع لتصل بها إلى درجات لم يكن ليتصورها هذا البعض وسواه مع أن هذا المطيع هو واحد من الناس المؤمنين، فكيف بالأنبياء، والأوصياء؟!

3 ـ أي محذور في أن يعطي الله عباده الصالحين قدرات هي فوق قدرات البشر، وإن كانت لا تقترب من قدراته، والفارق هو أنها ممتدة من الله في ذات النبي، وأي محذور في أن يمتد في القدرات المطلقة التي تحلّق بعيداً في أجواء الغيب..

فإن كل شيء يعود إلى الله، ومنه، وليس في ذلك أي شرك أو غلو، بل هو محض التوحيد، وخالص الإستقامة على جادة المعرفة بالله سبحانه، والتسليم له، واعتباره هو المبدأ، والمنتهى، والأول والآخر، وسوف نتحدث عن ذلك فيما يأتي.

4 ـ إن جهل هذا البعض بالمصلحة لا يعني عدم وجودها، ومن الواضح: أن الله سبحانه لا يستأذنه إذا أراد أن يفعل ذلك، لمصلحة يعلمها هو تعالى ويجهلها هذا البعض، كما يجهل ما هو أهون وأبسط..

117 ـ جو النبي قد يعيش نوعاً من الإهتزاز والضعف، فلا يؤثر كثيراً في عائلته.

118 ـ ضغط الدعوة قد يشغل النبي في بيته.

119 ـ قد ينغلق النبي عن أهله.

120 ـ المجتمع المنحرف قد يأخذ من النبي أهله دون مقاومة، لأن مقاومته كانت متجهة للمجتمع الكبير.

121 ـ المرأة تدخل الإنحراف إلى بيت النبي، بحيث تحاصر النبي.

122 ـ قد تملك الزوجة فعاليات لا يستطيع النبي أن ينقذ نفسه منها.

123 ـ الفرق بين إسماعيل، وابن نوح: أن إبراهيم عزل ابنه عن ضغط البيئة.

124 ـ إسماعيل عاش في بيئة لا يضغط عليها الإنحراف لأن أمه كانت صالحة.

125 ـ فساد وصلاح البيئة مكّن من حماية التجربة في إسماعيل ومنع من ذلك في ابن نوح.

سئل البعض:

في قبال صورة إبراهيم وإسماعيل طرح القرآن صورة نوح وابنه، هناك دعوة للذبح، وهنا دعوة للنجاة.. هناك امتثال وطاعة، وهنا رفض وتمرد.. ماذا نستوحي من ذلك؟!

فأجاب:

«إن أبناء الأنبياء والأوصياء والعلماء هم بشر كبقية البشر يتأثرون بالأجواء الإيجابية كما يتأثرون بالأجواء السلبية.. وقد يعيشون في ساحة الصراع عندما تتدافع العوامل الإيجابية والسلبية لتكسب هذا الإنسان أو ذاك، بحيث يعيش في صراع داخلي من خلال الصراع الخارجي بما فيه من مؤثرات وإيحاءات، وعلى هذا الأساس فليس من الضروري أن يكون ابن النبي صالحاً، أو أن يكون ابن الوصي أو العالم أو المجاهد مثله، لأن الأب يمثل جزءاً من البيئة وهو واحد من العوامل الكثيرة التي تؤثر في شخصيته، وقد يعيش جو الأب نوعاً من الإهتزاز، والضعف الذي قد لا يستطيع فيه أن يترك التأثير الكبير على عائلته بفعل العوامل المضادة الأخرى أو بفعل الضغط على مواقع حركته، إنها قد تكون مشكلة الكثيرين من الدعاة سواء كانوا أنبياء أو أوصياء أو علماء، وذلك أن ضغط الدعوة في تعقيداتها وتحدياتها ومشاكلها قد يشغل الإنسان عن بيته بحيث يعيش منفتحاً على العالم ومنغلقاً عن أهله من خلال طبيعة ما يفرضه هذا الإنفتاح من ابتعاد عن مواقعه الذاتية باعتبار أن أهله يمثلون أحد هذه المواقع.

ومما يجدر بالذكر: أن المجتمع المنحرف قد يأخذ من النبي أهله دون مقاومة، على اعتبار أن مسألة المقاومة كانت موجهة للمجتمع الكبير، وربما تكون المسألة أن القوى المضادة تملك من القوى المادية والتحدي ما لا تستطيع العناصر الرسالية أن تصمد أمامها بفعل الظروف الطبيعية الطارئة بحيث لا يصمد الرسول في حركته أمام هذه القوى الكبيرة لأن الرسول، أي رسول كان، لا يملك كل الوسائل، وإنما يملك بعض الوسائل المنطلقة من معطيات قدراته الذاتية فعالم الرسالة ليس هو عالم الغيب، وإنما عالم القدرة البشرية التي يطل الغيب عليها في بعض مواقعها إلى حد معين، وقد لا يطل عليها بالكامل بالمعنى الحركي لهذه الإطلالة.

وفي هذا الجو يتحول المجتمع إلى قوة ضاغطة حتى على بيت النبي أو بيت الوصي أو بيت العالم، على اعتبار أنه يملك من عناصر الضغط ما يستطيع معه أن يجتذب جوانب الإنحراف لدى هؤلاء بالمستوى الذي يمكن أن يهزم فيه الحركة الرسالية، وقد يبتلى بعض الأنبياء أو العلماء أو الأولياء بزوجات تقف في الموقف المضاد من حركة الرسالة بحيث إنها تقف ضد حركة النبي، وهذا ما حدثنا القرآن عنه بالنسبة لامرأة نوح وامرأة لوط: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ([22]).

إننا نستطيع أن نستوحي من ذلك: أن الخيانة ليست خيانة العرض في الجانب الجنسي، ولكن الخيانة خيانة الرسالة، وخيانة الأمانة الرسالية.

ومن الطبيعي: أن مثل هذا يترك تأثيراً سلبياً على أولاد الأنبياء، أو أولاد الأوصياء أو أولاد العلماء، وأن للأم تأثيرها الكبير إذا كانت خاضعة في أفكارها، وسلوكها للتيار الكافر المنحرف المضاد، حيث إنها تدخل كل التيار إلى بيتها على نحو يجد النبي فيه نفسه محاصراً، كما أنه محاصر في مجتمعه لأنه لا يستطيع أن يحمي بيته على أساس أن امرأته جزء من هذا البيت، وقد تملك من الفعاليات ما لا يستطيع أن ينقذ نفسه منها.

كما أننا لا نجد إشارة في القرآن إلى تاريخ ابن نوح.

لكننا نلاحظ: أن أباه خاطبه أن يركب معه، وأن لا يكون من الخاسرين: ﴿..ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ([23]).

ولكنه لم يستجب لوالده: ﴿قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ([24])، فأجابه نوح الذي فقد الأمل في تلك اللحظة: ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ([25])، وعندما نادى ربه، فإنه لم يناد ربه معترضاً، ولكنه كان متسائلاً لأن الله سبحانه وعده بأن ينجي ابنه: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ([26]).

وهكذا نستطيع أن نربط قرآنياً بين امرأة نوح، وابن نوح، فنجد أنه كان خاضعاً لتأثيرات تربية أمه أكثر من خضوعه لأبيه لقربه أكثر منها وتعلقه بمجتمعها.

وبهذا نستطيع أن نفهم الفرق بين مسألة إسماعيل وبين مسألة ابن نوح من أن إسماعيل عاش في بيئة استطاع إبراهيم أن يعزل فيها الولد عن ضغطها، بحيث عاش في بيئة لا يضغط عليها الإنحراف بقوة في الوقت الذي كانت أمه صالحة أيضاً، وبذلك أمكن حماية التجربة هنا، ولم يمكن حماية التجربة هناك»([27]).

 وقفـة قصيرة:

ونقول:

قد ذكر هذا البعض:

«أن دور البيئة في صنع شخصية ابن نوح كان قوياً إلى درجة يعجز النبي نوح عن مواجهة تأثيراتها، حتى كانت النتيجة هي الهلاك والبوار لولده..».

وذكر هذا البعض أيضاً أن ضغط الدعوة على النبي والوصي والعالم في تعقيداتها وتحدياتها ومشاكلها قد يشغل الإنسان عن بيته، بحيث يعيش منفتحاً على العالم ومنغلقاً عن أهله.. وأن المجتمع المنحرف قد يأخذ من النبي أهله دون مقاومة، باعتبار أن مسألة المقاومة كانت موجهة للمجتمع الكبير.

ثم مثل لذلك بامرأة نوح، وامرأة لوط، وبابن نوح، الذي تأثر بتربية أمه أكثر من خضوعه لأبيه، لقربه منها أكثر من قربه من أبيه..

ونقول له:

إن كلامه هذا يعطينا كل الحق في أن نرفض ما قاله في حق الزهراء «عليها السلام» من أنه لا يجد فيها، ولا في أمها خديجة الكبرى، وابنتها زينب ـ لا يجد ـ خصوصية إلا الظروف الطبيعية التي كفلت لهن إمكانيات النمو الروحي والعقلي، والإلتزام العملي بالمستوى الذي تتوازن فيه عناصر الشخصية بشكلٍ طبيعي في مسألة النمو الذاتي، ولا نستطيع إطلاق الحديث المسؤول القائل بوجود عناصر غيبية مميزة تخرجهن عن مستوى المرأة العادي، لأن ذلك لا يخضع لأي إثبات قطعي، على حد تعابيره في كتابه: «تأملات حول المرأة».

وقد تحدثنا عن ذلك بالتفصيل في محله من هذا الكتاب.. فراجع.

وكلامه هنا يثبت صحة ما فهمناه من كلامه هذا، وأنه لا يرى للزهراء «عليها السلام» عصمة، إلا بمقدار ما حققته ظروفها الطبيعية لها، بحيث إنها لولا تلك الظروف لكان سبيلها سبيل ابن نوح، وغيره من الجناة والعصاة.

2 ـ إن بيت النبي والوصي يعتبر جزءاً من المجتمع الذي بعث لهدايته ورعايته، وتربيته، وإقامة الحجة عليه.

فلا معنى لأن ينغلق عنه ـ على حد تعبير هذا البعض ـ ولا لأن يشغله المجتمع الكبير عن الصغير..

كما أن على النبي المبعوث: أن يقاوم الإنحراف أينما كان، وحيثما وجد، فلا معنى لأن يوجه مقاومته إلى جهة، ويترك جهة أخرى، وإلا لكان مقصراً ـ والعياذ بالله ـ في أداء مهماته الرسالية، أو غير قادر على القيام بها، فلا مبرر لبعثته، بل اللازم هو بعث سواه، أو إرسال رسول آخر معه ليعينه، كما كان الحال بالنسبة لهارون وموسى «عليهما وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام»..

إن هذا البعض يقيس الأنبياء على الناس العاديين، سواء أكانوا علماء أو غير علماء، فيصفهم بأوصافهم فالحق الذي لا محيص عنه هو أن امرأتي نوح ولوط، وكذلك ابن نوح كانوا غير مستعدين للهداية ولا للصلاح، ولا شك في أن نوحاً ولوطاً «عليهما السلام» قد بذلا مختلف المحاولات في سبيل هدايتهم وإصلاحهم، ولكن قد ران على قلوب أولئك الكفرة ما كانوا يكسبون، وغرتهم الحياة الدنيا، وراقهم زبرجها.

3 ـ والغريب في الأمر مقارنته إسماعيل «عليه السلام» بابن نوح، حيث استطاع إبراهيم «عليه السلام» أن يعزل ولده عن الضغط القويّ للإنحراف في البيئة التي عاش فيها، مع كون أمه صالحة أيضاً، وبذلك أمكن حماية التجربة هنا، ولم يمكن حماية التجربة هناك، على حد تعبيره..

مما يعني: أنه لو كانت أم إسماعيل غير صالحة لما أمكن حماية التجربة، ولكان إسماعيل قد اتخذ سبيل الكفر والإنحراف ـ والعياذ بالله ـ كما فعل ابن نوح.

وهذا ما يؤكد طبيعة ما كان يرمي إليه هذا البعض حين تحدث عن أنه ليس في الزهراء «عليها السلام» أي خصوصية إلا الظروف الطبيعية التي كفلت لها إمكانات النمو الروحي والعقلي والإلتزام العملي.. وأنه ليس فيها أي عنصر غيبي مميز يخرجها عن مستوى المرأة العادي..

4 ـ إننا لا نوافق على اعتباره ما يقوم به الأنبياء من واجبات، وتكاليف حتى في مجال التربية مجرد تجارب تخطئ وتصيب، بل هي إنجازات جاءت وفق التكليف الإلهي الشرعي الصائب لكبد الحقيقة، دون أي تقصير أو ضعف في ذلك..

وقد أشرنا إلى هذا الأمر أكثر من مرة في نظائر المقام.

5 ـ ما الدليل على أن امرأة نوح قد حاصرت النبي في فعالياتها، فإن التصويرات التي قدمها عن بيت نوح، وعن فعاليات زوجته، ومحاصرتها له.. وغير ذلك، ما هي إلا رجم بالغيب، لم يقدم عليها أي دليل مهما كان ضعيفاً وهزيلاً.. مع أنه يشترط في أحداث التاريخ الدليل المفيد لليقين كأن يكون متواتراً، ولا يكفي مطلق ما هو حجة حسب زعمه..

وكذلك الحال فيما ذكره بالنسبة إلى إسماعيل «عليه السلام»، فقد أشرنا إلى عدم مقبوليته أو معقوليته.. كما أن عليه ـ حسب ما قرره هو ـ: أن يأتي بالدليل القاطع عليه.. وأين ذلك منه، وأنى له؟!

126 ـ القول بلزوم كون النبي أجمل الناس تطرّف.

127 ـ نتحفظ على قاعدة قبح قيادة المفضول للفاضل.

128 ـ لا يجب تفوق النبي في كل صفة ذاتيه.

129 ـ لا يجب تفوق النبي في كل علم.

130 ـ لا ضرورة تفرض قدرات غير عادية للنبي.

131 ـ لا ضرورة في أن يصنع النبي كل شيء خارق للعاده في أي وقت ومناسبة.

132 ـ المطلوب في النبي القدرة فيما يحتاج اليه الداعية والمشرّع والحاكم.

133 ـ الربط بين النبوة وبين القوة الخارقة تصور منحرف.

134 ـ القول بلزوم أن يكون النبي أشجع الناس تطرّف.

135 ـ القول بلزوم التفوق فيما لا يرتبط بالقيادة والنبوة تطرّف.

136 ـ قد يكون الجنود أشجع من قائدهم في قيادات العالم.

137 ـ المهم تفوق القائد في الفكر القيادي، وليس المهم خوض المعركة.

138 ـ المهم هو التفوق والكمال في المسائل التي تدخل في قيادة النبي.

139 ـ ليس دور النبي التأسيس للعلوم الطبيعية والرياضية، ولا المعلم للألسن واللغات.

140 ـ دور النبي هو الإبلاغ والإنذار، والهداية، والتعليم، وقيادة الناس إلى تطبيق ذلك.

يقول البعض:

«فقد نلاحظ ـ بوضوح ـ: تحديد المهمات الرسالية للأنبياء في وضع الخطوط العامة للفكر والتشريع من أجل أن ينطلق الحكم على أساس الحق، وميزان العدل، وفي رعاية الناس بما يخفف عنهم أغلالهم، وأثقالهم التي ترهقهم وتعطل مسيرتهم في بناء الحياة على قاعدة ثابتة، وفي تركيز الأسس التي تلتقي عليها مصالح الناس وأفكارهم، من أجل إخضاع الإختلافات إلى الحكم العدل الذي لا ينحرف ولا يجور. وبالتالي، إشاعة السلام القائم على الرحمة والعدل..

وفي ضوء ذلك، لا نجد أمامنا ـ في هذا الإطار ـ أي ضرورة تفرض اتصاف النبي بالقدرات الغير عادية([28])، التي يستطيع ـ معها ـ أن يصنع كل شيء خارق للعادة في أي وقت وفي أية مناسبة.

بل كل ما هناك، أن يملك النبي القدرة على حمل الرسالة وإبلاغها وتطبيقها بالحكمة والمرونة والقوة، في كل ما يحتاج إليه الداعية والمشرّع والحاكم فيما يتعلق بدعوته وشريعته وحكمه.. وبذلك يبطل التصور المنحرف الذي يربط بين النبوة وبين القوة الخارقة التي تصنع ما تشاء، بلا حدود.

النبوة والتفوق المطلق:

وقد يمكن لنا في هذا المجال: أن نتحفظ فيما يفيض فيه الكثيرون من علماء الكلام عندما يتحدثون عن صفات النبي ـ أي نبي كان ـ فيوجبون له التفوق في كل علم، وفي كل صفة ذاتية على أساس القاعدة العقلية المعروفة لديهم وهي قبح قيادة المفضول للفاضل.. فإذا لم يكن النبي في مستوى القمة في كل شيء، لم يصلح لمركز القيادة الحياتية للناس.

وقد يتطرف البعض، فيوجب أن يكون النبي أجمل الناس، وأشجعهم، وأقواهم في عضلاته إلى غير ذلك من الصفات الجسمية التي لا ترتبط بالنبوة ولا بالقيادة من قريب ولا من بعيد.. فإننا نلاحظ في أوضاع القيادات في العالم.. حتى العسكرية منها: أن القائد لا يفرض فيه أن يكون أكثر شجاعة من جنوده، فربما يكون الكثيرون من جنوده أشجع منه، لأن دوره الأساسي ـ كقائد ـ ليس هو خوض المعركة، بل قيادتها التي تتمثل في الفكر العسكري القيادي الذي يعرف كيف يخطط للمعركة، وكيف يواجه التطبيق العملي للخطط المرسومة.

وهكذا نجد القضية في كل جانب من الجوانب الحياتية التي لا تتطلب في القيادة إلا أن تكون في مركز التفوق والكمال في القطاع الذي تتولى قيادته.

إننا نسجل تحفظنا الشديد حول هذا كله.. لأن دور النبي، لم يكن هو دور المؤسس للعلوم الطبيعية والرياضية وغيرها، ولم تكن مهمته هي مهمة المعلم للألسن واللغات، يجب أن يكون مُلماً بجميع العلوم، وبجميع اللغات، فضلاً عن أن يكون متفوقاً من زاوية نبوته، بل المهمة الأساسية ـ كما حددها القرآن الكريم، في الآيات المتقدمة ـ هي الإرشاد والإبلاغ والإنذار وتعليم الناس الكتاب والحكمة، وقيادتهم إلى تطبيق ذلك كله على حياتهم، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد»([29]).

وقفة قصيرة:

ونقول:

1 ـ إن هذا البعض: قد نفى وجود ضرورة تفرض اتصاف الأنبياء بهذه الصفة، أو بتلك، ومن الواضح: أن نفي وجود شيء من هذا القبيل يحتاج إلى الإطلاع على أسرار كل الواقع القائم، ليتمكن من تحديد وجود ضرورة فيه، أو عدم وجودها.

فهل أطلع الله هذا البعض على غيبه، وأوقفه على أسرار خلقه، حتى استطاع أن ينفي وجود ضرورة، تفرض اتصاف الأنبياء بقدرات غير عادية؟!

2 ـ إن هذا البعض قد حدد المهمات الرسالية للأنبياء، وفق فهمه الخاص للأمور.. واعتبر نفسه قد استوفى المعرفة بكل الأهداف الإلهية من الخلق والخليقة، ومن بعثة الأنبياء.

وعلى هذا الاساس، فإن لنا كل الحق في أن نوجه إلى هذا البعض الأسئلة التالية:

إذا كان ما ذكره هو المبدأ والمنتهى، ويبرر له أن يحكم بعدم وجود أية ضرورة تفرض اتصاف النبي «صلى الله عليه وآله» بالقدرات غير العادية.. فلماذا، أو ما هو السر في حدوث الإسراء والمعراج؟!

ولماذا سخر الله الريح والجن، والطير و.. و.. لسليمان الخ..؟!

ولماذا يرفع الله للنبي والوصي عموداً من نور، فيرى أعمال الخلايق؟!

ولماذا علم الله داود «عليه السلام» منطق الطير؟!

ولماذا وصف الله داود «عليه السلام» بذي الأيد، أي القوة؟!

ولماذا تطوى الأرض للأنبياء وللأئمة «عليهم السلام»؟!

ولماذا يطعم النبي الجيش كله من شاة عجفاء يذبحها لهم، مع أن معجزته هي القرآن؟!

ولماذا؟! ولماذا؟! مما لو أردنا استقصاءه، لملأنا مئات الصفحات بالأسئلة التي لابد من الإجابة عنها لمن يدعي، معرفة ما تفرضه المهمات الرسالية للأنبياء.

3 ـ إن آصف بن برخيا لم يكن نبياً، وليس لديه مهمات رسالية.. فلماذا أعطاه الله قدرة فوق قدرة عفريت من الجن ـ كما تنص الآية ـ مكنته من أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس، قبل ارتداد الطرف، وذلك بعلم من الكتاب؟!

4 ـ لماذا آثر سليمان «عليه السلام» أن يتصرف تصرفا غير عادي تجاه بلقيس، حيث قال لمن حوله: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ([30])، فآثر إظهار القوة الخارقة التي تقهر عقولهم. على استعمال قوة السلاح وفرض السلام أو الإسلام عليهم.

5 ـ كيف ثبت لهذا البعض، ثم كيف يثبت لنا أن الربط بين النبوة وبين القوة الخارقة للعادة هو من مصاديق التصور المنحرف؟!

وهل انحرافه عن تصورات هذا البعض؟! أم كان انحرافه عن الحق والحقيقة؟!

6 ـ ما معنى رفضه للقاعدة العقلية القاضية.. بقبح قيادة المفضول للفاضل، فهل يريد التمهيد لتصحيح خلافة أبي بكر، وفقاً لمقولة معتزلة بغداد بجواز إمامة المفضول، والتي عبر عنها ابن أبي الحديد المعتزلي في كلمته الشهيرة في مفتتح كتابه «شرح نهج البلاغة»، حيث قال: «الحمد لله الذي قدم المفضول على الفاضل». أي قدم أبا بكر على علي «عليه السلام».

7 ـ وانظر إلى دليله الذي ساقه على عدم صحة مقولة لزوم كون النبي هو الأكمل والأشجع و.. و.. حيث قاس ذلك على القيادات الظالمة والمنحرفة، حيث لا يفترض فيها ـ عندهم ـ أن يكون القائد أشجع من جنوده. فإنها مبنية في الغالب على الأهواء، وعلى الجهل بحقيقة الأشخاص وطاقاتهم.

8 ـ ولو صح ما ذكره من أن القيادة لا تتطلب إلا أن تكون في مركز التفوق، والكمال في القطاع الذي تتولى قيادته، لجاز لنا أن نقول له: بل هي لا تتطلب التفوق أصلاً، بل يكفي المساواة بين القائد وبين الآخرين، بل حتى لو كان أقل من الآخرين، فإنه يكفي له ما يحفظ به ما يوكل إليه من أمر قيادته.

9 ـ حتى لو كان الآخرون من أعلم الناس بشؤون وشجون ذلك الأمر الذي هو محط النظر.

فمن أين ثبت: أن مهمة النبي والوصي لا تحتاج إلى التفوق حتى في العلوم الطبيعية والرياضيات واللغات وبجميع العلوم؟!

وأما الآية القرآنية التي استشهد بها فإنما تدل على خلاف مقصوده. فإن الحكمة المطلوب تعليمها للناس ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ([31]) لا تقتصر على مجال دون مجال.. بل هي وضع الشيء في موضعه في كل كبيرة وصغيرة، وفي كل علم وصنعة وحرفة وغير ذلك..


 

([1]) من وحي القرآن ج15 ص176.

([2]) الآية 31 من سورة مريم.

([3]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج5 ص171 و 172.

([4]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج14 ص384.

([5]) نشرة فكر وثقافة عدد 1 تاريخ المحاضرة 29 ـ 6 ـ 1996.

([6]) الندوة ج1 ص360.

([7]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج13 ص388 و 389.

([8]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج8 ص170.

([9]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج23 ص186 و 187.

([10]) الوسائل ج20 ص196. ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص8 والخرائج والجرائح ج2 ص190.

([11]) الوسائل ج2 ص211 و 212. وبصائر الدرجات ص261 وقرب الاسناد ص21 والارشاد ص273 وكشف الغمة ج2 ص288 والخرائج والجرائح ج2 ص1166 و 226 ورجال الكشي 170 ـ 288.

([12]) الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ج8.

([13]) الآيتان 3 و 4 من سورة النجم.

([14]) الآيات 1 ـ 3 من سورة الروم.

([15]) الآيتان 4 و 5 من سورة الإسراء.

([16]) الآية 55 من سورة الإسراء.

([17]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج14 ص157.

([18]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج9 ص141 ـ 142.

([19]) المعارج: عدد 28 ـ 31 ص543.

([20]) المصدر السابق: ص544.

([21]) الآية 69 من سورة العنكبوت.

([22]) الآية 10 من سورة التحريم.

([23]) الآية 42 من سورة هود.

([24]) الآية 43 من سورة هود.

([25]) الآية 43 من سورة هود.

([26]) الآية 46 من سورة هود.

([27]) المعارج: ص610 ـ 612.

([28]) الصحيح: غير العادية.

([29]) المعارج: ص654 ـ 656 والحوار في القرآن ص103 و 104.

([30]) الآية 43 من سورة هود.

([31]) الآية 2 من سورة الجمعة.

 
   
 
 

موقع الميزان