صفحة :139-172   

الفصل الرابع: لمحات من داخل الشورى..


لماذا الأنصار؟!:

وقد ذكروا: أن عمر حين عهد بالشورى «قال للأنصار: أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيام، وإلا فادخلوا عليهم واضربوا أعناقهم»([1]).

وفي نص آخر: أنه طلب من أبي طلحة أن يعدّ خمسين رجلاً من الأنصار بأسلحتهم([2]) وأمره بقتل أركان الشورى على النحو المذكور تفصيله في النصوص..

ونقول:

إن اختيار الأنصار لهذه المهمة دون سواهم، حتى إنه لم يخلط بهم أحداً من قريش، ولا من غيرهم من قبائل العرب والجماعات، يثير أكثر من سؤال حول مقاصد عمر من هذا الإجراء، لا سيما مع علمه بأن قريشاً لم تنس بعد قتلاها في بدر وأحد والخندق، وغير ذلك، وهي لا تزال تعاقب علياً وبني هاشم على هذا الأمر، رغم علمها بأن علياً قد قتلهم لأجل دفع شرهم عن رسول الله وعن المسلمين، وعن دين الله سبحانه.

وقد قال عثمان نفسه لعلي «عليه السلام»: ما ذنبي إذا لم تحبك قريش وقد قتلت منهم سبعين رجلاً كأن وجوههم سيوف الذهب([3]).

لو قتل أصحاب الشورى:

وهنا سؤال يقول: لو أن أصحاب الشورى قتلوا أو قتل نصفهم، أو أربعة منهم، فكيف ستكون الحال حينئذ..

ونجيب: لعل عمر قد هيأ معاوية للإنقضاض على هذا الأمر، وهو الذي كان يصفه بكسرى العرب([4])، وقد قال لأصحاب الشورى إن اختلفتم غلبكم على هذا الأمر معاوية بن أبي سفيان([5]).

هددهم بالقتل لكي لا يشقوا العصا:

وقد زعم بعضهم: أن عمر إنما هدد أركان الشورى بالقتل في صورة ما إذا طلبوا الأمر عن طريق شق العصا، وطلب الأمر من غير وجهه([6]).

وهو كلام غير مقبول أيضاً.

أولاً: لأن شق العصا إنما يتصور بعد نصب الإمام.

ثانياً: إن من يسعى في الفتنة وشق العصا يجب وضع حد له، ولو أدى إلى قتاله، بمجرد ظهور ذلك منه، ولا يحتاج ذلك إلى الصبر ثلاثة أيام كما شرط عمر.

ثالثاً: إن عمر لم يذكر هذا القيد أعني قيد «شق العصا» في كلامه، فلماذا يتبرع هؤلاء بما لا يعلم أنه كان من قصده ولا من نيته.

رابعاً: ما الذي سلطه على دماء أركان الشورى، بعد موته، فإن موته ينزع عنه صفة الحاكم، والمتولي للأمر.

خامساً: لو سلمنا صحة صدور هذا الأمر بهذا الداعي، فما الذي جعل ابن عوف هو الميزان للحق والباطل، حتى سوغت مخالفته سفك دماء الأبرياء وفيهم خير أهل الأرض بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

سادساً: ورد في بعض النصوص: أنه أمر بقتل من يخالف ما يحكم به ولده عبد الله أيضاً([7]). مع أنه هو نفسه يقول: إن ولده لا يحسن أن يطلق امرأته..

لا بيعة لمكره تنقض الشورى العمرية:

ثم إن المعروف عند أهل السنة من أن الإمامة إنما تثبت بأحد أمرين:

أحدهما: النص من السابق على اللاحق.

الثاني: الشورى وإختيار الناس.

ولكن عمر لم ينص على الخليفة بعده.. كما أنه لم يترك للناس أن يختاروا، فخالف بذلك الأمرين معاً، بل هو قد جاء بطريق ثالث، لا دليل عليه من شرع ولا من عقل.

أما أهل البيت وشيعتهم، فيقولون: إن الإمامة لا تثبت إلا بالنص..

بل في أهل السنة من يرى أن البيعة تنعقد بواحد، أو بإثنين، أو بثلاثة أو بغير ذلك، فلو بايع أي من أهل الحل والعقد رجلاً من غير الستة، فبيعته لازمة.. فكيف حصر عمر بن الخطاب الأمر بهؤلاء الستة([8]).

ولماذا لم يدخل معهم غيرهم، ألم يكن في المسلمين من هؤلاء ـ على حد تعبيرهم ـ من أهل الحل والعقد غير هؤلاء.

ومن جهة أخرى: إن شورى عمر غير ملزمة، لأنه بعد موته لا سلطة له، فما معنى أمره بقتل أركان الشورى، أو قتل شطر منهم؟!

يضاف إلى ما تقدم: أن أمره بقتل الستة أو بعضهم، ومنعهم من حمل السلاح، وإعطاء السلاح لخصوص عبد الرحمان بن عوف، وللخمسين رجلاً الذين جعلهم بقيادة أبي طلحة.. يجعل هذه البيعة غير نافذة، لأنها وقعت تحت طائلة التهديد بالقتل.. ولا بيعة لمكره..

كما أنه لا يعلم تحقق رضا سائر المسلمين بهذه الشورى التي فرضت عليهم بقوة السلاح أيضاً، فإنه إذا لم يكن لدماء أركان الشورى قيمة، فما ظنك بدماء غيرهم ممن لا موقع له.

الإستخفاف بدماء أهل الشورى:

وقد أمر عمر بن الخطاب بقتل أصحاب الشورى جميعاً، إن لم يتفقوا، وإن اتفق ثلاثة فالذين ليس فيهم عبد الرحمان بن عوف يقتلون. وإن اتفق أربعة أو خمسة، يقتل الإثنان، أو الواحد([9])..

وتقدم أن علياً «عليه السلام» يقول: إن عمر كان جاداً حين أمر بقتلهم وذكر «عليه السلام» أن عمر كان يتوقع أن يُقتل علي «عليه السلام» على كل حال، ومعه الزبير.. وأما طلحة، فإن مال إلى علي «عليه السلام»، فهو يضحي به أيضاً.

ونقول:

لا بد من الأخذ بنظر الإعتبار ما يلي:

أولاً: هناك تناقض في أحكام عمر على أهل الشورى، فهو يأمر بقتل الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن بن عوف.. مما يعني: أن قتل عبد الرحمان ممنوع.. لأنه يعلم بأهواء وميول الأشخاص الذين اختارهم.

أما إذا جرت الأمور على خلاف ما يريد، فليقتل ابن عوف إذا لم يستطع ان ينجز المهمة الموكلة إليه، وهذا ما يفسر أمره بقتل الواحد لو اتفق الخمسة ـ حتى لو كان ذلك الواحد هو ابن عوف نفسه.

وأمره بقتل الإثنين ـ لو اتفق الأربعة ـ حتى لو كان ابن عوف هو أحد هذين الإثنين.

وأمره بقتل الستة بما فيهم عبد الرحمان بن عوف أيضاً، إن لم يحصل أي اتفاق.

ثانياً: كيف يقتل أناساً شهد هو لهم بأن النبي «صلى الله عليه وآله» مات وهو راضِ عنهم؟! وفيهم من لو وزن إيمانه بإيمان أهل الأرض لرجح إيمانه، باعتراف عمر نفسه.

ثالثاً: ما هو المبرر لقتلهم، حتى لو لم يتفقوا على خليفة منهم؟!. ومن أين نشأ وجوب اتفاقهم؟! هل نشأ من آية، أو رواية؟! أو لمجرد أن عمر هو الذي يحب حصول هذا الإتفاق؟!

ولو سلمنا لزوم اتفاقهم، فلماذا خصه بثلاثة أيام؟! فلعل الظروف تفرض عليهم التداول في الأمر أربعة أو خمسة أيام أو أكثر.

التأخر على نحو شق العصا يوجب القتل:

قال العلامة الحلي «رحمه الله»: «..ومن العجب اعتذار قاضي القضاة بأن المراد القتل إذا تأخروا على طريق شق العصا، وطلبوا الأمر من غير وجه»([10]).

ونقول:

نعم، إن هذا الكلام عجيب وغريب، وذلك لما يلي:

ألف: إن شق العصا لا يكون لمجرد عدم قبول رأي ابن عوف، إذا انقسموا إلى رأيين، ثلاثة بثلاثة.

ب: إن هذا التفسير من القاضي مجرد تكهن لا دليل على صحته.

ج: إن عمر ذكر: أنهم إن لم يتفقوا وجب قتلهم، وعدم اتفاقهم شيء، وشق العصا والعصيان والتمرد شيء آخر..

مجرد تهديد:

وقد اعتذر ابن روزبهان هنا، بأن هذا من عمر كان مجرد تهديد، إظهاراً لشدة الإهتمام بهذا الأمر([11]).

ونجيب:

ألف: إن هذا لو صح لم يكن لتهديد عبد الرحمان بن عوف علياً «عليه السلام» بالقتل إن لم يرض بعثمان أي معنى([12]).

ب: من الذي قال: إن الصحابة قد فهموا: أن الأمر كان مجرد تهديد؟! ولو فهموا التهديد لم يبق له أثر.. فكيف فهم هذا الذي ولد بعد مئات السنين أنه أراد التهديد دون الذين وجه الخطاب إليهم؟!

وإذا لم يكن الصحابة قد فهموا التهديد فكيف كانوا سيتصرفون لو حصل المحذور وحصل الإختلاف؟! هل سيقتلونهم، أم لا؟!

وإذا كان التهديد مفهوماً للصحابة، لم يكن لكلام عمر قيمة، لأنه لا يوجب انصياع اصحاب الشورى. وإذا كان هذا مجرد تهديد لم ينسجم مع قول ابن روزبهان: لأن التأخير مظنة لقيام الفتن، وعروض الحوادث([13]).

ج: إن عمر إنما أوصاهم أن يفعلوا ذلك بعد وفاته. فمن يمكنه أن يؤكد أنهم سوف لا يعملون بوصيته، ولن يقع المحذور، لا سيما وأن أمره قد جاء جازماً وحازماً، ولم تظهر لهم منه أية رخصة..

د: من أين علم من يدعي قصد التهديد صحة هذه الدعوى؟! فإن الله لم يطلعه على ما في القلوب والضمائر، فهو إنما يتكهن، ويرجم بالغيب.

رابعاً: لماذا لم يقتل أهل السقيفة، والذين لم يتفقوا على خليفة؟! أو لماذا لم يدع الناس إلى قتلهم على أقل تقدير؟!

ولا أقل من قتل سعد بن عبادة، وسائر بني هاشم، وجماعات آخرين لم يوافقوا ولم يرضوا بخلافة أبي بكر، ومنهم من لم يبايعه إلى أن مات؟!.

خامساً: لماذا عصم دم عبد الرحمان بن عوف والإثنين الذين يكونان معه في الشورى، ولم يأمر بقتلهم أيضاً..

سادساً: لماذا لا يجعل القرار منحصراً بالأكثر، ويعطي الحرية لمن أراد أن يخالف من دون أن يعرّضه للقتل..

سابعاً: ما هذه الدكتاتورية القاسية، التي تنتج قتل من يخالف غيره بالرأي؟! خصوصاً، وأن الستة لم يكن لهم حق التملص والتخلص من هذه الشورى المفروضة عليهم.. وكيف يصح اتهام من أذهب الله عنهم الرجس بالمعصية؟!

ثامناً: ما هذا الإستخفاف بدماء جماعة من المسلمين، ومن أعيان الصحابة؟! وفيهم من هو نفس رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأخوه، وابن عمه، وصهره، ومن طهره الله تطهيراً، ومن عنده علم الكتاب..

ألم يكن هذا الإستخفاف من أسباب جرأة الناس على الدماء، وعلى دماء نفس هؤلاء الخلفاء؟! حيث سعى الناس إلى قتل عثمان([14]). وسعوا أيضاً بقيادة عائشة وطلحة والزبير إلى قتل علي، وأبنائه «عليه وعليهم السلام»، وصحبه وشيعته، وسائر المسلمين معه في حرب الجمل.

ثم بقيادة معاوية لقتل هؤلاء بالذات في حرب صفين.

ثم تجرأ الأعراب والأجلاف الذين عرفوا بالخوارج على قتل هؤلاء وقتل كل مسلم. فكانت حروب النهروان؟!.

ألم يكن هذا الإستخفاف هو الذي جرأ يزيد بن معاوية، وعبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، ومن معهم من شيعة آل أبي سفيان على قتل الإمام الحسين بن علي، ريحانة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وسيد شباب الجنة، ونجوم الأرض من بني عبد المطلب، وصفوة الخلق من أهل بيته، وأصحابه.

تاسعاً: إن عمر تارة يقول: إن الأمر يدور مدار رأي عبد الرحمان بن عوف وأخرى يقول ـ كما يقول ابن قتيبة ـ:

إن الأمر إن اختلفوا بيد ولده عبد الله، فلأي الثلاثة قضى فالخليفة منهم وفيهم، فإن أبى الثلاثة الأخر فأضربوا أعناقهم([15]). إلا أن يكون قد خشي من أن يطلب ابن عوف الأمر لنفسه، فيكون ولده عبد الله هو المرجح لعثمان.

سكوت علي أيام الشورى:

وقد صرح علي «عليه السلام» في كلامه مع اليهودي: بأن أهل الشورى مكثوا أيامهم كلها، كل يخطب لنفسه، وهو «عليه السلام» ممسك إلى أن سألوه عن أمره، فناظرهم.

وأشارت رواية الطبري أيضاً إلى سكوت علي «عليه السلام» في البداية، ولكنها أبقت الأمر على درجة من الإلتباس والإبهام، قال الطبري:

«فتنافس القوم في الأمر، وكثر بينهم الكلام، فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها، لا والذي ذهب بنفس عمر، لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أُمرتم، ثم أجلس في بيتي وأنظر ما تصنعون.

فقال عبد الرحمان: أيكم يخرج نفسه..

إلى أن قال: فقال القوم: قد رضينا ـ وعلي ساكت ـ فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟! إلخ..»([16]).

ونستطيع أن نقول:

إن ما نقله الطبري عن أبي طلحة إنما أراد به سائر أهل الشورى باستثناء علي «عليه السلام»، لأن علياً «عليه السلام» بقي ساكتاً في حين أن سائرهم بقوا أياماً كل يخطب لنفسه..

وقد أظهر سكوته هذا دخائل نفوسهم، وأن كل همهم هو الوصول إلى هذا الأمر، حتى أدركه أبو طلحة، وواجههم به..

علي في مداولات الشورى:

وقد بين لنا علي «عليه السلام» في نقله لما جرى في الشورى كيف أنه «عليه السلام» كشف نوايا أعضاء الشورى، وجعلهم يصرحون بطموحاتهم.. فكانت خلواته بهم تفسح لهم المجال لطرح وعدهم إلى جانب طلبهم الوحيد، وهو أنهم يبايعونه شرط أن يصيرها إلى كل واحد منهم بعده..

مع أن الجميع كانوا أسن من علي «عليه السلام» بسنوات كثيرة، باستثناء الزبير، فإنه كان أسن منه «عليه السلام» بسنتين.

أما سعد، فيكبره بحوالي تسع سنوات، وطلحة يكبره بست سنوات، وابن عوف بحوالي عشرين سنة، فضلاً عن عثمان الذي كان يكبره بأكثر من خمس وعشرين سنة.

وذريعتهم في ذلك، الإقتداء بأبي بكر وعمر الذين مضيا قبلهم.

والدافع إلى ذلك حسب تصريح أمير المؤمنين «عليه السلام» هو حبهم للإمارة، وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي، والركون إلى الدنيا.

علي لا يثق بابن عوف:

وقد تبرع ابن عوف وفقاً للخطة المتفق عليها بينه وبين عمر بأن يسحب ترشحه للخلافة مقابل أن يتولى هو اختيار الخليفة من بينهم.. فرضي بذلك سائرهم، وسكت علي «عليه السلام»، الذي كان يعرف ميول ابن عوف إلى قريبه عثمان.

ولكن علياً «عليه السلام» أصبح أمام خيارين:

أحدهما: أن يعلن رفضه لتولي عبد الرحمان ذلك، فيكون وحده في مواجهة الباقين، ويصبح تولية غيره في هذه الحال استناداً لمنطق الأكثرية الذي قرره عمر، أمراً مبرراً ومقبولاً، ولا يمكن الإعتراض عليه.

الثاني: أن يضع عبد الرحمان تحت طائلة القسم، ويجعل نفوذ قراره مشروطاً بشروط لا تتوفر بغيره «عليه السلام»، ولا يمكن لأحد أن يعترض عليها.. ويجد بذلك السبيل إلى توضيح عدم مشروعية قرار عبد الرحمان، ويكون معذوراً في الجهر بعدم رضاه به.. ولكنه مع ذلك كان لا يريد أن يتجاوز قاعدة: «لنا حق فإن أُعطيناه، وإلا ركبنا اعجاز الإبل، وإن طال السرى».

وكان هذا الخيار الثاني هو المتعين.. فلما طالبه ابن عوف بالإفصاح عن رأيه طلب منه أن يعطيه موثقاً بأن يؤثر الحق، ولا يتبع الهوى، ولا يخص ذا رحم، مقابل أن يرضي علي «عليه السلام» بقراره، ضمن هذه الشروط..

وكان من الواضح: أن هذا القرار ـ لو التزم عبد الرحمان بشروط علي «عليه السلام» ـ لا بد أن يأتي لصالح علي «عليه السلام»، فإنه هو صاحب الحق، كما أعلن عمر في مناسبات كثيرة، وقد بايعه هؤلاء وغيرهم يوم الغدير، ونص القرآن على ولايته، كما في آية التصدق بالخاتم وآية إكمال الدين..

ولم يزل النبي يؤكد على هذا الأمر إلى أن استشهد «صلى الله عليه وآله»..

ولكن عبد الرحمان بن عوف لم يلتزم بالميثاق، وآثر قرابته.. فأعلن علي «عليه السلام» ذلك وقال له:

«حبوته حبو دهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك».

فكان جواب ابن عوف هو التهديد والوعيد، والتلويح له بالقتل بالسيف.

ابن عوف يحرك أعداء علي :

ويستفاد من النصوص أيضاً: أن ابن عوف قد نقل المداولات من داخل الشورى إلى خارجها، وأشرك الآخرين فيها، فأعطى الفرصة للفريق الأموي، وكثير من غيرهم لإعلان موقفهم الرافض لتولي علي «عليه السلام»، ليظهر بذلك أن توليه سوف يخلق مشكلة في داخل المجتمع الإسلامي، أو هو على الأقل لا يساعد كثيراً على حل المشكلة..

أي أن ابن عوف أراد أن يوظف المشاعر العدائية الموروثة من الذين حاربوا الله ورسوله، الذين وترهم علي «عليه السلام» وقتل آباءهم، وابناءهم، وإخوانهم، وهو يحاربهم دفاعاً عن دينه..

وتمكن من تأليب القبائل والجماعات ليعلنوا موقفهم الرافض لتوليه، وليستفيد من ذلك في إضعاف موقعه صلوات الله وسلامه عليه، والحد من حركته، والضغط عليه، وتقوية موقع عثمان في مقابله.

ابن عوف ألغى دور ابن عمر:

وقد لوحظ: أن عبد الرحمان بن عوف لم يحتج إلى ابن عمر في تحقيق مآرب عمر بن الخطاب، رغم أن عمر كان قد أوصاه باستشارته([17]).. بل في بعض النصوص عن علي «عليه السلام»: وصيَّر ابنه فيها حاكماً علينا([18]).

فكأن ابن عمر قد بقي بمثابة الرصيد الإحتياطي الذي أراد أبوه له أن يكون ضمانة حاسمة لو حدث أي تحول في طموحات ابن عوف نفسه، باتجاه الإستئثار بهذا الأمر لنفسه، مستفيداً من صلاحياته مقابل علي «عليه السلام» وعثمان، لو اعتزل سعد والزبير وطلحة، فيكون ابن عمر هو الذي يحسم الموقف لصالح عثمان..

وحيث إن ابن عوف سار في الإتجاه المرسوم له، لم تبق حاجة إلى تدخل ابن عمر، ولم يحتج ابن عوف إلى مساعدته، بل تولى هو حسم الأمر.

ويؤيد ما قلناه: أن عمر قد أعطى الخيار لولده من دون أن يقيده بأي شرط، فلم يشترط عليه ترجيح الفئة التي فيها عبد الرحمان مثلاً.

عبد الله بن عمر والخلافة:

وهنا أمور يحسن الإلماح إليها، ترتبط بعبد الله بن عمر، ودوره في الشورى.. وهي:

1 ـ إن أباه لم يره أهلاً للخلافة، لأنه كما يقول أبوه: لم يحسن أن يطلق امرأته([19]).

2 ـ إن أباه نفسه يجعل دماء الناس بيد هذا الولد بالذات.. ويأمر بقتل من يخالفه، حتى لو كان من أوصياء خاتم الأنبياء وأفضل البشر!!

3 ـ إن أباه نفسه يجعل مصير الخلافة الإسلامية كلها بيد هذا الولد أيضاً، حيث أمرهم بأن يعملوا برأي عبد الله، ويقول لهم: فإن رضي ثلاثة رجلاً، وثلاثة رجلاً فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم فليختاروا رجلاً، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف، واقتلوا الباقين([20]).

وفي نص آخر: فاحتكموا إلى ابني عبد الله، فلأي الثلاثة قضى فالخليفة منهم وفيهم، فإن أبى الثلاثة الأخر فاضربوا أعناقهم([21]).

الإجماع على عثمان.. أكذوبة:

وفي الطبري أكذوبة ظاهرة تحكي لنا تحرك عبد الرحمان في داخل الشورى، حيث ذكرت:

أن عبد الرحمان بن عوف سأل عثمان عن رأيه، فأشار بعلي، فاستخرج رأي علي فأشار بعثمان، وأشار الزبير بعثمان، وكذلك فعل سعد بن أبي وقاص.. ودار عبد الرحمان لياليه يلقى أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ومن ورد المدينة من أمراء الأجناد، وأشراف الناس يشاورهم، ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان..

ثم جمعهم وعرض على علي «عليه السلام» العمل بسنة الشيخين، ثم بايع لعثمان..

ونقول:

أولاً: لماذا يدخل عبد الرحمان سائر الناس في هذا الأمر، فيسأل فيه كل من وافى المدينة من أمراء الأجناد، وأشراف الناس، ولماذا يدور لياليه يسأل أصحاب محمد..

ثانياً: هل سأل عبد الرحمان سلمان، وأبا ذر، والمقداد، وعماراً، وبني هاشم، وخالد بن سعيد والأشتر، وأبا الهيثم بن التيهان، وقيس بن سعد و.. و.. فأشاروا عليه بعثمان؟!.

ثالثاً: كيف يشير عليه علي «عليه السلام» بعثمان، ولم يظهر لعثمان أي خصوصية أو فضل يميزه عن غيره من أركان الشورى، لا في الجهاد في سبيل الله، ولا في العلم، ولا في التقوى، بل هو حين تحدى عمار بن ياسر في بناء المسجد، انتصر النبي «صلى الله عليه وآله» لعمار([22])، وقد عرفنا موقف النبي «صلى الله عليه وآله» منه حين ماتت زوجته وبات ملتحفاً بجاريتها، فحرمه النبي «صلى الله عليه وآله» من حضور جنازتها.

وحين فر في أحد وعاد بعد ثلاثة أيام، قال النبي «صلى الله عليه وآله» له ولمن معه: لقد ذهبتم بها عريضة.. وغير ذلك..

رابعاً: لو صح أن بعض الجماعات أشارت على عبد الرحمان بن عوف بتولية عثمان، فذلك لا يدل على سلامة هذا الرأي، فإن أكثر الناس إنما يهتمون بشؤون دنياهم، ويشيرون بتولية من يرون مصالحهم محفوظة في ظل ولايته..

وكان عمر قد أطلق العنان لنفسه بتخويف الناس من ولاية علي «عليه السلام»، الذي سوف يحملهم على الحق وإن كرهوا على حد تعبيره..

وتنبأ بأن يحاربه الناس بسبب ذلك..

خامساً: إن كان سعد قد أشار بعثمان، فكيف قال سعد لعبد الرحمان: «إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلي أحب إلي».

سادساً: كيف أشار الزبير بعثمان.. ثم لما جرت الأمور جعل نصيبه لعلي؟!.. فقد كان الأحرى به ـ لو صحت تلك الرواية ـ أن يجعل نصيبه لعثمان.

سنة الشيخين:

ويقولون: إن عبد الرحمان بن عوف خلا بعلي «عليه السلام» وقال له: لنا الله عليك، إن وليت هذا الأمر أن تسير فينا بكتاب الله، وسنة نبيه، وسيرة أبي بكر وعمر..

فقال «عليه السلام»: أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت.

فخلا عبد الرحمان بعثمان، فقال له: لنا الله عليك إن وليت هذا الأمر أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه، وسيرة أبي بكر وعمر.

فقال: لكم أن أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه، وسيرة أبي بكر وعمر.

ثم خلا بعلي فقال له مثل مقالته الأولى، فأجابه الجواب الأول.

ثم خلا بعثمان فقال له مثل المقالة الأولى، فأجابه مثلما كان أجابه.

ثم خلا بعلي فقال له مثل المقالة الأولى، فقال علي «عليه السلام»: إن كتاب الله وسنة نبيه لا يحتاج إلى أجِّيري [أي طريقة] أحد، أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر عني.

فخلا بعثمان، فأعاد عليه القول، فأجابه بذلك الجواب، وصفق على يده([23]).

ونقول:

أولاً: ان الكل يعلم أنه «صلى الله عليه وآله» قال: إن علياً مع الحق والقرآن، والقرآن والحق مع علي.. وبأن علياً «عليه السلام» كما لم يكن راضياً عن أصل خلافة أبي بكر وعمر، فإنه كان معترضاً على كثير من سياساتهما وأحكامهما، وكان يصحح لهما أخطاءهما باستمرار، وكانا يرجعان إليه في المعضلات.

ومن المشهورات قول عمر: لولا علي لهلك عمر. فكيف يرضى علي «عليه السلام» بأن يلتزم بالعمل بسيرة من كانا يحتاجان إليه وهو مستغنٍ عنهما؟! ولولاه لفضحتهما مخالفاتهما، وهو «عليه السلام» يعلم أكثر من غيره كثرة أخطائهما، بل هو يعلم تعمدهما إصدار فتاوى، وانتهاج سياسات تخالف ما ثبت في القرآن الكريم، وعلى لسان النبي العظيم؟!

وأيضاً: كيف يجعل سيرتهما موازية لسيرة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وهو النبي المعصوم.. وهما ليسا كذلك قطعاً..

من أجل ذلك نقول:

إن وضع هذا الشرط الذي يستحيل على علي «عليه السلام» أن يرضى به هو بنفسه قرار مسبق باستبعاد وصي رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وذريعة لجعل الخلافة لعثمان.

ثانياً: إن هذا النص هو الأصح من ذلك النص الذي يقول: إنه «عليه السلام» رد على ابن عوف بأنه يعمل بكتاب الله وسنة نبيه، واجتهاد رأيه([24])، فإن علياً «عليه السلام» لم يكن يجيز العمل بالرأي في أحكام الله تعالى.. وهذا هو النهج الذي أخذه عنه ومنه أهل بيته وشيعته وساروا عليه، على مر العصور والدهور.

وكيف يرضى بما عرضه عليه ابن عوف، وهو «عليه السلام» الذي يقول:

«إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، تفلتت منهم الأحاديث أن يحفظوها، وأعيتهم السنة أن يعوها، فاتخذوا عباد الله خولاً، وماله دولاً، فذلت لهم الرقاب، وأطاعهم الخلق أشباه الكلاب، ونازعوا الحق أهله، وتمثلوا بالأئمة الصادقين، وهم من الكفار الملاعين، فسئلوا عَمّا لا يعلمون، فأنفوا أن يعترفوا بأنهم لا يعلمون، فعارضوا الدين بآرائهم، فضلوا وأضلوا.

أما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين أحق بالمسح من ظاهرهما»([25]).

ولعل قوله «عليه السلام»: وهم الكفار الملاعين يراد منه معناه اللغوي، وهو التستر على الحق وطمسه.. وليس المراد منه الكفر مقابل الإيمان.. إلا إذا فرض أنهم يستخفون بسنة النبي «صلى الله عليه وآله» ويقدمون آراءهم عليها.

ثالثاً: إن هذا الموقف منه «عليه السلام» يستبطن الحكم على سنة الشيخين بالخطأ والبوار، وعدم شرعيتها..

كما أن نفس جعل عبد الرحمان سنتهما في عرض كتاب الله وسنة نبيه يدل على أن عبد الرحمان بن عوف نفسه يرى سننهما مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه.

رابعاً: إن عمر بن الخطاب شهد لعلي «عليه السلام» بأنهم لو ولوه لحملهم على المحجة البيضاء، وسلك بهم الطريق المستقيم.. فإذا كان علي «عليه السلام» يرفض العمل بسنة الشيخين، فذلك يعني: أن الصراط المستقيم والمحجة البيضاء بخلاف سنتهما، بنص من عمر نفسه.. إذ لو كانت غير مخالفة لوجب على علي «عليه السلام» أن يأخذ بها.

خامساً: إن الرواية التي تنسب إلى علي «عليه السلام» قوله: إنه مستعد لأن يعمل بكتاب الله، وسنة نبيه، وسيرة أبي بكر وعمر فيما استطاع([26]). إن صحت فلا بد أن يكون المراد بها أن علياً «عليه السلام» يستطيع أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه، لكنه يشترط للعمل بسنة الشيخين بأن يستطيع ذلك. إذ ليس المراد عجزه عن العمل بالحق، لأن الحق يدور معه حيث دار. بل لأنه يرى أنها لا توافق الحق في بعض الأحيان على الأقل. لأن ما انفردت به سنتهما عن الكتاب والسنة النبوية مخالف للحق بلا ريب.

ويبدو لنا: أن الرواية الصحيحة هي تلك التي تقول: إنه يعمل بكتاب الله وسنة نبيه فيما استطاع، وذلك في إشارة منه إلى أن الناس سوف لا يخضعون لكتاب الله وسنة نبيه بعد أن تركوا العمل بها، وسيواجه صعوبات بالغة في ذلك، وستأتي الإشارة إلى ما جرى في صلاة التراويح، وإلى أسباب حرب الجمل وصفين والنهروان، وأن المطلوب كان هو سنة العمرين لا سنة النبي «صلى الله عليه وآله».

سادساً: إن جواب علي «عليه السلام» لابن عوف كان يجب أن يكفي لدفع ابن عوف للتراجع عن هذا الشرط، لأن هذا الجواب قد اوضح أن قبول هذا الشرط معناه القبول بأن الشريعة ناقصة، وبأنها تحتاج إلى متمم.

وهذا كلام خطير جداً، وطعن في الدين، وفي النبي «صلى الله عليه وآله».. والنبوة لمن عقل وتدبر.. فلا بد من التراجع عنه، واستغفار الله تعالى منه..

فلماذا يصر عبد الرحمان عليه، ويجعله هو المعيار في الرد والقبول، في أمر هو من أخطر الأمور وأعظمها أهمية؟!

وهل هو إلا مجرد اقتراح شخصي، لا دليل عليه، لا من عقل ولا من شرع، بل الدليل قائم على فساده، وإفساده من حيث أنه يؤدي إلى الإدخال في الدين لما ليس منه؟!

سابعاً: لقد أوضح علي «عليه السلام» لابن عوف أن اقتراحه هذا يدل دلالة واضحة على أن كل همه هو أن يصرف الخلافة عنه.. لأن ابن عوف كان يعلم أن من المستحيل على علي «عليه السلام» أن يقبل بشرط كهذا.. وذلك للأسباب التي أشرنا إليها في معالجتنا هذه.

حبوته حبو دهر:

وكما كان عمر بن الخطاب يسعى لتشييد سلطان أبي بكر، ليكون له هو نصيب منه.. كذلك كان عبد الرحمان يسعى بالأمر لعثمان، ليرد له عثمان وبنو أمية هذه اليد في الوقت المناسب. لعلمه بأن الأمر لا يصل إليه من علي «عليه السلام»، لأكثر من سبب، ومنها فارق السن.. وكون الحسن والحسين «عليهما السلام» وهما سيدا شباب أهل الجنة إبنيه.. ولا يعدل أحد ابن عوف بهما في الفضل والعلم، والطهر والقداسة.. بالإضافة إلى أن في بني هاشم من لا يدانيه عبد الرحمان بن عوف ولا غيره في ذلك..

أما عثمان فهو رجل مسن، ولا شيء يمنع من انتعاش الأمل لدى عبد الرحمان بنيل الخلافة من بعده.. بعد أن تكون قد اتسعت في قريش، وأصبح لبني زهرة أمل بالوصول إلى هذا المقام، إذا أفسح لهم المجال بنو أمية الذين حاربوا النبي «صلى الله عليه وآله» بكل ما أمكنهم، وقد وصلوا إلى مقام لم يكن أحد منهم يحلم بالإقتراب منه، فضلاً عن أن يناله، وذلك لأن عبد الرحمان بالاستناد إلى توصية عمر يكون قد أسقط عملياً جميع المعايير، وأزال كل العقبات والموانع، من وصول أي كان من الناس إلى هذا الأمر الخطير.

وهذا هو السر في أهمية الإنجاز الذي حققه عبد الرحمان بن عوف لعثمان ولبني أمية، ولسائر بطون قريش.. فلماذا لا يتوقع منهم رد هذا الجميل إليه، وأن ينيلوه منه كلعقة الأنف، مهما كانت قصيرة فيما تبقى له من عمره، فقد كان عمر عثمان حين البيعة له سبعين سنة وأشهراً وهو يكبر عبد الرحمان بن عوف يوم الشورى بخمس أو بست سنين فقط..

أما علي «عليه السلام» فلم يتجاوز عمره يوم الشورى الست والأربعين سنة..

فلو قدر لعبد الرحمان أن يعيش، فهو يأمل أن يعيش بضع سنوات بعد عثمان.. ولكنه أمله سيكون أضعف بالبقاء إلى ما بعد خلافة علي «عليه السلام»..

فما المانع من أن يفسح بنو امية المجال له، ولو بأن يكون له الإسم، ويكون لهم الرسم، والحسم، ثم تعود إليهم إسماً ورسماً، كما كانت في عهد عثمان؟!

ولذلك قال له علي أمير المؤمنين «عليه السلام»: «حبوته حبو دهر» وقال له: «والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم في شأن».

وقد أشار «عليه السلام» بقوله: «والله كل يوم في شأن» إلى أن أمل عبد الرحمان سوف لن يتحقق، لأن الأمور سوف تتغير، لاسيما وأنه «عليه السلام» قد دعا الله، فقال لعبد الرحمان، وعثمان: دق الله بينكما عطر منشم، فاستحكم العداء بين الرجلين، حتى مات عبد الرحمان بن عوف وهما متهاجران.

كما أن عبد الرحمان لم يكن يعلم بأن عثمان سوف يسيء السيرة في حكمه، حتى يسير إليه الناس من البلاد، لقتله.. مع أن عمر قد صرح له بذلك بحضور عبد الرحمان..

وقد قلنا: إن الظاهر هو أن عمر كان قد سمع بذلك من رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

حالان مختلفان:

وتبقى لنا هنا وقفة ولفتة، نبين فيها الفرق بين حال عبد الرحمان وعثمان من جهة، وحال أبي بكر وعمر من جهة أخرى، فإنهما حالان مختلفان، وقد اقتضى هذا الإختلاف بينهما أن يختلف بيان علي «عليه السلام» في الموردين.

فقد قال «عليه السلام» لعمر، حين كان بصدد اغتصاب الخلافة لصالح أبي بكر: «إحلب حلباً لك شطره»([27]).

وقال في خطبته الشقشقية: «لشدّ ما تشطرا ضرعيها»([28]).

وقد ظهر مصداق كلامه حين أصبح أبو بكر وعمر يتصرفان في الأمور معاً، حتى أن بعضهم سأل أبا بكر: أنت الخليفة أم هو؟!.

فقال: بل هو إن شاء([29]).

ولكنه «عليه السلام» بالنسبة لعبد الرحمان وعثمان اقتصر على القول: «والله، ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك»، ثم أردف ذلك بما يشير إلى تبدل الأمور، وعدم جريانها وفق ما يشتهي عبد الرحمان، وهكذا كان..

هل بايع علي عثمان بن عفان؟!

تدعي بعض النصوص: أن علياً «عليه السلام» بايع عثمان بن عفان، بعد تهديد عبد الرحمان بن عوف إياه بالقتل..

فقد ذكر البلاذري: أنه لما بايع أصحاب الشورى عثمان كان علي. فقعد (أي قعد عن البيعة)، فقال له عبد الرحمان بايع، وإلا ضربت عنقك، ولم يكن مع أحد سيف غيره.

فيقال: إن علياً خرج مغضباً، فلحقه أصحاب الشورى، فقالوا: بايع وإلا جاهدناك، فأقبل معهم حتى بايع عثمان([30]).

وفي الطبري: وجعل الناس يبايعونه، وتلكأ علي، فقال عبد الرحمان: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}([31]) فرجع علي يشق الناس حتى بايع، وهو يقول: خدعة وأيما خدعة([32]).

وعند ابن قتيبة: قال عبد الرحمان لا تجعل يا علي سبيلاً إلى نفسك، فإنه السيف لا غيره([33]).

ولكن الشيخ المفيد «رحمه الله» لا يوافق على هذا الذي زعموه، ويقول: «وانصرف مظهراً النكير على عبد الرحمان. واعتزل بيعة عثمان. فلم يبايعه، حتى كان من أمره مع المسلمين ما كان»([34]).

وربما يكون هذا النص الأخير هو الأقرب إلى الإعتبار، مع الإلتفات إلى أنه يمكن الجمع بين هذه الروايات بتقدير أن يكون «عليه السلام» قد أعطى وعداً بعدم الخروج على الذي بويع، فاكتفوا منه بذلك، واعتبروه بمثابة البيعة، وأشاعوا ذلك بين الناس..

ولعلهم أخذوا يده بالقوة والقهر حتى مسح عليها عثمان، فقالوا بايع علي، تماما كما جرى في حديث البيعة لأبي بكر..

وحتى لو بايع «عليه السلام» تحت وطأة التهديد بالقتل، فإنه ليس لهذه البيعة قيمة ولا أثر، إذ لا بيعة لمكره.. ولا سيما مع وجود خمسين مسلحاً. بالإضافة إلى سيف عبد الرحمان بن عوف، وعدم وجود سلاح مع أحد سواه.

خدعة وأي خدعة:

أما ما يذكرونه عن خدعة عمرو بن العاص لعلي «عليه السلام»، فسيأتي الحديث عنه في الفصل التالي إن شاء الله تعالى..


([1]) الطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص342 وكنز العمال ج6 ص359 و (ط مؤسسة الرسالة) ج12 ص681 ودلائل الصدق ج3 ق1 ص119 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص330 وتثبيت الإمامة للهادي يحيى ابن الحسين ص41 وراجع: الطرائف لابن طاووس ص480.

([2]) راجع: تاريخ الأمم والملوك ج3 ص294 والكامل في التاريخ ج3 ص67 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص339 و 347 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص187 والشافي في الإمامة ج3 ص212 والأربعين للشيرازي ص568 وبحار الأنوار ج31 ص398 وج30 ص13 والتنبيه والإشراف ص252 والنص والإجتهاد ص385 ونهج السعادة ج5 ص212 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج4 ص76 والمسترشد ص415 وكشف المحجة لابن طاووس ص178.

([3]) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» ج11 ص246 عن معرفة الصحابة ج1 ص86 و 338.

([4]) راجع: شرح الأخبار للقاضي النعمان ج 2 ص 164 والغدير ج 10 ص 226 = = والاستيعاب لابن عبد البر ج 3 ص 1417 وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 59 ص 114 و115 وأسد الغابة لابن الأثير ج 4 ص 386 وسير أعلام النبلاء للذهبي ج 3 ص 134 والإصابة لابن حجر ج 6 ص 121 والأعلام خير الدين الزركلي ج 7 ص 262 وتاريخ الإسلام للذهبي ج 4 ص 311 والبداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 134 وإحقاق الحق (الأصل) ص 263.

([5]) راجع: كتاب الأربعين للقمي الشيرازي ص 568 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 1 ص 187 وج 3 ص 99 وكتاب الفتن للمروزي ص 70 وحياة الإمام الحسين «عليه السلام» للقرشي ج 1 ص 296 وبحار الأنوار ج 31 ص 54 وكنز العمال ج 11 ص 267.

([6]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص258 و 261 والصراط المستقيم ج3 ص24 والشافي في الإمامة ج4 ص205 ونهج الحق ص288 و 246 وإحقاق الحق (الأصل) ص245 وذكر ذلك الفضل بن روزبهان، كما في دلائل الصدق ج3 ص1 ص115.

([7]) الإمامة والسياسة ج1 ص24 و 25 و (تحقيق الزيني) ج1 ص29 و (تحقيق الشيري) ج1 ص42 و 43.

([8]) قد يقال: إن عمر حصرها في ستة، لأن الذين اختاروا أبا بكر كانوا خمسة.. فيجعل عمر الشورى في ستة ليختار الخمسة واحداً هو السادس.

([9]) راجع: الكامل في التاريخ ج3 ص66 حوادث سنة 23 وتاريخ اللأمم والملوك ج4 ص428 حوادث سنة 23 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص294 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص28 و (تحقيق الشيري) ج1 ص42 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص187 ومناقب أهل البيت «عليهم السلام» للشيرواني ص349 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص339 و 347 والوضاعون وأحاديثهم ص499 وتاريخ المدينة لابن شبة ج3 ص924 والشافي في الإمامة ج3 ص212 والنص والإجتهاد ص384 و 398 والغدير ج5 ص375 وكتاب الأربعين للشيرازي ص568 وبحار الأنوار ج31 ص398 ونهج السعادة ج1 ص113.

([10]) دلائل الصدق ج3 ق1 ص115 و (ط دار الهجرة ـ قم) ص288.

([11]) المصدر السابق.

([12]) راجع: الغدير ج9 ص197 و 379 وج10 ص26 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص194 وج6 ص168 وج12 ص265 والوضاعون وأحاديثهم ص498 و 499 وتقريب المعارف ص351 والتحفة العسجدية ص129 وغاية المرام ج2 ص68 وج6 ص8 وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص193 وبحار الأنوار ج31 ص66 و 403 وصحيح البخاري ج8 ص123 والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص147 وعمدة القاري ج24 ص272 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص304.

([13]) إحقاق الحق (الأصل) للتستري ص246

([14]) قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة ج1 ص186 نقـلاً عن كتاب = = السفيانية للجاحظ: إن عمر قال لعثمان يوم عهده بالشورى: «كأني بك وقد قلدتك قريش هذا، فحملت بني أمية، وبني أبي معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً، والله، لئن فعلوا لتفعلن، وإن فعلت ليفعلن. ثم أخذ بناصية عثمان فقال: إذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه كائن».

([15]) الإمامة والسياسة ج1 ص28 و (تحقيق الزيني) ج1 ص29 و (تحقيق الشيري) ج1 ص42.

([16]) تاريـخ الأمـم والملـوك ج4 ص230 و 231 و (ط مـؤسسـة الأعلمي) ج3 = = ص295 و 296 والكامل في التاريخ ج3 ص68 و 69 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص343 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص192 و 193 وتاريخ المدينة لابن شبة ج3 ص927.

([17]) حياة الحيوان ج1 ص346 (ترجمة عمر).

([18]) الخصال ج2 ص375 وبحار الأنوار ج31 ص347 وج38 ص177 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج3 ص139 وشرح الأخبار ج1 ص351 وحلية الأبرار ج2 ص371.

([19]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص227 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص292 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص343 وبحار الأنوار ج28 ص383 و 384 وج31 ص77 و 78 و 354 و 356 و 385 و 394  وج49 ص279 والإحتجاج ج2 ص320 و (ط دار النعمان) ج2 ص154 والكامل في التاريخ ج3 ص65 ونيل الأوطار ج6 ص164 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص330 و 334 والغدير ج5 ص360 وج10 ص39 وفتح الباري ج7 ص54 وكنز العمال ج2 ص681 والشـافي في الإمـامة ج3 ص197 وتقريب المعارف ص349 وقرب الإسناد ص100 والإيضاح لابن شاذان ص237 وتاريخ المدينة لابن شبة ج3 ص922 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص160 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص190.

([20]) تاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص294 والكامل في التاريخ ج3 ص67 ودلائل الصدق ج3 ق1 ص116 وتاريخ المدينة لابن شبة ج3 ص925 وبحار الأنوار ج31 ص398 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص339 و 342 و 347 ونهج السعادة ج1 ص113 والغدير ج5 ص375 ومناقب أهل البيت «عليهم السلام» للشيرواني ص349 وفتح الباري ج7 ص55 والوضاعون وأحاديثهم ص499 والشافي في الإمامة ج3 ص212 وراجع: الإمامة والسياسة ج1 ص24 و 25 و (تحقيق الزيني) ج1 ص29 و (تحقيق الشيري) ج1 ص42 و 43.

([21]) راجع: دلائل الصدق ج3 ق1 ص117 والإمامة والسياسة ج1 ص24 و (تحقيق الزيني) ج1 ص29 و (تحقيق الشيري) ج1 ص43.

([22]) قاموس الرجال (الطبعة الأولى) ج7 ص118 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص43 وبحار الأنوار ج30 ص238 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص39 و 50 والدرجات الرفيعة ص259 والسيرة النبوية لابن هشام ج2 ص344 والغدير ج9 ص27 وعن العقد الفريد ج2 ص289 وفي سبل الهدى والرشاد ج3 ص336 والسيرة الحلبية ج2 ص262: عثمان بن مظعون.

([23]) راجع: بحار الأنوار ج31 ص368 ـ 369 و 371 و 372 و 399 وأمالي للطوسي ج2 ص166 و 168 و 169 و 170 و 320 وشرح نهج البلاغة ج1 ص187 و 188 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص162. وراجع: مسند أحمد ج1 ص75 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص238 والصواعق المحرقة ص106 والتمهيد للباقلاني ص209 وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص114 وفتح الباري ج13 ص197 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص334 وكتاب الأربعين للشيرازي ص570 والإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» للهمداني ص715.

([24]) راجع: بحار الأنوار ج31 ص399 وكتاب الأربعين للشيرازي ص570 وشرح نهج البلاغة ج1 ص188 والإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» للهمداني ص715 والفصول في الأصول للجصاص ج4 ص55.

([25]) بحار الأنوار ج2 ص84 ونهج السعادة ج7 ص36 والتفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري «عليه السلام» ص53. وراجع: مستدرك الوسائل ج17 ص308 وعوالي اللآلي ج4 ص65 ومستدرك سفينة البحار ج4 ص14.

([26]) مسند أحمد ج1 ص75 ومجمع الزوائد ج5 ص184 وفتح الباري ج13 ص170 والإكمال في أسماء الرجال ص139 وأسد الغابة ج4 ص32 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص304 وأعيان الشيعة ج1 ص438.

([27]) تقدم ذلك مع مصادره.

([28]) تقدمت الإشارة إلى هذه الخطبة في أكثر من موضع.

([29]) راجع: الجوهرة النيرة ج1 ص128 والدر المنثور ج4 ص224 والمنار ج10 ص496 وتاريخ مدينـة دمشق ج9 ص195 وراجع ص196 وتفسير الآلوسي ج10 ص122 وكنز العمال ج3 ص914 وراجع ج12 ص546 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص375 حوادث سنة 11 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص58 و 59 والإصابة ترجمة عيينة بن حصن. وراجع: المبسوط للسرخسي ج3 ص9.

([30]) أنساب الأشراف ج5 ص22 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص265 والغدير ج5 ص374 وج9 ص197 و 379 وج10 ص26 والوضاعون وأحاديثهم ص498 وتقريب المعارف ص351 وغاية المرام ج6 ص8.

([31]) الآية 10 من سورة الفتح.

([32]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص238 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص302 والغدير ج5 ص375 والوضاعون وأحاديثهم ص499 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص305.

([33]) الإمامة (تحقيق الزيني) ج1 ص31 و (تحقيق الشيري) ج1 ص45 والغـديـر = = ج5 ص375 والوضاعون وأحاديثهم ص499.

وراجع: صحيح البخاري ج6 ص2635 ح6781 و (ط دار الفكر) ج8 ص123والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص147 وعمدة القاري ج24 ص272 والمصنف للصنعاني ج5 ص477 وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص193 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص304.

([34]) الجمل للمفيد ص123 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص61.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان