يقول السيد محمد حسين فضل الله:

عندما نريد أن ندرس سيرة الزهراء عليها السلام فيما كتبه تاريخها فإننا لن نستطيع أن نجد الكثير الكثير إلا بعض اللقطات التي يتحدث فيها التاريخ عن حياتها مع أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انه لا يحكي لنا الكثير من مفردات في هذه الحياة ثم نلاحظ أن حديث هذا التاريخ عن الزهراء المهاجرة لا يعطينا شئ سو أنه يذكر اسمها مع المهاجرين والمهاجرات الذين جاءوا بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثم بعد ذلك في زواجها هناك مفردات صغيرة جداً في حياتها كزوجة وفي حياتها كأم حتى نشاطها في داخل المجتمع الإسلامي كان في التاريخ محدوداً برواية أو روايتين  ثم نلاحظ أن التاريخ يفيض في ما نحتاجه في مسألة زواجها والجوانب الغيبية في زواجها فيما تحتفل به السماء وفيما إحتفلات التي حدثت هناك وما إلى ذلك وهكذا نجد أن التاريخ الصحيح وغير الصحيح أفاض في الحديث عن أحزانها وربما كان بعض هذا الحديث غير دقيق فأنا لا أتصور الزهراء إنسانة لا شغل لها في الليل والنهار إلا البكاء وأنا لا أتصور الزهراء سلام الله عليها وهي المنفتحة على الإسلام وعلى قضاء الله وقدره إنسانةً ينزعج أهل مدينة كما يقرأ قراء التعزية من بكاءها حتى إذا كان الفقيد في مستوى رسول الله صلى الله عليه وآله فإن ذلك لا يلغي معنى الصبر.[ للإستماع إضغط هنا]

ونقول:

إنه لا يصح تسخيف أمور غيبية، والتقليل من أهميتها بهذه الطريقة، ما دام أن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) هم الذين تصدوا لبيانها، أو يحتمل ذلك على الأقل..

فإن كل ما قاله الأئمة المعصومون والأنبياء المكرمون لنا أو يحتمل أنهم قالوه، لا يمكن تسخيفه، أو التقليل من أهميته لا بهذه الطريقة، ولا بغيرها..

خصوصاً، وأن فتح هذا الباب سيؤدي إلى انحسار الثقافة الغيبية، فيما يرتبط بالله سبحانه، وبمعرفة أنبيائه، وأوليائه وأصفيائه، وبكثير من حقائق الدين والإيمان.

ولسوف يؤثر ذلك بطريقة أو بأخرى في إضعاف الارتباط بهذه المواقع الإيمانية، ويضعف من ثم حوافز كثيرة ذات مناح مختلفة تؤثر في السلوك وفي المواقف، وفي مستوى وعي الحقائق الإيمانية بصورة عامة.

والخلاصة:

إن النصوص التي تتحدث عن زواج السيدة الزهراء، وعن جوانبه الغيبية، وعن احتفالات السماء بزواجها وعن خصوصيات غير عادية في شخصيتها، وعن أنها (عليها السلام) كانت نوراً معلقاً في ساق العرش أو نوراً محدقاً بالعرش قبل خلق الخلق، وغير ذلك.. هي من العلوم التي تنفع من يعلمها، ويضر جهلها من جهلها، ولولا ذلك لم يبادر المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إلى تعليمنا إياها.. فإنه ليس بالذي يلعب معنا في مثل هذه الأمور، ولا في غيرها.

2 ـ إن النصوص التي تتحدث عن امتياز الزهراء بأمور ليست لسواها هي من الكثرة بحيث تثبت هذا الامتياز لها عليها السلام ـ حتى ليكون إنكار ذلك جريمة كبيرة في مستوى إنكار حقيقة جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ومهما يكن من أمر، فإن كل هذه الغيوب المرتبطة بالزهراء (عليها السلام) هي كغيرها من مفردات الغيب الكثيرة، جزء من هذا الدين، ولها دورها وأهميتها البالغة في صياغة الشخصية الإيمانية، والإنسانية، والرسالية بما لها من خصائص تتبلور من خلالها الشخصية الإسلامية الحقيقية..

ونقول:

إننا لا نتصور أن بكاءها على أبيها هو الذي أزعج المعترضين، وأثار حفيظتهم، وإنما الذي أحفظهم وأزعجهم هو ما يثيره وجود الزهراء إلى جانب قبر أبيها على حالة من الحزن والكآبة والانكسار الذي يذكر الناس بالمأساة التي تعرضت لها عليها السلام فور وفاة أبيها، حيث إن ذلك يمثل حالة إثارة مستمرة للناس الطيبين والمؤمنين والمخلصين، وهو إدانة لكل ذلك الخط الذي لم يتوقف عن فعل أي شئ في سبيل ما يريده.

فلم يكن البكاء على شخص الرسول، بقدر ما كان تجسيدا للمأساة التي حاقت بالإسلام وبرموزه بمجرد وفاته وفقده صلوات الله وسلامه عليه.

فالبكاء إذن لم يكن بكاء الجزع من المصاب، واستعظام فقد الشخص، لكي يتنافى ذلك مع الانفتاح على قضاء الله وقدره. كما يريد هذا القائل أن يوحي به.

إلا إذا كان هذا القائل يعتبر الاستسلام للقضاء والقدر والسكوت عن وعلى الظلم انفتاحا على القضاء والقدر.

" بيت الأحزان " وإزعاج الناس بالبكاء:

ولا يجد السيد فضل الله حاجة إلى بيت الأحزان، لتبكي الزهراء فيه، فهو لا يتصورها تبكي على أبيها بحيث تزعج أهل المدينة حتى يطلبوا منها السكوت؟ لأن ذلك يعني أنها كانت تصرخ بصوت عال في الطرقات؟!

وهذا الصراخ والإزعاج لا يتناسب مع مكانتها عليها السلام؟!

ونقول في الجواب:

أولا: هناك رواية ذكرها المجلسي البحار ج 43 ص 174 / 180 ، مضعفا لها، لأنه لم ينقلها ـ كما قال ـ عن أصل يعول عليه، وهي عن فضة، وفيها: أن فاطمة(ع) قد خرجت ليلا في اليوم الثاني لوفاة أبيها، وبكت، وبكى معها الناس، ولما رأى أهل المدينة مدى حزنها طلبوا من علي(ع) أن تبكي إما ليلا أو نهارا، فبنى لها بيت الأحزان في البقيع.

وقد تقدمت الإشارة إلى مصادر أخرى لهذه المقولة.

إن من يقرأ هذا البحث الطويل العريض يشعر بمدى اهتمام السيد فضل الله في إسقاط الحقيقة التاريخية التي تقول: إن فاطمة كانت تظهر الحزن الشديد على أبيها، وإن السلطة قد تضايقت من ذلك، لأنه يذكّر الناس بمقامها منه، ويذكر الناس أيضاً بما جرى عليها من ضرب وإهانات، وإسقاط جنين، ومن هتك لحرمتها..

نعم، لقد تضايقت السلطة من ذلك فبادرت إلى منعها من البكاء بحجة واهية، وغير صحيحة، وهي أن بكاءها يؤذي الناس الذين يزورون المسجد الذي هو النقطة المركزية للمدينة كلها.وفيه يجتمع الناس للعبادة وللسياسة، وللحديث في مختلف الشؤون..

ونتيجة هذا الجهد المبذول منه هي تبرئة السلطة من هذا العمل الذي لا يرضاه وجدان أي إنسان، وان الإطلاع عليه، من قبل أي كان من الناس، يفتح باباً واسعاً أمام كل أحد لمعرفة المحق من غيره، والمعتدي من المعتدى عليه..

2 ـ إن جميع ما استدل به السيد فضل الله هنا لا يصلح (حسب قواعده هو) لإثبات ما يريد إثباته. لأنه يعتمد على روايات لا تستطيع أن تكون دليلاً قاطعاً، ومفيداً لليقين في هذا الأمر التاريخي الذي يشترط هو فيه اليقين والقطع على أساس الدليل اليقيني، ولا يكتفي فيه بخبر الواحد، ولا بمطلق ما هو حجة عنده.

3 ـ إن أدلته التي ساقها لإثبات ما يرمي إليه تخالف ما حكاه لنا القرآن الكريم عن يعقوب عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام، فانه قد بكى على ولده حتى ابيضت عيناه من الحزن، وكان مثابراً على ذكره حتى قال له أبناؤه: {تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً، أو تكون من الهالكين سورة يوسف آية 85

وكان يعقوب معززاً مكرماً، لم يتعرض لأي إساءة من أحد.. بخلاف الزهراء، المقهورة المظلومة التي تعرضت للضرب وللإهانة، والاضطهاد ساعة دفن أبيها صلوات الله عليه وآله.

كما أن يعقوب (ع) لم يكن يملك دليلاً على موت ولده، بل ربما كان يعلم أنه لا يزال حياً فانه قال: عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً. وقال: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون. وقال: يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله بل في الروايات ما يدل على أنه كان يعلم أنه حي، فقد روي أن بعضهم سأل الإمام زين العابدين (ع): يابن رسول الله إلى متى هذا البكاء ؟ فقال (ع): إن يعقوب بكي على يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن زهو يعلم أنه حي، وأنا رأيت أبي وسبعة عشر من أهل بيتي ليس لهم على الأرض شبيه يذبحون كما تذبح النعاج.. الخ.. أما رسول الله (ص) فقد مات مهموماً مغموماً، يرى ما آلت إليه الأمور في تجهيز جيش أسامة، ويسمع وهو في مرض موته مقولة من قال: إن النبي ليهجر، ويعلم ماذا سيجري على وصيه وعلى ابنته بعد وفاته، وقد تضافر الحديث عنه بأنه لم يزل يخبر علياً به، ويأمره بالصبر..

3 ـ إن دعبل الخزاعي ينشد قصيدته التائية بحضرة الإمام الرضا (ع)، وقد ورد فيها:

أفاطم لـو خلت الحسين مجدلاً               وقد مات عطشاناً بشط فرات

إذن للطمت الخـد فـاطم عنده              وأجريت دمع العين في الوجنات

وقد أقره الإمام الرضا على قوله، ولم يعترض، ولو بأن يقول له: إن جدتي فاطمة لا تفعل ذلك بل نجد أنه (ع) ـ حسبما ورد في نصوص هذه الحادثة ـ قد زاد بيتين في هذه القصيدة وهما:

وقبر بطوس يا لها مـن مصيبة             ألحت على الأحشاء بالزفرات

إلى الحشر حتى يبعث الله قـائماً            يفرج عنـا الهم والـكربـات

4 ـ إن السيد محمد حسين فضل الله يصوّر القضية، وكأن أهل المدينة قد انزعجوا حقاً من بكاء الزهراء.. ويجعل ذلك مبرراً لنفيه أن يكونوا قد منعوها من البكاء وإظهار الحزن، بحجة أن بكاء كهذا لا ينسجم مع شخصية الزهراء.. ومع اهتماماتها عليها الصلاة والسلام.

مع أن الحقيقة هي: أن السلطة هي التي انزعجت من بكاء الزهراء، وهي ترى أن الناس حين يأتون إلى المسجد، فانهم يبادرون إلى السلام على رسول الله، وما إلى ذلك، فيرون هناك ابنته الحزينة المقهورة، ويتذكرون ما جرى عليها من ضرب، وهتك لحرمة بيتها، ومن إسقاط جنين واقتحام وغيره..

فأعلنت هذه السلطة ـ وربما تكون حرضت بعض أتباعها ـ على إعلان الشكوى، والمطالبة بإخراج من يزعجهم من هذا المكان الحساس جداً بالنسبة إليهم، والذي لو استمر الحال على ما هو عليه، فلربما يؤثر في تغيير مجرى الأمور في غير صالحهم..

5 ـ وعلى هذا الأساس نقول: إنه لم يكن ثمة جزع مذموم، ولا مخالفة لفضيلة الصبر، كما لم يكن ثمة نواح ونحيب، أو ولولة، ولا كانت الزهراء تجوب الشوارع والأزقة صارخة باكية، بحيث ينزعج الناس منها، وإنما كانت تجلس في بيتها ؛ وإلى جنب قبر أبيها، ومن كان يدخل، يجد ابنة رسول الله (ص) هناك. فيرى حالها، ويتذكر ما جرى لها، حسبما ألمحنا إليه.

6 ـ وبعد ما تقدم، وبعد أن علمنا: أنها (عليها السلام) كانت الصابرة الـمجاهدة التي لم يـخرجها غضبها وحزنـها عن صراط الطاعة لله نقول:

إن حزن الزهراء إنما كان على الإسلام، كما أن ما جرى عليها وما نالها من أذى لم يكن يؤذيها من حيث ما نشأ عنه من آلام جسدية.. بقدر ما كان يؤذيها بما كان له من آثار على الدين، وعلى الأمة.. ومن جرأة على الله ورسوله..

7 ـ وما هو الضير بعد هذا في أن يستغرق هذا الحزن ليلها، ونهارها، أو أن يُغشى عليها ساعة بعد ساعة، كما ورد في الأحاديث؟ فإن ذلك لم يكن جزعاً على شخص، بل كان حزنا على ما أصاب الدين من وهن، وما ألم به من انتكاسات خطيرة..

8 ـ إذن، فلا معنى لتصوير هذا الحزن على أنه حزن بنت على أبيها، من خلال علاقة البنوة بالأبوة. لكي نطالبها بالتزام الصبر على المصاب بالشخص.

9 ـ إن القول بأن الصبر على المصاب درجة عظيمة، وأن أوامر الصبر غير قابلةٍ للتخصيص، يصبح بلا مورد، فان الحزن لم يكن على الشخص بما هو أب وفقيد.. بل كان الحزن على الإسلام بما هو مطعون وقتيل وشهيد..

10 ـ إن انشغال الزهراء(ع) في معظم وقتها بالدفاع عن علي(ع).. لا يشغلها عن الحزن حيث يجب ان تحزن، كما يريد السيد فضل الله أن يدعي..

كما أن حق علي في الخلافة لا يدل على أن حزنها لم يكن شديداً وشاملاً، فان حزنها كان أعظم وسائل الدفاع عن هذا الحق. وحفظه، وبيان أنهم قد أخذوا ما أخذوه ظلماً وعدواناً..

11 ـ إن بكاء الزهراء لم يكن من خلال أنها بشر تبكي عند فقد الأحبة كما يقول السيد فضل الله.. بل من خلال: أن رسالتها هي الإعلان بهذا الحزن، وإظهار الرفض لما جرى من عدوان عليها. وهتك لحرمتها من أجل اغتصاب حق الأمة الذي جعله الله لها، بأن تكون الخلافة لأمير المؤمنين عليه السلام..

إذن، فما معنى الحديث عن الجزع في هذا المقام؟!.. فإنها لم تجزع على شخص، بل كان حزنها على الرسالة، وعلى الدين، وعلى الأمة..

12 ـ وحتى لو كان جزعها على شخص أبيها، فانه ليس كل جزع مذموماً، بل المذموم منه هو الذي يمثل اعتراضاً على قضاء الله وقدره، وعدم الرضا به..

وأما الجزع الذي يعبر عن الحب للرسول. وعن الحزن على ما أصاب الدين ورموزه، فانه يمثل أقصى حالات الطاعة لله، والانقياد إليه، والحب له. وهو من العبادات التي ورد الأمر بها، ووعد الله بالثواب الجزيل عليها.

وقد ورد ذلك في روايات كثيرة، منها ما هو صحيح ومعتبر.. فما معنى الخلط بين ذاك الجزع المذموم، وهذا الجزع المحبوب والمطلوب.

13 ـ وأما ما نسب إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، من أنه قال، وهو يلي غسل رسول الله (ص) وتجهيزه: لولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع لا نفذنا عليك ماء الشؤون نهج البلاغة الخطبة رقم 235 وامالي الزجاج ص112 وامالي المفيد ص60 فيرد على الاستدلال به:

أولاً: إن هناك ما يعارض هذه الرواية، وهو ما ذكره السيد فضل الله نفسه أيضاً، حيث ذكر ما روي من أنه عليه السلام وقف على قبر رسول الله (ص) ساعة دفنه فقال: (إن الصبر لجميل إلا عنك، وإن الجزع لقبيح إلا عليك) بحار الأنوار ج79 ص134، ونهج البلاغة الحكمة رقم 292 وراجع دستور معالم الحكم ص198 وغرر الحكم ص103 ونهاية الأرب ج5 ص 196 وتذكرة الخواص

والملفت للنظر هنا أمران:

أحدهما: أن السيد فضل الله قال عن النص الأول:

"وقال أيضاً، وهو يلي غسل رسول الله إلخ..".

ولكنه بالنسبة لهذا النص الثاني قال:

"وأما ما جاء في بعض النصوص، مثل ما روي عن أمير المؤمنين (ع).."

فتراه يرسل الأول إرسال المسلمات، ويتحدث عن الثاني بطريقة أخرى، تقلل من قيمته بالمقايسة مع النص الأول..

الثاني: أن النصين معا موجودان في نهج البلاغة، ولكن المذكور في هامش الكتاب الذي يمثل كل فكر السيد فضل الله عن الزهراء.. هو الإشارة إلى أن مصدر الأول هو نهج البلاغة.. وكلنا يعلم مدى اهتمام الناس بنهج البلاغة، وخضوعهم لمضامينه، وانقيادهم لها.

والإشارة إلى أن مصدر الثاني هو البحار.. الذي لم يزل يواجه حملات التوهين لمضامينه، والتشكيك بما فيه، من قبل هذا الفريق الذي يدين بالولاء للسيد فضل الله الذي نحن بصدد تعريف الناس بمقولاته..

ثانياً: من الذي قال: إن وجه الجمع بين حديثي: (نهيت عن الجزع ـ وإن الجزع لقبيح إلا عليك) هو حمل الثاني على انه كناية عن شدة الحزن، كما السيد محمد حسين فضل الله؟!

ولماذا لا يكون العكس، فيقال: إن الحزن الذي نهي عنه هو الحزن الذي يسقط معه الجازع أمام المصاب.. إذ ليس ثمة مصاب يستحق السقوط أمامه، إلا إذا كان برسول الله (صلوات الله وسلامه عليه وآله)، أو بمثل فاجعة الحسين عليه السلام في كربلاء..

أو يقال: إن الجزع على غير الرسول ص حين يستبطن الاعتراض على قضاء الله، فانه يصبح مذموماً..

أما حين يكون حزناً على الرسول بما هو رسول، فذلك عبادة وتقرب إلى الله سبحانه كما كان حزن يعقوب عليه وعلى نبينا وآله السلام على ولده النبي يوسف صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا وآله. فانه إنما حزن عليه بما أنه رسول اصطفاه الله، لا يصح أن يصاب بما أصيب به من كيد من قبل إخوته.. فإن ما حدث قد كان في مستوى الكارثة التي استهدفت نبياً من الأنبياء بعثه الله لهداية الأمة بأسرها.

ثالثاً: ما ادعاه من أن قبح الجزع وحسن الصبر لا يقبلان التخصيص والاستثناء، غير مقبول..

فإن.. الجزع إن كان على الرسول بما هو رسول، وعلى الإسلام، كان طاعة ومحبوباً لله سبحانه..

والذي لا يقبل الاستثناء هو ذلك الذي يستبطن الاعتراض على الله سبحانه في قضائه وقدره..

رابعاً: قد وردت روايات صحيحة وصريحة في حسن الجزع على مصاب الإمام الحسين عليه السلام. فلو كان قبيحاً ذاتاً، كالظلم لم يكن معنى لهذا الاستثناء.. كما أنه لو كان كذلك لا ستهجنه الناس ورفضوه. ورفضوا روايته عنهم عليهم السلام. وقد تقدمت قصيدة دعبل التي أنشدها بحضرة الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام..

كما أننا قد ذكرنا هناك أنه عليه السلام قد زاد بيتين في قصيدته يرتبطان بالبكاء عليه صلوات الله وسلامه عليه. فراجع..

بل السيد فضل الله نفسه يشترط كون حكم العقل قطعياً، فهو يقول:

"عندما ندعو إلى قراءة التاريخ بموضوعية، ندعو قبل ذلك إلى تنمية الذهنية الموضوعية، التي تتحرك بدون أفكار مسبقة، بل تلاحظ ما يقوله العقل القطعي لتأخذ به. وليس كل ما يعتبره البعض حكماً عقلياً فهو في الحقيقة حكم عقلي.. لا بد أن نعتمده، ونؤول النصوص على ضوئه. بل إن تصوراتهم قد يعتبرونها حكماً عقلياً.." [ الزهراء القدوة ص43]

فنحن نلزم السيد محمد حسين فضل الله هنا بما ألزم به نفسه. ونعتبر أن حكمه بإباء حكم العقل عن التخصيص في مورد الجزع غير دقيق..

خامساً: من أين ثبت السيد فضل الله: أن حزن فاطمة (ع)، الذي نهاها الحكام عنه، قد بلغ إلى درجة الجزع، ليستدل بالروايات الناهية عن هذا الأمر، وبالروايات الآمرة بالصبر عند المصاب؟!.

سادساً: إن السيد فضل الله نفسه يقول عن حزنها: (الحزن الذى يقرب من الجز ع)، فهل الحزن الذي يقرب من الجزع حرام؟!. وما الدليل على ذلك.

14 ـ وأما عن وصية النبي (ص) للزهراء: لا تخمشي علي وجهاً الخ.. التي استدل بها ا السيد فضل الله..

فإننا نقول:

أولاً: إن الزهراء حين بكت بعد رسول الله، وطال حزنها، وأظهرت هذا الحزن.. لم تخالف وصية رسول الله (ص)، فهي

ألف: لم تخمش عليه وجهاً.

ب: ولم ترخ عليه شعراً.

ج: لم تناد بالويل.

د: لم تقم عليه نائحة..

فما معنى الاستدلال بهذه الرواية..

ثانياً: لا معنى لاستيحاء السيد فضل الله: من هذه الوصية: أن النبي (ص) أراد لفاطمة أن تبتعد عن مظاهر الحزن الشديد..

فان الوصية قد ذكرت أموراً محددة أمرها بالابتعاد عنها، وكل ما عدا ذلك مما جاء به السيد فضل الله فهو رجم بالغيب، ومخالف لإطلاق النص.

ثالثاً: إن هذه الوصية ـ لو صحت سنداً ـ فانما هي تاريخ وهي خبر واحد، لا يفيد اليقين الذي يشترطه السيد فضل الله في غير الأحكام..

رابعاً: إن الوصية قد ذكرت كلمة ((عليَّ)) ثلاث مرات. فالنهي انما هو عن ممارسة هذه الأمور بعنوان كونها عليه كشخص، لا مطلقاً حتى ولو كان الحزن على الإسلام، وعلى الأمة..

خامساً: إن حزن يعقوب.. الذي بلغ إلى درجة أنه قد عمي بسببه خير شاهد على مشروعية هذا المستوى من الحزن، إذا كان على الرسالة والرسول.

15 ـ وأما بالنسبة لأمرها نساء بني هاشم اللواتي جئن يساعدنها بالاقتصار على الدعاء كـمـا يستدل بـه السيد فضل الله فيرد على الاستدلال به:

أولاً: إنه لا يفيد اليقين الذي يشترطه السيد فضل الله ـ حتى لو فرض أن سنده صحيح.

ثانياً: إنهن جئن ليساعدنها على النواح على أبيها كشخص، وأين بكاؤهن من بكائها هي الذي كان بكاء على الرسالة ـ وقد أشار علي (ع) إلى ان هدفهن كان البكاء على الشخص.

فقال: مروا أهاليكم بالقول الحسن عند موتاكم، فإن فاطمة الخ..

ثالثاً: إن هذا الذي يفعلنه في بكائهن هو أحد مفردات الوصية التي تحدثنا عنها آنفاً فلا مجال لأن تسمح لهن بأكثر من ذلك..

16 ـ وقد ذكر السيد فضل الله:

"أن إظهار مظلوميتها لا ينحصر بالبكاء، بل يتحقق في خطبتها في المسجد، وفي أحاديثها مع الناس. وفي حديثها مع الشيخين حين جاءا ليسترضياها".

ونقول:

ألف ـ إن عدم انحصاره بالبكاء لا يعني أن لا تلجأ إلى البكاء، باعتباره الوسيلة الأشد تأثيراً..

ب ـ إن استعمالها للبكاء لا يعني إلغاء غيره من الوسائل، فهي تستعمل كل وسيلة ممكنة من أجل الدفاع عن الحق والدين..

ج ـ إن إتمام الحجة إذا تحقق، فان الكلام يكون قد استنفد أثره. أو كاد.. وإذا كان الجميع يعلم بما جرى، فان ادراك عمق الجرح وادراك استمرار حالة الألم والمرارة في نفس وقلب بضعة المصطفى صلى الله عليه وآله، هو الذي يحرك معرفتهم بما جرى لتزحف نحو أحاسيسهم ومشاعرهم، وتثيرها. لتتجسد موقفاً رسالياً صلباً، في الموقع المناسب..

وهذا بالذات هو ما كانت السلطة تخشاه، وتحاذر منه، وتعمل على التخلص منه، فكان أن أخرجتها من بيتها، ومنعتها من البكاء.

17 ـ إن تكذيب السيد فضل الله حقيقة أن يكون حزنها على الرسالة، استناداً إلى أنها هي نفسها قد صرحت بان بكاءها كان لأجل الرسول، لا لأجل الرسالة..

غريب وعجيب..

فأولاً: إن البكاء على الرسول بكاء على الرسالة، وإعلام للناس بأن ما أصاب الرسالة قد كان حين فقده. ولو أنه كان موجوداً فلن يجرؤ أحد على القيام بأي شيء مما قاموا به ضدها وضد علي (عليه السلام) من أجل اغتصاب الحق.

وثانياً: هل ثبت له أنها قالت ذلك بطريقة افادته اليقين والعلم بصدور ذلك منها، وفقاً لشروطه هو في أمثال هذه الموارد؟!.

ثالثاً: إن من يراجع ما جرى عليها يجد: أنها كانت تستنجد بأبيها، وتلهج باسمه في اشد الحالات، وفي احلك الظروف التي تواجهها.. ولعل بعض ما تهدف إليه من ذلك هو أن يتذكروا أقواله لها وفيها، وأن يعرفوا حجم الجريمة التي يرتكبونها، لأنها في كل أبعادها ومختلف مظاهرها تستهدف الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وهي عدوان صريح عليه هو قبل أن تكون عدواناً عليها، ولأجل ذلك نجد أنها كانت في الأزمات تنادى أباها، ولا تنادي علياً.

فحين وجأ عمر جنبيها نادت: وا أبتاه.

وحين ضرب ذراعها نادت: (يا رسول الله لبئس ما خلفك به الخ.. وفي نص آخر صاحت: يا أبتاه.. وحين دخلوا عليها بغير إذن، وما عليها خمار نادت بنفس هذا النداء..) راجع: البحار ج28 ص269 و270 و299 وج43 ص197

وحين ضربها على خدها حتى بدا قرطاها تحت خمارها وهي تجهر بالبكاء وتقول:

(وا أبتاه، وا رسول الله، ابنتك تكذب وتضرب، ويقتل جنين في بطنها) البحار ج53 ص19

وعن النبي (ص): (كأني بفاطمة بنتي، وقد ظلمت بعدي، وهي تنادي يا أبتاه، فلا يعينها أحد من أمتي) البحار ج43 ص156 عن المفيد

وأنشدت مخاطبة أباها:

قد كان بعدك انباء وهنبـثة          لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها         واختل قومك فـاشهدهم ولا تغب

وأنشدت أيضاً:

ضاقت عليّ بلاد بعدما رحب        وسيم سبطاك خسفاً فيه لي نصب

راجع: البحار ج43 ص196 والبيتان الأولان عن الكافي والبيت الأخير عن مناقب آل أبي طالب

18 ـ إن السيد فضل الله قد ذكر:

"أن بكاء السجاد (ع) كان إظهاراً لمظلومية أبيه الإمام الحسين (ع)، لكي يتذكر الناس الواقعة، ويدفعهم إلى الثورة على بني أمية.."

وهذا هو عين ما نقوله عن بكاء الزهراء، فإنه كان إظهاراً لمظلوميتها التي تمثل عدواناً على رسول الله (ص) لكي يتذكر الناس الواقعة، ويدفعهم ذلك إلى الثورة على من فعل ذلك..

19 ـ ونقول أخيراً:

إنه قد أصاب حين قال:

إن حزن فاطمة الذي منعت منه " كان حزناً إسلامياً.. لم يكن جزعاً، ولا ابتعاداً عن خط التوازن".

لكنه أخطأ حين قال:

"إن الرواية التي يمكن الوثوق بها في هذا المقام هي التي تقول: إنها كانت تخرج في الأسبوع مرة، أو مرتين إلى قبر النبي (ص)، وتأخذ معها ولديها الحسن والحسين، وتبكيه هناك، وتتذكر كيف كان يخطب هنا، وكيف كان يصلي هناك، وكيف كان يعظ الناس هنالك".

إذ يرد عليه:

أولاً: إننا فيما تتبعناه من روايات لم نجد ما ذكره في أي مصدر من المصادر، إلا ما رواه الكليني من أنها (عاشت بعد رسول الله (ص) خمسة وسبعين يوماً لم تُرَ كاشرة، ولا ضاحكة، تأتي قبور الشهداء في كل أسبوع مرتين: الاثنين والخميس، فتقول: ها هنا كان رسول الله، وها هنا كان المشركون) الكافي ج4 ص561 والبحار ج43 ص195 وعوالم الزهراء ص447

وهذه الرواية تختلف كثيراً عما ذكره، واعتبره الرواية التي يمكن الوثوق بها، فمن أوجه الاختلاف بينهما:

ألف: ليس فيها هذا الترديد: مرة أو مرتين.

ب: ليس فيها: أنها تأخذ معها الحسن والحسين.

ج: ليس فيها: أنها تبكي رسول الله هناك.

د: ليس فيها: أنها تتذكر: كيف كان يخطب، وكيف كان يصلي، وكيف كان يعظ الناس.

هـ: ليس فيها: أنها كانت تخرج إلى قبر النبي (ص).

فمن أين أتت هذه المعلومات، وفي أي خبر قرأها، وفي أي كتاب.. لا ندري !! نعم، لا ندري !!.

ثانياً: إن بيت الزهراء كان في المسجد، وقد دفن رسول الله (ص) في نفس ذلك البيت..

فما معنى قوله في روايته:

"إنها كانت تخرج، وتأتي قبره، وتأخذ معها ولديها الحسن والحسين.. وتبكيه (هناك)؟!"

ثالثاً: إن هذا الخبر الذي اعتبره موثوقاً.. وفيه كل هذه التفاصيل كيف ثبتت له وثاقته.. وهل هو ـ لو صح ـ إلا خبر واحد لا يفيد أكثر من الظن.. وهو يشترط اليقين والقطع في الأخبار التاريخية وغيرها، باستثناء الأحكام الشرعية.

وقد قلنا إن هذا الإشتراط معناه إسقاط ما لدى السيد فضل الله من معلومات تاريخية وعقائدية وكونيات و و و و الخ.. إسقاطها ـ عن الاعتبار، وليصبح من ثم عاجزاً عن إثبات أكثر القضايا، والأحداث والمعارف الإيمانية.. بل إن ذلك يجعله عاجزاً عن الحديث وعن الخطابة التي يشرح فيها للناس تاريخ الإسلام وحقائقه وما إلى ذلك. 

العودة