الفصل الأول
قافة!!
ومعارف نبينا الأعظم

428 ـ النبي لا يعرف اللغات.
429 ـ النبوة لا تقتضي التفوق المطلق
في كل شيء.
430 ـ لا مانع من التفوق كميزة شخصية
لا كميزة نبوية قيمة.
431 ـ التفوق الشخصي في أكثر الصفات لا
في جميعها.
يقول البعض:
«وتتحدث بعض الآيات عن موضوع العلم باللغات، لتشير إلى
أن ذلك وارد بالنسبة إلى النبي، وذلك في قضية اتهام الكفار للنبي، بأن
هناك إنساناً يقوم بتعليمه، فيجيء الرد القرآني عليها حاسماً، على أساس
أن هذا الشخص الذي ينسبون إليه تعليم النبي من الأعجميين، بينما نجد
القرآن عربياً مبيناً.. فكيف يمكن أن تصح التهمة.. ومن الطبيعي أن هذا
الرد لا يصلح لإفحام الكفار إلا إذا كان النبي لا يعلم لغة هذا
الأعجمي.. لأنه ـ في هذه الحالة ـ لا يستطيع أن يفهم منه، أو يقوم
بمهمة الترجمة لما يمليه عليه ذلك من أحاديث التوراة والإنجيل
وغيرهما؟!
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ
نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ
الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ
مُبِينٌ﴾([1]).
إننا نتحفظ في ذلك، في إطار الفكرة التي تربط النبوة
بالتفوق المطلق في كل شيء، لأن النبوة لا تقتضي ذلك الذي يقررونه كله..
ولكننا لا نمانع في أن يكون للنبي أكثر الصفات المذكورة من ناحية
واقعية موضوعية.. كميزة شخصية خاصة، لا كميزة نبوية حتمية في حساب
الحكم العقلي القاطع ـ كما يقولون»([2]).
ونقول:
1 ـ إن الآية التي استدل بها لا ربط لها بمسألة معرفة
النبي «صلى الله عليه وآله» باللغات؛ لأنها إنما تتحدث عن دعواهم: أن
هذا القرآن المعجز لهم في بلاغته الفائقة هو من صنع إنسان بعينه، فهو
ليس وحياً من الله سبحانه، ولا هو من إنشاء النبي محمد «صلى الله عليه
وآله»..
وكأنهم لا يريدون نسبة ذلك إليه، لأن ذلك يستبطن
الإعتراف له بالتفوق عليهم، حين قام بما عجزوا هم عنه، كما أنهم يدعون:
إن منشئ القرآن هو رجل أعجمي ـ وربما يقصدون أنه من أهل الكتاب، لأنهم
كانوا مبهورين بهم، ويعتبرونهم هم مصدر المعارف الدينية، وينظرون إليهم
نظر التلميذ إلى معلمه، وعلى هذا الأساس فإنهم ينسبون ما جاءهم به من
معارف دينية، وتفصيلات إيمانية وغيرها إليهم، على اعتبار أنه لابد أن
يكون قد أخذه من واحد من هؤلاء.
فجاء الرد القرآني الإلهي على هذه الدعوى الزائفة
ليقول: إن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من إنشاء بشر، بل البشر يعجزون
عنه، فكيف إذا كان هؤلاء البشر لا يعرفون اللغة العربية، وهذا القرآن
لسان عربي مبين؟!.
ولم تتحدث الآية عن أمر الترجمة لما يمليه ذلك الأعجمي
على النبي «صلى الله عليه وآله» من أحاديث التوراة والإنجيل.
2 ـ ما هو المبرر لحكمه بأن النبوة لا تقتضي التفوق
المطلق على سائر البشر من غير الأنبياء؟!، فإن النبوة إذا كانت اصطفاءً
إلهياً، واجتباءً ربانياً، فما هو معنى أن يختار الله سبحانه ـ المفضول
ويترك الفاضل؟! كما قرره هذا البعض ـ حسبما نقلناه عنه في هذا الكتاب ـ
وكيف رجح ذاك على هذا؟!. ما دام أن من يرى لنفسه امتيازاً على غيره في
أي مجال كان، ولو في مجال اللغات، سيجد في نفسه حالة من الترفع والإباء
عن الإنقياد وإخلاص الطاعة لذلك الغير الأقل منه، ولن يكون ذلك السخي
بكل شيء، حتى بروحه وولده امتثالا لأوامره.
بل سيجد نفسه غالياً ونفيساً لا يدرك الآخرون قيمته،
ولذلك يفرطون فيه خصوصاً وأن ذلك النبي سيكون معذوراً بجهله، الذي اذا
فتح بابه فإن احتمالاته سوف ترد في مختلف الشؤون والحالات..
نقول هذا.. بغض النظر عما يستند إليه علماؤنا من أدلة
قاطعة وبراهين ساطعة، ومنها الروايات الكثيرة، والمتنوعة بدرجة كبيرة،
مما دل على أكملية الأنبياء والأوصياء على البشر جميعاً في جميع
الحالات والشؤون، وعلى تفوقهم عليهم في مختلف العلوم والفنون، حتى أن
الله سبحانه قد علم أنبياءه حتى منطق الطير، والحيوان، وسخر لهم الريح،
وعفاريت الجان.
ولهذا البحث مجال آخر..
3 ـ إن الآية إنما تنفي علم النبي باللغات من خلال
تعلمه إياها من البشر.. فلو أنه «صلى الله عليه وآله» قد علم اللغات
بواسطة التعليم الإلهي، فإن ذلك يكون دليلا على ارتباطه بالغيب.. وكفى
في ذلك دليلا على أنهم مبطلون في ما يوجهونه إليه من اتهامات.
وبنفس هذا التقرير نجيب على السؤال الذي يطرح عن أمّية
النبي «صلى الله عليه وآله»، حيث نقول:
إن المقصود:
هو أن الناس يرون أمّية رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، فإذا جاء وحي معجز، وعلم غيبي، واطلاع عظيم على أسرار الخلق
والخليقة ومعرفة باللغات وعلم مفاجئ بالقراءة والكتابة فإن ذلك لابد أن
يبهرهم، ويقهر عقولهم، ويضطرهم للبخوع والتصديق بنبوته، وليس المراد
أنه لابد أن يبقى أمياً عاجزاً عن القراءة والكتابة إلى آخر حياته، كما
ربما يتخيل البعض.
4 ـ يضاف إلى جميع ذلك: أن العرب هم الذين ادعوا: أن
أهل الكتاب قد علّموا النبي هذا القرآن، وإذا كان الذي قصدوه ذا لسان
أعجمي، فإن الرد يكون عليهم، بأن هذا القرآن لسان عربي مبين، فكيف يحسن
ذلك الأعجمي الترجمة بهذا المستوى من الإعجاز، ويعجز العربي نفسه عن
إنشاء مثل هذا القرآن؟!
432 ـ مهمة الأنبياء هي ـ فقط ـ التبشير والإنذار.
433 ـ الله يعلم الأنبياء ما يحتاجونه
في نبوتهم، لا أزيد من ذلك.
434 ـ لا دليل على لزوم كون النبي «صلى
الله عليه وآله» أعلم الأمة في كل شيء.
435 ـ قد يعلم الله نبيه ما يحتاجه في
مهمته الرسالية ـ وقد لا يعلمه ـ.
436 ـ ليس من الضروري أن يعلم النبي
علم الذرة والكيمياء.
437 ـ علم الذرة والكيمياء والفيزياء،
لا صلة لها برسالات الأنبياء.
سئل البعض:
النبي أو الإمام إما أن يكون هو الأعلم أو لا يكون،
فإذا لم يكن الأعلم، فهناك من يستحق هذا المنصب غيره لأنه أعلم وأفضل
منه.
وإن كان هو الأعلم، فبناء على ذلك يجب أن يكون أعلم
أمته، وأعلم السابقين واللاحقين، وذلك طبعا بلطف من الله، وهذا يعني
أيضاً أن يكون مستوعباً لآخر العلوم والمكتشفات، وبالتالي يكون لديه
علم الغيب، فكيف يكون ذلك؟!
فأجاب:
«نحن نتكلم استناداً إلى القرآن، فالله أرسل الأنبياء
مبشرين، ومنذرين ﴿وَمَا
نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾([3])،
﴿وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾([4])،
﴿يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾([5])،
والله يعلم نبيه، ويعلم أولياءه من الغيب، ما يحتاجونه في نبوتهم، وليس
من الضروري أن يعلموا الغيب كله، كما يقول السيد المرتضى.. فليس من
الضروري: أن يعلم النبي علم الذرة، وعلم الكيمياء، وعلم الفيزياء،
لأنها ليست ذات صلة برسالتهم، أما وجوب ان يكون النبي أعلم الأمة، في
كل شيء حتى ما لا علاقة له بمهمته الرسالية، ولكن الله قد يعلمه من ذلك
ما يحتاجه فيه أو إذا أراد علم، فليس لدينا دليل على هذا»([6]).
ونلاحظ هنا ما يلي:
1 ـ اذا كان الله سبحانه قد أرسل أنبياءه مبشرين
ومنذرين، فلا يعني ذلك أن مهمتهم محصورة في ذلك.. وما ورد من ذلك في
بعض الآيات القرآنية لابد أن يتكامل وينضم إلى ما ورد في الآيات
الأخرى، كقوله تعالى: ﴿هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ﴾
([7]).
وفي هذا الكتاب تبيان كل شيء.
وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
([8]).
وقال سبحانه: ﴿وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾
([9]).
والمراد بكافة للناس، أي من يكف الناس عن تجاوز
الحدود..
وقال: ﴿أَطِيعُوا
اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾([10]).
وقال: ﴿يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلهِ وَالرَّسُولِ﴾
([11]).
وقال سبحانه: ﴿كَتَبَ
اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
([12]).
وكل ذلك يدل على أن مهمة الأنبياء لا تقتصر على التبشير
والإنذار، بل فيها سلطة، وتحتاج إلى نصرة بالغيب. وسيكون فيها غلبة من
موقع العزة والقوة.. كما أن جعل الأنفال والخمس لرسول الله «صلى الله
عليه وآله»، واعتباره كافة ومانعاً للناس عن تجاوز الحدود، وإعطاءه
مقام الشفاعة، وإعطاءه مقام الشهادة على الخلق.. إن كل ذلك وسواه مما
يضيق المقام عن تعداده. يعني: أن النبي ليس مجرد بشير ونذير، وشهادته
على الخلق تستدعي أن يملك قدرات يستطيع من خلالها أن يطلع على أعمال
الخلائق الجوارحية والجوانحية، ومنها: عقائدهم، ونواياهم، وأحاسيسهم،
ومشاعرهم، من حب، وبغض، وحقد، وحسد، ورأفة، وقسوة قلب، وما إلى ذلك مما
يدخل في دائرة الأمر والنهي.. وذلك ليستطيع أن يشهد عليهم، ﴿رَسُولًا
شَاهِدًا عَلَيْكُمْ﴾([13])،
﴿يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾([14])
وكذلك الإمام، وكذلك السيدة الزهراء «عليها السلام» باعتراف هذا البعض،
ولأجل ذلك، فإننا لا نستغرب إذا سمعنا، وقرأنا: أن النبي «صلى الله
عليه وآله» كان يرى من خلفه، كما يرى من أمامه، وأنه تنام عيناه، ولا
ينام قلبه.. وأنه يرفع للإمام عمود من نور فيرى أعمال الخلائق، وأنها
تعرض عليه دورياً..
وأنه «صلى الله عليه وآله» كان يكلم النمل، والشجر
والحجر، وأنواع الحيوانات، وكل قوم بلغتهم.. وإلى آخر ما هنالك مما
يفوق حد الحصر والإحصاء.
ولو كانت القضية تنتهي عند حدود التبشير والإنذار
اللذين قد يقوم بهما حتى غير النبي. أو حتى لو كان الأمر ينتهي عند
حدود الشهادة، لم يكن ثمة حاجة إلى أن يخلق الله أرواح النبي والأئمة
قبل خلق الخلق بألفي عام، وأن يجعلهم أنوارا معلقين بساق العرش، فإن
هذا وسواه كثير مروي في كتب الفريقين من سنة وشيعة.
ولم يكن ثمة حاجة إلى المعراج.. ولا كان لدى وصي سليمان
علم من الكتاب يأتي به بعرش بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس..
وكذلك فإن سليمان وداود «عليهما السلام» لم يحتاجا إلى
علم منطق الطير، ولا إلى أن يلين الله الحديد لداود، ولا إلى تسخير
الريح وغيرها لسليمان..
فإن التبليغ والإنذار، وحتى حكومة الناس بالعدل لا
تحتاج إلى شيء مما ذكرناه.. لو كانت مهمة الأنبياء محصورة بذلك ومقصورة
عليه..
2 ـ إن ما أوكله الله إلى أنبيائه لا يعرف عن طريق
العقل فلا بد من النقل فيرد السؤال: ما هي الآية أو الروايات المفيدة
للقطع ـ حسب ما قرره ذلك البعض ـ التي دلت هذا البعض على أن النبي
والإمام لا يحتاجان إلى علم الذرة والكيمياء، والفيزياء؟! أو أن ذلك
ليس ضرورياً لهما في مهماتهما التي أوكلها الله إليهما؟!، وفي
معارفهما؟! وفي ما يرتبط بتكوين شخصية النبي والإمام؟!، وفي مقام
إعدادهما لهذا المقام؟!.
3 ـ ما الدليل الذي أقامه هذا البعض على: أنه لا يجب أن
يكون النبي والإمام أعلم الأمة في كل شيء.. فإن النفي عنده يحتاج إلى
دليل يفيد اليقين بالنفي ولا يكفي مطلق الحجة.
4 ـ
إن
غاية ما عند هذا البعض هو قوله: «ليس لدينا دليل على هذا»
فالذي ليس لديه دليل على الإثبات هل يكون عدم دليله على
الإثبات دليلا على النفي؟!..
5 ـ إن هذا البعض يدعي: أن علوم الذرة والكيمياء
والفيزياء لا صلة لها برسالتهم..
ومن الواضح: أن نفي الصلة بين الرسالات وبين العلوم
المذكورة يحتاج إلى اطلاع على حقائق الكون، ومعرفة الغيوب بصورة مباشرة
وذلك غير متيسر لنا نحن البشر على الأقل فهل هو متيسر لهذا البعض؟!
وعلى كل حال، فإن السؤال يبقى هو السؤال:
ما هو الدليل على نفي هذه الصلة، فإن هذا البعض نفسه
يقول: إن «النفي يحتاج إلى دليل كما الإثبات يحتاج إلى دليل»؟!
438 ـ النبي لم يكن ملماً بتاريخ
الأنبياء قبل النبوة.
439 ـ قلة وعي النبي للمشاكل التي
تواجهه هي بسبب جهله بتاريخ الأنبياء.
440 ـ لو كان ملماً بتاريخهم لتصرف على
سنة الله في رسله ورسالاته.
441 ـ لو كان ملماً لعرف كيف يخطط على
ضوء تجارب الأنبياء.
442 ـ الله أراد لكل مرحلة أن تستفيد
من التاريخ الرسالي للمرحلة السابقة.
443 ـ الإستفادة لكل مرحلة لا تتحقق
الا بالوحي الإلهي الذي يقص عليه أنباء الرسل.
444 ـ الله لم يكن قد زوّد رسوله بكل
تعليماته وتشريعاته وتوجيهاته.
445 ـ القرآن يؤكد جهل النبي بالأديان
السماوية قبله.
446 ـ النبي كان له مستوى ثقافي عال.
447 ـ المستوى الثقافي للنبي هو من
خلال تجاربه.
448 ـ المستوى الثقافي للنبي هو من
خلال تأملاته.
449 ـ المستوى الثقافي للنبي هو من
خلال ملكاته الفكرية والروحية.
ويقول البعض في تفسير قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا
نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ
فُؤَادَكَ﴾([15]).
وقوله: ﴿وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً
وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلًا﴾([16]).
ـ يقول ـ ما يلي:
«وربما كان المراد به التقوية للروح النبوية في حركة
التفاصيل ليواجه المواقف من خلالها بالصلابة الثابتة التي لا تهتز أمام
التحديات من خلال الحديث عن تاريخ الأنبياء الذي لم يكن ملما به قبل
نزول القرآن ليزداد بذلك وعيا للمشاكل التي تعيش في حركة الرسالة في
الواقع، وليتصرف ـ من خلال ذلك ـ على سنة الله ورسله ورسالته ليعرف كيف
يخطط الخطة في اتجاه الوصول إلى الهدف على ضوء تجارب الأنبياء في واقع
النبوات، لأن الله أراد للتاريخ الرسالي أن تقدم كل مرحلة تجربتها
للمرحلة الأخرى، وأن يوحي كل نبي من خلال تاريخه بنتاج حركته للنبي
الآخر، ولن يكون ذلك إلا بالوحي الإلهي الذي يقص عليه أنباء الرسل ما
يثبت به فؤاده.
أما في الآية الثانية، فإنها تتحدث عن جزئيات التحديات
في التطورات السلبية أو الإيجابية التي تعيشها الرسالة، ويواجهها الرسل
في التجربة الرسالية في الحرب والسلم، لتمنح كل موقف حكمه، ولكل مشكلة
حلها، ولكل معركة سلاحها، ولكل تجربة درسها، لأن الله كان ينزل آياته
تبعاً لحاجة الواقع الذي يبحث عن الأجوبة في أكثر من علامات الاستفهام،
ولم يكن قد زود رسوله بكل تعليماته، وكل تشريعاته وتوجيهاته له
وللمسلمين، ولذلك كان النبي «صلى الله عليه وآله» يردد كلمته المأثورة
ـ عند إلحاح المسلمين عليه في إصدار الموقف الحاسم ـ (إني أنتظر أمر
ربي) لأن ذلك هو الذي يعمق في نفوس المسلمين أن النبي لم يصدر فيما
يبلغه أو يعالجه من موقف ذاتي، بل من وحي إلهي، حتى لا تختلط لديهم
شخصية الذات في تصورهم للجانب الذاتي للرسل مما قد يملكون الحرية في
قبوله أو رفضه ـ كما يتخيلون ـ وشخصية الرسول في حديثه عن الله مما لا
بد لهم أن يقبلوه من دون مناقشة على اساس الخط الشرعي الإسلامي الذي
جاء في قوله تعالى:
﴿وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾([17]).
ولذلك كانوا يسألونه ـ حسب رواية السيرة ـ عن كل ما
يصدره: هل هو رأي ارتأيته أو هو وحي من الله ليحددوا موقفهم منه على
أساس تحديد ذلك، لكننا نرى: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن له
شخصيتان في حركته الرسالية في الشؤون الخاصة والعامة، لأنه كان يمثل
التجسيد الحي للرسالة فهو القرآن الناطق الذي يتمثل القرآن الصامت في
كل سيرته قولاً أو تقريراً:
﴿وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾([18])،
و ﴿فَلَا
وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾([19]).
﴿لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ
يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾([20]).
فهو القدوة والأسوة في كل شيء، فكيف يكون له شخصيتان في
سلوكه العملي مع الناس، لتختلف فيه شخصية الإنسان عن شخصية الرسول؟!
أما تثبيت الله للذين آمنوا، فإنه يحصل من خلال القرآن الذي يعمق فيهم
الإيمان بالله، ويفتح لهم آفاق المعرفة بالله، وبخلقه وبمنهجه ورسالته
وشريعته..»([21]).
ويقول في مورد آخر:
«وعلى ضوء ذلك كله لا بد لنا من استيحاء القرآن في سيرة
النبي محمد «صلى الله عليه وآله» لنبدأ من ثقافته قبل النبوة، هل درس
الانجيل في تلك المرحلة؟ وهل كان مطلعاً على التفاصيل التاريخية
للأنبياء، وهل كان يقرأ أو يكتب؟!
إن الصورة القرآنية تؤكد أن النبي «صلى الله عليه وآله»
لم يكن ملماً بذلك كله، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:
﴿وَأَنْزَلَ
اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ
تَعْلَمُ﴾([22])»([23]).
ويسأل هذا البعض أيضاً:
ما المستوى الثقافي الذي كان عليه النبي «صلى الله عليه
وآله» قبل نبوته؟!
فيجيب:
«لا بد لنا من استيحاء القرآن في سيرة النبي محمد «صلى
الله عليه وآله» لنبدأ من ثقافته قبل نبوته، فالصورة القرآنية تؤكد أن
النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكون (كذا) ملماً بالاديان السماوية
التي جاءت من قبله، وانه لم (كذا) يجيد القراءة أو الكتابة فقد جاء في
القرآن الكريم:
﴿وَأَنْزَلَ
اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ
تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾([24]).
﴿وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي
بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ﴾([25]).
﴿ذَلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾([26]).
﴿ذَلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾([27]).
﴿وَمَا
كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ﴾([28]).
﴿قُلْ
لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ
فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾([29]).
وهكذا جاء القرآن ليؤكد أن النبي «صلى الله عليه وآله»
لم (كذا) يمارس القراءة والكتابة: ﴿وَمَا
كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾([30]).
وقد كان ذلك كحجة على النبوة في عمقها الغيبي لأن هذه
الشمولية الثقافية لا يمكن أن تكون منطلقة من الجهد البشري من إنسان لم
تكن له أية تجربة ثقافية من خلال اطلاعه على مصادر المعرفة الكتابية أو
غيرها.
ولكن ليس معنى ذلك أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان
لا يملك المستوى الثقافي العالي من خلال تأملاته وتجاربه والألطاف
الإلهية عليه في ملكاته الفكرية والروحية من خلال إعداد الله له للمهمة
الكبرى في الرسالة الإسلامية»([31]).
ونقول:
1 ـ ان الصورة القرآنية تؤكد أن النبي «صلى الله عليه
وآله» كان يعرف ملة أبيه إبراهيم شيخ الأنبياء «عليه السلام»، وكان
متبعاً لها وملتزماً بها قال تعالى: ﴿ثُمَّ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾([32]).
2 ـ إن الآيات التي استشهد بها على أقواله لا تدل على
ما يرمي إليه، وذلك لأن بعضها ـ كآية سورة النساء، وفيها: ﴿وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾.
يدل على أن ما عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» من
معارف إيمانية ومن حكمة وكتاب إلهي هو من الله سبحانه، وقد علم الله
سبحانه نبيه بالإضافة إلى ذلك أموراً لم يكن «صلى الله عليه وآله»
عالماً بها..
وذلك لا يعني: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن
ملماً بالأديان قبل أن يبعثه الله رسولاً، إذ إن قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾([33])،
لم تبين لنا متى علمه ذلك، كما أنها لم تحدد الأمور التي علمه إياها،
فهل علمه الأديان السماوية التي سبقته؟!، أو أنه علمه التفاصيل
التاريخية لحياة الأنبياء؟!، أو علمه أسرار الخلق والخليقة، وألف باب
من العلم يفتح له من كل باب ألف باب.. وهي التي علمها «صلى الله عليه
وآله» لأمير المؤمنين علي «عليه الصلاة والسلام»؟!.
إن ذلك لم يتضح من الآية.. فكيف اتضح لذلك البعض أن
المقصود هو هذا دون ذاك؟!
على أن قوله «صلى الله عليه وآله»: «كنت نبياً وآدم بين
الماء والطين». وكونهم أنواراً بعرشه محدقين أو معلقين بساق العرش قبل
خلق الخلق بألفي عام يشهد بأن علمهم سابق حتى على خلق الخلق فلماذا
العجب إذن إذا حدثت فاطمة أمها وهي في بطنها وما إلى ذلك؟!..
3 ـ وأما آية سورة الشورى، فإن قوله: ﴿مَا
كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾([34])
لا يريد به
نفي ذلك عنه قبل بعثته كرسول، وإلَّا لزم أن يكون «صلى الله عليه وآله»
ـ والعياذ بالله ـ كافراً قبل البعثة، لأنه نفى عنه صفة الإيمان
أيضاً.. وذلك لا يمكن أن يصح. مما يعني: أن المراد بالآية أنه «صلى
الله عليه وآله» إنما تلقى الوحي بواسطة الروح من قبل الله سبحانه..
فقولهم: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
اكْتَتَبَهَا﴾([35])،
وقولهم: ﴿إِنَّمَا
يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾([36])،
ونحو ذلك، باطل لا يصح.
فالمراد بالآية: أنك يا محمد لولا وحينا لك بواسطة
الروح، وهو جبرئيل لم تكن تدري ما الكتاب. ولولا هدايتنا لك بالفطرة،
وبحكم العقل الصر يح لم تكن تدري ما الإيمان.
ويبقى سؤال:
متى كان هذا الوحي له «صلى الله عليه وآله»؟!
ويأتي الجواب:
أن الروايات قد دلت: على أنه «صلى الله عليه وآله» قد
كان نبياً قبل أن يكون رسولاً، بل دلت الروايات: على أن نبوته قد بدأت
من حين ولادته «صلى الله عليه وآله».
4 ـ وأما آية سورة آل عمران: ﴿وَمَا
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾([37])،
فهي واضحة الدلالة على أن المراد: أن الوحي هو الذي أعلمك يا محمد
بأنهم قد ألقوا أقلامهم أيهم يكفل مريم إلخ.. ولولا الوحي فإنك لا
تستطيع معرفة ذلك، أما متى كان هذا الوحي فقد أشرنا إلى أن الروايات هي
التي تحدِّد ذلك فقد يكون منذ الولادة حيث بدأت النبوة، وقد يكون
بعدها.
5 ـ وكذلك الحال بالنسبة لآية سورة يوسف، وهو قوله
تعالى: ﴿ذَلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾([38]).
فإنها دالة على أن معرفته «صلى الله عليه وآله» بتلك الأخبار الغيبية
إنما كانت عن طريق الإنباء والوحي، لكنها لا تعيِّن لنا متى كان ذلك،
فلعله كان قبل سنوات من البعثة، لكنه لم يؤمر بإبلاغه إلى أن يحين
وقته، وقد حان وقته الآن.
6 ـ ونفس هذا الكلام يجري بالنسبة لآية سورة القصص:
أعني قوله تعالى: ﴿وَمَا
كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ﴾([39])،
فإن المراد بها: أن إنزال القرآن عليه كان رحمة من الله، فرجاؤه إنما
هو سبيل رجاء الرحمة الإلهية.
ولا دليل يثبت أن حدوث هذا الرجاء كان حين البعثة، فلعل
رجاءه هذا قد بدأ في أول لحظات حياته، ومنذ امتلك الشعور والإدراك.
7 ـ أما آية سورة يونس: ﴿قُلْ
لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾([40]).
فإنها تدل: على أنه إنما أذن الله سبحانه له في تلاوة القرآن عليهم بعد
مضي وقت طويل قبل ذلك..، ولكن ذلك لا يعني: أن القرآن قد نزل عليه في
أول يوم بعثته إليهم كرسول، فلعله نزل عليه قبل سنين كثيرة، لكن الله
لم يأذن له بتلاوته عليهم إلا في هذا الوقت..
8 ـ وأما آية سورة العنكبوت: ﴿﴿وَمَا
كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ﴾([41]).
فلا تدل على أنه لم يكن يعرف القراءة، بل هي تتحدث عن التلاوة التي هي
إلقاء الكلام ولو عن ظهر قلب.
فالمقصود: أنه لم يتل أياً من كتب السابقين.. كالتوراة
والإنجيل ونحوهما قبل أن ينزل القرآن عليه، فالقرآن هو أول كتاب تلاه
وألقاه.
بل هي لا تدل أيضاً على أنه لم يكن يعرف الكتابة، لأنها
إنما تتحدث عن أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن يخط الكتب السالفة
بيمينه.. فكيف يتهمونه بأمر ما رأوه قد مارسه، ولا يوجد أي دليل على
أنه اطلع على أي كتاب سابق.. لا من خلال تلاوته له، ولا من خلال كتابته
لمضامينه، فما هو المبرر لاتهامه بأنه قد استفاد من تلك الكتب إلا مجرد
الحدس والتخمين، والرجم بالغيب.
الأمر الذي من شأنه أن يسقط اتهاماتهم عن أية قيمة،
لعدم وجود أساس معقول لها.
فاتضح مما تقدم:
أن ما ذكره في معنى الآيات ليس هو المعنى النهائي، الذي
لا محيص عنه فيها، بل إن هناك معاني محتملة، وقريبة لها، فلا مبرر
للإستدلال بها.
هذا.. وقد أشرنا فيما سبق أن أمّية النبي لا تعني نقصاً
فيه، بل هي غاية الكمال، لأنها تعني أن هذا الذي لم يقرأ ولم يكتب ها
هو في لحظة واحدة يصبح عارفاً أدق المعرفة وأشملها لعلوم ولأمور لم تمر
عليه من قبل.. حتى إن لم يكن يقرأ فصار يقرأ ولم يكتب فصار يكتب مع عدم
تعلمه لهذه الأمور من قبل.. مما يدل على أن قد حدث له حدث فريد، وهو
اتصاله بالغيب وصدقه فيما يدعيه من الوحي الإلهي، فعدم معرفته بالقرآءة
والكتابة وعدم تلقيه معارفه عن طريقها غاية الكمال له.. لأنه قد أصبح
يملك أدق المعارف والعلوم وأوسعها من دون الإستعانة بكتابة أو قرآءة
وهذا غاية الكرامة والفضل، ولكن جهلنا نحن بالقرآءة والكتابة يعد نقصاً
فينا لأننا نحرم والحالة هذه من نيل المعارف ونبقى في دائرة الجهل.
9 ـ إن العبارة الأخيرة لهذا البعض تشير إلى أن مصدر
معارفه «صلى الله عليه وآله» قبل النبوة هو تأملاته، والألطاف الإلهية
عليه في ملكاته الفكرية والروحية.
ومن الواضح:
أن ذلك لا يكفي في اعتباره «صلى الله عليه وآله»
مثقفاً، فضلاً عن أن يملك المستوى الثقافي العالي على حد تعبير هذا
البعض رغم تحفظنا الشديد على مثل هذه التعابير بالنسبة للأنبياء «عليهم
السلام» فإن التأمل، والملكات الفكرية والروحية للنبي لا تجعله عالماً
بما جرى للسابقين، ولا مطلعاً على شيء من التفاصيل التاريخية لمن سبقه
من الأنبياء، كما أن ذلك لا يجعله ملماً بالأحكام والشرائع والحقائق
الدينية وغيرها وبالآيات السماوية التي جاءت أو نزلت من قبله..
بل يكون علماء أهل الكتاب والحالة هذه، وكذلك غيرهم
أعلم منه في ذلك، لأنهم يملكون ولو مقداراً ضئيلاً من تلك المعارف مهما
كان مشوباً بغيره من الأباطيل.
10 ـ ولو سلمنا: أن التأملات والملكات الفكرية تجعله
عالماً، فإن علم الأنبياء يصبح منوطاً بمراتبهم المعنوية، فهي التي
تؤهلهم لخوارق العادات، حتى مثل الإتيان بعرش بلقيس، بإذن الله.. وما
إلى ذلك مع أن النص القرآني يقول: ﴿عِنْدَهُ
عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾([42]).
مما يشير إلى أن هذا العلم الذي حصل عليه من الكتاب، لا من التأمل، هو
الذي مكّنه من الإتيان بالعرش من اليمن إلى بيت المقدس.
11 ـ لا ندري لماذا فقد النبي «صلى الله عليه وآله» هذه
المعرفة.. وقد كان حرياً بأن يكون عالماً بالشيء الكثير من ذلك، ولو من
خلال معاشرته لجدّه عبدالمطلب، وعمه أبي طالب، وسواهما من الناس الذين
عرفوا شيئاً من تواريخ الأنبياء السابقين، وما عرفوه وألموا به من
تعاليم الأديان السماوية؟!
450 ـ قبل البعثة لا تجربة ثقافية للنبي «صلى الله عليه
وآله».
451 ـ عناوين الشكّ في شخصية النبي
«صلى الله عليه وآله».
يقول البعض:
«عندما ندرس حياة النبي تبدو لنا هذه الحياة بسيطة،
ليست فيها أية حالة ثقافية، وإن القرآن كان أميناً في نقل الأفكار
المضادة تماماً كما هو أمين في نقل الأفكار المناصرة، لقد استطاع
القرآن أن يحدثنا بأمانة عن عناوين الشك في شخصية النبي الذي لم يستطع
أن يحصل تجربة ثقافية كافية قبل النبوة أو اية معلومات تاريخية يستطيع
من خلالها التأثر بما قبله من الأنبياء»([43]).
ونقول:
إن النبي قد كان نبياً منذ صغره، ولقد قرن الله به «صلى
الله عليه وآله» من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به
طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره
([44]).
وعلى هذا الأساس، فإنه لولا هذا الوحي الإلهي، وهذا
الملك المسدد له، فإنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن يدري ما الكتاب ولا
الإيمان، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي
بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ﴾([45]).
وذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ
ضَالًّا فَهَدَى﴾([46]).
إذن.. فما معنى وجود عناوين للشك في شخصية النبي
«صلى الله عليه وآله»، استطاع القرآن أن يحدّثنا عنها بأمانة؟!!
وإذا كان الله قد قرن به ملكا يسدده منذ أن كان فطيماً،
ويسلك به سبيل المكارم، فما معنى عدم حصوله على تجربة ثقافية كافية قبل
نبوّته؟!
452 ـ عتاب يكشف عن الخطأ غير المقصود
للتصرف.
453 ـ المصلحة الغالبة كانت في عدم الإذن لهم.
454 ـ النبي يخالف الأولى في التصرف.
455 ـ وسائل النبي في تعامله تخطئ وتصيب كوسائل القضاء.
456 ـ النبي يخطئ في رصد الأشياء الخفية.
457 ـ عدم وضوح وسائل المعرفة توقع النبي في الخطأ.
458 ـ الغيب محجوب عن النبي، إلا فيما يوحى إليه.
459 ـ القرآن يتحدث كثيراً عن مخالفة الأولى للانبياء.
460 ـ الأنبياء يخالفون الأولى بسبب غموض ظواهر
الأشياء.
يقول البعض في تفسير قوله تعالى: ﴿عَفَا
اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾
([47]):
«لأن مثل هذه الكلمة تستعمل في مقام العتاب الخفيف الذي
يكشف عن طبيعة الخطأ الغير مقصود([48])
للتصرف، كما أن الحادثة لا تحمل في داخلها أية حالة من حالات الذنب،
فالنبي يملك أمر الحرب، فيأذن لمن يشاء بالخروج أو لا يأذن، فليس
للمسألة واقع خارج نطاق إرادته، وليست هناك أوامر إلهية في مسألة خروج
هؤلاء، وعدم خروجهم، ليكون تصرفه «عليه السلام» مخالفة لها، بل كل ما
هناك أن الله أراد أن يضع القضية في نصابها الصحيح من المصلحة الغالبة
في ترك الإذن لهم ليفتضح أمرهم ويتبين زيفهم بشكل واضح، فيتعرف
المسلمون على حقيقتهم، فيرفضوهم من موقع الحقيقة الداخلية التي تنكشف
من خلال تصرفاتهم، فالمسألة تدخل في دائرة مخالفة ما هو الأولى في
التصرف، وليس في ذلك انتقاص من عصمته وانسجامه مع الخط الذي يريد الله
له أن يسير فيه.
فقد ترك الله للنبي «صلى الله عليه وآله» مساحة يملك
فيها حرية الحركة من خلال ما يدبِّر به أمر الأمة بالوسائل العادية
المألوفة التي قد تخطئ في بعض مجالاتها، لا بالوسائل الغيبية التي لا
يملكها بطريقة ذاتية، لم يكشفها الله له بشكل مطلق، تماماً كما هي
الحال في ممارسته القضاء بين الناس حيث قال: «إنما أقضي بينكم بالأيمان
والبينات»([49]).
معنى
خطأ النبي:
«وليست هناك مشكلة أن يقع الخطأ، في ما هو الواقع في
رصد الأشياء الخفية من خلال غموض الموضوع لعدم وضوح وسائل المعرفة
لديه، ما دام الغيب محجوباً عنه، إلا في ما أوحى به الله إليه من أسرار
علمه، وهذا ما أراد القرآن تأكيده في أكثر من آية في توضيحه لكثير من
حقائق الأمور بعد وقوعها وتحركها في دائرة خلاف الأولى، في ما كان وجه
الصلاح غامضاً فيه من جهة ظواهر الأشياء، كما في هذه المسألة التي أراد
الله أن يوحي من خلالها بالحقيقة إلى نبيه، الذي أذن لهم في عدم الخروج
انطلاقاً من سمو أخلاقه، وسعة صدره، ومواجهته الحالة بالرفق واللين، من
خلال ما حدثنا الله به عن أسلوبه في الحياة، ولكن القوم لم يكونوا
بالموقع الذي يستحقون فيه ذلك، وهكذا كان خطابه لنبيه بأسلوب العتاب
المحبب: ﴿لِمَ
أَذِنْتَ لَهُمْ﴾
([50])
في ترك الخروج، فقد اعتبروا ذلك حجة لهم أمام المسلمين الآخرين في
تأكيد صدقهم في الإيمان، وانسجامهم مع خط الطاعة لله وللرسول»([51]).
ونقول:
1 ـ
إن ما ذكره هذا البعض هنا عن خطأ النبي الكريم «صلى
الله عليه وآله»، مردود عليه، ومنبوذ إليه، فإن الخطأ ممنوع على النبي
حتى لو لم يكن هناك أمر ونهي إلهي صريح..
ويزيد الإصرار على رفض هذه المقولات: أنه قد قرر أن
النبي لم يكن يعرف المصلحة والمفسدة فيما أقدم عليه، فكانت النتيجة: أن
أقدم النبي «صلى الله عليه وآله» على ترك الأولى، فتركه للأولى ناشئ
والعياذ بالله عن جهله به، إلى آخر ما ذكره..
2 ـ
إن الكثيرين حين لا يهتدون إلى معرفة الوجه في تعابير
الآيات القرآنية في العديد من الموارد التي تتحدث عن بعض مواقف
الأنبياء وحركتهم وتصرفاتهم، يلجأون إلى القول: بأن هذا التصرف المنسوب
للنبي أو الولي هو من قبيل مخالفة الأولى في مقام التصرف، ومخالفة
الأولى لا تنافي العصمة..
مع أن هذا الكلام غير سديد، فإن مخالفة الأولى إن كانت
ناشئة عن الجهل بوجوه الحسن والقبح، وبما ينبغي أن يكون عليه.. فنحن
نجل الأنبياء عن أن يكونوا غير قادرين على التمييز بين الأمور التي لا
يحتاج التمييز ومعرفة الراجح منها إلى أكثر من التدبر في جهات الحسن
الظاهرة في هذا العمل أو ذاك، والموازنة بينهما..
وإن كان النبي والوصي يدرك رجحان هذا على ذاك، ولكنه
يتبع هواه في الأخذ بالمرجوح منهما، فالمصيبة تكون أفدح، وأعظم، والخطب
أمرّ، وأدهى.
وإن كان يأخذ بالمرجوح من دون سبب سوى الإستهتار، وعدم
المبالاة.. فإن ذلك أيضاً مرفوض في حق الأنبياء، والأولياء، فلا يقبل
في حقهم أن يكونوا يرجحون غير الراجح، أو يرفضون الأخذ بما هو أولى
بالأخذ، فإن ذلك يكشف عن عدم وجود توازن في شخصية هذا الإنسان المعصوم،
وعن أنه يفقد الضوابط والمعايير التي يفيده الإلتزام بها ومراعاتها في
هذه الحياة..
وما أعظمها من كارثة، وما أخطره من نقص: أن يكون
الإنسان غير قادر على اختيار الأفضل والأمثل..
ومن يكون هذا حاله كيف يصح أن يختاره الله ليكون الأسوة
والقدوة، والمربي، والحافظ.. فقد يتخلى عما هو الأولى في أشد المواقف
حساسية، وأعظمها خطراً، كما يذكرونه بالنسبة لآدم «عليه السلام».
وبعبارة أخرى:
إن اختياره للمرجوح لا ينسجم مع حكمته، وعقله، ومع
توازن شخصيته، كما أن الله سبحانه لا يمكن أن يختاره نبياً، ولا ولياً
خصوصاً إذا كان ثمة من يختار الراجح والأولى ويترك المرجوح، فإن اختيار
ذاك على هذا ينافي الحكمة، والتدبير، والرحمة بالبلاد وبالعباد.. تعالى
الله عن ذلك علواً كبيراً..
ومهما يكن من أمر، فإن العلماء إذا غفلوا عن هذا الأمر،
وتحدثوا عن إمكانية مخالفة النبي للأولى، فإنهم بمجرد أن نلفت نظرهم
إلى هذه المحاذير سوف يبادرون إلى التخلي عن قولهم ذاك لصالح القاعدة
التي يلتزمون بها.
ولكن هذا البعض بملاحظة هذا الكم الهائل من المقولات قد
اتخذ له منهجاً آخر، وتكوّنت لديه نظرة أخرى للأنبياء، وقد جاءت
مقولاته هذه منسجمة مع هذه النظرة وذلك المنهج، فلا يصح قياس أمره
عليهم، وما ذكرناه عنه في هذا الكتاب خير شاهد على ذلك.
3 ـ إن قياس هذا البعض سلوك الأنبياء، وتعاملهم مع
الناس، ومع الله، ومع أنفسهم، وفي جميع المواقع، على أمر القضاء بين
الناس قياس مع الفارق..
فإن الله سبحانه قد شاء: أن يعتمد نبيه، ووليه وسائل
معينة في القضاء، لأن الإعتماد على الغيب في القضاء وفقاً للتحليل
التاريخي ـ حسب مصطلح البعض ـ من شأنه أن يفسح المجال أمام قضاة السوء،
وحكام الجور لأن يدّعوا على الناس ما ليس بحق، وتكون حجتهم هي: أن
النبي «صلى الله عليه وآله» قد فعل ذلك، ونحن خلفاؤه، ونجلس في موقعه،
ونقوم بمهماته، فإذا كان هو يقتل القاتل، ويقيم الحد على السارق،
استناداً إلى علمه، ومن دون حاجة إلى شهود فنحن أيضاً نفعل ذلك..
فيأخذون الناس بهذا الأمر، ويقتلون من يشاؤون، وينكلون
بالناس حسبما يشتهون، ويستفيدون من هذا الغطاء الشرعي ـ بحسب ظواهر
الأمور ـ لتأكيد سلطانهم، والقضاء على خصومهم ومعارضيهم، وابتزاز الناس
في أموالهم، وأعراضهم ومواقفهم، وما إلى ذلك..
وقد يكون هذا مدخلاً للقضاء على كل عناصر الفضل والخير
والدين، وإبادة قوى الصدق، والإيمان، والصلاح، والتخلص من كل ما يخافون
منه..
3 ـ أما بالنسبة لمعنى الآية، فإننا قد بيّناه فيما سبق
من هذا الكتاب فراجع..
461 ـ النبي لا يملك أية مقومات ذاتية كبيرة.
462 ـ النبي لا يملك أية قدرات شخصية مطلقة.
463 ـ الدرس الفكري: أن لا نغرق انفسنا بالأسرار
العميقة التي يحاول البعض إحاطة شخصية النبي بها.
464 ـ يحيطون النبي بالأسرار للإيحاء بأنه يرتفع فوق
مستوى البشر.
465 ـ النبي ليس فوق مستوى البشر في إمكاناته الذاتية.
466 ـ النبي ليس فوق مستوى البشر في قدراته الكبيرة.
467 ـ هو فوق البشر بأخلاقه، وخطواته، ومشاريعه المتصلة
برسالته.
468 ـ علينا أن نشعر أن النبي قريب منا بصفاته البشرية
التي هي اساس التمثل والإتباع، والإقتداء.
469 ـ الأبحاث السائرة في هذا الإتجاه، إنحراف عن الخط
القرآني في دراسة شخصية النبي.
470 ـ الله قد يطلع النبي على بعض غيبه، مما قد يحتاجه
في نبوته من علم المستقبل، أو خفايا الأمور.
471 ـ التصور القرآني ينفي فعلية علم النبي للغيب من
الناحية الوجودية.
472 ـ النبي ليس مجهزاً في تكوينه البشري بالقدرة على
علم الغيب.
473 ـ الله يطلع رسله على الغيب بطريقة التعليمات
التدريجية.
474 ـ ليس علمه بالغيب منطلقاً من قدرة تتحرّك
بالفعلية، بحيث يعلم بالغيب كلما أراد من خلالها.
يقول البعض:
«..﴿إِنْ
أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾([52])
وهكذا أراده أن يقف بينهم عبداً خاشعاً بين يديه، لا يملك أية مقومات
ذاتية كبيرة، أو أية قدرات شخصية مطلقة، رسولاً أميناً على الدور الذي
أوكله الله إليه، فهو ينتظر أمر الله ووحيه في كل صغيرة أو كبيرة
ليتبعه، ويبلغه للناس، وربما كان الحديث عن الإتباع موحياً بالصفة
المطيعة المتواضعة التي تجسدها شخصيته، ليكون في ذلك بعض الإيحاء لهم
بالطاعة لله، والإستغراق في دور العبد المطيع الذي يتمثل حركة العبد
(النبي)، في شخصية العبد المؤمن، وإذا كان التوجيه الإلهي يفرض على
الرسول أن يقدم نفسه إلى الناس بهذه الصفة فقد نجد فيه الدرس الفكري
الذي يريدنا أن لا نغرق أنفسنا بالأسرار العميقة التي يحاول البعض أن
يحيط بها شخصية النبي، للإيحاء بأنه يرتفع فوق مستوى البشر في إمكاناته
الذاتية، وقدراته الكبيرة، بل بصفته الرسالية من حيث أخلاقه، وخطواته،
ومشاريعه المتصلة برسالته.
وذلك هو السبيل للتعامل مع شخصية الأنبياء، والأولياء،
بالأسلوب القريب إلى الوعي الإنساني العادي، في ما يمكن للإنسان أن
يعيشه، ويتصوره ويتمثله في نفسه، ليشعر بأن النبي قريب منه بصفاته
البشرية المثلى التي يمكن أن تكون أساساً للتمثل، والإتباع، والإقتداء،
وفي ضوء ذلك، نجد في الأبحاث السائرة في هذا الإتجاه انحرافاً عن الخط
القرآني الذي يرسم للناس في دراستهم لشخصية النبي «صلى الله عليه
وآله»، وهنا نقطة، وهي مسألة نفي النبي في حواره مع المشركين علمه
بالغيب، فقد جاء في الميزان، قال: المراد بنفي علم الغيب، نفي أن يكون
مجهزاً في وجوده بحسب الطبع بما لا يخفى عليه معه ما لا سبيل للإنسان
بحسب العادة إلى العلم به من خفيّات الأمور كائنةً ما كانت([53]).
وهذا هو التصور القرآني الصحيح الذي يؤكد نفي الفعلية
لعلم الغيب من الناحية الوجودية بمعنى أن يكون مجهزاً في تكوينه البشري
بالقدرة الخاصة لعلم الغيب بحيث يتحرك نحوه ـ في فعليته ـ بشكل طبيعي،
بل المسألة هي أن الله قد يطلعه على بعض غيبه مما يحتاجه في نبوته من
أمور المستقبل، ومن خفايا الأمور كما في قصة عيسى «عليه السلام»: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ
بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾([54])
ونحو ذلك.
ولعل هذا هو الذي أشار إليه أمير المؤمنين علي «عليه
السلام» في إخباره بالمغيبات عن سؤاله: هل هذا علم بالغيب؟! في تصورهم
للمعنى الذاتي من خلال القدرات الخاصة التي يملكها في ذلك.
فأجاب: «وإنما هو تعلم من ذي علم»([55]).
وهذا هو الذي عبر عنه بعض المفسرين «هو علم الغيب
بالعرض» أي تعلم من عالم الغيب.
وخلاصة الفكرة: هي أن الله كان يطلع رسله بطريقة
التعليمات التدريجية المحدودة على الغيب كما في قوله تعالى: ﴿عَالِمُ
الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾([56]).
ولم يكن علم الغيب منطلقاً من قدرة تتحرك بالفعلية ليعلم بالغيب كل ما
أراد من خلالها بحيث إن الله أعطاه ذلك من خلال القاعدة المنتجة للعلم
في نفسه.. والله العالم([57]).
إننا نسجل هنا ما يلي:
1 ـ من أين؟! وكيف علم هذا البعض: أن النبي لا يملك
مقومات ذاتية كبيرة، أو قدرات مطلقة؟! أو أن الأنبياء ليسوا فوق مستوى
البشر في قدراتهم الذاتية وإمكاناتهم؟!
فإن ذلك من الأمور التكوينية، ومن الغيبيات التي لا
يعرفها إلا الله سبحانه.. وهو يشترط في معرفة الأمور التكوينية
والغيبية وغيرها، قيام الدليل القطعي، الموجب لليقين التام، ولا يكفي
فيها مطلق ما هو حجة..
2 ـ
إذا كان النبي «صلى الله عليه وآله» أفضل من البشر،
وإذا كان الله سبحانه قد خلقه هو والأئمة قبل خلق الخلق بألفي عام،
وجعلهم أنواراً بعرشه محدقين، وإذا كانوا أنواراً في الأصلاب الشامخة،
والأرحام المطهرة.
وإذا كان النبي شاهداً على الخلق يرى أعمالهم الجوارحية،
والجوانحية، ويشهد عليهم بها، وإذا كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه،
وإذا كانت تنام عيناه، ولا ينام قلبه، ثم ما روي عن رسول الله «صلى
الله عليه وآله»: من أنه قال لعلي «عليه السلام»: يا علي ما عرف الله
حق معرفته غيري وغيرك. وما عرفك حق معرفتك غير الله وغيري([58]).
وما إلى ذلك، وهو كثير جداً.
فإن النتيجة تكون هي أن هناك أسراراً عميقة تحيط بهم
«عليهم السلام» لا ندرك كنهها، ولا ضير في أن نغرق أنفسنا بها، إذا كان
الله ورسوله، والأئمة الأطهار «عليهم السلام» هم الذين أخبرونا عنها في
محاولة لشد أنظارنا إليها، وإطلاعنا عليها لحكمة هم يعرفونها.
3 ـ إن شعورنا بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قريب
منا بصفاته البشرية، وكون ذلك هو أساس التمثل، والإتباع، والإقتداء
صحيح، ولكنه لا يمنع من اعتقادنا أيضاً بوجود قدرات، وإمكانات غير
عادية لدى هذا النبي «صلى الله عليه وآله» في جهات أخرى من شخصيته،
وحياته.
بل قد يسهم وعينا لهذه الحقيقة في الحرص على الإتباع
له، والتأسي به.. في الجهات العملية، في دائرة السلوك، والأخلاق،
والمواقف الرسالية، والإلتزام العقيدي، والإيماني، وغير ذلك..
4 ـ إن الخط القرآني في دراسة شخصية النبي يرتفع بهذه
الشخصية إلى مراتب لا تبلغها أوهام البشر، حين يأخذ نبيه في رحلة
المعراج إلى السماوات العلى، حتى بلغ «عليه الصلاة والسلام» سدرة
المنتهى.
وأما الآيات التي يستند اليها هذا البعض في إبعاد
الأنبياء عن مواقع الكرامة الإلهية.. فقد فسرها العلماء، وبينوا
معانيها.. بطريقة صحيحة، ومنسجمة مع كل المقاييس التي ارتضاها القرآن،
وأكدها، والتزم بها الإسلام، وأيدها، وقد يجد القارئ الكريم في هذا
الكتاب بعضاً من ذالك.
5 ـ وأما أن الله سبحانه قد يطلع نبيه على بعض غيبه،
مما قد يحتاجه في نبوته، فهو كلام صحيح.. ولكنه لا يمنع أيضاً من أن
يطلعه على جميع غيبه، فإن قوله تعالى: ﴿عَالِمُ
الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى
مِنْ رَسُولٍ﴾([59])
لم يحدد فيه مقدار الغيب الذي يطلع الله عليه بعض رسله، بل إن سياق
الآية ـ على غيبه ـ ظاهر في إمكانية أن يطلع الله بعض رسله على كل
غيبه.
فمن أين أتانا هذا البعض بالتخصص بخصوص ما يحتاجه النبي
في نبوته؟! ومن أين جاء بكلمة «بعض» في قوله: «بعض غيبه»؟!
6 ـ وأما أن التصور القرآني ينفي فعلية علم النبي للغيب
من الناحية الوجودية، أي أنه ينفي وجود قدرة ذاتية تمكنه من العلم كلما
أراد، وساعة يشاء.. فذلك أيضاً غير صحيح، فإن التصور القرآني يعطينا
إمكانية أن يعلم الله نبيه بجميع غيبه كما ألمحنا إليه آنفاً.
ولكنه ينفي أن تكون النبوة من حيث هي نبوة تقتضي علم
الغيب بصورة ذاتية..
ولا ينفي إمكانية أن يكون الله قد جهز نبيه بقدرة
يستطيع بها الإطلاع على الغيب ساعة يشاء، وفي كل ما يريد.. وقد دلت
الأخبار الواردة عن المعصومين «عليهم السلام» على ذلك..
7
ـ من أين علم هذا البعض: أن الله يطلع أنبياءه على الغيب بصورة
التعليمات التدريجية، فإن هذا يحتاج إلى دليل يقيني، ولا يكفي فيه مطلق
الحجة.. كما يقول هذا البعض نفسه.
إذ لعل الله قد أطلع رسوله على غيبه كما هو مفاد الآية،
لكي يرفع بهذا العلم مقامه، ويكرمه به. لكنه منعه من إخبار الناس به،
فصار ينتظر أمر ربه في إبلاغ كل حدث يريد إبلاغه للناس.
8
ـ على أن نفيه وجود قدرة تمكن النبي من علم الغيب يحتاج
إلى دليل.. حسبما قرره هذا البعض نفسه، فأين هو دليله القطعي ـ حسب
رأيه ـ الذي أقامه على هذا النفي؟!
([1])
الآية 103 من سورة النحل.
([2])
المعارج: ص 656 و 657 والحوار في القرآن ص 105.
([3])
الآية 56 من سورة الكهف.
([4])
الآية 105 من سورة الإسراء.
([5])
الآيتان 45 و 46 من سورة الأحزاب.
([6])
الندوة: ج 1 ـ ص 360.
([7])
الآية 2 من سورة الجمعة.
([8])
الآية 25 من سورة الحديد.
([9])
الآية 28 من سورة سبأ.
([10])
الآية 59 من سورة النساء.
([11])
الاية 1 من سورة الأنفال.
([12])
الآية 21 من سورة المجادلة.
([13])
الآية 15 من سورة المزمل.
([14])
الآية 45 من سورة الأحزاب، والآية 8 من سورة الفتح.
([15])
الآية 120 من سورة هود.
([16])
الآية 32 من سورة الفرقان.
([17])
الآية 36 من سورة الأحزاب.
([18])
الآيتان 3 و 4 من سورة النجم.
([19])
الآية 65 من سورة النساء.
([20])
الآية 21 من سورة الأحزاب.
([21])
المعارج: ص 558 و 559.
([22])
الآية 113 من سورة النساء.
([23])
المعارج: ( مجلة ) ص 545.
([24])
الآية 113 من سورة النساء.
([25])
الآية 52 من سورة الشورى.
([26])
الآية 44 من سورة آل عمران.
([27])
الآية 102 من سورة يوسف.
([28])
الآية 86 من سورة القصص.
([29])
الآية 16 من سورة يونس.
([30])
الآية 48 من سورة العنكبوت.
([31])
المعارج: 604 و 605.
([32])
الآية 123 من سورة النحل.
([33])
الآية 113 من سورة النساء.
([34])
الآية 52 من سورة الشورى.
([35])
الآية 5 من سورة الفرقان.
([36])
الآية 103 من سورة النحل.
([37])
الآية 44 من سورة آل عمران.
([38])
الآية 102 من سورة يوسف.
([39])
الآية 86 من سورة القصص.
([40])
الآية 16 من سورة يونس.
([41])
الآية 48 من سورة العنكبوت.
([42])
الآية 40 من سورة النمل.
([43])
أسئلة وردود من القلب ص63.
([44])
نهج البلاغة الخطبة 190 وهي الخطبة القاصعة.
([45])
الآية 52 من سورة الشورى.
([46])
الآية 8 من سورة الضحى.
([47])
الآية 43 من سورة التوبة.
قد
ذكرنا شطراً من كلام هذا البعض في موضع آخر من هذا الكتاب،
فراجع.
([48]
) الصحيح: غير المقصود.
([49])
الكافي (ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران) ج 7 ص 414 رواية 1.
([50])
الآية 43 من سورة التوبة.
قد
ذكرنا شطراً من كلام هذا البعض في موضع آخر من هذا الكتاب،
فراجع.
([51])
من وحي القرآن (الطبعة الثانية ـ دار الملاك) ج11 ـ ص124 و
125.
([52])
الآية 15 من سورة يونس.
([53])
تفسير الميزان ج7 ص97.
([54])
الآية 49 من سورة آل عمران.
([55])
نهج البلاغة: الخطبة 128.
([56])
الآية 26 من سورة الجن.
([57])
من وحي القرآن (الطبعة الثانية ـ دار الملاك) ج9 ص114 و 115.
([58])
مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 310 والبحار ج 39 ص 84.
([59])
الآيتان 26 و 27 من سورة الجن.
|