صفحة : 203-232  

الفصل السادس

  داود.. وسليمان.. وزكريا.. ويحيى.. وعيسى

403 ـ قضية داود «عليه السلام» كقضية آدم «عليه السلام».

404 ـ داود «عليه السلام» يستسلم لعواطفه في قضائه.

405 ـ داود «عليه السلام» يعتمد على ما لا يصح الإعتماد عليه في القضاء.

406 ـ داود «عليه السلام» يخطىء في إجراء الحكم.

407 ـ الله هو الذي أراد لداود «عليه السلام» أن يقع في الخطأ.

408 ـ خطأ داود «عليه السلام» كانت له نتائج سلبية.

409 ـ الخطأ لا يتنافى مع مقام النبوّة.

ويقول البعض عن قصة حكم داود «عليه السلام» بين الخصمين:

«وهكذا أطلق داود الحكم، وتدخل في تفسير المسألة من ناحية اعتبارها مظهرا من مظاهر الإنحراف الإجتماعي في العلاقات العامّة في الحقوق المتنازع عليها بين الناس.. ولم يكن قد استمع إلى الطرف الآخر مما تقتضيه طبيعة إدارة الحكم في جانب الشكل والمضمون، فعليه أن يدرس الدعوى، من خلال الإستماع إلى حجة المدعي ودفاع المدّعى عليه.. لأن مسألة الغنى والفقر، والكثرة والقلة، لا يصلحان أساسا للحكم على الغني الذي يملك الكثير لحساب الفقير الذي يملك القليل أو لا يملك شيئاً في دائرة الحق المختلف فيه..

   ولكن المشاعر العاطفية قد تجذب الإنسان إلى الجانب الضعيف في الدعوى، لتثير فيه الإحساس بالمأساة التي يعيشها هذا الإنسان من خلال ظروفه الصعبة بينما يعيش الإنسان الآخر الراحة والسعة في أجواء اللامشكلة، مما يجعل من الحكم على الضعيف تعقيدا لمشكلته بينما لا يمثل الحكم عليه لمصلحة الضعيف مشكلة صعبة بالنسبة إليه.. هذا بالإضافة إلى أن طبيعة الواقع الذي يتحرك في حياة الناس تستبعد أن يكون هذا الفقير معتديا على الغني، لا سيما في هذا الشيء البسيط، بينما يمكن أن يكون الغني في جشعه وطمعه معتديا على الفقير من موقع قوته، كما هي حال الأقوياء بالنسبة إلى الضعفاء..

﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾. أي أوقعناه في الفتنة، أي في البلاء والإختبار الذي يفتتن به الإنسان فيكون معرضاً للخطأ من خلال طبيعة الأجواء المثيرة الضاغطة المحيطة به وانتبه ـ بعد إصدار حكمه لمصلحة صاحب النعجة، إلى استسلامه للمشاعر العاطفية أمام مأساة هذا الإنسان الفقير، وخطأه في عدم الإستماع إلى وجهة النظر الأخرى ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ﴾ على هذا الخطأ في إجراءات الحكم الشكلية ﴿وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ([1]). أي رجع إلى الله وتاب إليه وأخلص إليه.

قصة داود أمام علامات الاستفهام:

فغفرنا له ذلك الخطأ الذي لم يؤد إلى نتيجة سلبية كبيرة في الحياة العامة ولم يصل إلى الموقف الحاسم في تغيير الواقع ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى﴾ وهي المنزلة والحظوة ﴿وَحُسْنَ مَآَبٍ([2]) فيما يرجع إليه من رحمة الله ورضوانه..».

إلى أن قال في جملة نقاط ذكرها:

«النقطة الثانية: كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة عصمة الأنبياء، أمام تصريح الآية بالإستغفار والرجوع إلى الله بعد الفتنة التي لم يستطع النجاح فيها، فأخطأ في إدارة مسألة الحكم في الجانب الإجرائي منه..

   ربما تطرح القضية، على أساس أن الخصمين إذا كانا من الملائكة، فإنها لا تكون تكليفا حقيقيا، بل هي قضيّة تمثيلية على سبيل التدريب العملي ليتفادى التجارب المستقبلية فيما يمارسه من الحكم بين الناس..

   تماماً كما هي قضية آدم التي كانت قضية امتحانية لا تكليفا شرعيا، فلم تكن هناك معصية بالمعنى المصطلح، وبذلك يكون الإستغفار مجرد تعبير عن الإنفتاح على الله والمحبة له، والخضوع له فيما يمكن أن يكون قد صدر عنه من صورة الخطيئة، لا من واقعها، وأما إذا كان الخصمان من البشر، فقد يقال بأن القضاء الصادر من داود لم يكن قضاء فعليا حاسما بل كان قضاء تقديريا، بحيث يكون قوله: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ([3])، بتقدير قوله: لو لم يأت خصمك بحجّة بيّنة.

   ولكن ذلك كله لا يمنع صدور الخطأ منه، فإنّه لم ينتبه إلى أن الخصمين ملكان، بل كان يمارس القضاء بالطريقة الطبيعية على أساس أنهما من البشر.. وبذلك فلم تكن المشكلة هي إنفاذ الحكم ليتحدث متحدث بأن المسألة قد انكشفت قبل إنفاذه، أو أنها لم تكن واقعية بل كانت تمثيلية، بل المشكلة هي الخطأ في طريقة إجراء الحكم..

   فلا بدّ من الإعتراف بأن مثل هذه الأخطاء لا تتنافى مع مقام النبوّة، لا سيّما إذا كانت الأمور جارية في بداياتها مما قد يراد به الوقوع في الخطأ من أجل أن يكون ذلك بمثابة الصدمة القويّة التي تمنع عن الخطأ في المستقبل».

   وتابع هذا البعض فقال:

   «وقد أكّد الإمام الرضا «عليه السلام» ـ ذلك ـ فيما روي عنه في عيون أخبار الرضا، قال الراوي وهو يسأله عن خطيئة داود «عليه السلام»: يا بن رسول الله ما كانت خطيئته فقال: ويحك إن داود إنما ظن أنه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه، فبعث الله إليه الملكين فتسوّرا المحراب فقالا: ﴿خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ([4]). فعجّل داود على المدعى عليه فقال: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ([5])، ولم يسأل المدعي البيّنة على ذلك، ولم يقبل على المدعى عليه، فيقول له: ما تقول؟! فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه.

   وقد ذكرنا في هذا التفسير: أن علينا أن نأخذ الفكر في طبيعة العقيدة من نصوص القرآن الظاهرة، لا من أفكار خارجة عنه، مما قد تتحرك به الفلسفات غير الدقيقة»([6]).

آيات حكم داود :

   قال الله تعالى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ([7]).

 وقفة قصيرة:

قد ذكر العلامة الطباطبائي أن اكثر المفسرين يقولون: إن الخصمين كانا من الملائكة، وأيّد رحمه الله ذلك ببعض الشواهد، فلم يكن هناك نعجة ولا متخاصمان في عالم المادة، لأن القضية إنما هي في ظرف التمثل، ولا تكليف هناك، فلا توجد خطيئة ولا حكم، ولا غير ذلك في عالم الشهود..

وأما على قول بعض المفسرين من أن المتخاصمين كانا بشراً، فينبغي أن يؤخذ قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ ظَلَمَكَ ﴾ الآية.. قضاء تقديرياً، أي إنك مظلوم لو لم يأت خصمك بحجةٍ بيّنة([8]).

وإنما ذلك للحفاظ على ما قامت عليه الحجة من طريقي العقل والنقل: أن الأنبياء معصومون بعصمة من الله، لا يجوز عليهم لا كبيرة ولا صغيرة، على أن الله صّرح قبل هذا بأنّه آتاه الحكمة، وفصل الخطاب، ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء([9]).

ولو أغمضنا النظر عمّا قاله العلاّمة الطباطبائي فإننا نقول:

1 ـ إن افتراض الخطأ في ما جرى لداود «عليه السلام» على النحو الذي يقوله ذلك البعض، معناه عدم مصداقيّة كونه أسوة وقدوة، ومعناه أنه يحكم بين الناس بغير الحق، وأنه يتبع الهوى في أحكامه مما ترتب عليه آثار سلبية باعترافه هو نفسه، لكنه قال إنها غير أكيدة، مع أن الله سبحانه قد قال عن داود: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ([10]). ثم تلتها الآيات التي تتحدث عن نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب وذلك، يشير إلى أن الآيات التي تحدثت عن قضية النعاج التسعة والتسعين لم يرد الله منها تخطئة داود «عليه السلام»، فإن من آتاه الله فصل الخطاب ـ الذي هو تفكيك الكلام الحاصل من مخاطبة واحد لغيره، وتمييز حقه من باطله، وينطبق على القضاء ـ لا يعقل أن يخطئ في نفس ما آتاه الله إيّاه.

أضف إلى ما تقدّم: أن دعوى: كون داود «عليه السلام» قد استعجل في الحكم انسياقا مع عاطفته، أو نحو ذلك ينافي الحكمة التي آتاه الله إياها، لأنها وضع الشيء في موضعه، كما أنه ينافي القضاء العادل بالحق الذي أعطاه الله إيّاه أيضاً..

2 ـ إنّه يلاحظ: أن أحد الخصمين قد طرح سؤالا لا يتضمن ادعاء ملكية، ولا يتضمن شيئاً خلاف الشرع، حيث ادعى أن أخاه صاحب التسعة والتسعين نعجة قد طلب منه أن يجعلها تحت تكفله، وألحّ عليه في ذلك، ولم يدّع أنّه اغتصبها منه، أو أنه ادّعى ملكيتها، أو أي شيء آخر، ومجرّد طلب تكفّل شيء للاستفادة من منافعه ليس حراما..

   3 ـ إن قول داود «عليه السلام»: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ([11])، لا يدلّ على أنه كان في مقام إصدار حكم. إذ يمكن أن يكون ذلك مجرد إخبار له بالواقع الذي عرفه داود «عليه السلام» عن طريق الوحي أو عن أي طريق آخر..

   4 ـ وأما قوله تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ([12]). فيراد به ـ والله أعلم ـ: أنه ظن أن الله سبحانه قد أرسل إليه من يسأله هذا السؤال، وقد أراد سبحانه امتحانه بذلك، كما انه قد ظن أن مبادرته إلى إخبار السائل بما علمه لم تكن هي المطلوب، بل لعل المطلوب هو رسم الحكم بطريقة محاكمة قضائية.

وهكذا يتضح: أنه لا يصح قول هذا البعض: إن داود لم يستطع النجاح في هذه الفتنة، فأخطأ.

   5 ـ وربما يكون المتخاصمان قد تخيّلا أن ما قاله داود «عليه السلام» قد كان حكماً قضائياً منه، من موقع كونه حاكماً وقاضياً، لا إخباراً عن معرفة حصلت له من موقع كونه نبياً، لا سيّما وأنهما قد طلبا منه أن يحكم بينهما، فأخبرهما بالواقع، ولم يستجب لطلبهما بإصدار الحكم..

ولعل هذا هو السبب في عدم اعتراض صاحب النعاج التسعة والتسعين، وعدم دفاعه عن نفسه، ولم يذكّر داود «عليه السلام» بأن له الحق بذلك.

والنتيجة لما تقدّم هي:

ألف: إن من الطبيعي أن يفكر داود «عليه السلام» بأن هذه القضية قد تكون امتحانا له، فطلب من الله سبحانه أن يستر له ما قد يراه الناس تقصيرا، وهو ليس كذلك في الواقع، وأن يعود عليه بالرحمات والألطاف، فكان له ما أراد.

ب: إن داود «عليه السلام» لم يبادر إلى تشكيل محكمة لفصل القضية قضائيا، بل اكتفى بإخبار الخصمين بحكم المسألة. وأخيرا فالرواية إن كانت موافقة لحكم العقل القطعي فلا مانع من الأخذ بها، وإلا فهي مطروحة أو مؤولة، ولا فرق في ذلك بين كونها صحيحة السند أو لا.

ولا ننسى الإشارة أخيراً إلى تناقض كلامه عن آدم «عليه السلام» في هذا المقام حيث نفى عنه المعصية هنا، مع كلامه المتقدم في صدر الكتاب

والذي قال فيه: إن معصية آدم كمعصية إبليس.

410 ـ «إستعراض الخيل» شغل سليمان «عليه السلام» ففاتته الصلاة.

411 ـ نقاط الضعف في الأنبياء لا تنافي العصمة.

412 ـ سليمان ابتعد عن الخط الرسالي قليلا.

413 ـ الضغط الإلهي أعاد سليمان «عليه السلام» إلى الخط.

414 ـ سليمان «عليه السلام» يضرب أعناق الخيل وسوقها ليؤلم نفسه فيما تحبه.

   يقول البعض عن سليمان «عليه السلام» في تفسير قوله تعالى: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ([13]):

«المراد بالخير: الخيل، فيما قد تطلق عليه هذه الكلمة من المعنى، وبذلك يكون المعنى، أنه استبدل حب الخيل عن ذكر الله حتى شغل عن صلاته ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ([14]). أي حتى غابت الشمس، وفاتته صلاة العصر بسبب ذلك.. وهذا هو المشهور بين المفسرين، من أن استعراض الخيل أمامه امتدّ بحيث شغله عن صلاته.

   وقد أثار بعض المفسرين احتمال تعلق (وحبه لها ﴿عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾)، بـ ﴿حُبَّ الْخَيْرِ﴾ بلحاظ انطلاقه عن أمر الله، ليكون استعراضه لها وحبه لها عملا عباديّا ليتهيّأ بها للجهاد في سبيل الله، وبذلك يكون الشاغل له عن عبادة الله، عملا يختزن في داخله عبادة الله.

   ولعل الأساس في هذا التوجيه التفسيري، هو الخروج بعمل سليمان عن كونه مخالفا لموقعه الرسالي، في انشغاله باستعراض الخير عن عبادة الله الواجبة في وقت معين..

   ولكن ذلك لا يفيد شيئاً في هذا الجانب، لأن صلاة العصر إذا كانت موقتةً بوقت معين، بحيث يذهب وقتها بغروب الشمس وتواريها بالحجاب، كما يظهر من بعض الروايات، فإن الإنشغال عنها المؤدي إلى تركها، بعمل آخر مرضي لله، موسّع في وقته، غير مبرر شرعاً.

   ولهذا فقد يكون من الأقرب إبقاء الآية على ظاهرها الذي يوحي بان سليمان كان في مقام توبيخ نفسه أو الاعتذار إلى الله عما حدث له، مما لا يتناسب مع التوجيه المذكور الذي قد لا يكون له معنى، إلا أن يقال، إن ذلك بلحاظ أهمية الصلاة وبذلك يكون قد قدم المهم على الأهم في الوقت الذي يتسع لها جميعا، مع كون تقديم الصلاة أفضل، بلحاظ الوقت..

كيف نفهم حدود العصمة؟!:

   وقد نلاحظ في هذا المجال، أن مسألة حدود العصمة، فيما يراد من خلاله تأكيد القيمة الأخلاقية المنفتحة على الله في القيام بما يحقق رضاه في أفق محبته.. لا يكفي فيها التركيز على ترك المعصية، بل لا بد فيها من الإنفتاح على العمق الروحي الذي يتناسب مع قيمة النبوّة في جانب القدوة الرسالية منها..

   ..وقد ينبغي دراسة الأسس التي يحاول الكلاميون الذين يتبنّون مسألة عصمة الأنبياء بالشكل المطلق، لنتعرف ماذا يمكن لنا أن نواجه به الظواهر القرآنية التي تمنح الجانب الإنساني قيمةً واقعية في تقييم شخصية النبي، بالمستوى الذي لا يبتعد عن الإخلاص في الصدق الواعي في خط الرسالة، مع إفساح المجال لبعض نقاط الضعف الإنساني أن تنفذ إلى حياته، بشكل جزئيٍّ طبيعيّ..

﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ﴾ أي الخيل ـ على ما هو الظاهرـ في عملية استعادة للإستعراض ولكن بروحية أخرى ﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ([15]). قيل في معناه: إنه شرع يمسح بيده مسحا بسوقها وأعناقها ويجعلها مسبلة في سبيل الله جزاء ما اشتغل بها عن الصلاة.

   وقيل: المراد بمسح أعناق الخيل وسوقها ضربها بالسيف وقطعها، والمسح القطع، فهو، غضب عليها في الله لما شغلته عن ذكر الله فأمر بردّها ثم ضرب بالسيف أعناقها وسوقها فقتلها جميعاً».

   ويتابع البعض كلامه فيقول:

«ويعلق صاحب الميزان على هذا الوجه بأن هذا الفعل مما تتنزه عنه ساحة الأنبياء عليهم السلام فما ذنب الخيل لو شغله النظر إليها عن الصلاة حتى تؤاخذ بأشد المؤاخذة فتقتل تلك القتلة الفظيعة عن آخرها مع ما فيه من إتلاف المال المحترم»([16]).

«ويذكر في موضع آخر([17]): أن الروايات التي تؤكد على هذه القصة بهذا الشكل تنتهي إلى كعب الأحبار، بالإضافة إلى الإغراق في التفاصيل التي تدخل في دائرة الأعاجيب.

   أمّا تعليقنا على ذلك، فان الظاهر من الآية قد يؤكد فكرة ضرب أعناقها وسوقها، لأن مسألة تسبيلها في سبيل الله لا يتوقف على ردها عليه وكما أنه لا يفسر مسح أعناقها وسوقها، فان من المتعارف مسح الخيل على نواصيها كما أن هذه الروايات تلتقي مع ظهور الآية في ردّ الفعل الذي قام به سليمان إزاء انشغاله بها عن الصلاة، مما جعله يفكر بالخلاص منها بقتلها، من غير ضرورة لأن يكون ذلك على سبيل الإنتقام منها، أو إتلافها كمالٍ محترم لا يجوز إتلافه بل قد يكون ذلك بمثابة ضغط على نفسه التي أحبت الخيل بهذا المستوى الأمر الذي يريد إيلامها فيما تحبه بهذه الطريقة، مع ملاحظة أن ذلك حلال في شريعته لأن الخيل كانت تذبح كالأنعام، للطعام، والله العالم.

   ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا﴾ إن هذه الآية توحي بوجود فتنة واختبار في حياة سليمان، لتوجيه بعض أوضاعه التي يريد الله له أن يركزها على أساس من الإستقامة في الفكر والعمل، فيما يبتلي الله به عباده ورسله من أجل أن يربيهم على الثبات في مواقع الإهتزاز من خلال حركة التجربة في الواقع العملي في حياتهم التي يراد لها أن تطل على حياة الآخرين من موقع القيادة الرسالية.. وربما توحي الآية من خلال قوله: ﴿ثُمَّ أَنَابَ([18])، بأنه ابتعد عن الخط قليلاً، فيما هو القرب السلوكي من الله، ثم عاد إليه بعد أن رأى الضغط عليه، فيما ابتلاه به من ناحية فعلية»([19]).

عرض الآيات:

   قال الله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ([20]).

وقفة قصيرة: 

إننا بالنسبة إلى الآيات الشريفة، نذكر القارئ بما يلي:

1 ـ قال السيد المرتضى: ظاهر الآية لا يدل على إضافة قبيح إلى النبي، والرواية إذا كانت مخالفة لما تقتضيه الأدلة لا يلتفت إليها لو كانت قوية ظاهرة فكيف إذا كانت ضعيفة واهية([21]).

2 ـ وإذا رجعنا إلى الآيات الكريمة نفسها نجدها تصرح بأ عرض الخيل على سليمان «عليه السلام» قد كان بالعشي، ولا دلالة فيها على أن العرض قد حصل في حين كانت الشمس ظاهرة..

3 ـ إن ضمير ردّوها يرجع إلى الصافنات (وهي الخيل) وكذلك ضمير توارت بالحجاب، فما معنى إرجاع الضمير إلى الشمس، وهي لم تذكر في الكلام..

4 ـ إن عبارة: ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ﴾  قد أريد به بيان نوع الحب الذي أحبّه، فهو لم يحب حب الشهوات، أو حب الدنيا الذي هو باطل وغير مشروع، بل كان حبه من نوع حب الخير، إذن، فليست كلمة ﴿حُبَّ الْخَيْرِ﴾ مفعولاً به (لأحببت).

وقوله: ﴿عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ يان لمنشأ ذلك الحب، وأنه حب ناشئ عن ذكر الله سبحانه..

5 ـ إن قول سليمان «عليه السلام»: ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ﴾ الآية.. قد جاء تفريعاً بالفاء على قوله:﴿عُرِضَ.. أي أن الخيل عرضت عليه، فقال هذا القول، ولعله ليدفع أي تصور خاطئ عنه يريد أن يتهمه بأن استعراضه للخيل قد كان من منطلق حب الهوى وحب الدنيا ولذّاتها، فأوضح لهم سليمان «عليه السلام»: أن الأمر ليس كذلك، بل هو من منطلق حب آخر، هو حب الخير، وتقوية الدين، لأن الخيل من أهم وسائل الجهاد، ومن أسباب القوة للمؤمنين على أعدائهم.

6 ـ وحين انتهى العرض، أمر الموكلين بالخيل: بأن يردّوها عليه، فطفق يمسح سوقها وأعناقها إيناسا لها، وتحببا وإعجاباً بها.

7 ـ وقد ظهر مما تقدّم: أنه ليس في الآيات ما يشير إلى قتل الخيل.

8 ـ إن تعلق نفس سليمان بالخيل، لا يخوله أن يقطع قوائمها ورؤوسها، فهل يصح أن يكون هو المذنب، والخيل هي التي تعاقب؟!!

9 ـ قال السيد المرتضى: إن الله تعالى ابتدأ الآية بمدحه والثناء عليه، فقال: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ([22])، وليس يجوز أن يثني عليه بهذا الثناء، ثم يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه، وأنه تلهّى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة ([23]).

10 ـ هل يمكن لنبي معصوم أن ينسى واجباً مكلفاً به إذا كان أهم من العمل الذي يتصدى له؟! وإذا لم يكن أهم فلماذا يقطع أرجل الخيل ورؤوسها؟!

   11 ـ لو كان المقصود: أنه آثر حب الخيل وقدّمه على ذكر ربه، فالمناسب أن يأتي بكلمة «على» لا بكلمة «عن».

415 ـ الولاية التكوينية لسليمان: «خدمات غير عادية».

416 ـ سليمان احتاج هذه الخدمات لمشاريعه العمرانية وتنقلاته، وحاجاته الإنسانية والاجتماعية.

ونقول:

   يقول البعض عما أكرم الله به نبيه سليمان بن داود «عليه السلام»:

   «..وهذه إطلالة سريعة على النبي سليمان الذي جعل الله له ميزة معينة في الخدمات غير العادية التي هيأها الله له فيما كان يحتاجه لتنقلاته أو مشاريعه العمرانية، أو في حاجاته الإنسانية والاجتماعية..».

وقفة قصيرة:

نلاحظ هنا أمرين:

أحدهما: أنه سمى الولاية التكوينية لنبي الله سليمان «عليه السلام» بـ «الخدمات غير العادية»..

   ثانيهما: أنه جعل ذلك من باب الخدمات التي يحتاجها سليمان «عليه السلام» في تنقلاته وفي مشاريعه العمرانية الخ..

   والسؤال هو: هل كان لدى سليمان «عليه السلام» حاجات إنسانية اجتماعية، ولم يكن لدى غيره من الأنبياء حاجات كهذه؟!

    وهل كان سليمان «عليه السلام» بحاجة إلى تنقلات، ولم يكن غيره من الأنبياء بحاجة إلى ذلك؟!

وهل كان لدى سليمان «عليه السلام» مشاريع عمرانية، ولم يكن لدى أي من الأنبياء حتى نبينا الأكرم «صلى الله عليه وآله» مثل هذه المشاريع؟!

وإذا كانت بشرية سليمان «عليه السلام» لم تمنعه من الحصول على هذه الخدمات غير العادية، فهل إن بشرية نبينا الأكرم «صلى الله عليه وآله» قد منعته منها؟!

وما هو الفرق بين بشرية هذا وذاك يا ترى؟!

هذا.. وأين التحدي في كل هذه الخدمات غير العادية المعجزة؟! فإذا كانت المعجزة لا تحصل في غير موارد التحدي ـ كما صرح به البعض ـ فلماذا حصلت كل هذه المعجزات لسليمان ولداود «عليهما السلام»؟!

417 ـ معركة أو (إشكال) بين الله تعالى والنبي زكريا.

418 ـ زكريا يعتقد باستحالة أن يولد له.

419 ـ فوجئ زكريا، لأنه لم يحسب أن يتم الأمر بهذه السهولة.

420 ـ ربما يتصور أن دعاءه مجرد تمنيات.

421 ـ زكريا ينطلق في سؤاله ربه بما يشبه الصراخ العنيف.

422 ـ زكريا يعتقد: أن الله لا يتدخل في الأمور بشكل غير عادي.

423 ـ زكريا لا يطمئن إلى أن ما يلقى إليه هو الوحي إلا بآية ومعجزة.

424 ـ زكريا يتفاجأ بالقدرة الإلهية في مخالفة السنن.

يقول البعض:

«..﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا([24])، فقد أراد الله: أن لا يخيّب أملك فيه ورجاءك في رحمته فرزقك ولداً ذكراً سوياً، ومنحه اسماً لم يحمّله أحداً من قبله.. فماذا تريد بعد ذلك؟! وقد أكرمك الله بكرامته التي يكرم بها عباده الصالحين، وأنبياءه المرسلين..

زكريا يتساءل متعجباً:

   ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا([25])، فقد غيرني الزمان إلى الحالة التي لم يبق لي معها شيء من الحيوية تماماً، كالعود اليابس الذي لا خضرة فيه ولا حياة، فكيف أن أهب الحياة لغيري في مثل هذه الظروف المستحيلة؟! وكأن زكريا قد فوجئ بأمر لم يكن منتظراً، لأنه لم يحسب أن المسألة تتم بمثل هذه السهولة، وأن الدعاء يستجاب بهذه السرعة، وأن ما كان مستحيلاً في نظره أصبح واقعاً في حياته.. وربما كان يتصور: أن دعاءه بالولد يدخل في نطاق التمنيات التي يتحدث بها الإنسان إلى ربه، من دون أن يكون له طمع كبير في حصولها، لا لأنه يشك في قدرة الله على ذلك، بل لأنه لا يعتقد أن الله يتدخل في الأمور بشكل غير عادى لمصلحة شخص معين، بعد أن جعل الحياة كلها خاضعة للسنن الكونية في وجود الأشياء وفي حركتها العامة والخاصة.. وهذا هو ما جعل السؤال ينطلق منه فيما يشبه الصراخ العنيف، فيما توحي به الآية ﴿قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ([26]).

وهذا هو ما سمعه من الصوت الخفي الذي كان يتحدث إليه من دون أن يرى أحداً أمامه.. فليس هو الله الذي كان يكلمه، بل هو شخص آخر غير الله، قد يكون ملكاً، أو يكون أي شيء آخر ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾، فلن يصعب على الله أن يبدع الحيوية فيك وفي زوجتك لتستطيعا إنجاب ولد، بعد هذا العمر الطويل ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا([27])، فكيف تواجه المسألة بما يشبه المفاجأة؟!

   وربما أراد زكريا أن يعيش الطمأنينة القلبية التي توحي إليه: بأن هذا الوحي الذي يلقى إليه بالواسطة، فيما يسمع من صوت، لا يرى صاحبه، هو وحي الله، فأراد أن يستوثق لقناعته، فطلب آية لا يستطيع غير الله أن يحققها، لأنها تتصل بوحدانية القدرة لديه.

﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً﴾ ترتاح إليها نفسي، ويطمئن لها قلبي، فأعرف أن هذه البشارة، المعجزة، هي منك، وحدك، لا من غيرك لتكون المعجزة في حياتي هي الدليل على المعجزة القادمة و ﴿قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا([28])، وذلك بأن يحتبس لسانك، فلا تقدر على النطق في هذه المدة، من دون علة أو صدمة، ولكن بقدرة الله، فتلك هي الآية المطلوبة في الدلالة على أن كل ما بك وما ينتظرك فهو من الله»([29]).

 وقفة قصيرة:

   إن هذا البعض يطرح أموراً لم نعرف ما هي المبررات لطرحه لها بهذه الطريقة، فنلاحظ ما يلي:

   1 ـ إنه يذكر: أن زكريا «عليه السلام» لم يطمئن إلى أن ذلك الذي يكلمه هو ملك يوحى إليه من عند الله، حتى طلب معجزة تركّز عنده القناعة، وترتاح إليها نفسه، فكان له ما أراد..

وهذا الأمر يطرح أموراً:

أولها: إن ذلك يجعل كثيراً من موارد الوحي المشابه تتطلب إظهار معجزة تبعث الطمأنينة في نفس الموحى إليه في أن يكون الذي يكلمه هو جبرئيل.

الثاني: إننا لم نعرف من أين عرف ذلك البعض: أن طلب الآية قد كان لأجل الحصول على الطمأنينة لزكريا «عليه السلام» بحقيقة الوحي؟!

فلعل الآية كانت لأجل أمر، أو أمور أخرى غير ذلك، مثل: أن يقنع قومه بالحقيقة التي سيفاجئهم بها.

الثالث: من أين عرف ذلك البعض: أن زكريا «عليه السلام» لم يكن يعرف طبيعة الذي كان يكلمه، هل كان ملكاً أو غيره‍ا؟! ومن أين عرف ذلك البعض أيضاً: أنه كان على شكل صوت لا يرى صاحبه؟! فليس في الآية ما يدل على ذلك.

ومن الممكن أن يكون ذلك الوحي قد جاء به الملك الذي يعرفه، ولم يزل يأتيه طيلة عشرات السنين التي مضت من نبوته، حيث كان قد بلغ ﴿مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا([30])، حسب نص الآيات القرآنية التي هي مورد البحث.

على أن قوله في الآية: ﴿كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ([31]). ليس بالضرورة أن يقوله غير الله، فلعل ربه هو الذي كلمه بهذه الطريقة.

2 ـ من أين عرف ذلك البعض: أن السؤال قد انطلق من زكريا بما يشبه الصراخ العنيف.. فيما توحي الآية!! حتى إن المرء ليخال: أن ثمة مشادة أو معركة كلامية يفتعلها زكريا «عليه السلام» مع أنه في مقام يتكلم فيه مع ربه، والمقام مقام بشارة؟!

ولا ندري كيف انتهى هذا الإشكال دون عزل زكريا عن منصبه؟!

وكيف توحي الآية بذلك؟! وأي كلماتها يوحي بالصراخ العنيف؟!

3 ـ من أين عرف: أن زكريا «عليه السلام» كان لا يعتقد أن الله يتدخل في الأمور بشكل غير عادي لمصلحة شخص معين؟! فلعله كان يعتقد: أنه تعالى يفعل ذلك، لكنه أراد بسؤاله أن يعرف إن كانت حالته ستكون هي الأخرى من بين مفردات ذلك أم لا..

ومن الواضح: أن زكريا «عليه السلام» كان يعرف أن ولادة إسماعيل «عليه السلام» كانت بعد شيخوخة أبيه إبراهيم.

وكان يعرف أيضاً: أن النار كانت برداً وسلاماً على إبراهيم، حينما ألقي إبراهيم فيها.

ويعرف أيضاً: ما جرى لمريم «عليها السلام»، وهي ترى المعجزات حين حملها بعيسى «عليه السلام» وولادتها له، كتساقط الرطب الجنيّ عليها في غير أوانه.. وأوضح من هذا كله: أنه «عليه السلام» كان كلما دخل على مريم المحراب ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً.. ([32]).

..وهو نفسه يعرف قصة يونس والحوت، ويعرف ما جرى لأهل الكهف، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى..

4 ـ وأما قوله: إنه كان يعتقد باستحالة أن يولد له، ثم قوله: إنه ربما كان يتصور أن دعاءه بالولد كان يدخل في نطاق التمنيات.. من دون أن يكون له طمع كبير في حصولها. ثم قوله: إن زكريا كان يعتقد: أن الله قد جعل الحياة كلها خاضعة للسنن الكونية في وجود الأشياء وفي حركتها العامة والخاصة.

   إن ذلك كله يرد عليه: أن من يعتقد ذلك لا يمكن أن يكون له أدنى طمع في استجابة دعائه. فما معنى ذلك الدعاء إذن؟! وما هو المبرر لتلك التمنيات التي تصبح مجرد خيالات لا مورد لها من نبي يفترض فيه أن يفكر فيما ينفع ويجدي؟!

5 ـ لا نعرف المبرر لأن يكون زكريا «عليه السلام»: «لا يعتقد أن الله يتدخل في الأمور بشكل غير عادي لمصلحة شخص معين، بعد أن جعل الحياة كلها خاضعة للسنن الكونية في وجود الأشياء وفي حركتها العامة والخاصة».

   ومن قال: إن ما حصل له كان منافياً للسنن الكونية؟!

فهل كان زكريا يجهل كل تلك التدخلات الغيبية في الشؤون العامة والخاصة التي لا تكاد تحصى، بدءاً من قضية الطوفان ومروراً بما جرى على إبراهيم «عليه السلام»، وموسى «عليه السلام»، وعيسى «عليه السلام»، ونوح «عليه السلام»، ويونس «عليه السلام»، ولوط «عليه السلام»، وصالح «عليه السلام»، وسليمان «عليه السلام»، وداود «عليه السلام».. وغير ذلك مما ذكره الكتاب العزيز؟!

   أم أنه «عليه السلام» كان ـ والعياذ بالله ـ يذهب مذهب اليهود والضالين الذين قال الله عنهم:

﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾؟!([33]).

425 ـ يحيى ليس نبياً.

يقول البعض:

   «أولئك الذين أنعم الله عليهم فكيف جزاء من بعدهم:

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا([34]).

   ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ وهم هؤلاء الذين تقدمت الإشارة إليهم، فيما قصه الله من أمرهم، بالإجمال أو التفصيل، وهم زكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس الذين انعم الله عليهم بالإيمان الخالص التوحيدي الذي ينفتح على الله بروحية العبد الطائع الذي أخلص لله في العقيدة، وفي الطاعة واعطى من فكره وعمله الرضا لله، فلم يغضب عليه لتمرده ولا لضلاله ومن النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح من البقية الصالحة من المؤمنين الخالصين الذين آمنوا بنوح النبي واتبعوه من ذرية ابراهيم واسرائيل الذين امتدت النبوة فيهم وتحولت إلى خط متحرك في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا﴾ من الذين هداهم الله بما أفاض عليهم من نور البصيرة، وانفتاح العقل، وصفاء الروح، ومسؤولية الحركة، واستقامة الطريق، ووضوح الهدف، وتقوى الفكر والعمل.

   وقد يكون المراد من كل هؤلاء هم النبيون الذين أنعم الله كما قد يلوح من عنوان الآية التي حددت المشار إليهم بالنبيين، ولكننا عندما نلاحظ ذكر اسم مريم، ويحيى، وهماً ليسا من الأنبياء فقد نستوحي من ذلك ان المسألة اشمل من ذلك وتكون الإشارة إلى هؤلاء على أساس انهم يمثلون النموذج الأكمل للمهتدين الذين انعم الله عليهم بالإيمان والتقوى، واجتباهم لرسالته ولدينه ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ فيما يمثله السجود من خضوع لله في الشعور العميق بالعبودية، وفيما يعبر عنه البكاء من إحساس بالروحية الفياضة الخاشعة إمام خوف الله، ومحبته في انفعال إيماني عميق بالمضمون الروحي لآيات الله، والإشراق الفكري لمعانيها.. وهكذا كان هؤلاء الرواد طليعة البشرية»([35]).

وقفة قصيرة:

ومن الواضح: أن يحيى «عليه السلام» كان من أنبياء الله المرسلين، كما صرح به القرآن، حيث يقول لزكريا: ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ([36]). وراجع الآيات التي نزلت في سورة الأنعام (83 ـ 90) حيث عدت يحيى «عليه السلام» في جملة الأنبياء.

   هذا البعض يرى: أن يحيى «عليه السلام» لم يكن نبياً. وذلك مخالف لصريح القرآن، ولإجماع المسلمين كافة.

   ولا ندري السبب في حكمه هذا، وقد كان يحيى «عليه السلام» معاصراً لعيسى «عليه السلام»..

426 ـ إنكار نبوة عيسى وهو في المهد صبياً.

427 ـ رد كلام الأئمة في الاستدلال بالآية على إمامة الجواد «عليه السلام».

يقول البعض:

   «..﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا([37]). وهكذا أراد أن يتحدث إليهم عن صفته المستقبلية فيما يريد الله أن يمارس من دور أو يقوم به من مسؤولية، فهو مهما أحاط به من أسرار في خلقه وفي قدراته لا يبتعد عن عبوديته لله»([38]).

وقفة قصيرة:

إن من الواضح أن كلمة: ﴿آَتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ تدل على أن ذلك قد حصل في الماضي. أي أن الله سبحانه قد أعطاه ذلك في وقت سابق على موقفه هذا الذي يكلمهم فيه.

وقد استدل الأئمة «عليهم السلام» بهذه الآية بالذات على إمامة الإمام الجواد «عليه السلام» في صغره وفقا لما هو ظاهرها الذي هو حجة فراجع([39]).

كما أنه لا شك في صلاحيتها للاستدلال على إمامة الإمامين الهادي والمهدي «عليهما السلام»، فتأمل وتنبّه.

أضف إلى ذلك: أن كلمة: جعلني، وآتاني إذا كانت تتحدث عن المستقبل، فإن قوله: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا([40]) أيضاً هي إخبار عن المستقبل، وهي تشعر بنفي البركة الفعلية عنه، مع أن كونه مباركا بالفعل وفي كل لحظات حياته، مما لا شك فيه ولا شبهة تعتريه، فلماذا هذا الإشعار بأمر لا حقيقة له؟!

   فما معنى حمل الآية: على أن عيسى «عليه السلام» أراد أن يخبرهم عن أنه سيحصل على درجة النبوة في المستقبل. وأن الله سيؤتيه الكتاب، وسيجعله نبياً. وقد كان بالإمكان أن يقول: سيؤتيني الكتاب، وسيجعلني نبياً، وسيجعلني مباركاً. مع عدم وجود قرينة حالية ولا مقالية على إرادة زمن الاستقبال في الآية؟!

بل في صحيحة يزيد الكناسي قال:

«سألت أبا جعفر «عليه السلام» أكان عيسى بن مريم «عليها السلام» حين تكلم في المهد حجّة لله على أهل زمانه؟!

فقال: كان يومئذ نبياً حجّة لله غير مرسل. أما تسمع لقوله حين قال: إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا([41])»([42])..


([1]) الآية 24 من سورة ص.

([2]) الآية 25 من سورة ص.

([3]) الآية 25 من سورة ص.

([4]) الآيتان 22 و 23 من سورة ص.

([5]) الآية 24 من سورة ص.

([6]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج19 ص278.

([7]) الآيات 17 ـ 26 من سورة ص.

([8]) فكأنه قال له: أرأيت لو كنا واحتكمنا اليك.. فقال له انك مظلوم لو لم يأت خصمك بحجة بينة.

([9]) راجع: تفسير الميزان ج17 ص193 ـ 194 وراجع تنزيه الأنبياء ص127 ـ 130.

([10]) الآية 20 من سورة ص.

([11]) الآية 25 من سورة ص.

([12]) الآية 24 من سورة ص.

([13]) الآية 31 من سورة ص.

([14]) الآية 32 من سورة ص.

([15]) الآية 33 من سورة ص.

([16]) الميزان في تفسير القرآن ج17 ص304.

([17]) نفس المصدر ص307.

([18]) الآية 34 من سورة ص.

([19]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج 19 ص 289 ـ 294.

([20]) الآيات 30 ـ 40 من سورة ص.

([21]) تنزيه الأنبياء ص132 والبحار ج 14 ص102.

([22]) الآية 30 من سورة ص.

([23]) تنزيه الأنبياء ص132 والبحارج14 ص102.

([24]) الآية 7 من سورة مريم.

([25]) الآية 8 من سورة مريم.

([26]) الآية 9 من سورة مريم.

([27]) الآية 9 من سورة مريم.

([28]) الآية 10 من سورة مريم.

([29]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج 15 ص 16 ـ 18

([30]) الآية 8 من سورة مريم.

([31]) الآية 9 من سورة مريم.

([32]) الآيتان 38 و 38 من سورة عمران.

([33]) الآية 64 من سورة المائدة.

([34]) الآيات 58 ـ 63 من سورة مريم.

([35]) من حي القرآن (الطبعة الأولى) ج15ص60 ـ 61.

([36]) الآية 39 من سورة آل عمران.

([37]) الآية 30 من سورة مريم.

([38]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج15ص37.

([39]) راجع الكافي ج1 ص 322 و 494 و 384 و 382 و 383 وبحار الانوار ج 50 ص 23 و 24 و 34 وراجع ص 21 و 35.

([40]) الآية 31 من سورة مريم.

([41]) الآيتان 30 و 31 من سورة مريم.

([42]) الكافي ج 1 ص 382 و 383.

 
   
 
 

موقع الميزان