الفصل الثاني
معجزات رسول الله
..
المعراج.. وشق القمر..
475 ـ إنكار معجزة شق القمر للرسول
«صلى الله عليه وآله».
476 ـ لا فائدة من إرسال الآيات في هذا
الزمان.
477 ـ الحديث المتواتر إذا لم يوثق
ببعض رجال سنده يتحول إلى خبر واحد.
478 ـ لا يوجد أساس يقيني للالتزام بروايات شق القمر.
479 ـ وقوع شق القمر مخالف للظواهر
القرآنية.
يقول البعض:
«.. كيف نفهم انشقاق القمر من الآية؟!
أما انشقاق القمر، فقد جاءت الروايات لتؤكد: أن
معناه يعبّر عن آية كونية، في نطاق المعجزة المقترحة من قبل المشركين
على النبي «صلى الله عليه وآله» لإثبات نبوته، وقيل: إن أهل الحديث،
والمفسرين اتفقوا على قبولها، ولم يخالف فيه منهم إلا الحسن وعطاء
والبلخي حيث قالوا: إن معنى قوله: ﴿وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ﴾([1])
سينشق القمر عند قيام الساعة، وإنما عبَّر بلفظ الماضي لتحقق الوقوع.
أما تعليقنا على ذلك، فهي: أن المسألة لا بد أن
تُناقش من نقطتين:
النقطة الأولى:
من زاوية الإستغراق في مضمون النصوص في ذاتها من حيث
إمكانها ومعقوليتها، وفي سند النصوص من حيث وثاقتها وصحتها.
النقطة الثانية:
من زاوية المقارنة بين هذه النصوص المفسرة للقرآن بذلك،
وبين المفاهيم القرآنية العامة في مسألة المعجزة الحسية الكونية وغير
الكونية، الخارقة للعادة، سواءً كانت مقترحة أو غير مقترحة، على أساس
القاعدة القائلة: بأن علينا عرض الأحاديث على ما جاء به القرآن من
حقائق بمقتضى الظهور الواضح، لأن ما خالف كتاب الله فهو باطل أو زخرف.
أما النقطة الأولى:
فقد
تحتاج إلى عرض بعض هذه الروايات كنموذج للمجموع، ففي رواية أنس بن
مالك: قال الإمام أحمد: حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: سأل
أهل مكة النبي «صلى الله عليه وآله» آية، فانشق القمر بمكة مرتين،
فقال: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾([2]).
ومن رواية جبير بن مطعم، قال الإمام أحمد: حدثنا
محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن، عن محمد بن
جبير بن مطعم عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول الله «صلى الله
عليه وآله» فصار فلقتين، فلقة على هذا الجبل وفلقة على هذا الجبل
فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر
الناس كلهم.
وفي أمالي الشيخ: أبي جعفر محمد بي الحسن الطوسي،
بإسناده عن عبيد بن علي عن الرضا عن آبائه عن علي «عليهم السلام» قال:
انشق القمر، بمكة فلقتين، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: اشهدوا
اشهدوا.
وقد ذكر في الميزان: أن علماء الشيعة ومحدثيهم تسلموا
الخبر بانشقاق القمر لرسول الله «صلى الله عليه وآله» من غير توقف.
ونقل في روح المعاني عن السيد الشريف في شرح المواقف،
وعن ابن السبكي في شرح المختصر: أن الحديث متواتر لا يمترى في تواتره.
ولكننا لا نستطيع إحراز التواتر من خلال هذه الأخبار
التي لم يكن رواة بعضها موجودين في زمن الإنشقاق المفروض ليكونوا
شهوداً عليه، مما يعني: أنهم نقلوه عن أشخاص آخرين لا نعرف وثاقتهم،
الأمر الذي قد يجعل منها أخبار آحاد لا تثبت بها مثل هذه الأمور كما
قرر في علم الأصول.. وقد يكون التسالم على قبولها ناشئاً من الاجتهاد
التفسيري في معنى الآية على أساس أن الآية الثانية تفسر ذلك فيكون
الإعتماد على القرآن في توثيق المضمون الخبري لا على طبيعة الخبر.
فإذا تجاوزنا ذلك، إلى موضوع الإمكان، فلا بد أن
نسلم بأنه من الأمور الممكنة في ذاتها، وقد حدثنا القرآن عن انشقاق
السماء ونحو ذلك من الحوادث التي تتصل بتبدل الظواهر الكونية وتغيّرها
عما هي عليه، فإذا صح الخبر فيها ثبت وقوعها.
أما النقطة الثانية:
فقد
أثير حولها الإشكال من جهة الآيات الكثيرة التي تنفي صدور الآيات
المعجزة لا سيما المقترحة من قبل الناس كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا
بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾([3])،
فإن مفاد الآية يوضّح بأن الإرسال بالآيات لا يحقق أية نتيجة في دائرة
الإيمان، لأن السابقين الذين أرسلت الآيات إليهم لم يتجاوبوا معها، ولم
ينتفعوا بها، بالرغم من كل ما تثيره في نتائجها من تهاويل الخوف
باعتبار أن نزول الآية التي لا يعقبها الإيمان يؤدي إلى نزول العذاب.
ويتأكد الإشكال في الآيات المقترحة التي أراد الله من
رسوله أن يعرفهم امتناع استجابة الله لهم في طلبهم إياها، وهو القادر
على ذلك، لأنه المهيمن على الكون كله، فيما يريد أن يخلقه من ظواهر غير
موجودة، أو فيما يريد أن يغيّره من حالٍ إلى حال في الظواهر الموجودة،
فان الأمر خاضع لحكمته لا لاقتراحهم..
أمّا النبي الذي تُقدَّم إليه تلك الطلبات فليس قادراً
على ذلك، لأن بشريته تمنعه من قدرته على ذلك كما أن صفة الرسالة لا
تجعل له دوراً في تغيير الظواهر من حوله.
ولعلّ هذا الجو هو الذي يتمثل للإنسان القارئ للقرآن
في ملاحقته لخطوات الرسالة أمام التحديات الموجهة إليها من المشركين..
وفي ضوء ذلك قد نلاحظ اختلاف هذا التفسير مع المفاهيم القرآنية العامة
فيكون الحديث المتضمن لها حديثا مخالفا للظواهر القرآنية.
وقد أجاب هؤلاء المفسرون للآية: بما ذكر، بأن الآية
التالية لها تؤكد: بأن المقصود من انشقاق القمر، هو ما حدث على يد
الرسول «صلى الله عليه وآله» في مكة فيما رواه المفسرون، وذلك لأن
الظاهر من قوله تعالى: ﴿وَإِنْ
يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾([4]).
أنها آية واقعة قريبة من زمان النزول، أعرض عنها المشركون كسائر الآيات
التي أعرضوا عنها وقالوا: ﴿سِحْرٌ
مُبِينٌ﴾([5])..
وقد يورد عليهم:
بأن الآية الثانية لا تدل على أنها من توابع الفكرة
التي تثيرها الآية الأولى.. بل ربما كانت الأولى عنواناً للأجواء التي
توحي بيوم القيامة، فيما يراد إثارته من تذكير هؤلاء المشركين وغيرهم
به، لتنطلق الآيات بعدها لتتحدث عن سلوكهم المنحرف عن الرسالة الذي
يعرّضهم للنتائج الصعبة على مستوى العذاب في نار جهنم..
وبذلك يكون الحديث عن ردهم الآيات بأنها سحر مستمر
مماثلاً لكل الآيات التي تتحدث عن تهمة النبي «صلى الله عليه وآله»
بأنه ساحر من دون أن تكون مرتبطة بحادثة معينة..
وقد نلاحظ، في هذا المجال: ضرورة التدقيق في كلمة
«مستمر» التي تعني انطلاق التهمة قبل الآية لتكون مستمرة بعدها.. مما
قد يتنافى مع انطلاق تهمة السحر من خلالها.
وقد أجاب بعض المفسرين عن استلزام نزول الآية للعذاب
بعدها في حالة الكفر: بأن ذلك لا يشمل كل الناس الموجودين آنذاك، بل
الجماعات المقترحة لها المكذبة بنتائجها، وقد أهلك الله هؤلاء وهم
صناديد مكة.
إلى أن قال:
علامات استفهام حول معجزة انشقاق القمر:
«ويتساءل الرافضون لهذا التفسير: إن القمر لو انشق كما
يقال، لرآه جميع الناس ولضبطه أهل الأرصاد في الشرق والغرب لكونه من
أعجب الآيات السماوية، ولم يعهد فيما بلغ إلينا من التاريخ والكتب
الباحثة عن الأوضاع السماوية له نظير، والدواعي متوفرة على استماعه
ونقله.
وأجيب بما حاصله:
أن من الممكن أولاً: أن يغفل عنه، فلا دليل على كون كل
حادث أرضي أو سماوي معلوماً للناس محفوظاً عندهم يرثه خلف عن سلف.
وثانياً: أن الحجاز وما حولها من البلاد العربية لم يكن
بها مرصد للأوضاع السماوية، وإنما كان ما كان من المراصد بالهند
والمغرب من الروم واليونان وغيرهما، ولم يثبت وجود مرصد في هذا الوقت ـ
وهو على ما في بعض الروايات أول الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة سنة
خمس قبل الهجرة.
على أن بلاد الغرب كانت تختلف بالأفق مع مكة مما
يوجب فصلاً زمانياً معتداً به وقد كان القمر، على ما في بعض الروايات،
بدراً وانشق في حوالي غروب الشمس حين طلوعه، ولم يبق على الانشقاق إلّا
زماناً يسيراً ثم التأم فيقع طلوعه على بلاد الغرب وهو ملتئم ثانياً.
وقد يُجاب عن هذا:
بأن من الممكن التسليم بالفكرة التي يثيرها الجواب
الثاني..
أما بالنسبة إلى الجواب الأول:
فليس هناك مجال للتسليم به، لأن مسألة انشقاق القمر
بالطريقة التي تثيرها الروايات تمثل حادثاً خطيراً لم يعهده الناس في
حياتهم، مما يجعل إمكان غفلة البعض عنه لا تبّرر غفلة الأكثر، لا سيما
في تلك المناطق التي يلتقي فيها الناس بالقمر في مراقبة دائمة له،
باعتباره مصدر الضوء البارز في لياليهم التي لا يملكون فيها إلا الطرق
البدائية في مصادر النور.. ولذلك فإن هذا الحدث لو كان لذاع وشاع وملأ
الأسماع، كما يقولون، ولاستمر الحديث عنه مدة طويلة.. ولكان يوماً
تاريخياً يخلّده الناس فيما يؤقتون به الأمور على طريقتهم المعروفة في
حساب التاريخ بالأيام التي تحمل حدثاً كبيراً لا يختلف الناس فيه
لضخامة الأثر الذي يتركه في حياتهم.
وفي ضوء ذلك كله، فإننا نتحفظ في المسألة، لأننا لا
نجد أساساً يقينياً للالتزام بهذه الروايات، كما لا نجد ظهوراً قرآنياً
في تحديد الموضوع بزمان الرسالة»([6]).
1 ـ إن هذا البعض يقول: إن أخبار وقوع انشقاق القمر
في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» متواترة: ونقل لنا عن كتاب
«الميزان »: أن علماء الشيعة ومحدثيهم قد تسلموا الخبر بانشقاق القمر
لرسول الله «صلى الله عليه وآله» من غير توقف.
ثم إن هذا البعض قد ناقش في تواتر هذه الأخبار: بأن بعض
رواتها لم يكونوا موجودين في زمن الانشقاق، مما يعني: أنهم نقلوها عن
أشخاص آخرين، لا نعرف وثاقتهم، فتكون أخبار آحاد، ولا تثبت هذه الأمور
بخبر الواحد.
ونقول:
ألف: لا ندري كيف يصبح الحديث المتواتر من أخبار
الآحاد، إذا لم تثبت وثاقة بعض رواته؟! فهل يعتبر في الخبر المتواتر
وثاقة رواته؟! وهل يعتبر أن يكون جميع الرواة معروفين لدينا أو موجودين
في زمن الحادثة؟! حسبما يشير إليه قوله: «لم يكن رواة بعضها موجودين في
زمن الإنشقاق المفروض، ليكونوا شهوداً عليه؛ مما يعني: أنهم نقلوه عن
أشخاص آخرين، لا نعرف وثاقتهم الأمر الذي قد يجعل منها أخبار آحاد».
وإذا كان رواة بعضها غير موجودين حين حصول الحدث، فإن
رواة الباقي المتواتر نقله كانوا موجودين آنئذ.
ومن أين له: أن من شروط التواتر هو وثاقة الرواة؟!
وأين قرأ ذلك؟! وما الذي دله على هذا فأنكر ما يثبت به؟!
ب: إن هذا الأمر، أعني انشقاق القمر، ليس من أصول
العقائد، التي يتوقف عليها الإسلام والإيمان، ليحتاج ثبوته إلى القطع
واليقين، وإنما هو حدث تاريخي خارق للعادة له مساس بالعقيدة، يثبت بما
هو حجة شرعية كأي حدث حصل في التاريخ خارق للعادة ينقل لنا عن النبي
«صلى الله عليه وآله» قولاً أو فعلاً، أو كرامة إلهية له «صلى الله
عليه وآله».. فإن مثل هذه الأمور لا تحتاج إلى أكثر من ذلك، لا سيما
عند هذا الرجل الذي لا ينفك يدعي: أنه يلتزم بحجية خبر الواحد من باب
طريق العقلاء.
نعم، لو كان ذلك من المعجزات التي يتوقف على إثباتها
إثبات نبوة النبي مثلاً احتاج ذلك إلى الثبوت القطعي.
وهذا من الأمور البديهية والواضحة لدى العلماء .
2 ـ إن هذا البعض قد قبل بالمناقشة التي تقول: «لو كان
الانشقاق قد وقع لكان اللازم نزول العذاب، لأن هذه معجزة اقترحها
المشركون، وقد استجاب الله لاقتراحهم حسب الفرض، فحيث لم يؤمنوا فإن
اللازم هو نزول عذاب الاستئصال عليهم، كما هو الحال في الموارد
المشابهة».
ونقول:
ألف: قال الله سبحانه:﴿وَإِذْ
قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ
أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا
الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾
([7]).
فهذه الآية تعطينا: أن الله لم يكن لينزل عليهم
العذاب ونبي الله الأكرم «صلى الله عليه وآله» موجود فيما بينهم.
ب: إن هذا البعض نفسه قد ذكر ثلاث روايات عن وقوع
حادثة شق القمر، ويلاحظ أن اثنتين منها لم تذكرا أن أهل مكة قد اقترحوا
على الرسول ذلك، فإذا طرحنا الرواية الثالثة، لأجل ضعف سندها، ولم نحمل
المطلق على المقيد، لأجل ذلك، فإن ذلك لا يحتم علينا رفض الروايات
المطلقة التي تنسجم مع الظهور القرآني، إذ لعلها كرامة أكرم الله بها
نبيه ابتداء منه تعالى بهدف إقامة الحجة على المشركين تماماً كما هو
الحال في تسبيح الحصى في يديه، وسجود الشجر له، ونبع الماء من بين
أصابعه الشريفة، وتكليم الحيوانات له «صلى الله عليه وآله»، وغير ذلك.
ج: ولنفترض أننا حملنا مطلق الروايات على المقيد منها،
وقلنا: إن انشقاق القمر قد حصل باقتراح منهم فكما أنه لا يجب على النبي
«صلى الله عليه وآله» قبول كل اقتراح فلا يجب أيضاً أن يرد كل اقتراح.
ومع هذا فليس كل آية مقترحة توجب نزول العذاب، بل ما
يوجب ذلك هو ما يكون اقتراحا يمثل التحدي له من قبل عامة الناس، بحيث
يكون عدم ظهور الآية دليلاً لهم على كذب النبي في مدّعاه ـ والعياذ
بالله ـ ويتم حسم القضية بهذه الطريقة من الأساس.
أما إذا كان اقتراحاً من أفراد لا بعنوان التحدي العام
له، ولرسالته، فلا يجب أن ينزل العذاب بسبب ذلك.
وكذا لو كان هذا التحدي ليس حاسما كما ذكرنا.
ولم يظهر أن القضية في موضوع شق القمر كانت مستجمعة
لهذين الشرطين.
3 ـ وأما استدلاله على أن العذاب لابد أن ينزل بعد
الآية المقترحة بآية ﴿وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا
بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾
([8]).
فهو استدلال باطل، وذلك لما يلي:
ألف: إن ما ذكرناه آنفا كافٍ في إبطال هذا
الإستدلال.
ب: إن قوله تعالى: ﴿وَمَا
نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾
يدل على أن باب إرسال الآيات لم يغلق، وإنما هو مفتوح حين يريد الله
تعالى تخويفهم بإظهار قدرته وهيمنته.
ج: إن قوله في تفسير هذه الآية: إن إرسال الآيات لا
فائدة فيه.. لو صح: لاقتضى أن لا يكون سبحانه قد أرسل الآيات في السابق
أيضاً، فإنه إذا كانت الآيات بلا فائدة ولا تحقق نتيجة، فكيف يفعل الله
سبحانه أمراً لا فائدة فيه، وإن كانت مفيدة في السابق فما الذي منع من
فائدتها الآن.
4 ـ وبعدما ذكرنا يظهر بطلان قوله عن عدم وقوع
انشقاق القمر حسبما تقدم نقله من كتابه:
«وفي ضوء ذلك قد نلاحظ اختلاف هذا التفسير مع
المفاهيم القرآنية العامة، فيكون الحديث المتضمن لها حديثا مخالفا
للظواهر القرآنية».
وكيف انفرد في فهم هذه المخالفة مع أن علماءنا جميعا
تسلّموا هذه الاخبار بلا توقف، فيدور الامر بين الطعن فيما فهموه جميعا
بلا توقف هذا من جهة، أو الطعن في صحة فهمه هو من جهة أخرى، والأمر
موكول إلى القارئ المنصف لا سيما بعد ظهور عدم صحة ما استند اليه في
فهم هذا وهو لزوم نزول العذاب في المعجزات المقترحة.
5 ـ قال فيما تقدم:
«وقد نلاحظ في هذا المجال: ضرورة التدقيق في كلمة
مستمر، التي تعني انطلاق التهمة قبل الآية لتكون مستمرة بعدها، مما قد
يتنافى مع انطلاق تهمة السحر من خلالها».
وقد اعتبر ذلك مؤيداً لمقولة أن يكون المراد بالآية
الأولى التذكير بالأجواء التي توحي بيوم القيامة. ويكون قوله تعالى: ﴿وَإِنْ
يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾([9]).
من قبيل قولهم عنه: إنه ساحر دون أن تكون مرتبطة بحادثة معينة.
ونقول:
ألف:
إن التدقيق في كلمة مستمر لا يجديه نفعاً، لأن مقصودهم
بها: أن هذا الذي يرونه من انشقاق القمر ما هو بزعمهم إلا استمرار
لممارساته السحرية التي رأوا العديد من مفرداتها، فهذه الحادثة قد
جعلتهم يجددون اتهامهم إياه بهذه التهمة الباطلة. وتكون تهمة السحر له
قد انطلقت من هذه الحادثة بالذات، ولكنها تهمة لاحظ من أطلقها مجموعة
أحداث أراد أن يبرر بها عودته لإطلاق هذا الاتهام بالذات.
ب: إن من الواضح: أن اعتبار الآيات في سياق واحد أولى
من فصلها عن بعضها البعض، لا سيما إذا جاءت الرواية لتؤكد وحدة هذا
السياق، وترابط الآيات بعضها مع بعض.
فالإصرار على تجاهل الرواية الواردة عن أهل البيت
«عليهم السلام» وعن غيرهم الصالحة للقرينية على وجود هذا الارتباط
السياقي أمر لا مبرر له على الاطلاق.
6 ـ قد دافع عن القول: بأن غفلة الناس عن هذا الأمر
الخطير، وهو انشقاق القمر، تدل على عدم حصوله.
ونقول في دفاعه هذا:
إن ما ذكره من دلائل وشواهد لا يصلح لذلك، وذلك لما
يلي:
ألف: إن هذا الإنشقاق قد حصل في نصف الكرة الأرضية
حيث يوجد الليل دون النصف الآخر حيث يوجد النهار.
ب: في هذا النصف قد لا يلتفت أكثر الناس إلى ما يحصل
في الأجرام السماوية، إذا كان ذلك بعد نصف الليل، حيث الكل نائمون.
ج: لربما يكون في بعض المناطق سحاب يمنع من رؤية
القمر.
د: إن الحوادث السماوية إنما تلفت النظر إذا كانت
مصحوبة بصوت كالرعد، أو بأثر غير عادي كقلة نور الشمس في الكسوف، إذا
كان لمدة طويلة نسبياً.
هـ: هذا كله عدا عن أن السابقين لم يكن لهم اهتمام
كبير بالسماء وما يحدث لأجرامها.
و: لم يكن ثمة وسائل إعلام تنقل الخبر من أقصى الأرض
إلى أقصاها بسرعة مذهلة لتتوجه الأنظار لما يحدث.
ز: إن التاريخ الموجود بين أيدينا ناقص جداً، فكم
كان في تلك المئات والآلاف من السنين الخالية من كوارث، وزلازل، وسيول
عظيمة، أهلكت طوائف وأمماً، وليس لها مع ذلك في التاريخ أثر يذكر، بل
إن زرا دشت ـ وقد ظهر في دولة عظيمة وله أثر كبير على الشعوب على مدى
التاريخ ـ لا يعرف أين ولد وأين مات ودفن، بل يشك البعض في كونه شخصية
حقيقية أو وهمية.
7 ـ وبعد ما تقدم نقول: إنه لا يجب أن يعرف جميع
الناس بانشقاق القمر، ولا أن يضبطه التاريخ بشكل دقيق. بل اللازم هو
معرفته من قبل من ظهرت هذه المعجزة عنده من أجل إقناعه.
8 ـ إن إنكاره لمضامين الأحاديث التي أجمع عليها
المسلمون سوى من استثناهم هذا البعض، وهم فقط ثلاثة أشخاص: الحسن
البصري، وعطاء، والبلخي ـ إن إنكاره له ـ استناداً إلى هذه الاستبعادات،
الاستنسابية مع وجود هذه المعطيات التي قدمناها ليس له ما يبرره.
9 ـ قول هذا البعض: «إن الأرصاد لم تسجل هذا الأمر
ولا اشارت إليه..» لا يفيد شيئاً، لأن هذا الأمر لا حاجة فيه إلى
أرصاده، لأن الأرصاد كانت موجودة عند غير العرب، وكانت من القلة
بمكان.. وليس ثمة ما يشير إلى أن القائمين عليها كانوا في تلك الساعة
في حالة رصد للسماء ولما يجري فيها.
10 ـ إن من الواضح: أن إنكار شق القمر سوف يقطع الطريق
على الخوض في أمر رد الشمس إلى علي «عليه السلام» الثابت هو الآخر
بالرواية الصحيحة سنداً عند السنة فضلاً عن الشيعة، فإن الاستنسابات
والاستحسانات، التي أريد لها أن تنفي حادثة شق القمر تصلح لنفي حادثة
رد الشمس لأمير المؤمنين أيضاً.. وربما نجد في كلام هذا البعض ما يشير
بخصوصه إلى هذا الإنكار أيضاً. ولكننا لا نثير ذلك هنا، لأننا أخذنا
على عاتقنا الإقتصار في أقاويله على ما هو مكتوب ومطبوع.
480 ـ الكثير من الخيال في خصوصيات
الرواية المتواترة.
481 ـ في الروايات ما لا يستطيع الباحث
تفسيره بطريقة معقولة فهو من الخيال.
482 ـ الزمن لا يسمح بتغطية جميع
الحوادث المذكورة في الإسراء والمعراج.
483 ـ المسألة الإعجازية تبقى في دائرة
القدرة البشرية المحدودة للنبي «صلى الله عليه وآله».
484 ـ قدرات النبي «صلى الله عليه
وآله» تخضع لعامل الزمان والمكان.
485 ـ إذا كان الإسراء بالجسد فهو يخضع
للقدرات البشرية.
486 ـ إذا كان الإسراء بالجسد ففي
الروايات خيال وإلا فلا خيال.
ويقول البعض:
قصة
الإسراء:
«وقد أجملت الآية الأولى من هذه السورة مسألة
الإسراء ولم تفصل شيئاً من حوادثها.. ولكن الروايات المتواترة أفاضت في
الحديث عن ذلك، ربما كان في الكثير مما ذكر في خصوصياتها الكثير من
الخيال فيما نلاحظه من بعض القضايا التي قد لا يستطيع الباحث تفسيرها
بطريقة معقولة. لا سيما فيما أفاض فيه المحدثون عن قصة المعراج، الذي
يذكرون انه كان في ليلة الإسراء في الوقت الذي لا يسمح مثل هذا الزمن
القصير في تغطية ذلك كله لأن المسألة إذا كانت تحمل الإعجاز في طبيعتها
فإنها تبقى في دائرة القدرة المحدودة للنبي في خصوصيات بشريته التي
تخضع لعامل الزمان والمكان في حركته الزمانية والمكانية، إذا كان
الإسراء بالجسد كما هو المعروف فيما بينهم»([10]).
1 ـ لا ندري كيف يحكم هذا البعض على مضمون رواية
متواترة أن في الكثير من خصوصياتها الكثير من الخيال ؛ ثم يجعل ذلك
ذريعة لردها خصوصاً قصة المعراج. فإن تواتر الرواية يعني قطعية صدورها
عن المعصوم، فاذا كانت خصوصياتها متواترة أيضاً فإن تلك الخصوصيات تثبت
أيضاً. بل إنها حتى لو لم تكن متواترة، فإن ذلك لا يبرر له وصف تلك
الخصوصيات بأنها خيال، كما سيأتي لأن ثبوتها بما هو حجة بخبر الواحد
مثلا يكفي في لزوم التسليم بهاوالأخذ بمضمونها. فهل هذا الخيال هو خيال
المعصوم؟! أم هو خيالنا نحن في فهم وتقييم كلامه «عليه السلام»، وما
بيَّنه لنا من حقائق؟!
2 ـ إن عدم قدرة البعض على تفسير أو استيعاب بعض
القضايا لا يبرر له اعتبارها أموراً خيالية، بل عليه أن يترك المجال
لمن يملك القدرة على فهم هذه القضايا من خلال ما يعرفه من ضوابط
ومعايير إيمانية وعلمية قادرة على وضع الأمور في نصابها الصحيح.
3 ـ إن ما أفاض فيه المحدثون من تفاصيل في قضية
المعراج، إنما هو من الأمور التوقيفية الممكنة التي يفترض أن يأخذوها
من المعصوم المطلع على هذه الأمور التي لا يدركونها بعقولهم، ما دام
أنها ترتبط بعالم الغيب.
4 ـ إن الظاهر هو: أن هذا البعض لم يستطع تفسير ما
يذكر من تفاصيل في قضية الإسراء، فضلاً عن قضية المعراج فلجأ إلى
الاستبعاد والإنكار.
5 ـ إنه إذا كان الإنسان يرى في منامه أحداثاً
تفصيلية تحتاج إلى مساحة زمنية واسعة ـ نعم يراها ـ في زمن قصير
للغاية. فلماذا لا تختصر القدرة الإلهية الزمان الحقيقي في نطاق تجسيد
الحدث الزماني للأجسام التي تحتاج إلى الزمان والمكان. فإن سيطرة
القدرة الإلهية على الحركة في المادة الزمانية مما لا يصح إنكاره؟!
بل إننا نجد هذا الإنسان قد تغلب على كثير من
المصاعب، واختصر المسافات إلى درجة كبيرة ومذهلة، فكيف بخالق هذا
الوجود كله، الذي جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم «عليه السلام»
ومكّن آصف بن برخيا وصي النبي سليمان «عليه السلام» ﴿الَّذِي
عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾([11])
أن يأتي بعرش بلقيس، وما إلى ذلك؟!
وليكن الشاهد الحي على إمكانية الاسراء والمعراج، هو
حدوث نظائر كثيرة له حين تتدخل القدرة الإلهية.
ومن ذلك طيّ الأرض للإمام علي «عليه السلام»، حينما
جاء من المدينة في الحجاز إلى المدائن قرب بغداد في العراق، ليتولى
تجهيز سلمان الفارسي ودفنه..
([12]).
وكذا طيّ الأرض للإمام الجواد «عليه السلام» حيث ذهب
من المدينة في الحجاز إلى خراسان ليتولى مراسم تجهيز ودفن أبيه الإمام
الرضا «عليه السلام».
وكذلك الحال بالنسبة للإمام السجاد «عليه السلام» حينما
ذهب من الكوفة إلى كربلاء لدفن الأجساد الطاهرة حيث عاونته قبيلة بني
أسد على ذلك.
وليكن من ذلك أيضاً: انتقال عرش بلقيس من اليمن إلى
فلسطين، قبل ارتداد الطرف مع أن هذا العرش زماني ومكاني.
وليكن من ذلك أيضاً، قصة التقام الحوت ليونس، وبقائه في
بطنه برهة من الزمان، ﴿فَلَوْلَا
أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾([13]).
6 ـ إذا كانت القضية ترتبط بالإعجاز الإلهي، فلماذا
يجب أن تبقى في حدود القدرة البشرية المحدودة للنبي «صلى الله عليه
وآله»، فإن بقاءها كذلك يتنافى مع كونها معجزة إلهية؟!
ومن الذي قال: إن بشرية النبي «صلى الله عليه وآله»
تحدد قدرته إلى درجة يمتنع معها حصول مثل هذه الأمور له «صلى الله عليه
وآله»، حتى لو كان الإسراء بالجسد؟!
وهل يريد أن يقنعنا أن القول بصحة هذه التفاصيل
يلازم القول: بأن الإسراء كان بالروح، كما قالت عائشة وغيرها من بني
أمية؟!
وهل يريد أن يقنعنا: بعدم قدرة البشر على فعل الخوارق،
مع أن علياًً «عليه السلام» قال عن عيسى «عليه السلام»، فيما يرتبط
بمشيه على الماء: «لو ازداد يقيناً لمشى في الهواء»، فهل كان مشيه على
الماء بروحه أم بالروح والجسد؟!
([1])
الآية 1 من سورة القمر.
([2])
الآية 1 من سورة القمر.
([3])
الآية 95 من سورة الإسراء.
([4])
الآية 2 من سورة القمر.
([5])
الآية 6 من سورة الصف.
([6])
من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج 21 ص 323 ـ 331.
([7])
الآيات 32 ـ 34 من سورة الأنفال.
([8])
الآية 59 من سورة الإسراء.
([9])
الآية 2 من سورة القمر.
([10])
من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج 14 ص 6.
([11])
الآية 40 من سورة النمل.
([12])
ومناقشة البعض في هذا الأمر لا أهمية لها، لأنها تدخل في سياق
نظرته العامة لمثل هذه الامور إلى حدٍ ادعى معه لزوم تحصيل
التواتر القطعي في هذه الأمور وأمثالها.
([13])
الآيتان 143 و 144 من سورة الصافات.
|