![]() |
النقطة الثالثة
لماذا أحرقت الروايات التي جمعت في عهد النبي (ص) من الثابت والاكيد , أن أصحاب النبي (ص) سجلوا العديد من الروايات التي سمعوها من النبي (ص) , وقد ورد أن أبا بكر سجل خمسمائة حديثا سمعها من النبي (ص) , فلما توفي النبي (ص) أحرقها. (راجع تذكرة الحفاظ الذهبي ج1 ص5, وكنز العمال المتقي الهندي ج10 ص285, فقد رويا عن عائشة أنها قالت جمع أبي الحديث عن رسول الله (ص) وكانت خمسمائة حديث , فبات ليلته يتقلب كثيرا قالت فغمّني فقلت أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك ؟ فلما أصبح الصبح قال أي بنية هلمي الاحاديث التي عندك فجئته با , فدعا بنار فحرقها , فقلت لم أحرقتها ؟ قال خشيت ان اموت وهي عندي فيكون فيها احاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذاك ) وأمر عمر الصحابة بأن يأتوه بما لديهم من الاحاديث التي سجلوها عن النبي (ص) وسمعوها منه مباشرة , فجمعت له فأحرقها بأجمعها. ( راجع طبقات ابن سعد الكبرى 5/188 فقد روى عن عبد الله بت العلاء قال سألت القاسم يملي علي أحاديث فقال ان الاحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب , فأنشد الناس أن يأتوه بها, فلما أتوه بها أمر بتحريقها ثم قال مثناة كمثناة أهل الكتاب , قال فمنعني القاسم يومئذ أن أكتب حديثا) ( راجع كتاب العلم , ابو خيثمة النسائي (ت 234ه ) ص11 , فقد روى عن يحيى بن جعدة أنه قال أراد عمر أن يكتب السنة ثم كتب في الناس من كان عنده شيء من ذلك فليمحه ) ( راجع ايضا كنز العمال المتقي الهندي 10/ 291 - 292 فقد روى أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله (ص) في ذلك فأشاروا عليه أن يكتبها , فطفق عمر رضي الله عنه يستخير الله فيها شهرا , ثم اصبح يوما وقد عزم الله له فقال إني كنت أريد أن أكتب السنن , وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتابا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله , وإني والله لاأشوب كتاب الله بشيء ابدا ) بل ان عمر كان ينهى عن الرواية عن النبي (ص) ويقول ( حسبنا كتاب الله ) (راجع مسند احمد 1/325, صحيح مسلم النيسابوري 5/76), بل أنه حبس جماعة من الصحابة , وفرض عليهم الاقامة الجبرية , لأنهم لم يتقيدوا بكلامه.( كنز العمال 10/ 292- 293 قال أخبرني صالح بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث الى اصحاب رسول الله (ص) فجمعهم من الافاق عبد الله بن حذافة , وأبا الدرداء, وأباذر , وعقبة بن عامر , فقال ماهذه الاحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله (ص) في الآفاق ؟ قالوا أتنهانا ؟ قال لا أقيموا عندي , لا والله لاتفارقوني ما عشت , فنحن أعلم نأخذ ونرد عليكم , فما فارقوه حتى مات ) وهنا يتساءل المرء: إذا كان الصحابة هم الحفظة للدين , فما هو الهدف من إحراق هذه الروايات ومحوها؟ هل هو عدم الرواية عنه (ص) كي لايفترى عليه في قول , أو رأي , أو حكم , أم هناك هدف آخر من وراء ذلك ؟. أظن أنا لانحتاج الى كثير من المؤنة في أثبات الغاية وبيان الهدف من إحراق الروايات التي سمعها الصحابة من النبي وسجّلوها. فنحن عندما نقرأ الأحداث التي رافقت مرض النبي (ص) الى حين وفاته وما كان من الصحابة في ذلك الوقت , وما جرى من أحداث ومواقف, مثل التخلف عن جيش أسامة مع تشديد النبي (ص) على إنفاذه , ومخالفة النبي (ص) لمّا طلب أن يأتوه بدواة وكتف لكي يكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده أبدا , وقولهم ( إن النبي ليهجر) أو غلبه الوجع ( غلبه الوجع ) مما يفيد أنه يهذي وغير متمالك لوعيه و وانقسام المسلمين أثناء ذلك الى قسمين : قسم مؤيد لقول عمر وقسم مستنكر. وعند وفاته , حيث تسارع القوم الى سقيفة بني ساعدة لانتخاب الخليفة , وتركوا النبي (ص) مسجى لايهمهم أمره ابدا, وعلي وأصحابه وأهله مشغولون بتجهيزه (ص) . وبعد أن تمت البيعة لأبي بكر بالكيفية التي تمت بها وحصلت , خرج بنو أسلم فورا لنصرة الموقف ومؤازرة البيعة لأبي بكر والوقوف في وجه المعارضة , وقول عمر - لما رأى أن بني أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك- ( ماهو إلا رأيت أسلم , فأيقنت بالنصر )!!( تاريخ الطبري , ابن جرير (ت 310 ه) 2/458 - 459 ) عندما نقرأ هذه الاحداث بأجمعها ونضيف اليها غيرها من الامور التي جرت بعد ذلك مما لايسع المقام لذكره , نعرف تماما لماذا أحرقت تلك الروايات , لقد كانت هذه العملية تستهدف القضاء على كل ماورد في حق علي عليه السلام من احاديث ووصايا سجلها المسلمون في وقتها والتي تضمنت بيان احقية علي عليه السلام بالخلافة بعد النبي (ص) , فأن بقاء تلك الروايات سوف يحدث إرباكا لهم , ولذلك سارعوا الى القضاء على كل ماسجله الصحابة مما سمعوه عن النبي (ص) فيما يتعلق بالامام علي عليه السلام وبالاحكام الشرعية تغطية للموضوع. وكذلك الدعوة الى القران والاخذ به كما قال عمر ( حسبنا كتاب الله ) ومع الاسف الشديد إن هذه الكلمة لم يكن لها واقع أبدا, فقد اضطر القوم الى أن يرجعوا للسنة كما فعل ابو بكر لمّا أخذ فدكا من فاطمة الزهراء عليها السلام , واستشهد بالرواية التي كانت مخالفة للكتاب تماما, وهي ( نحن معاشر الانبياء لانوّرث , ماتركناه صدقة ) ( هذا الحديث مشهور بينهم , راجع مثلا تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 36/310 ) إتماما لمشروع إبعاد أهل البيت عليهم السلام عن حقهم وعن الخلافة بالذات التي ينص عليها القران. هذه قصة إحراق الروايات بعد وفاة النبي (ص) وهذه خلفياتها , ويؤكد هذه الحقيقة تصريحات عمر لابن عباس لما تولى الخلافة .( شرح نهج البالغة ابن ابي الحديد ( 656 ه) 12/ 20 - 21 قال قال وروى ابن عباس رضي الله عنه قال دخلت على عمر في أول خلافته وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة - وهي جلة تعمل من الخوص للتمر - فدعاني الى الاكل , فأكلت تمرة واحدة وأقبل يأكل حتى أتى عليه , ثم شرب من جر- وهي آنية من خزف - كان عنده واستلقى على مرفقة له وطفق يحمد الله يكرر ذلك , ثم قال من أين جئت ياعبد الله ؟ قلت من المسجد قال كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر قلت خلفته يلعب مع اترابه , قال لم أعن ذلك , إنما عنيت عظيمكم أهل البيت , قلت خلفته يمتح بالغرب - أي يسقي بالدلو - على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن قال ياعبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها ! هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة ؟ قلت نعم قال أيزعم أن رسول الله (ص) نص عليه ؟ قلت نعم وأزيدك , سألت أبي عما يدذعيه , فقال صدق , فقال عمر لقد كان من رسول الله (ص) في أمره ذرو - أي طرف - من قول لايثبت حجة , ولايقطع عذرا , ولقد كان يربع في أمره وقتا ما , ولقد أراد في مرض أن يصرح بأسمه فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الاسلام , لا ورب هذه البنية لاتجتمع عليه قريش ابدا , ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها فعلم رسول الله (ص) أني علمت ما في نفسه , فأمسك وأبى الله إلا إمضاء ماحتم وقال ابن أبي الحديد ذكر هذا الخبر احمد بن ابي الطاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا انتهى . وعنه كتاب سبيل النجاة في تتمة المراجعات , الشيخ حسين الراضي ص 282 ). ومع هذا كيف يمكننا أن نثبت أن الصحابة هم حفظة الدين والشريعة والأحكام , ونثبت لهم العدالة لقد اتضح مما خلال ماعرضناه |
لقد اتضح من خلال ماعرضناه
أن القول بعدالة الصحابة لايتلائم ولايتناسب ابدا مع الواقع الذي هم عليه , والذي استعرضناه لأكثر من شخص منهم , والذي سجله التاريخ وسجلته الاحداث عنهم في أفعالهم وأقوالهم وتصرفاتهم التي لا تنسجم مع الهدف من عدالتهم وأنهم حفظة الدين والشريعة. مضافا الى أمور وتصرفات صدرت منهم غير ماذكرنا لاتليق بقوم صحبوا النبي وعاشوا معه فترة ثلاث وعشرين سنة. فضلا عما غيّروه وبدّلوه من احكام الدين في صلاتهم وعباداتهم وشؤونهم الدينية , وقد اكد هذا القول الروايات العديدة : أخرج مسلم عن عبد الله قال قال رسول الله (ص) ( أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم فأقول يارب أصحابي أصحابي , فيقال إنك لاتدري ماأحدثوا بعدك) ( صحيح مسلم النيسابوري 7/68 وروي بأختلاف يسير في ألفاظه في بعض المصادر فلاحظ مسند أحمد 3/281 و5/48 و 5/393 وصحيح مسلم شرح النووي 15/64 , ومجمع الزوائد الهيثمي 10/364 ) وقال رسول الله (ص) (إن من أصحابي من لايراني بعد أن أموت أبدا)( كنز العمال 11/ 197 , النهاية في غريب الحديث ابن الاثير 1/154 والحديث عن ام سلمة ) وعن النبي (ص) ( بينما أنا قائم ,إذا زمرة , حتى اذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلّم فقلت أين ؟ قال الى النار والله قلت وما شأنهم ؟ قال إنهم أرتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى, فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم )( البخاري ج7 كتاب الرّقاق ص 208) وروى البخاري بسنده عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال ( لقيت البراء بن عازب, فقلت طوبى لك صحبت النبي (ص) وبايعت تحت الشجرة , فقال يا ابن أخي إنك لاتدري ماأحدثنا بعده )( مقدمة فتح الباري ,ابن حجر ص 433, رواه عن البخاري , صحيح البخاري ج5 كتاب المغازي غزوة الحديبية ص66 ) وقال أنس بن مالك ( ماأعرف شيئا مما كان على عهد النبي (ص) قيل الصلاة , قال أليس ضيعتم ماضيعتم فيها) ( البخاري ج1 مواقيت الصلاة ص134 ) وفي حديث لجابر بن عبد الله قال ( مامنا أحد إلا غيّر)( المستدرك الحاكم النيسابوري 2/560) هذا قليل من كثير مما ورد في شأن الصحابة , وتغييرهم وتبديلهم لأحكام الله وسنة رسوله , بل وابتداعهم في سنته, ومعروف أن البدعة ضلالة والضلالة في النار . إما كيف تكون (( نعمت البدعة)) ! ,( هذه الكلمة قالها عمر بن الخطاب , وهي مشهورة عنه راجع مثلا موطأ مالم 1/114 (كتاب الصلاة في رمضان - باب قيام رمضان ) , وصحيح البخاري 2/252 ( كتاب صلاة التراويح ) وعنهما كنز العمال , المتقي الهندي 8/408) , وكيف تكون (( البدعة حسنة)) ! ( كما يقول بذلك علماء العامة ) فهذا راجع بنظرهم الى الاجتهاد حتى ولو كان في قبال النص . ولاأريد أن أزيد في تتبع مثل هذه الامور التي صدرت من الصحابة , فهي كثيرة وقد ذكرنا بعضها , وتتبعها غيرنا من الذين كتبوا وناقشوا مثل هذا الموضوع , وهي تحكي وتجسد الطبيعة والاتجاه الاخلاقي والايماني الذي كان عليه الصحابة, وإلا فما الداعي لصدورها وصدور أمثالها منهم اذا كانوا عدولا بالشكل الصحيح للعدالة , وكانوا يعيشون مسؤولياتهم الدينية على النهج الذي أوضحه لهم النبي (ص) وعلّمهم إياه , فضلا عن أن يرتقوا في مراتب الورع والتقوى والخشية والخوف من الله سبحانه, ويكونوا مصداقا للآية الكريمة (إنما يخشى الله من عباده العلماء) . كيف وهم الذين تربوا في مدرسة النبي (ص) , واحتضنوا تلك الروحية العالية المستتبعة للكمال والقدسية بين جوانحهم وقلوبهم وعقولهم وأفكارهم , فأين هي أذن هذه الروحية من هذا الذي أمتلأت به كتب التاريخ والحديث عنهم وعن أفعالهم وتصرفاتهم المتعارضة مع القران والسنة . فإما أن نقول أن مانقله التاريخ والرواة خطأ وظلم , وهذه جناية مابعدها جناية, أن يكذب الرواة ويتجنّون على الصحابة . وإما أن يكون مانقل عنهم صحيحا , فيكون الذي قلناه صحيحا , وهو كذلك, حيث ثبت مانقله التاريخ والرّواة بشكل صحيح, وعلى هذا فهل يمكن لذي عقل وضمير حر أن يعتقد ويقول أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يكون مثل هؤلاء أمناء على الدين وحفظة للشريعة ومبلّغين لأمره تعالى, حتى نقول بعدالتهم وحجية قولهم مهما كانت أفعالهم وصفاتهم !! ألا يكون مثل هذا القول إغراء بالقبيح والمعصية وتهاونا في أمر الدين والشريعة التي جعلها الله من أفضل وأعظم الشرائع السماوية!! الأدلة التي أستدل بها على عدالة الصحابة ومناقشتها |
الادلة التي استدل بها على عدالة الصحابة , ومناقشتها
دليل الاجماع استدلوا على عدالة الصحابة بالاجماع, فعن ابن حزم : إنا نقطع على غيب قلوبهم إنهم كلهم مؤمنون صالحون, ماتوا كلهم على الايمان والهدى والبر , فكلهم من أهل الجنة لايلج أحد منهم النار. والعجيب في هذا القول أن ابن حزم كأنه لم يقرأ كتاب الله وماورد في حق الصحابة من قول على خلاف مايقول ممن كفر وممن غيّر وبدّل وزنى , وكذلك لم يقرأ ماورد في السنّة في حق الصحابة من أختلاف آرائهم وأفعالهم المنافية للشرع ولحكم الله و ولم يقرأ أيضا الاخبار التي تقول أن قسما منهم يؤخذ به الى النار . هذا مضافا الى أن الاتفاق غير تام على عدالتهم بين المسلمين , لما ثبت من قول البعض بفسقهم , وقول بعضهم برّد شهادة الصحابة , وبعضهم يقول بلزوم البحث عن عدالتهم. ومع الاختلاف يسقط الاجماع قطعا, خصوصا اذا رجعت الى كتب التاريخ وأطلعت على الاختلاف والشجار الجاري بينهم , حتى أن عمر بن عبد العزيز أمر بلزوم الامساك عما وقع بين الصحابة من شجار وخلاف , مما يظهر منه أنه ظهر منهم ماينافي العدالة , فأمر بالستر والتغطية. وأما مايقوله البعض في الدماء التي أريقت بين الصحابة , وقطعا يعنون بذلك الحروب التي خاضها أمير المؤمنين عليه السلام ضد الناكثين والقاسطين والمارقين, ومعروف من هم هؤلاء , فقد قالوا (( تلك دماء طهّر اللها ايدينا فلا نلوّث بها السنتنا )) ( حكيت هذه الكلمة عن الدر النفيس في كتاب شرح إحقاق الحق المرعشي النجفي ج 32 ص6 وحكاه عن السلف العظيم آبادي في كتابه ( عون المعبود في شرح سنن ابي داوود ) ج 12 ص 274 ) , فهي وان دلت على أن ماظهر من الصحابة من مواقف تؤثر في القول بالعدالة , وتؤكد أن الصحابة صدر منهم أشياء وأشياء مخالفة, إلا أنهم في نفس الوقت يريدون بهذا القول الكيد لعلي بن ابي طالب عليه السلام الذي جابه الناكثين والقاسطين والمارقين - والتسمية تدل على بعدهم عن الحق - , وهذا الكيد هو من القول بالباطل من هؤلاء وممن تقدم ووقف في وجه أمير المؤمنين عليه السلام , لأنهم كلهم - الأوائل والمتأخرون- يعلمون أن أمير المؤمنين عليه السلام كما وصفه رسول الله (ص) ( علي مع الحق والحق مع علي , يدور الحق معه حيثما دار ) ( راجع بحار الانوار 38/28) , فهو قول مشعر بالعداء لعلي وأهل بيته عليهم السلام. وهذا هو الدافع الاساسي لقولهم بعدالة الصحابة , وذلك لأضفاء السلامة والشرعية في أقوال الصحابة وأفعالهم التي قالوها في حق أهل البيت عليهم السلام وأفعالهم المنكرة التي مارسوها مع أهل البيت عليهم السلام. والتاريخ مملوء بتلك الامور , ومن أراد مراجعتها فهي مبثوثة في الكتب. ومنه يمكننا أن نستنبط مقدار صحة الاجماع الذي يدّعى واقعيته , وأنّى لمثل هذا الاجماع أن يثبت أو يصح , ودوافعه بهذا الشكل , بل أن التشديد على القول بعدالة الصحابة والحكم على من يتكلم عليهم بمروقه عن الدين واستباحة دمه تأكيد لهذا . ومنه سبّ أمير المؤمنين علي عليه السلام على المنابر ثمانين سنة ( وركبت السفينة ص 298) , فما لهم لم يحكموا بمروق من سبه عن الدين , ولم يبيحوا دمه ؟ ولماذا برروا ذلك بأنه اجتهاد ؟ ولماذا لايكون لمن لايرى العدالة بالمفهوم الذي تتحدث عنه السنة اجتهاد؟ أم أن باءهم تجر وباء غيرهم لاتجر!!!! الاستدلال بالكتاب الكريم |
الاستدلال بالقران الكريم
وإذا كان الاجماع غير تام – كما أشرنا وآمل أن تقرأ المناقشة بموضوعية- فالاستدلال بالآيات على عدالتهم ايضا خاضعة للمناقشة بشكل أوسع . = فمن تلك الايات ( والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الانهار ) وقد ذكروا أن المقصود بها مطلق الصحابة من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان , وقد أثنى الله سبحانه وتعالى عليهم بأنه رضي عنهم ورضوا عنه , حتى لو صدر منهم ماصدر , لأن جملة من الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة الى سائر المسلمين , وكلمة ( من ) بيانية , وليست تبعيضية , أي السابقون الاولون الموصوفون , بكونهم مهاجرين وأنصارا. والمناقشة في الاستدلال أولا أنها مشروطة بثباتهم على الطاعة والانقياد لله سبحانه وتعالى في كل الامور , وإلا فهي مخصصة بما دل على حرمة فعل المعاصي والكبائر والمحرمات والفواحش , فيخرجون عن العدالة بهذه الايات المخصصة. وثانيا أن وصفهم بالسابقين الاولين ورد بنحو التقييد للموضوع , وان الحكم والرضا واقع على خصوص المتّصف بهذا الوصف والمقيّد بهذا القيد , وإلا إذا قلنا باطلاق الآية لعموم الصحابة , لم يكن لهذا الوصف والتقييد معنى , بل قد يكون لغوا , وحاشا أن يكون كلام الله لغوا. ومنه يظهر أن معنى ( من ) تبعيضية , أي للبعض من المهاجرين والانصار, وهم السابقون الاولون , لا أنها بيانية , لأن بعض الصحابة كانوا في قمة العدالة . وبهذا يتضح أيضا أن قوله تعالى ( والذين اتبعوهم باحسان ) لايشمل عموم المسلمين والصحابة , فإن قيد (( السابقين الاولين )) قرينة على ان الاصناف الثلاثة (( المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان )) هم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه في ذلك الوقت , أي في بداية الاسلام وبداية نزول الاية , وإلا لزم لغوية هذا القيد كما أسلفنا , ويؤكده أن قوله تعالى ( لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل اولئك أعظم درجة من الذين انفقوا من بعد وقاتلوا ) فهي صريحة في الفرق بين السابقين الاولين وبين غيرهم من المسلمين الذين أسلموا بعدهم في الانفاق والقتال , وأن السابقين الاولين اعظم درجة , فالذين اتبعوهم باحسان , خاص بما كان الاتباع في زمان نزول الاية , ولايشمل غيرهم بقرينة هذه الاية . = واستدل اخواننا السنة على عدالة الصحابة بقوله تعالى ( كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) وذلك بلحاظ قوله تعالى ( خير أمة ) . إلا أن هذا الاستدلال غير تام , وذلك اولا لأن الآية مقرونة بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومع عدمهما فلا خيرية للامة وثانيا أن التفصيل الوارد في الاية الكريمة ( كنتم خير أمة) لوحظ فيه المجموع بالنسبة لبقية الأمم , ولم يلحظ فيه تفضيل الافراد على غيرهم , والمعنى أن الامة المنسوبة الى الاسلام والنبي (ص) هي خير من غيرها من الامم , ولذلك لامانع من أن يكون بعض افراد الامم السابقة هم افضل وأحسن من غيرهم , على أنه إذا قلنا بخيرية الامة افرادا وجماعات فلا يكون هناك ميزة للصحابة ولا موجب لتفضيلهم على غيرهم , وهذا مالايمكن القول به لما يعلم من عدم فضيلة الكثير , وليس هذا مايذهب اليه الأخوة السنة , لأن المجموع هو الملحوظ في الاية . =وأستدل أيضا بقوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) . والكلام هو الكلام في الاية المتقدمة =واستدل ايضا يقوله تعالى ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم مافي قلوبهم ) |
=واستدل ايضا بقوله تعالى ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم)
استدل اخواننا على عدالة الصحابة برضى الله عنهم وحكموا بأن هذا الرضى شامل لهم جميعا وثابت لهم ابد الآبدين ولو فعلوا ما فعلوا. إلا أن هذا الاستدلال غير تام , والمناقشة فيه من جهات اولا أنها حددت من رضي عنهم المولى عزوجل , بأمرين ( الايمان والبيعة ) (1) المؤمنون , فمن ثبت إيمانه فهو مرضي عنه , وأما من لم يثبت إيمانه فهو خارج حتى ولو حضر البيعة , كالمنافقين والذين خرجوا عن الايمان بفعل ما يوجب خروجهم عنه (2) جعل الرضى معلقا على البيعة ( إذ يبايعونك) فمن بايع يكون مرضيا عنه ومن المقطوع به أن قسما من الصحابة لم يكن موجودا عند البيعة ولم يكن مؤمنا , مثل خالد بن الوليد , ومثل معاوية بن ابي سفيان , وعمر بن العاص , فهؤلاء دخلوا في الاسلام بعد الفتح , فكيف يمكن القول بعدالتهم ! فكل من دخل في الاسلام بعد الفتح لايمكن ان يكون مشمولا في الاية الكريمة , فالاستدلال بها على عدالة عموم الصحابة غير تام . وثانيا أن الاية مخصّصة أو مقيدة بقوله تعالى ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق ايديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) فرضاه سبحانه وتعالى عنهم دائر مدار التزامهم وعدم نكثهم لطاعة الله , ومن الواضح حصول النكث من البعض. وثالثا أنا لو قلنا بأنه الاية شاملة للجميع وأن الرضى على الصحابة مستمر أبد الآبدين حتى ولو عصوا , حتى ولو انحرفوا , حتى ولو كفروا , ألا يكون هذا إغراء بالقبيح وبالمعصية , وفيه من التناقض الواضح في كلامه تعالى مالايخفى –تعالى الله عن ذلك- حيث غض النظر عن أهل بيعة الشجرة حتى ولو عصوا, وفي نفس الوقت يأمر بمعاقبة العاصي والمذنب من غيرهم , وهذا مما لايقبله عقل ولايؤيده دليل اطلاقا , فما هي الميزة لأهل بيعة الشجرة حتى يكونوا بهذه المثابة , بل هو خلاف العدل الالهي . ورابعا أن الله سبحانه بهذا الشكل – اي لمجرد البيعة تحت الشجرة ثّبت عدالتهم أبد الآبدين – قد جعل الصحابة أفضل من النبي (ص) , لأنه تعالى قال في حق النبي (ص) ( ولو تقوّل علينا بعض الاقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين ). فلم يستثن في حق النبي (ص) , واستثنى في حق الصحابة , ومن المعلوم أن لا أحد أفضل من النبي (ص), وأن المذنب والعاصي يعاقب على المعصية والذنب , ولاكفارة إلا التوبة والاستغفار. فأي مفارقة يتبناها الاستدلال , وأي كرامة للصحابة حتى يكونوا أميز وأفضل من نبيهم , والله ما هذا إلا افتراء على الله وعلى رسوله , بل وعلى الصحابة أنفسهم , لأنهم لايريدون أن يكونوا متمّيزين كذلك, فنحن نعطيهم مالم يعطهم الله , ونفضلهم بما لم يفضّلهم به, كبر مقتا عند الله أن نفتري على الله الكذب , وأن نقول بمثل هذا القول وخلاصة الكلام |
=واستدل ايضا بقوله تعالى ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم)
استدل اخواننا على عدالة الصحابة برضى الله عنهم وحكموا بأن هذا الرضى شامل لهم جميعا وثابت لهم ابد الآبدين ولو فعلوا ما فعلوا. إلا أن هذا الاستدلال غير تام , والمناقشة فيه من جهات اولا أنها حددت من رضي عنهم المولى عزوجل , بأمرين ( الايمان والبيعة ) (1) المؤمنون , فمن ثبت إيمانه فهو مرضي عنه , وأما من لم يثبت إيمانه فهو خارج حتى ولو حضر البيعة , كالمنافقين والذين خرجوا عن الايمان بفعل ما يوجب خروجهم عنه (2) جعل الرضى معلقا على البيعة ( إذ يبايعونك) فمن بايع يكون مرضيا عنه ومن المقطوع به أن قسما من الصحابة لم يكن موجودا عند البيعة ولم يكن مؤمنا , مثل خالد بن الوليد , ومثل معاوية بن ابي سفيان , وعمر بن العاص , فهؤلاء دخلوا في الاسلام بعد الفتح , فكيف يمكن القول بعدالتهم ! فكل من دخل في الاسلام بعد الفتح لايمكن ان يكون مشمولا في الاية الكريمة , فالاستدلال بها على عدالة عموم الصحابة غير تام . وثانيا أن الاية مخصّصة أو مقيدة بقوله تعالى ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق ايديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) فرضاه سبحانه وتعالى عنهم دائر مدار التزامهم وعدم نكثهم لطاعة الله , ومن الواضح حصول النكث من البعض. وثالثا أنا لو قلنا بأنه الاية شاملة للجميع وأن الرضى على الصحابة مستمر أبد الآبدين حتى ولو عصوا , حتى ولو انحرفوا , حتى ولو كفروا , ألا يكون هذا إغراء بالقبيح وبالمعصية , وفيه من التناقض الواضح في كلامه تعالى مالايخفى –تعالى الله عن ذلك- حيث غض النظر عن أهل بيعة الشجرة حتى ولو عصوا, وفي نفس الوقت يأمر بمعاقبة العاصي والمذنب من غيرهم , وهذا مما لايقبله عقل ولايؤيده دليل اطلاقا , فما هي الميزة لأهل بيعة الشجرة حتى يكونوا بهذه المثابة , بل هو خلاف العدل الالهي . ورابعا أن الله سبحانه بهذا الشكل – اي لمجرد البيعة تحت الشجرة ثّبت عدالتهم أبد الآبدين – قد جعل الصحابة أفضل من النبي (ص) , لأنه تعالى قال في حق النبي (ص) ( ولو تقوّل علينا بعض الاقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين ). فلم يستثن في حق النبي (ص) , واستثنى في حق الصحابة , ومن المعلوم أن لا أحد أفضل من النبي (ص), وأن المذنب والعاصي يعاقب على المعصية والذنب , ولاكفارة إلا التوبة والاستغفار. فأي مفارقة يتبناها الاستدلال , وأي كرامة للصحابة حتى يكونوا أميز وأفضل من نبيهم , والله ما هذا إلا افتراء على الله وعلى رسوله , بل وعلى الصحابة أنفسهم , لأنهم لايريدون أن يكونوا متمّيزين كذلك, فنحن نعطيهم مالم يعطهم الله , ونفضلهم بما لم يفضّلهم به, كبر مقتا عند الله أن نفتري على الله الكذب , وأن نقول بمثل هذا القول وخلاصة الكلام |
وخلاصة الكلام:
أن القول بعدالة الصحابة بالشكل الذي ذكره السنة والادلة التي ذكروها, لم يثبت أمام الآيات القرآنية, ولا أمام ماورد من الاحاديث , ولاأمام العقل , أبدا , ولايمكن اعتماده , خصوصا بالنسبة للمنافقين والمرتدين , وبالنسبة للاعراب الذين وصفهم القران بعدم الايمان , وأنهم أشد كفرا ونفاقا ( الاعراب أشد كفرا ونفاقا ) , (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم ) , وكذلك بالنسبة للصحابة الذين بدلوا وغيروا في أحكام الله , ودين الله , وفرائض الله , وارتكبوا اشنع الاعمال وأكبر المعاصي من الزنا وشرب الخمر وأكل الربا وقتل النفس المحترمة البريئة . فأي صحابة هؤلاء الذين نوجب لهم العدالة ونؤكد أنهم حفظة لدين الله ولشريعة الله وأنهم مبلغون عن الله سبحانه!. ولاأريد أن أتوسع في الحديث بأكثر مما عرضت وذكرت , فليحكم العقلاء بحكمهم في هذا الموضوع , فالناس تستنكر فعل القبيح من أقل الناس , وتتحامل عليه , فكيف اذا صدر القبيح ممن هم حملة الدين وحفظته . ألا يحق لنا أن نقول الكلمة الحق التي نوافق كتاب الله وتوافق سنّة نبّيه وتوافق العقل !. وأكتفي بالقول بهذا الموضوع بهذه الكلمات : أن القول بعدالة الصحابة مع ماثبت في حقهم من القران الكريم والسنة الشريفة والوقائع التاريخية , ما هو الا استهتار بالدين وتمرير لغايات وأهداف لم تجد لها طريقا الى الوجود والتطبيق سوى هذا القول , ولعلها لاتخفى على المتأمّل العاقل والمتتبّع الفطن لأحداث التاريخ التي جرت أيام النبي (ص) في حياته وقبل وفاته وبعد وفاته . وصفوة القول الذي نراه فيما بيننا وبين الله في شأن الصحابة : أن الصحابة شأنهم شأن غيرهم من المسلمين والمؤمنين , نرجو لهم من الله السعادة والسلامة والمغفرة والرضى والقبول , وهم على أقسام : فمنهم : من كان على العدالة من أول أمره , وبقي عليها وعلى الاستقامة في كل شؤونه الى حين وفاته , وعددهم كثير , وهم من أجلّة الصحابة وأهل التقوى والورع , فهؤلاء يؤخذ منهم ويعتد بقولهم , ويقتدى بهم , لتقواهم وورعهم , ويقال بعدالتهم , ولكن ليست بالمنزلة التي يذكرها أخواننا السنة . ومنهم : من لم يكن كذلك , أو لم يعرف حالهم , فيفحص عنهم وعن أحوالهم , فمن ثبتت وثاقته وحصل الاطمئنان به وبتقواه وورعه , يؤخذ بقوله ويحكم بعدالته , وإلا فيكون شأنه شأن غيره من الصحابة , ولانقول فيه وفي غيره الا خيرا , ونرجو له من الله المغفرة والرحمة لصحبته للنبي (ص) ولاترتقي بهم الصحبة إلى أجواء العدالة , أو نقول إن أخطائهم مكفّرة ومغفورة بالصحبة , فما لم تصدر منهم التوبة النصوح , وما لم يكن هناك صدق في التعامل مع أوامر الله سبحانه , والانتهاء عن نواهيه , والاخذ بكتاب الله وسنّة نبيّه (ص) , لا يمكننا القول بالعدالة أبدا, فإن الله لايخدع عن جنته , وهو تعالى الذي يزكّي الأنفس , وحتى لو قلنا بالعدالة فلا يمكن ان نقول بحجية قوله إلا وفق الموازين المعتبرة في علم الحديث والتي وفقها يكون ويتم الاستدلال . إن الله سبحانه وتعالى قد جعل حفظة لدينه ممن هم أولى وأفضل وأبر وأتقى وأكثر علما ومعرفة بدين الله , وهم إهل البيت عليهم السلام والعترة الطاهرة, هؤلاء هم حفظة الدين ولم يغيّروا ولم يبدّلوا وما أحدثوا في دين الله شيئا , ولم يقولوا إلا ماقاله الله وأراده وبيّنه في كتابه وأوضحه على لسان نبيه الكريم (ص). هذه عقيدتنا في الصحابة , وأكرر القول : لانقول فيهم إلا خيرا , ولكن لا ترتقي الصحبة بهم الى منزلة العدالة فضلا عن العصمة كما توهمّه البعض , ولنا مزيد من القول في هذا الموضوع في كتيب خاص بعنوان (( حقائق تاريخية )) المبحث الثالث مصحف فاطمة عليها السلام الجفر-الجامعة |
المبحث الثالث
مصحف فاطمة عليها السلام , الجفر , الجامعة من الامور التي يتحدث بها الناس , ويشيع البعض حولها أقوالا لا تتسم بالمسؤولية الادبية ولا الدينية , فضلا عن ان يكون لها نصيب من الصحة , بل فيه البهتان والكذب والنفاق والتلفيق وقول الباطل على الشيعة . من هذه الامور أدعاء أن لدى الشيعة مصحفا يدعى (( مصحف فاطمة )) وأنه يقابل القرآن , أو هو قرآن ثان لديهم , وأن لديهم الجفر , ولديهم الجامعة , وغير ذلك من الافتراءات والبهتان . وتحس من خلال ذلك أن هذه الاتهامات والتقولات على الشيعة ليست فقط اتهام وتقوّل , وإنما هي أيضا حقد بغيض يسيطر على العقول والنفوس الى درجة تدفعهم الى التكفير واستباحة الأموال والاعراض والدماء , هذا مع علمهم الأكيد بأن الشيعة لايقولون بذلك ابدا ولا يدّعون ذلك , وما صدر من أحد منهم شيء من ذلك . ومثل هذه التقوّلات والحملات ضد الشيعة كثيرة ومستمرة , وفي عقيدتي أنها لن تنتهي أبدا , مادام هناك من يحرك الفتن ويثيرها ويستفيد منها , ومادام هناك حقد في النفوس وغشاوة على العقول وظلمات يتخبطون بها . ولكن مع ذلك لايمكن أن نسكت ونذعن لهذه الافتراءات والتقولات ولانبين الحقيقة التي نحن عليها ونعتقدها ونؤمن بها والتي هي عنواننا وشعارنا فيما بيننا وبين الله سبحانه , رضي الناس أو لم يرضوا , غضب الناس أو لم يغضبوا , شرّقوا أو غرّبوا , ومهما تكن الاتهامات منهم في حجمها وفي طبيعتها وأهدافها , لأنّا بنينا هذه المعتقدات على أسس عقلية أكدها القرآن الكريم والسنة الشريفة . واذا كان الذين يبهتون على الشيعة ويتقوّلون عليهم بما لم ينزل الله به سلطانا ولايعتقدون به ولايقولون به , ولا يريدون ان يتركوا تلك الموروثات من الحقد والضغينة والبغضاء , والجهل أيضا , فما نفعل لهم ( لايضركم من ضل اذا اهتديتم ) وليس علينا الا البيان وايضاح الحق الذي نؤمن به مصحف فاطمة مصحف فاطمة موجود وثابت وأكيد , حق وواقع نؤمن به ونعتقد به . ولكن هل مصحف فاطمة مصحف في قبال القران ؟ وهل هو قرآن ثان لدى الشيعة ؟ هذا هو الكذب الذي يفترى به علينا. إن مصحف فاطمة ليس قرآنا أبدا , وليس فيه شيء من القران إطلاقا . وقبل بيان حقيقة (( مصحف فاطمة )) أقول بأن عقيدتنا في القران الكريم أنه كتاب الله المنزل على نبيه المرسل محمد (ص) وهو المعجزة الكبرى للنبي (ص) وهو الدستور الكامل للمسلمين , وهو كتاب واحد لايمكن أن يتعدد , ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , ولا زيادة فيه ولانقصان , ولا يوجد غيره عند المسلمين أجمع على أختلاف مذاهبهم وطوائفهم , ومن يقول غير ذلك فهو كافر , للكذب والافتراء على الله سبحانه وعلى رسوله الاكرم (ص) , هذه عقيدتنا في كتاب الله (( القران الكريم )). فمصحف فاطمة عبارةعن صحائف ليس فيها شيء من القران إطلاقا , ولا آية وإنما بيان لأحكام الشريعة من الحلال والحرام , وفيه تحديدها - أي تحديد الأحكام ووصفها - , حتى ذكر فيه بيان ومقدار الجلدة ونصف الجلدة , وأرش الخدش , وفيه العبر , وفيه التاريخ , وفيه بيان من يحكم ويملك من لدن آدم الى يوم القيامة , بأسمائهم , وقد يكون فيه تفصيل أوضاعهم . وهذا المصحف لم يطّلع عليه أحد , ولا هو موجود عند أحد أبدا, وإنما هو موجود عند أهل البيت عليهم السلام , وهذا المصحف أو هذه الصحائف هي من إملاء رسول الله (ص) وكتبها علي بن ابي طالب (ع) بخط يده , وكتبها علي (ع) لفاطمة (ع) . ومعرفتنا بحقيقة هذا المصحف أو الصحائف إنما هي من خلال الروايات الاكيدة التي وردت عن أهل البيت عليهم السلام في وصف هذه الصحائف وبيان مافيها . وأذكر بعض الروايات من باب التأكيد لهذه الحقيقة , وإلا فالروايات عديدة ومتواترة في هذا الموضوع ففي رواية احمد بن الحسن بن فضّال , عن أبيه , عن ابن بكير وأحمد بن محمد , عن محمد بن عبد الملك , قال ( كنا عند أبي عبد الله عليه السلام نحوا من ستين رجلا وهو وسطنا , فجاء عبد الخالق بن عبد ربه فقال له كنت مع ابراهيم بن محمد جالسا , فذكروا أنك تقول إن عندنا كتاب علي عليه السلام فقال لا والله ماترك علي عليه السلام كتابا , وإن كان ترك علي عليه السلام كتابا ماهو الا إهابين ولوددت أنه عند غلامي هذا فما أبالي عليه , قال فجلس أبو عبد الله عليه السلام ثم أقبل علينا فقال ماهو والله كما يقولون , إنهما جفران مكتوب فيهما , لا والله إنهما لإهابان عليهما أصوافهما وأشعارها مدحوسين - أي مملوئين - كتبا في أحدهما , وفي الاخر سلاح رسول الله (ص) وعندنا والله صحيفة طولها سبعون ذراعا ماخلق الله من حلال وحرام إلا وهو فيها , حتى أرش الخدش , وقال بظفره على ذراعه فخط به , وعندنا مصحف فاطمة , أما والله ماهو القران ..... الحديث) ( بحار الانوار المجلسي 38/26 ب 1 ابواب علومهم عليهم السلام ح 69 ) وعن الحسين بن ابي العلا قال ( سمعت أبا عبد الله يقول إن عندي الجفر الابيض قال قلنا وأي شيء فيه ؟ قال لي زبور داوود , وتوراة موسى , وانجيل عيسى , وصحف ابراهيم , والحلال والحرام , ومصحف فاطمة ماأزعم أن فيه قرآنا وفيه ما يحتاج الناس الينا ولانحتاج الى أحد , حتى أن فيه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش , وعندي الجفر الاحمر ). ( بحار الانوار 36/26 ب1 ابواب علومهم عليهم السلام ح 68 ) وفي رواية ابي بصير |
وفي رواية ابي بصير قال ( دخلت على ابي عبد الله عليه السلام قال فقلت له إني أسألك جعلت فداك عن مسألة ليس هاهنا أحد يسمع كلامي ؟
قال فرفع أبو عبد الله عليه السلام سترا بيني وبين بيت آخر , فاطّلع فيه , ثم قال يا أبا محمد سل عما بدا لك . قال قلت جعلت فداك أن الشيعة يتحدثون أن رسول الله (ص) علّم عليا بابا يفتح منه ألف باب ؟ قال فقال ابو عبد الله عليه السلام يا أبا محمد , علّم والله رسول الله (ص) عليا ألف باب , يفتح له من كل باب ألف باب . قال قلت له هذا والله العلم , فنكت ساعة في الارض , ثم قال إنه لعلم وما هو بذاك قال ثم قال يا أبا محمد وإن عندنا الجامعة , وما يدريهم ماالجامعة قال قلت جعلت فداك وما الجامعة ؟ قال صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله (ص) وأملاه من فلق فيه - أي شق فمه- وخط علي بيمينه , فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج اليه الناس حتى الأرش في الخدش , وضرب بيده إلي وقال أتأذن لي يا أبا محمد ؟ قال قلت جعلت فداك أنا لك , أصنع ماشئت , فغمزني بيده ( أراد عليه السلام بكلامه هذا توضيح أرش الخدش وأمثاله مما يستوجب الدية والحق الشرعي , تأكيدا على أن لكل شيء حدا , وأن الناس عليهم أن يتقيدوا بأحكام الشرع في كل حركة وإن كانت بسيطة ) فقال حتى أرش الخدش هذه , كأنه مغضب . قال قلت جعلت فداك , هذا والله العلم , قال إنه لعلم وليس بذاك , ثم سكت ساعة ثم قال إن عندنا الجفر وما يدريهم ما الجفر , مسك شاة أو جلد بعير . قال قلت جعلت فداك ما الجفر؟ قال وعاء احمر وأديم أحمر , فيه علم النبيين والوصيين. قلت هذا والله العلم قال إنه لعلم وليس بذاك , ثم سكت ساعة ثم قال وإن عندنا لمصحف فاطمة , وما يدريهم ما مصحف فاطمة , قال فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ( فيه مثل قرآنكم ثلاث مرات أي من حيث الكم والحجم ثم عقب عليه السلام أنه ليس فيه من القرآن الموجود حرف واحد , للتأكيد على أنه ليس بقرآن مقابل القرآن المنزل ) والله مافيه من قرآنكم حرف واحد .......الحديث (بحار الانوار 26 / 38 - 39 ب 1 ابواب علومهم عليهم السلام ح 70 ) وفي رواية ( قال ابو عبد الله عليه السلام العجب لعبد الله بن الحسن ( هو عبد الله بن الحسن بن الحسن ويسمى بعبد الله بن الحسن المثنى عاند الامام الصادق (ع) وأخذ البيعة لولده محمد الذي ادعى الخلافة [ راجع ترجمته في معجم رجال الحديث الخوئي 170/11 رقم 6805 ] ) يقول ليس فينا إمام صدق , ما هو بإمام ولا كان أبوه إماما ؟! ويزعم أن علي بن ابي طالب لم يكن اماما ويردد ذلك ؟ ! وأما قوله في الجفر فإنما هو جلد ثور مذبوح كالجراب فيه كتب وعلم ما يحتاج اليه الناس الى يوم القيامة من حلال وحرام , إملاء رسول الله (ص) وخط علي (ع) بيده , وفيه مصحف فاطمة مافيه آية من القرآن ...... الحديث ) ( بحار الانوار 42/26 ب1 باب ابواب علومهم عليهم السلام ح 74 ) والروايات عديدة في شأن هذه الصحائف , أو مصحف فاطمة , فهي بمجموعها ليست قرآنا في مقابل الكتاب العزيز , وقد سبق التصريح بأن مصحف فاطمة ليس فيه حرف واحد من القرآن , كل ذلك للتأكيد على أنه ليس بقرآن . والكتب الاخرى الجامعة والجفر أيضا ليسا قرآنا , وانما كتب فيهما الحلال والحرام , وفيهما التاريخ , وفيهما مايحتاجه الناس في مختلف شؤونهم . فأين مايدعيه أخواننا السنة بأن هذه الكتب قرآن أو قرآئين ؟ وما أدري ما يقال لهم بعد البيانات المتكررة والمتعددة من كل علماء الشيعة على مختلف الازمنة والامكنة , فهذا الموضوع قد كتب فيه الاوائل كما كتب فيه المتأخرون , وكتب فيه متأخرو المتأخرين , وفي عصرنا هذا , وأن مصحف فاطمة والجفر والجامعة وغيرها من الكتب ليست قرآنا في مقابل القرآن الكريم وقد أوضحنا قبل قليل ماهي عقيدة الشيعة في القرآن الكريم . الشيعة الاماميون الاثنا عشرية , عقيدتهم في القرآن الكريم أنه كتاب الله المنزل على نبيه المرسل , وهو الذي بين أيدي المسلمين , والذي يتداولون نسخة منه الآن والى يوم القيامة , ولايمكن أن يكون كتاب سواه , ومن يدعي غير هذا أو يقول بغير ذلك فهو كافر قطعا , من أي مذهب كان , لما أسلفناه من القول بأنه يستلزم تكذيب الله سبحانه وتعالى وتكذيب رسوله وإنكار المعجزة . ومن يتهم الشيعة بالقول الباطل , ويفتري عليهم بما لايقولون به في معتقداتهم , يمكننا ان نقول فيه , بل نقول فيه قولا قاسيا , ولكنّا نتحاشى أن نخرج عن حدود اللياقة والادب , جريا على ما تعلمناه من نبينا الاكرم والائمة الاطهار من الادب والقول الحسن , والدعوة الى الله والحق , بالحكمة والموعظة الحسنة . ولذلك أتمنى على اخواننا السنة أن يكونوا أكثر عقلانية ووعيا ويكفوا عن هذه الاباطيل والموروثات الحاقدة , والجاهلية , والتي أكل عليها الدهر وشرب , والتي لايجنون منها الا المهاترات والمواقف السلبية , والامة الاسلامية أحوج ماتكون الآن وسابقا الى جمع الكلمة وتوحيد الموقف. هذا وقد أشار السيد الوالد قدس الله سره في كتابه ( عقيدة الشيعة في الامام الصادق عليه السلام وسائر الائمة ) توضيحا لهذه الكتب (عقيدة الشيعة في الامام الصادق عليه السلام وسائر الائمة عليهم السلام السيد حسين مكي ص 52 وما بعدها ) أذكر ملخصا عنه الجفر هو جلد شاة , أو جلد بعير , كان يتخذ لكتابة العلوم فيه , وقد أتخذ منه الائمة وعاء للسلاح وللكتب المدون فيها العلوم . ثم أن الكتب التي دونّت على صحائف هذه الجلود , كانت وديعة النبي (ص) وعلي (ع) عند الائمة على أقسام (1) الجامعة |
( 1) الجامعة
وهي كتاب طوله سبعون ذراعا , من إملاء رسول الله (ص) وخط علي عليه السلام , فيها جميع مايحتاج اليه الناس من حلال وحرام وغير ذلك , حتى أن فيها أرش الخدش , وقد ورد وصفها في روايات عن الامامين الباقر والصادق عليهما السلام , وسميت فيما ورد عنهما ب (( الجامعة )) و (( الصحيفة )) و(( كتاب علي عليه السلام )) و (( الصحيفة العتيقة )) , وقد رآها بعض الرواة الثقاة من أصحاب الامامين عليهما السلام . ( 2) صحيفة الفرائض ويعبر عنها بكتاب الفرائض , وهي بعض الجامعة الكبيرة , وهي إملاء رسول الله (ص) وخط علي عليه السلام بيده , وهي ثابتة وأكيدة , وقد أثبت هذا الامر رواة الحديث من الشيعة . ( 3) كتاب الجفر وهو من إملاء رسول الله (ص) وتأليف علي عليه السلام وهو على قسمين الجفر الابيض , والجفر الاحمر -الجفر الابيض وعبر عنه الامام الصادق عليه السلام بأنه وعاء من أدم , فيه علوم الانبياء والوصيين , وعلم العلماء الذين مضوا من بني أسرائيل , كصحف ابراهيم وموسى , وزبور داوود , وإنجيل عيسى , وغيرها فهو - مضافا الى انه كتب فيه علم الحوادث - جعل وعاء للكتب التي دونت فيها العلوم , ووعاء لمصحف فاطمة عليها السلام . - الجفر الاحمر فيه علم الحوادث , وجعل وعاء للسلاح , سلاح رسول الله (ص) وفي بعض الروايات ان الجفر الابيض فيه زبور داوود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف ابراهيم , والحلال والحرام , ومصحف فاطمة , وفيه مايحتاج الناس الينا ولانحتاج الى احد , حتى ان فيه الجلدة ونصف الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش , وأن الجفر الاحمر وعاء فيه السلاح , يفتح للدم , يفتحه صاحب السيف للقتل ( راجع الكافي الكليني ج1 ص 240 باب ذكر الصحيفة والجفر ح 3 . وبما ان هذه الكتب والصحائف الموجودة عند الامام الحجة سلام الله عليه , فليس ببعيد أن المقصود بصاحب السيف هو سلام الله عليه ) تفسيرا لما أشرنا اليه وتأكيدا لذلك . وبالجملة الجفر علم مستقل , هو علم الحوادث , ومايكون في المستقبل , وهو موجود عند الائمة عليهم السلام , وأنه من مؤلفات الامام عليه السلام , فيه علم الحوادث وغيرها . وأما كيفية استنباط العلوم منه, وأنه يكون على طريقة الحروف , أو الاخبار , فلم يظهر لنا , ولو ظهر ووصل الينا لأمكن الجزم على كيفية أستخراج الحوادث , ولذلك كان ماينكره علماء الشيعة ولايؤيدونه هو كيفية استخراج الحوادث , لا أصل وجود هذا العلم , فإن إنكاره أمر غير ممكن , اتواتر الروايات عنه . ( 4 ) مصحف فاطمة عليها السلام وهو إملاء رسول الله (ص) على علي عليه السلام , وكتبه علي (ع) , وقد تعرضت له الروايات , وأطلق عليه (( المصحف )) ولكنه ليس قرآنا , ولا فيه شيء من القران , ( فيه مايحتاج الناس الينا ولانحتاج الى احد ) كما عبرت الروايات السابقة . وتشعر بعض الروايات الى ان في هذا المصحف أسماء الملوك الذين يتواردون على الملك , وأنه ليس لبني الحسن شيء من الخلافة , وأن فيه علم مايكون من الحوادث . وفي بعض الروايات , كما ورد في رواية الحذّاء عن ابي عبد الله عليه السلام ( قال عليه السلام وقد سئل عن مصحف فاطمة عليها السلام إن فاطمة مكثت بعد رسول الله خمسة وسبعين يوما , وقد دخلها حزن شديد على أبيها , وكان جبرائيل يأتيها فيحسن عزائها على أبيها , ويطيّب نفسها ويخبرها عن ابيها , ومكانه , ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها , وكان علي عليه السلام يكتب ذلك , فهذا مصحف فاطمة . انتهى ملخصا ما أردناه من كتاب السيد الوالد قدس سره أقول يظهر أن لها مصحفين أو صحيفتين إحداهما إملاء رسول الله (ص) والثانية من حديث جبرائيل عليه السلام. ووصفهما كما ذكرته الروايات , وليس غريبا ان يحدثها جبرائيل , فأن الملائكة كانت تنزل على مريم وتحدثها قال تعالى ( وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين ). وقال تعالى بالنسبة لأم موسى عليه السلام ( وأوحينا الى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولاتخافي ولاتحزني إنا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين ) . فإذا كانت الملائكة تحدّث مريم وأم موسى - ومن المعلوم والمقطوع به لدى المسلمين أجمع أفضلية فاطمة الزهراء عليها السلام على نساء العالمين , من الاولين والآخرين , كما هو وارد وثابت في الاخبار , أنها ( سيدة نساء العالمين من الاولين والآخرين )- ( مستدرك سفينة البحار النمازي ( ت 1405 ه) 246/8 ) فليس غريبا إذن نزول جبرائيل اليها ويحدثها , هذا مع ان الثابت والاكيد أن الملائكة كانت تخدم أهل البيت عليهم السلام. وخاتصة القول أن مصحف فاطمة وغيره من الكتب - كما أشرنا اليه - ليس قرآنا في قبال القران العزيز الذي هو بين أيدينا الان , بل ليس من القرآن الكريم إطلاقا . هذا واقع هذه المصاحف أو الصحف أو الكتب , وهذه عقيدتنا فيها , ولايمكن ان نقول غير ذلك , وما قلناه لن يقال غيره ابدا , لما أسلفناه مكررا , فليّتق الله من يتهم الشيعة بغير مايقولون , وما جدوى هذه الاتهامات التي ام تحقق شيئا لهم , سوى تعميق الخلاف وتوسيع دائرته , وإن كنا نعلم تماما ما الهدف من وراء هذا وغيره , مما هو أشد من الاتهام , ولاحول ولاقوة الا بالله العلي العظيم. المبحث الرابع هل يعلم الائمة عليهم السلام الغيب |
المبحث الرابع
هل يعلم الائمة عليهم السلام الغيب ؟ من جملة الافتراءات التي افتري بها على الشيعة , ومن خلاله يتهمونهم بالشرك القول بأن الائمة يعلمون الغيب. وهذا القول وغيره مأخوذ من ابن تيمية وأمثاله الذين دأبوا على اثارة الفتن والاباطيل ضد الشيعة بلا مبرر ولا وازع ولا خوف من الله سبحانه , نتيجة إمتلاء قلوبهم بالحقد والكراهية , والبغض لعلي وأبنائه الغر الميامين الطاهرين عليهم السلام . والشيعة على امتداد تاريخهم ومختلف احوالهم وأوضاعهم ومواقفهم , لم يظهر منهم هذا القول المفترى عليهم به , لابصريح القول , ولا بلحن القول ابدا , ولم يقله احد منهم , وإنما الذي ظهر منهم مقالات فسرت بهذا , مثل قولهم عليهم السلام ( إن عندنا علم ماكان وعلم ماهو كائن الى أن تقوم الساعة ) ( الكافي الشيخ الكليني 1/239 باب ذكر الصحيفة والجفر ح 1 ) . وهذا في واقعه (( علم بالغيب )) لا (( علم الغيب )) أي هذا ما أطلعهم الله عليهم بواسطة الرسول (ص9 . وأي مانع من ان يطلعهم الرسول (ص) على ذلك , وأي مانع من أن تكون دائرة علومهم واسعة الى مثل ماقالوا , وهم الذين لديهم علوم القران التي أودعها الله عند رسوله (ص) ورسوله (ص) أودعها عند الائمة الطاهرين عليهم السلام , فهم يعلمون بهذه الامور عن تحديد وتعليم بما علمه الله لنبيه محمد (ص) , وإذا كانت علومهم بهذه الكيفية في نطاق وتحديد القران , فأين علم الغيب أذن ؟ هذا .. وقد تقدمت الاشارة في هذا الكتاب ( في الفصل السادس من هذا الكتاب بعنوان علم الامام ) إلى أن علوم الائمة عليهم السلام مأخوذة من النبي (ص) ومن القران , وأنهم لايتعدون ذلك ابدا , فعلي عليه السلام تعلم من رسول الله (ص) مختلف العلوم , ورسول الله (ص) أفاض عليه هذه العلوم حتى قال ( أنا مدينة العلم وعلي بابها )( بحار الانوار 126/23 ب7 فضائل أهل البيت عليهم السلام ح 53 ) وقال عليه السلام ( لقد علمني رسول الله (ص) ألف باب , يفتح كل باب الف باب ) ( بحار الانوار 28/26 ب1 جهات علومهم ح 36 ) , وغيرها من الاحاديث الشريفة التي تؤكد تعليم رسول الله لعلي , فما علّمه الرسول (ص) لعلي عليه السلام وأستودعه عنده , علّمه علي عليه السلام للحسنين عليهما السلام , والحسنان عليهما السلام أودعا هذه العلوم عند الائمة الآخرين عليهم السلام . وما ورد في حديث الثقلين ( إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله , وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين - وضم سبابتيه - فقام اليه جابر بن عبد الله الانصاري , فقال يارسول الله ومن عترتك ؟ قال علي والحسن والحسين , والائمة من ولد الحسين الى يوم القيامة انظر بحار الانوار المجلسي 147/23 ب 7 فضائل أهل البيت عليهم السلام ح 111 وغيره ) فيه دلالة كبيرة على ذلك , وإلا فلا معنى للأستخلاف ابدا إن كانوا يعلمون الغيب - كما يدعيه المفترون على الشيعة في عقيدتهم في أهل البيت عليهم السلام _ . إن علم الغيب قد اختص الله به , قال تعالى ( قل لايعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله ) ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم مافي الارحام ومل تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) ( وعنده مفاتح الغيب لايعلمها الا هو ) . فالله سبحانه وتعالى هو الذي بيده مفاتيح العلوم كلها , عالم بكل شيء , ومحيط به , من مبتدءات الامور وعواقبها على اختلافها , واختلاف مواردها , وهو الذي يفتح ابواب العلوم لمن يريد ويشاء , من الانبياء والاوصياء والاولياء , لأنه لايعلم الغيب سواه , ولايقدر على فتح باب العلوم سواه . ومن هنا نقول إن مالدى الانبياء والاوصياء هو (( علم بالغيب )) أطلعهم الله عليه , لا (( علم الغيب )) وفرق كبير بين علم الغيب , والعلم بالغيب , كما يقتضيه التركيب اللفظي واللغوي , فالغيب هو ماغاب وخفي عن الحس والعقل غيبة تامة , بحيث لامجال لإدراكه بطريق البداهة ولاغيرها من الطرق , وقد قسّم الى قسمين القسم الاول |
( القسم الاول ) ما لادليل عليه سوى ماصرح به في كتابه العزيز كما قال تعالى ( وعنده مفاتح الغيب لايعلمها الا هو ) وقال تعالى ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ....)
( القسم الثاني ) مانصب عليه الدليل , مثل وجود الصانع لهذا الكون , وصفاته تعالى , والنبوات والشرائع والاحكام والامامة , واليوم الاخر وأحواله , وهو مما أوحاه الله الى رسله وانبيائه بواسطة الملائكة , وبينه في كتابه المجيد . ولذلك تجد في القران الكريم الكثير من المغيبات , كالقيامة وأحوالها , والجنة والنار , وعوالم القبر , وعوالم البرزخ , وأشراط الساعة , والعرش , والكرسي , والملائكة وأحوالهم , ومثل قوله تعالى ( وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والارض ) , فما كان عند الانبياء نوح وابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام , ومن كان في زمانهم من الانبياء مما أفاضه الله عليهم من العلوم والشرائع والمعارف , كله موجود عند النبي (ص) وزاد عليه علوم القران الذي ورد أن فيه تبيان كل شيء ( ونزلنا عليك الكتاب ثبيانا لكل شيء ). وهذا ما أشار اليه أمير المؤمنين عليه السلام وذلك لما أخبر بأخبار الترك وبعض الاخبار الاتية , قال له بعض اصحابه ( لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ! فضحك وقال للرجل - وكان كليبيا - يا أخا كليب , ليس هو بعلم الغيب , وإنما هو تعلّم من ذي علم , وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله ( إن الله عنده علم الساعة ......) فيعلم سبحانه مافي الارحام من ذكر أو أنثى , وقبيح أو جميل , وسخي أو بخيل , وشقي أو سعيد , ومن يكون في النار حطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا , فهذا علم الغيب الذي لايعلمه الا الله , وما سوى ذلك , فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه , ودعا لي أن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي ) (نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده 11/2 اضطمت عليه الضلوع أي اشتملت لاشتمال الجوانح على القلب راجع صحاح الجواهري 1972/5 ) أذن فما عند الانبياء أجمع والاوصياء إنما هو بإطلاع من الله وتعليم لهم منه ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ) , فأنه من المستحيل في حقه تعالى أن يفرض على الخلق طاعة الانبياء والرسل والاوصياء , ثم يحجب علمه عنهم -أي عن الانبياء والرسل - فإن فرض الطاعة والانقياد لهم يعني ان لهم المقام الاسنى والاولية والولاية على البشر في إدارة وتيسير شؤونهم وما يترتب على ذلك من الحفظ والعناية والرعاية لهم والصلاح والإصلاح والخير للناس في مختلف شؤونهم . ولذلك كان إطلاعهم على مايتعلق بذلك وتعريفهم بحقائق هذا الوجود , من الامور اللازمة التي مد الله سبحانه بها الانبياء والرسل والاوصياء , كل ذلك لقيادة البشر وحفظ شؤونهم . ولقد أشار القران الكريم الى هذه الحقائق في كتابه المجيد في أمر نوح عليه السلام وشريعته وما جرى على يديه من أمر الطوفان والسفينة (موضوع الطوفان والسفينة من المعجزات المهمة لنوح عليه السلام , فإن قوله تعالى [ قلنا أحمل فيها من كل زوجين أثنين ] إشارة الى أن الطوفان شمل الدنيا كلها وأذهب منها معالم الحياة , وقد حمل نوح من كل الانواع الحيوانية والنباتية وغيرها , لأنه سيكون المادة الاساسية لإعادة معالم الحياة والمخلوقات والنباتات في الارض , فما هو مقدار ضخامة هذه السفينة التي حملت من كل شيء في هذه الدنيا ؟ وما هو مقدار سعتها ؟ ), وفي أمر أبراهيم عليه السلام وشريعته وما جرى على يديه وما أطلعه الله سبحانه من ملكون السماوات والارض. ,أمر موسى عليه السلام وما كتبه الله له في الالواح والتوراة , وأمرعيسى عليه السلام وما أطلعه الله عليه من أمور وعلوم ومعارف . وما ورد في شأن سليمان |
وما ورد في شأن سليمان عليه السلام وما أعطي من علم , ( علمنا منطق الطير وأوتينا من كل كل شيء ) وما جرى على لسان آصف وصيه عليه السلام ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل ان يرتد اليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ).
كل هذا بتعليم من الله سبحانه , وهذا الذي جرى على يد آصف عظيم وكبير جدا في حد ذاته , ولكنه بسيط جدا الى علم الكتاب ومن عنده علم الكتاب , قال تعالى ( ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) , ومن الثابت والاكيد ان هذه الاية نزلت في علم علي عليه السلام بعد رسول الله (ص) , وأنه هو الذي عنده علم الكتاب والائمة الاطهار من بعده عليهم السلام , كما نصت عليه الروايات العديدة والمتواترة ( وأذكر بعض هذه الروايات للتأكيد ورد في صحيحة ابن ابي عمير , عن بريد بن معاوية , قال قلت لابي جعفر عليه السلام [ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ] ؟ قال إيانا عنى , وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي (ص) بصائر الدرجات ج 5 ص 234 باب 1 ماعند الائمة من اسم الله الاعظم وعلم الكتاب ح 20 - ( وورد ) عن عطية الكوفي , عن ابي سعيد الخدري قال ( سألت رسول الله (ص) عن هذه الاية [ الذي عنده علم من الكتاب ] قال ذاك وصي اخي سليمان بن داوود وسألته عن قوله [ قل كفى بالل شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ] قال ذاك اخي علي بن ابي طالب ينابيع المودة ج 1 ص 307 ب 30 تفسير الاية ( كفى بالله ....) الحديث 7 بحار الانوار 429/35 ح 1 ) والمقارنة بين الايتين , الاية التي ذكرت علم آصف وأنه ( علم من الكتاب ) والاية التي تحدثت عن علم علي عليه السلام والذي (عنده علم الكتاب ) تحكي الواقع الذي ذكرناه , بأن العلم الذي لديهم سلام الله عليهم أجمعين مأخوذ من الله سبحانه بواسطة الرسول وتعليمه , فإنه سبحانه وتعالى أخبر بأنه أحد الشاهدين على نبوة النبي (ص) وكونه مرسلا من الله سبحانه , والشاهد الثاني هو من عنده علم الكتاب وهو علي بن ابي طالب عليه السلام . ومعنى هذا ان مالديهم ليس علم الغيب , وإنما هو بتعليم واطلاع من الله سبحانه , فعلم الغيب علم خاص بالله استأثر به لنفسه , والعلم الموجود عند الائمة عليهم السلام علم أخذوه عن رسول الله (ص) بتعليم منه . هذه عقيدة الشيعة في علم الائمة عليهم السلام , ولم يدع أحد منهم - على اختلاف طبقاتهم -بأن الائمة يعلمون الغيب على نحو الاستقلال أبدا , بل في عقيدة الشيعة أن من يقول بذلك فهو خارج عن الدين ويحكم بكفره. المبحث الخامس الشريعة |
الشريعة
بعد الفراغ من الحديث عن شؤون العقيدة , رأيت ان أتحدث عن أمور الشريعة استكمالا للبحث . ماهي الشريعة : الشريعة هي نفس الاحكام التي شرعها الله وقررها لعباده وكلّفهم بها في علاقاتهم بالله وعلاقاتهم بالناس بعضهم مع بعض , وفي علاقاتهم بالكون , قررها وجعلها على لسان نبيه الكريم (ص) وفي القران العزيز. قال تعالى ( ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون ) وقال تعالى ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما ) وفي الحديث الشريف ( حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة )( بصائر الدرجات ,محمد بن الحسن الصفار168/4, ب3 في أمر الكتب ح7) فالحكم تشريع الهي مقرر وموضوع من قبل الله سبحانه , ولايمكن تغييره ولاتبديله مهما كانت الظروف إطلاقا ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ( ولن تجد لسنة الله تحويلا ) فالشيعة يعتقدون بأن لله في كل واقعة حكما , أي ان اعمال الانسان وحركاته وسكناته واقواله , وجميع تصرفاته , على أختلافها حتى خواطره ونواياه, في السر والعلن , في الظاهر والباطن , الكبير والصغير منها , الخطير والحقير منها , في الاموال والانفس والاعراض , وفي كل شيء من شؤونه لاتخلو من حكم الهي . وقد قسمت هذه الاحكام الى قسمين : تكليفية , ووضعية . التكليفية خمسة : الوجوب - الاستحباب - التحريم - الكراهة - الاباحة . الوضعية وهي عدية منها : الصحيح - الفاسد - المانع - السبب - وغيرها وأحكام الشريعة الاسلامية احكام وضعها الله , وانزلها سبحانه على نبيه محمد (ص) عن طريق الوحي , وبلّغها النبي (ص) امته , إبتداءا أو حسب الحوادث التي تجري أو المناسبات الخاصة أو العامة التي تكون , فهو (ص) لاينطق عن الهوى ( إن هو الا وحي يوحى ) ولذلك كان من الواجب على كل فرد أن يلتزم بهذه الاحكام , وينظر في أفعاله وأقواله وسائر تصرفاته , وأنها موافقة لما جعله الله من الحكم أم لا , حتى لا يكون مجانبا للحق وبعيدا عن الهدى ومعرضا عن حكم الله سبحانه . ومن هنا يمكننا القول : بأن هدف الشريعة من الاحكام التي يقررها الله سبحانه ويلزم الانسان بالتقيد بها والانصياع لها : (1) تجسيد الايمان المطلق بالله سبحانه , بالامتثال لأوامره والالتزام بها , والتأكيد على أن الدين هو الاساس والمنطلق والحاكم في شؤون العباد . (2) تنظيم حياة الناس بما يتناسب ويحكي الواقع الانساني بشكل يستوعب جميع احتياجاتهم وشؤونهم وفي كل مراحل حياتهم الخاصة والعامة , وحتى في دقائق الامور , بنحو لايشعر بالحاجة الى شيء في حياته , ولايشعر بنقصان شيء في حياته , بل أكثر من هذا أنه يتعامل حتى مع خواطره وأفكاره وأحاسيسه ومشاعره ويضعها في الاطار المناسب , بل كل مايتجدد في حياته وشؤونه يحتويه الاسلام وينظمه بالتشريع الملائم . (3) تصحيح السلوك الانساني في كل أفعاله وتحركاته , بنحو تكون هذه الافعال والتحركات - التي يقوم بها ويملك القدرة والارادة الكاملة على الاتيان بها مع كامل الاختيار , واحتواء للنوازع الموجودة والكامنة في داخله - , هذه الافعال والاقوال وغيرها تتبنى الشريعة أن تجعلها سليمة وواضحة في مردوداتها وعطائها , لتكون ثمارها طيبة ومثمرة للخير , وتكون بعيدة عن الفساد والشر من خلال الطاعة والانقياد , وهنا يكمن السر في عظمة الاسلام , والسر في خلوده واستمراريته . المصلحة والمفسدة في الاحكام ثم ان الاحكام الشرعية التي جعلها الله سبحانه منهاجا ودستورا لعباده في حياتهم , هذه الاحكام في واقعها تنطلق من مبدء معين يسمى بالمصلحة والمفسدة , أي ان التشريع الالهي يكون دائما وابدا وفق المصلحة في الاشياء أو المفسدة فيها , فما من حكم من الاحكام في الشريعة , أمرا كان أو نهيا , مستحبا كان أو مكروها , إلا وفيه المصلحة أو المفسدة - وقد تكون المصلحة في الامر أو النهي - . وتسمى هذه في الاصطلاح العلمي (( علل الاحكام )) أو (( ملاكات الاحكام )) . وذلك لان الله تعالى حكيم , والحكيم لايمكن أن يفعل شيئا أو يأمر بشيء أو ينهى عن شيء اعتباطا, ومن دون ان يكون فيما أمر به المصلحة التي تعود على العباد , أو يكون فيما نهى عنه المفسدة التي تبعد العباد عن خالقهم وتكون سببا في اضطراب أوضاعهم ,وإلا خرج عن كونه حكيما عادلا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - ولأنا أيضا نستقبح من البشر العاديين صدور عمل بلا هدف وبلا غاية , فكيف بالله الحكيم العليم الغني , كيف لاتكون احكامه صادرة عن حكمة وعلّة ! ومن هنا كانت المصالح والمفاسد من الامور البديهية في الاحكام وفي تشريعها . فالشريعة, لاتريد ابدا ,ولاتنظر الى إرهاق المكلف والتضييق عليه بالامر والنهي , وإنما تراعي في الامر والنهي وطبيعة الحكم : المصلحة أو المفسدة , وتراعي كون المكلف مرتاحا الى تكليفه وشريعته ومستفيدا منها الاستفادة الكاملة التي تعود عليه بالخير في حياته . إن واقع المصالح والمفاسد الموجودة في الاحكام والتي على اساسها شرّع الحكم و أمرا كان أو نهيا , استحبابا أو كراهة , وحتى الاباحة , من أهم الامور التي تربط بين الانسان والحياة والموجودات و ومن أهم الامور والعوامل في انتظام العلاقة بينهما , ومن أهم الامور ايضا التي تجعل الانسان يشخّص الموجودات ويميز بينهما , بين الخبيث والطيب , بين الصالح والطالح , بين الحسن والقبيح , وبين الخير والشر المصالح والمفاسد ليست أدلة |
المصالح والمفاسد ليست أدلة
ولابد أيضا من معرفة المصلحة والمفسدة التي هي في الاحكام والتي يقوم عليها التشريع الالهي , ليست دليلا يستند اليه في أثبات الحكم في حال فقد الدليل أو النص على الحكم في القران أو السنة وبقاء الحكم مجهولا , فلا يمكننا أن نقول بأن المصلحة الموجودة في التشريع هي الدليل على الحكم ,بل من المستحيل أن يكون ذلك , وذلك : أولا لأن الدليل الذي يثبت الحكم ويوجب الأخذ به , هو الأمر والنهي من المشرع وثانيا لأن المصلحة لما لم تؤخذ في لسان الدليل وتكون مذكورة فيه , فهي أمر ظني وغير معلوم ماهي , وقد تكون في الواقع غير الذي أدركته عقولنا ومعرفتنا , فالقول بها منا يكون تخرصا ورجما بالغيب , بل حتى لو كانت واضحة ومعلومة لدينا تماما, فلا يؤخذ بها إذا لم يكن الحكم معلّلا بها كما سنوضحه. وثالثا أنه لم يرد عن النبي (ص) ولا عن الائمة الاطهار المعصومين الذين يكون قولهم حجة وسنة, اعتمادهم على المصالح والمفاسد كدليل في إثبات الاحكام الالهية مع علمهم الواقعي بالمصالح والمفاسد فيها بمقتضى اطلاع المولى الحكيم عزوجل للنبي (ص) وإطلاع النبي لخلفائه الائمة على ذلك , فكيف يكون لغيرهم الاستدلال بها والاستناد الى المصالح والمفاسد في الاوامر والنواهي عند فقد الدليل أو النص ! رابعا اذا كانت العلة أو المصلحة أو المفسدة منصوصة , أي علل بها الحكم , مثل حرمة الخمر لإسكارها , أمكن تسرية الحكم - وهو الحرمة - الى كل موضوع يشاركه في العلة , فالإسكار لمّا كان هو علة الحكم وقد أخذ وبني الحكم عليه , فكل ماكان مسكرا يكون حراما , فالخمر حرام لإسكاره , والحشيشة حرام لإسكارها , وغيرها من المخدرات الموجودة في زماننا بكل أنواعها وأشكالها حرام لأسكارها. وأما إذا لم تذكر في لسان الدليل والنص , فلا يمكن الاستدلال بها أبدا , بل يكون الاستدلال بها في موضوعات أخرى قد تتشابه , من باب القياس المنهي عنه عندنا [( ومن هنا كان مايذهب اليه البعض من الشيعة وممن يدعون المعرفة , حيث يحاول أن يمرر بعض أفكاره , والتي منها القول بالقياس بدعوى ضرورة النظر في الروايات التي لدينا, والتي تمنع من العمل بالقياس , لعلنا نجد فيها الملاك أو العلة للحكم , وعندئذ لانحتاج الى القياس . كان مايرمي اليه هذا الشخص محاولة فاشلة : ( اولا) لأنها اعتماد على الظن , ولايجوز العمل بالظن (وثانيا ) للنهي الصريح عن العمل بالقياس , لأنه غير ناظر الى الملاك والعلة , وإنما هو ناظر الى تسرية الحكم من موضوع الى موضوع)] أصالة الاباحة في الاشياء |
أصالة الإباحة في الاشياء
وقبل الخوض في بيان وتفصيل الاحكام الالهية وبيان الأدلة التي تعتمد في أستنباط وأخذ الاحكام الالهية منها وتطبيقها على الموضوعات التي بين أيدينا والتي نتعامل معها.... أود أن أشير الى ناحية مهمة جدا , تسمى ب (( أصالة الاباحة )) وتعني : أن كل مافي هذا الوجود وكل ماخلقه الله سبحانه على وجه الارض , وكل ماتقع يد الانسان عليه ويمكن أن يستفيد منه , هو مباح للانسان , وله الحق أن يتصرف به ويستفيد منه, بمختلف أنواع الاستفادة , إلا ماكان فيه ضرر أو خطر عليه , أو يؤدي الى الشر والفساد , لأن الله سبحانه وتعالى ماخلق هذا الوجود والموجودات إلا ليستفيد منها الانسان وتكون وسيلة لتنامي الحياة والاستمرار فيها بالشكل الصحيح . فأصالة الاباحة مبدأ عام لتأكيد هذا الواقع , بل أصالة الاباحة تشمل الاقوال والافعال التي تصدر من الانسان أيضا , فللإنسان الحق في أن يفعل ويتصرف ما يشاء إلا ماكان ضررا وخطرا عليه , فالاباحة مبدأ تكويني جعل لمصلحة الانسان تفرضه طبيعة الحياة والوجود الانساني, وهو أيضا مبدأ تشريعي مقرر للإنسان يمارسه في كل شيء في هذا الوجود للاستمرار والاستقرار والتكامل. وأيضا , هذا المبدأ التشريعي نفسه هو الذي يقرر ويحدد المنع والحرمة في الامور التي فيها الضرر والخطر على الحياة وعلى الانسان نفسه. ولنضرب مثالا على ذلك (( المأكولات )) فقد أباح الاسلام للإنسان أكل كل شيء من الحيوانات والنباتات وغيرها , بقانون الاباحة , ولكن الله سبحانه وتعالى الذي أوجد الانسان وخلق الاشياء كلها , حدد للإنسان ماهو النافع له من الاكل والحلال و عبر عنه بالطيبات ( قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) وأشار بشكل صريح الى الامور الضارة له والتي لانفع فيها وعبّر عنها بالمحرمات , قال تعالى ( إنما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ). وقال تعالى ( ومالكم ألا تأكلوا مما ذكر أسم الله عليه وقد فصّل لكم ماحرّم عليكم إلا ماإضطررتم اليه ةإن كثيرا ليضلّون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين ) وقال تعالى ( الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ) أما الاقوال والأفعال وباقي التصرفات , فقد أشار لها القران الكريم بشكل واضح . قال تعالى ( قل إنما حرّم ربي الفواحش ماظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزّل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالاتعلمون ) . فأصالة الاباحة , أو مايسمى ب ( المباح ) أو مايسمى ب ( الحلال ) هو الشيء الذي يتخيّر الانسان في فعله أو تركه , أي إن شاء فعله , وإن شاء تركه , من دون أن يترتب على الفعل أي شيء من الثواب , وعلى الترك أي مخالفة تستوجب العقوبة , ولم يكن فيه ضرر أو خطر عليه ولا على غيره. فأصالة الاباحة مبدأ مقرّر من الاسلام ينطلق معه الاسلام للتعاطي مع الموجودات بشكل لايشعر معه بالحرج والضيق في تحركاته ولافرض القيود على تصرفاته, والواجبات والمحرمات التي ذكرت في الشريعة يستفاد منها حدود هذه الاباحة , فلابد من الاطلاع على هذه الامور قبل أن يخوض في شيء من أفعاله وأقواله . هذا المعنى أيضا منطلق من مبدأ المصلحة والمفسدة , وهي ليست أمرا اعتباطيا , أو يقصد منه إرضاخ المكلّف ( الإنسان ) للأمر والنهي فقط , فهذا المعنى بعيد كل البعد عن دائرة التشريع - كما أسلفنا - مصلحة الانسان وتوجيهه الى الخير والسلامة في كل شؤونه , وإبعاده عن المفاسد والشر والسوء. والسنة الشريفة أشارت الى هذه المعاني بشكل صريح في تعداد المحرّمات وبيان الآثار السيئة لها. وقد تكون الصورة وقراءة المفاسد والمخاطر على النفس والحياة أوضح في عصرنا الحاضر الذي تمكن من أكتشاف الأضرار والسلبيات التي تحملها المأكولات والمشروبات المحرمة , وكذلك في العلاقات الجسدية والاجتماعية والاخلاقية المحرّمة , وفي تحديد مقدار آثارها ومخاطرها , الأمر الذي يؤكد أن الاسلام سبق علم والتطوّر الحاضر بمراحل طويلة من الزمن , وفي كل يوم يكتشف فيه الانسان جديدا من المصالح والمفاسد والمنافع والمخاطر والاضرار في الاشياء , يؤكد بذلك أن الدين الاسلامي هو الدين الذي يرتقي بالانسان الى أبعد حدود العلم والمعرفة , فضلا عن الاخلاقية والروحانية والسلوك. الأحكام الالهية |
الاحكام الالهية
الاحكام التي أوضحتها الشريعة وتبنتها نظاما ومنهاجا في حياة الناس , أفرادا ومجتمعات , هي في واقعها اعتبار إلهي جعله الله على ذمة المكلفين , وألزمهم بها لحفظ وتنظيم شؤونهم وأمورهم كلّها من دون فرق بينها , ولذلك ورد على لسان العلماء والفقهاء : ( أن الله في كل واقعة حكما , يصيبه من يصيبه , ويخطؤه من يخطؤه ) , ومراعاتها - كما أشرنا اليه _ وتطبيقها على كل أمر وشأن من شؤون الانسان وعلى ماحوله وما يتعلق به , تجعله ينظر الى الحياة بأهمية وموضوعية , ويتحرك معها بأتزان وانتظام . وقد أشرنا الى الأحكام الالهية على قسمين ( تكليفية ) و( وضعية ) : التكليفية : هي التي يلاحظ فيها وجود أمر أو نهي , وهي خمسة أقسام: 1- الوجوب , ويقال لما تعلّق به الوجوب ( الواجب ) 2- الاستحباب , ويقال لما تعلّق به المندوب والمستحب 3- الحرمة , ويقال لما تعلّقت به الحرام والمحرّم 4- الكراهة , ويقال لما تعلّقت به المكروه 5- الاباحة , ويعبّر عما تعلّقت به المباح الاحكام الوضعية : هي التي لاتتقيّد بالأمر والنهي أو التخيير , وإنما المنظور والمعتبر فيها وجود السبب للحكم وجعله. مثل : جعل غياب الحمرة من المشرق سببا لوجوب صلاة المغرب والعشاء ومثل : جعل دلوك الشمس - أي زوالها_ سببا لصلاة الظهر. ومثل : جعل العقد المشتمل على الايجاب والقبول سببا للملكية أو الحلية أو الزوجية , وكما في أغلب المعاملات , كالبيع والشراء والزواج والإجارة والرهن والصلح وغير ذلك .... الترابط بين الاحكام التكليفية والوضعية وهناك ترابط وثيق وأكيد بين الاحكام التكليفية والوضعية ,إذ لايوجد حكم وضعي إلا والى جانبه حكم تكليفي. فالزوجة مثلا : حكم شرعي وضعي , ويتلّق به حكم تكليفي من ناحية الزوج وهو وجوب الإنفاق على الزوجة وعدم جواز ضربها , ومن ناحية الزوجة وهو وجوب التمكين والإطاعة له في بعض الامور . والملكية : حكم شرعي وضعي , ويتعلّق به حكم تكليفي , وهو حرمة التصرف بمال الغير إلا بإذنه , ووجوب حفظ المال , وغير ذلك. والدلوك: سبب لتعلق الصلاة بذمة المكلف, ويتعلق به حكم شرعي وهو وجوب الصلاة في هذا الوقت, وهكذا . تعريف الاحكام الشرعية التكليفية (1) الواجب أو الوجوب : وهو ما ألزم المكلف بالإتيان به ولم يرخّص له بالترك والمخالفة , بحيث إذا تركه أو خالفه يستحق عليه العقوبة. (2) المحرّم أو الحرام : وهو ماألزم المكلف بتركه وعدم فعله ولم يرخّص له بمخالفته , بل يستحق العقوبة على المخالفة وعصيان النهي الموجه اليه . (3) المستحب أو الاستحباب أو المندوب : وهو الفعل الذي يكون الإتيان به وفعله راجحا ويثاب المكلّف على فعله , ولكنه لايترتب على تركه ومخالفته أية عقوبة. (4) المكروه , أو الكراهة : وهو الذي يكون تركه أحسن وأفضل , لعدم رجحانه , ولكن إذا فعله لايترتب على ذلك أية عقوبة لعدم المخالفة الشرعية. (5) المباح أو الاباحة : وهو الشيء الذي يكون المكلّف مخيّرا فيه بين الفعل والترك , إن شاء فعل , وإن شاء ترك , ولايترتب على تركه أية مخالفة. قاعدة عامة القرآن والسنة أساس الأحكام أشرنا فيما سبق الى أن كل فعل يفعله ويتصرفه أو يقوله المكلّف لابد أن يكون مشمولا لواحد من هذه الاحكام الخمسة المتقدمة , وأن هذا معنى القاعدة التي قررها العلماء حول ذلك من (( أن لكل واقعة حكما )) وأساس هذه القاعدة مستفاد من القرآن الكريم والسنة الشريفة , فقد أشار أهل البيت عليهم السلام الى هذا الواقع , حيث ورد على لسان الامام الصادق عليه السلام حين سأله سورة بن كليب , قال ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام بأي شيء يفتي الامام ؟ قال : بالكتاب . قلت : فما لم يكن في الكتاب ؟ قال بالسنة قلت فما لم يكن في الكتاب والسنة ؟ قال ليس شيء إلا في الكتاب والسنة . قال فكرّرت مرة أو أثنين , قال يسدد الله ويوفّق , فأما ماتظن فلا ) ( بحار الانوار ج2ص175ب33أنهم عليهم السلام موادّ العلم ح15- 18) فكل شيء موجود في الكتاب والسنة وفي هذا إشارة بل تأكيد واضح على أن الاساس للأحكام الخمسة هو القرآن والسنة , وكذلك هو تأكيد على أن الانسان يجب عليه أن يستعرض أفعاله وأعماله وأقواله ومقاصده وخواطره , وأفكاره ونوازعه, قبل أن يتحرك بها وينظر فيها وما ينطبق عليها من حكم شرعي , كل ذلك اهتماما بالتشريع الالهي , وحفاظا على النظام وتأكيد على واقعية وصحة السلوك الإنساني ورعايته للمسؤليات والاعتبارات والحقوق والاخلاق , ولكي لايتعرض للفوضى والاضطراب , فينظر إن كان هذا الفعل والعمل واجبا , بادر اليه وأتى به , وإن كان محرمّا ابتعد عنه , وان كان مستحبا فعله وانقاد إليه لما فيه من الخير والثواب , وإن كان مكروها تركه لما يترتب على فعله من الحزازة وعدم الرجحان , وإن كان مباحا تخيّر بين الفعل والترك. العناوين الثانوية |
العناوين الثانوية
تقدمت الاشارة الى القاعدة العامة التي ذكرها العلماء , وهي ( أن لله في كل واقعة حكما ) هذا الحكم الالهي هو حكم واحد , أي لكل واقعة حكما واحدا غير قابل للتغيير والتبديل والتعدد إلا في حالات معيّنة. ( الحالة الاولى ) أن يزول موضوع الحكم , فإن موضوع الحكم هو الشيء الذي يقع عليه الحكم أو يحدد له الحكم , وحيث إن موضوع الحكم هو الاساس في الحكم فلا حكم بلا موضوع , فإن ذهب الموضوع أو تبدّل أو تغيّر , ففي هذه الحالة يمكن القول بأن الحكم يتبدّل أو يتغيّر أو يوقف, ولكن لايمكن أن يلغى الحكم كلية من دائرة التشريع والاعتبار الالهي. ومثاله ( الرق) فإنه كان شائعا في الازمنة السابقة , بل حتى في أيام الاسلام كان واستمر فترة طويلة , إلا أن الاسلام قلّص من وجوده بشكل ملحوظ بالتشريعات التي قررها للرّق , وهي العتق بأنحائه المتعددة وموجباته المختلفة , حتى أصبح موضوع الرق نادرا في زماننا , بل أصبح لاوجود له تقريبا , فأحكام الرق توقفت , ولكنها لم تلغ من الشريعة , لإحتمال أن يعود الرق بين الناس حسب الظروف والاوضاع المقتضية له . ( الحالة الثانية ) أن يكون الحكم الاولي غير ممكن الإتيان به ولاتطبيقه لطروّ طارئ على المكلف يمنعه من تطبيقه والالتزام به , كالضرر والاضطرار والإكراه. ومثال ذلك الوضوء بالماء عند الصلاةفإنه واجب اختياري في حالة القدرة على أستعمال الماء, فإذا عرض على المكلف عارض من مرض يمنعه من استعمال الماء كالمرض أو الرمد , أو كان يضره استعمال الماء , أو لم يكن الماء موجودا عنده , أو موجودا ولكن ثمنه غال جدا لايقدر عليه , عندئذ ينتقل المكلف الى التيمم المسمى بالطهارة الاضطرارية , بدلا عن الطهارة الاختيارية التي تكون عادة بالماء. ومثل القيام حال الصلاة , فإنه مع عدم التمكن منه يجب أن يصلي المكلّف من جلوس. ومثل أكل الميتة , فإنه محرم , ولكن لو لم يجد المرء أكلا عنده غير الميتة , وأصبح على حافة الهلاك من الجوع , فإنه يجوز له أكل الميتة لاضطراره اليه , وغير ذلك من الامور. فالحرمة في أكل الميتة هو الحكم الاولي الواقعي في حق كل مكلّف , ولكن عندما يصل الانسان الى حالة الضرر لعدم وجود الأكل عنده يباح له استعماله , وهكذا الحال في بعض المحرمات حيث يتوقف الحكم الأولي في هذه الموارد ويباح له استعمال المحرّمات , وهذا مايسمى ب (( العناوين الثانوية )) ناحية مهمة |
ناحية مهمة
والمعتبر في العناوين الثانوية -إن كان العنوان الثانوي مما يتعلق بالمحرمات - أن يلاحظ ناحية مهمة , وهي أن تكون الضرورة للحرام أشد وأكبر من المفسدة الواقعية الموجودة في الحرام . فأكل الميتة كما أسلفنا حرام قطعا, لكن عندما يضطر المكلّف الى أكل الميتة يصبح الأكل جائزا , إلا أن هذه الضرورة والحكم بالجواز لأجلها إنما يكون في صورة كون (( الاحتياج )) الى الحرام أمرا لابد منه ولابديل عنه , بحيث يكون الانسان معرّضا للهلاك بدونه لعدم وجود طعام غيره. فالمفسدة في ترك الحرام إن كانت أشد من المفسدة الواقعية الموجودة في الميتة جاز استعمالها وأكلها. ولابد من ملاحظة هذا المعنى في المحرمات أجمع , فلا ن عليها بمجرد الاضطرار لها , بل لابد أن نيّم مقدار الحاجة الى الحرام ونتأكد من عدم وجود بديل محلل عنه , حتى لايكون هناك جرأة وتسامح وتهاون في ارتكاب المحرّمات وتعاطيها , ومن هنا لايجوز تناول الفقاع - أي البيرة - بحجة أنه دواء للكلية مثلا مع وجود بدائل محللة كثيرة , بل ورد عن الصادق عليه السلام أنه قال ( إن الله عزوجل لم يجعل في شيء مما حرّم شفاء ولادواء ) ( الكافي الشيخ الكليني 413/6 ). أما العناوين الثانوية في (( غير المحرمات )) فيكفي فيها مجرد صدق العنوان الضر أو الاضطرار أو نحوهما . فلو نهى الطبيب المريض عن أكل معين لأنه يضرّه أو يزيد في مرضه , فهنا يحرم عليه أكل ذلك النوع من الطعام , ونظير ذلك (( الصوم )) فإذا اعتقد المكلّف أو أحتمل الضرر من الصوم , فإنه يجوز له الافطار , اكتفاء بإطلاق الضرر أو احتماله , ويصبح الصوم له غير جائز . وهذا المعنى _ أي العناوين الثانوية وتبدّل الاحكام اليها _ موضوع واسع جدا لايقتصر على الامثلة التي ذكرناها , فهو كما يجري في العبادات يجري في المعاملات ايضا , وكما يطرأ على الافراد , يطرأ على الجماعات , وهي كما أشرنا لاتوجب إلغاء الحكم الأولي الواقعي وزواله من مساحة التشريع , وإنما يوقفها لتبدّل الموضوع أو لعدم القدرة الشرعية أو عدم القدرة العقلية على ذلك , ولذا لابدّ من العودة الى الحكم الأولي الواقعي عند زوال العنوان الثانوي. ماذا تعني العناوين الثانوية أشرنا في ضمن البحث عن الاحكام الاضطرارية والتي تسمى بالعناوين الثانوية , إلى أنها حالات استثنائية للمكلّف عند طروء تغيّر أو تبدل في أوضاعه وأحواله . وهذا التغير لما كان يؤدي أو يوجب عدم القدرة والتمكن من الاتيان بالحكم الواقعي الأولي , فحتّى يبقى المكلّف في اطار الطاعة والالتزام بالتكليف , ولايبتعد عن المسؤولية الشرعية التي جعلها الله على ذمته وعهدته, قرّر له المشرّع الحكيم أحكاما تتلاءم مع وضعه , وتكون تحت قدرته وإمكاناته , وتتلاءم مع الواقع الشرعي والمصلحة الالهية المجعولة في الاحكام , وهكذا يبقى المكلّف في إطار الشرع روحا ومعنى وتكليفا . ولأجله نقول : إن المكلّف هو الذي يتحمل كامل المسؤولية في تحديد حالته التي تستوجب العناوين الثانوية والاحكام الاضطرارية , وأنه مضطر وغير قادر من القيام بالواجب الملقى على عاتقه وبعهدته , فهو أعرف بنفسه من حيث واقعية الحالة الطارئة عليه وعدمها , وانتقاله _ تكليفا _ من الاختيار الى الاضطرار , ريثما تعود اليه حالته الطبيعية , ويمارس تكليفه بشكل صحيح . قواعد فقهية |
قواعد فقهية
وكما جعل الشارع المقدس للمكلّف في حالات الاضطرار أحكاما ثانوية , جعل له أيضا في حالات الشك بالواقع , أو الشك مطلقا , قواعد , عليه أن يلجأ إليها في تحديد المسؤولية الشرعية للتكليف وللموضوع . وذلك مثل (( قاعدة الحل )) عند الشك في حلية شيء أو حرمته , كما لو شك في أن شرب (( السيكارة )) حلال أو لا ؟ فهنا يمكن أن يرجع الى أصالة الحل اعتمادا على قوله عليه السلام ( كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه .....الحديث ) ( الوسائل آل البيت ب4 من أبواب مايكتسب به ح4 و ب64 من أبواب الاطعمة المحرمة ح2 ) وكما لو شك في أن هذا العبد يجوز شراؤه أم لا ؟ أو هذه المرأة يجوز تزوّجها أم لا , ولعلها أخته أو عمته ؟ فيبني على أصالة الحل , تمسكا بقوله عليه السلام ( حتى تعلم الحرام منه بعينه ) , فما دام لايعلم يجوز الشراء وغيره. ومثل (( قاعدة الطهارة )) إذا شك في أن هذا الشيء طاهر أو نجس , فإنه يبني على الطهارة , ويتعامل مع هذا الشيء المشكوك معاملة الطاهر حتى يحصل له العلم بأنه قذر. ومثل (( قاعدة التجاوز )) , كما لو شك في أنه أتى بالفاتحة عند الصلاة في الركعة الاولى أو الثانية أو لا ؟ وكان الشك وهو راكع , فإنه يبني على صحة صلاته , لأن الشك كان بعد أن دخل في جزء آخر من الصلاة . ومثل (( قاعدة اليد )) كما لو أشترى شيئا من شخص , وشك في أنه ملك له أو سرقة , فتجري قاعدة اليد , أي بما أن هذا الشيء تحت يده وتصرفه , يحكم بأنه ملك له , ويكون البيع صحيحا , وكما اذا وجد شيئا في بيته وشك أنه له أو لشخص آخر وضعه في بيته , فإنه يبني على أنه له ويتصرف به . ومثل (( قاعدة الفراغ )) وتكون فيما إذا قام بعمل ما , وشك بعدما انتهى منه أنه صحيح أم لا ؟ فيبني على الصحة , وكما لو شك أنه أتى بالتشهد في الثانية أم لا ؟ فهو شاك بعد الفراغ , فيبني على الصحة , وكذلك لو شك في صحة القراءة أو أي عمل بعد الانتهاء منه , سواء كان في المعاملات أو العبادات , فإنه يبني على الصحة . ومثل (( حرمة التصرف في ملك الغير )) , كما في الدخول الى بيته والتصرف بأمواله وممتلكاته بدون إذنه اعتمادا على الحديث الوارد ( فإنه لايحل دم إمرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه ) ( وسائل الشيعة , مؤسسة آل البيت ب1 من أبواب القصاص في النفس ح3 ), فلا يجوز له الدخول الى بيت غيره. والقواعد الفقهية كثيرة , وهي أساس في تصحيح الاعمال والتصرفات والخروج من عهدة المسؤولية الشرعية المجعولة على ذمة المكلف , والتي تحدّد له آفاق قدرته الشرعية , ومداها بالنسبة للتكاليف . ثم أن ( من ) هذه القواعد مايجري بالنسبة للحكم الشرعي مباشرة , مثل قاعدة الضرر والحرج وأمثالها . ( ومنها ) مايجري بالنسبة للحكم في حالة الشك كما في أكثر القواعد التي اشرنا اليها , مثل قاعدة التجاوز والصحة والبراءة والاستصحاب , وغيرها من القواعد . المبحث السادس مصادر الاحكام |
المبحث السادس
مصادرالاحكام الاحكام الشرعية المجعولة من المشرّع الحكيم , تؤخذ اصولها ( من ) القران الكريم , ( وممن ) أودع الله عندهم العلوم وهم النبي (ص) وأهل بيته عليهم السلام من بعده , فهما الحجة في ذلك والاساس الأولي . وقد أشار العلماء في المباحث الاصولية الى أن الادلة على الاحكام أربعة القران والسنة والاجماع والعقل. أما القران : فحجيته ثابتة ولامجال للكلام فيها أبدا , فهو الكتاب المنزل على نبيه المرسل (ص) وهذا ثابت عقلا , بإعجازه وأسلوبه البليغ الذي لم يتمكن أحد من تحديه ببلاغته وفصاحته وعلومه . ونقلا بالروايات المتواترة والعديدة التي تدل على استيعابه واشتماله على جميع مايحتاج اليه الانسان ووجوب الرجوع اليه في كل الاحوال. وأما السنة وهي قول المعصوم أو فعله أو تقريره , فحجيتها أمر أكيد , ولامجال للنقاش فيها , إذ لولاها لما قام للاسلام أساس وكيان ودور , ولما كان هناك مجال للعمل بالقرآن وتطبيق أحكامه , فإن القران وارد لبيان أصل التشريع والقواعد العامة والاسس العامة للتشريع , ولم ترد فيه تفاصيل الاحكام وبياناتها , قال تعالى (وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس مانزّل اليهم ). ومجمل القول في حجية السنة , وأنه بدون السنة لايقوم للأسلام ولا للمسلمين أمر أبدا , وما عليه المسلمون من وضوح أمر دينهم في أحتوائه لجميع أمور الحياة والشؤون والاعتبارات ما هو إلا بالسنة التي هي تبيان وشرح للقران وأحكامه , وتفصيل وتبيان للشريعة الالهية في كل أحكامها ومقرراتها, وهي أيضا وحي من الله سبحانه للنبي (ص) والائمة عليهم السلام أخذوا من النبي (ص) كما نص على ذلك الكثير من الروايات والتي منها حديث الثقلين وغيره من الاحاديث التي توجب الرجوع الى النبي (ص) وأهل البيت عليهم السلام تأكيدا لدور السنة وأهميتها في التشريع الالهي . أما الاجماع والذي هو اتفاق العلماء على أمر لم يرد فيه قرآن ولا سنة , فهو انما يكون حجة على الحكم ودليلا عليه في صورة ما إذا كان مشتملا على الاقرار من المعصوم عليه السلام , إما لوجود المعصوم بين العلماء المجمعين , أو لأستكشاف موافقته ورضاه على الحكم . هذا المعنى يجعل له الحجية والدليلية لحصول القطع بمدلوله , فإن تم فذاك , وإلا لم يكن حجة , هذا إذا كان الاجماع محصلا , وأما إذا كان اجماعا منقولا , فالاجماع المنقول ليس بحجة . وقد يكون الاجماع مدركيا , بأن يكون الاتفاق من العلماء والاجماع منهم على المستند للحكم من آية أو رواية , وهذا ليس بحجة لأن المتبع فيه هو المدرك لا الاتفاق . دليل العقل من التفق عليه بين العلماء والفقهاء , أن العقل من الادلة على الاحكام , وقد يتصور البعض أن معنى هذا أن العقل له صلاحية التشريع والحكم . والواقع أن العقل , وهو أعلى الكمالات في الانسان , وهو بالغ الاهمية في مجالات العلوم والعقلانيات وإدراكها , ولكنه مع ذلك ليس له صلاحية التشريع في قبال الله سبحانه وتعالى , ولم يدع أحد من المسلمين على أختلاف مذاهبهم وآرائهم ذلك ابدا , لأن التشريع وإصدار الاحكام والتكاليف وإقرارها , هو لله سبحانه بشكل مطلق , ووظيفة العقل هي الادراك وتعقّل وتفهّم أن هذا الشيء حسن أو قبيح , وإدراك الملازمة بين حكم العقل المستقل وحكم الشرع , بمعنى أن كل ماحكم به العقل يحكم به الشرع , وغير ذلك من المسائل . أحكام العقل على قسمين |
احكام العقل على قسمين
( القسم الاول ) المستقلات العقلية الصرفة أي التي يحكم بها العقل مستقلا عن الاستعانة بالشرع الالهي , مثل حسن الاحسان , وقبح الظلم , ومثل حسن رد الوديعة وقبح الخيانة , ومثل الانصاف والعدل , وغير ذلك من الافعال الاختيارية التي يدرك العقل ما فيها من الجهات المقتضية لحسنها وهي المصالح , أو المقتضية لقبحها وهي المفاسد , فإن في الاحسان ورد الوديعة مثلا مصالح عامة - كحفظ النظام - تقتضي حسنها عقلا , وفي الخيانة مثلا مفاسد عامة - كاختلال النظام - تقتضي قبحها عقلا . واحكام العقل هذه هي مايسمى عند الفلاسفة بالقضايا المشهورة والاراء المحمودة والتأديبات الصلاحية , بإعتبار أنها مما تطابقت عليها آراء العقلاء كافة وتأدبوا بها من حيث أنهم عقلاء وهذه المسائل أهتم بها العلماء , وهي من مهمات مسائل العقل العملي , ويترتب عليها عدة مسائل فقهية . ( القسم الثاني ) غير المستقلات العقلية وهي التي يحكم بها العقل تبعا لحكم الشرع , مثل حكمه بوجوب المقدمة تبعا لحكم الشرع بوجوب ذي المقدمة , لإدراك العقل أن الاتيان بالواجب يتوقف على الاتيان بمقدماته , إلا أنه لولا وجوب ذي المقدمة لم يحكم العقل بوجوب المقدمة , ومن هنا لم يكن حكم العقل بوجوب المقدمة مستقلا , بل بعد توسط حكم الشارع بوجوب ذي المقدمة وتابعا له . وهكذا الحال في حكم العقل بالاجزاء إذا أتى المكلف بالمأمور به , فإنه بعد الاتيان بالمأمور به , يدرك العقل حصول غرض المولى وسقوط أمره , وبعد سقوطه لايبقى وجه للإمتثال ثانيا , وهذا هو معنى الاجزاء , إلا أنهلولا أمر الشارع بالشيء لم يحكم العقل بالإجزاء بعد إمتثاله كما هو واضح وهكذا ... فإذا ثبتت حكم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع , ثبت وجوب المقدمة شرعا , وثبت الإجزاء شرعا أيضا . وعلى هذا فلا يكون الدليل العقلي مقابلا للكتاب والسنة , وإنما هو طريق لإثبات الحكم الشرعي , بتوسط الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع . والحاصل أن دليل العقل مختص ووارد فيما ذكرنا , فإذا ثبتت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع باعتبار أن المشرّع حكيم سيد العقلاء ورئيسهم , فهو في المستقلات العقلية يكون بمعنى أن العقل إذغ أدرك الحسن أو القبح ثبت حكم الشرع بحسنه أو قبحه أيضا , فيكون حكم العقل كاشفا عن حكم الشرع , وفي غير المستقلات يكون بمعنى أنه إذا حكم العقل بشيء تبعا لحكم الشرع , يثبت حكم الشرع به ايضا , كالمثال المتقدم أعني حكم العقل بوجوب مقدمة الواجب مثلا , فإنه يثبت وجوبها شرعا , فيكون حكمه أيضا كاشفا عن حكم الشرع بوجوبها , وهكذافليتأمل تنبيه إذا حكم الشرع بشيء فهل العقل يحكم بما حكم به الشرع ! |
تنبيه
اذا حكم الشرع بشيء , فهل العقل يحكم بما حكم به الشرع ! وهذه المسألة من المهمات أيضا , والذي يقال فيها, أنه لامجال هنا للقطع بالملازمة , وإن قطعنا بأن مايحكم به العقل ويدرك ملاكه لابد أن يحكم به الشرع . لأن العقل وإن أدرك إجمالا وحكم مستقلا بأن الله تعالى لايأمر بشي ولا ينهى عن شيء جزافا وعبثا , وأنه إنما يحكم تبعا لمصلحة أو مفسدة غالبة تقتضي تعلق إرادته بالشيء فيأمر به , أو تقتضي تعلق الكراهة به فينهى عنه كما عليه العدلية , إلا أن العقل مع ذلك عاجز عن إدراك تمام ما بنى عليه المشرع أحكامه من المصالح والمفاسد لقصوره عن ذلك تفصيلا , لأجل عجز العقل وقصوره عن إدراك جميع الجهات المحسنة والمقبّحة في الافعال , ولذلك قد يكون مايدركه العقل من المصالح والمفاسد في بعض الموارد غير ماهو المصلحة الحقيقية والمفسدة الحقيقية للحكم عند الشارع . وبالجملة , مالم ينكشف للعقل وجه الحكم تفصيلا , أي مالم يدرك جميع جهات الحسن والقبح , لايحكم , بل يتوقف. ومن هنا يظهر أنه ليس كل ماحكم به الشرع يلزم أن يحكم به العقل ويدرك جهته تفصيلا , بل غاية مايدركه هو أن حكم الشارع تابع لمصلحة أو مفسدة في الفعل على نحو الاجمال , ولذلك ترى توقف العقل أحيانا عند بعض الاحكام وأستغرابه منها , وذلك لقصوره عن إدراك المصلحة والمفسدة فيها , كما في الديات حيث ورد عن أبان بن تغلب أنه قال ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام ماتقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة , كم فيها ؟ قال عشرة من الإبل قلت قطع اثنتين ؟ قال عشرون قلت قطع ثلاثا ؟ قال ثلاثون قلت قطع أربعا ؟ قال عشرون قلت سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون , ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون ؟! إن هذا كان ليبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله ونقول الي جاء به شيطان !. فقال مهلا يا أبان , هذا حكم رسول الله (ص) , إن المراة تعاقل الرجل الى ثلث الدية , فإذا بلغت الثلث رجعت الى النصف ( ومعنى قوله (ص) أن كل جناية كانت فيها دية شرعا , فإن كانت الدية أقل من ثلث دية الرجل , فالمراة تعاقله أي تساويه فيها , وإن كانت الدية تعادل ثلث دية الرجل أو تزيد عليها , كان للمراة نصفها , ومن هنا كانت دية المرأة الكاملة نصف دية الرجل ) , ياأبان إنك أخذتني بالقياس , والسنة إذا قيست محق الدين ) ( وسائل الشيعة مؤسسة آل البيت ج 29 ص 352 , ب 44 من أبواب ديات الاعضاء ح1 ) فلا يمكن إثبات أن العقل يحكم دائما ويحيط بملاك ماحكم به الشرع , نعم يحكم بوجوب الطاعة للمولى والانقياد له وضرورة دفع الضرر المحتمل أو الضرر المتيقن ونحو ذلك . وما ذكرت هذا الموضوع إلا للتأكيد , ولبيان دور العقل في الاحكام , وأنه ليس له حق التشريع , ولرفع الالتباس لدى الكثير من الناس الذين يحاولون أن يستعملوا أو يدخلوا عقولهم في موضوع الاحكام الشرعية أو مناقشتها , والله العالم . الخلاصة |
الخلاصة
وقد أتضح مما ذكرنا أن المرجع للأحكام الشرعية والتكاليف الالهية أمران ( الاول ) القران . ( والثاني ) السنة , والسنة كما أوضحنا هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره فالحاصل أنه لابد من الرجوع الى القران الكريم , والى أهل البيت عليهم السلام وفي زمن غيبة الامام عليه السلام , لابد من الرجوع الى العلماء الاعلام الذين يتميزون بالورع والتقوى والعدالة , والاجتهاد , والمسلّم اجتهادهم , لأنه ليس كل من أدعى الاجتهاد مسلّم له اجتهاده , وليس كل من وقف خطيبا وأجاد الكلام كان عالما ومرجعا وصار من أهل الفتوى , فأن هذا الامر من أخطر الامور وأهم الامور التي يجب أن لايتساهل فيها أهل العلم والدين , ولذلك يوجد هناك جماعات من أهل الخبرة يميّزون الشخص إن كان مجتهدا أم لا , ولاينبغي أن يسوّق هذا المعنى حسب الاهواء والمصالح أو الدعاية أو بذل الاموال أو غير ذلك , كما هو شائع في زماننا هذا . حال الناس في زمن الغيبة بالنسبة للأحكام الشرعية وتحصيلها والعمل بها ينقسم المكلّفون بالاحكام الى ثلاثة أقسام 1- مجتهد 2- محتاط 3- مقلّد المجتهد وهو الذي يملك القدرة العلمية والملكة على استنباط الاحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية التي هي القران والسنة والاجماع والعقل , والقواعد الاخرى. فمن توفرت لديه القدرة على تحصيل الاحكام بنفسه كذلك يسمى مجتهدا , وتحق له الفتوى والصلاحيات الاخرى المنوطة به . المحتاط وهو الذي لايملك القدرة العلمية على استنباط الاحكام , أو يتمكن من ذلك ولكنه لايريد تحمّل هذه المسؤولية , فيعمل بأقوال العلماء المجتهدين الذين يتردد التقليد بينهم , بأن يطّلع في المسألة الواحدة علة أقوالهم فيها ثم يأخذ بأحوطها , أو يعمل بما أتفقوا عليه , أو يكرر العمل إذا اختلفوا , حتى يطمئن ببراءة الذمة , وهذا النوع من الاحتياط مرجعه الى الاحتياط في التقليد , وهو سهل بالقياس الى نوع آخر من الاحتياط , وهو الذي يعمد المكلف فيه الى الجمع في مقام العمل بين جميع محتملات النصوص والاقوال بل والقواعد , فإن هذه الطريقة شاقة لا تتيسر إلا للأوحديين من أهل العلم والفضل , المجهدين بالتتبع والاستقراء . المقلّد وهو الذي لايتمكن من تحصيل الاحكام من طريق الاجتهاد , فيرجع الى العالم المجتهد , الاعلم بين العلماء , ويعمل بفتواه في كل المسائل الشرعية لعدم قدرته على استنباط الاحكام بنفسه . وكما أشرنا إن هذا التقسيم لأجل تحصيل براءة الذمة من التكليف الشرعي والوصول اليه بنحو تتحقق معه الطاعة المطلقة لله سبحانه وأمتثال أوامره . والهدف الاساسي لكل هذا هو انتظام الامور وحفظ مصالح للعباد وإبعادهم عن الشر والفساد في مختلف إمورهم وتكاليفهم - العبادات والمعاملات - , وما يتعلق بالاموال والافعال والاخلاق والاجتماعيات والاقتصاد والسياسة , مما فيه خير الناس وصلاحهم باب الاجتهاد مفتوح |
باب الاجتهاد مفتوح
الاجتهاد معناه بذل الجهد واستعمال القدرة والامكانات على استخراج الاحكام واستنباطاتها من أدلتها التفصيلية , التي هي القران والسنة والاجماع والعقل - كما أسلفنا - . وتكون هذه القدرة نتيجة العلم والمعرفة والاحاطة بهذه الادلة بشكل صحيح وواسع , ويجب ان يكون هذا الاجتهاد في اطار ( القران ) و ( السنة ) أي ماينطبق عليه القران والسنة , لأن كل شيء مما يتعلق بشؤون الناس والحياة على اختلافها موجود في القران والسنة . قال تعالى ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) ( النحل من الاية 89 ) وفي الحديث الشريف ( إن الله تبارك وتعالى أنزل في القران تبيان لكل شيء , حتى - والله - ماترك شيئا يحتاج اليه العباد , حتى لايستطيع عبد يقول لو كان هذا أنزل في القران , إلا وقد أنزله الله فيه ) ( أصول الكافي الكليني 59/1 باب الرد الى الكتابة والسنة ح1 ) . وورد في الحديث ايضا ( إن القران حي لم يمت , وأنه يجري كما يجري الليل والنهار , وكما يجري الشمس والقمر , ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا ) ( بحار الانوار 4/35 باب 20 أن القران حي لايموت ح 21 ) . وأما السنة فالروايات كثيرة جدا في تأكيد دورها والأخذ بها , وأن كل شيء موجود في الكتاب والسنة , وضرورة الرجوع الى النبي (ص) وأهل البيت عليهم السلام والاخذ منهم , لأنهم المستخلفون للقيام بحفظ الدين ونشره وتأكيده في قلوب ونفوس الناس . والسنة في واقعها وحي من الله سبحانه , وشارحة للقران الكريم , وبيان تفصيلي لما جاء فيه من أحكام وتكاليف وبيانات , لأن القران وظيفته بيان العمومات من الاحكام , وتفصيلها يكون في السنة , وكما ورد في الحديث الشريف ( آيات القران خزائن , فكلما فتحت خزينة ينبغي أن تنظر فيها ) ( بحار الانوار ج 216/89 باب آداب القراءة ح 22 ) . والمقصود بالنظر هنا التأمل والتدبر بما تعطيه من معان واحكام وبيانات واسعة . ولذلك لابد من الرجوع الى النبي (ص) في أمور القران وسؤونه ومعانيه وشرحه وتفسيره , لأن الله سبحانه أودع علوم القران وكافة مافيده عنده عنده (ص) , والنبي (ص) أودع هذه العلوم عند الائمة الطاهرين عليهم السلام , فهم المرجع في ذلك , وهذا ماينص عليه حديث الثقلين , فضلا عن الاحاديث الاخرى التي تؤكد أن مالديهم من علوم أخذوها من النبي (ص) . فإدراك الواقع الايماني وكونه تبيانا لكل شيء ليس بمقدور كل أحد من الناس , مهما بلغ من العلم والكمال العقلي والفكري , ولاهو تحت إرادته , وإنما يطلب منا بذل الجهد لذلك , مستعينين بما ورد عن أهل البيت عليهم السلام , لأن القران كلام الله سبحانه ومراداته , وفيه اسراره , جعل بعضها في متناول الناس حتى لايكونوا بعيدين عن القران , وجعل البعض الاخر لايدرك بسهولة ولابد فيه من الرجوع للنبي (ص) والائمة عليهم السلام ومن عنده علم الكتاب , صيانة له من العبث والاجتهادات الخاطئة , وصيانة للاسرار والعلوم التي يشتمل عليها , مما لاتجد مجالا لفهمها إلا عن طريق أهل البيت عليهم السلام , لأنهم الاعرف بها والابواب اليها بتعليم من النبي (ص) . وهكذا يبقى القران الوسيلة لأرتباط الناس مع الله والنبي (ص) وأهل البيت عليهم السلام , ويبقى أهل البيت عليهم السلام الوسيلة لحفظ الدين وحفظ القران سالما من التحريف والتزييف والزيادة والنقصان والاجتهادات الباطلة التي تكثر في هذا الزمان من السنة والشيعة بدون مجاملة ولا محاباة , ورفع الخلاف بين المسلمين في مختلف أمورهم عبر القران , ولا يرفع الخلاف إلا بالرجوع لمن يعرف اسراره وعلومه وأسرار التشريع وأصوله , ولا أحد يعرف كل هذا سوى أهل البيت عليهم السلام الذين أخذوا وتعلموا على يد النبي (ص) ناحية مهمة |
ناحية مهمة
ومن الضروري ونحن نؤكد على دور السنة في التشريع الاسلامي وفي تفصيل وبيان الايات الكريمة التي أشارت الى ذلك , أن نذكر ناحية مهمة وهي أن السنة الشريفة التي هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره ... هي وحي من الله سبحانه وتعالى كما أشرنا , وليست إجتهادا من النبي (ص) . فما ورد على لسان النبي (ص) من تفصيلات لآيات القران الكريم وأحكامه والكيفيات التي تمارس بها العبادات وغيرها , كله بوحي من الله , قال الله تعالى ( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ) ( النجم 3-4) مثلا أمر المولى سبحانه بالصلاة فقال تعالى ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) ولم يحدد في القران كيفية الصلاة بشكل مفصّل , وكذلك لم يحدد أمور الزكاة والمقدار الذي يجب دفعه . ولكن لبيان الكيفية للصلاة جاء على لسان النبي (ص) , من أعتبار النية والقربة فيها , ومن أعتبار أن التكبير ابتداء الصلاة , ثم القراءة , ثم الركوع , ثم السجود , والتشهد , وغيرها مما يعتبر فيها من الاجزاء والشرائط , كله كان من النبي (ص) , والنبي (ص) أوضحه وبينه بأمر من الله سبحانه , وكذلك مايعتبر قبل الصلاة من الوضوء , وما يعتبر حال الصلاة من الستر والاستقبال , وكذلك أعتبار دخول الوقت للصلاة , كله بيانه وتفصيله كان من الله سبحانه بوحي للنبي (ص) . وهكذا الحال في الزكاة والصيام والحج وغيرها من الفرائض والواجبات , لأن العبادات – كما ورد – أمور توقيفية , أي يتوقف بياناتها وتفصيلاتها وتحديدها على الشارع المقدس , وليس للعباد دخل فيها . ومن هنا نؤكد أنه ليس كل مايراه الانسان عبادة يكون عبادة , فالله يريد أن يعبد كما يشاء هو لا كما يشاء العبد . ومن هنا نجد العبادات المقررة في الشريعة تنسجم تماما مع الواقع الايماني والروحي عند الانسان , وتلبي تطلعاته وحاجاته الروحية والاخلاقية , فالعبادة كما تكون بالتأمل والتفكّر , تكون ايضا بالفعل والعمل وبالقول ايضا , وكما يشرف العقل والتفكر والعمل والقول يعمل ايضا على تنزيه القلب والنفس والروح مما يجعل العابد متمحضا في ذاته لله سبحانه وتعالى . فالعبادة الصحيحة التي ترتقي بالانسان الى مراتب الاخلاص والكمال , هي ما كانت على النهج المأمور به من الله سبحانه وتعالى , سواء في حالات التأمل والتفكر , أو في القول والعمل وغيرها , وما أراده الله سبحانه أوضحه على لسان نبيه الكريم (ص) , والنبي (ص) علّمه وأعطاه للائمة الاطهار الذين هم الامتداد الطبيعي للنبي (ص) , ولم يحجب عنهم شيئا من العلوم التي فيها الخير والصلاح للعباد في مختلف شؤونهم , وأمورهم , بما يتعلق بالدنيا والاخرة . عود على بدء فدور المجتهد في أحكام الشريعة إنما يكون ويصح إذا كان في إطار القران والسنة , ويكون في استخراج واستنباط الاحكام منها بيطبيق القواعد العامة الكلية المعتبرة على القضايا الجزئية الفرعية الخارجية التي يحتاج اليها الناس , والتي هي مورد ابتلائهم واهتمامهم , وكذلك الحال فيما يتعلق بالمعاملات وما يشترط فيها , يكون بإمضاء من النبي (ص) واعتبارا منه لها , ويصير هذا الامضاء والاعتبار أحكام المعاملات كلها أحكام واقعية ومرادة للمشرع الحكيم , هذا مضافا الى النصوص الصريحة والواضحة في المعاملات , فهي أبضا من السنة وبوحي من الله أهمية الاجتهاد |
أهمية الاجتهاد
لايقتصر دور المجتهد على استنباط الاحكام الشرعية الالهية من القران والسنة وغيرها من الادلة المعتمدة في الاستنباط , فأن ذلك وإن كان مهما جدا وضروريا في الحياة الانسانية , إلا أنه - مضافا لذلك - له دور كبير في تحقيق الاهداف الانسانية والاصلاح والتنظيم والحفظ للشؤون العامة والخاصة , التي هي الاساس في تطور الحياة وتناميها , لأن الاسلام لما كان هو الدين الخاتم ولا دين بعده ابدا الى يوم القيامة , فلا بد أن يلبّي متطلبات وتطلعات البشرية والانسانية في جميع مراحل وجودها , ولابد أن يؤمّن لها جميع الاحتياجات التي فيها الخير والصلاح والنظام , ووضع كل جديد يتجدد في حياة الانسان في إطار التشريع الاسلامي , كما هو الحال والشأن في الامور المتجددة في عصرنا الحاضر , والتي لم تكن موجودة فيما سبق , وكذلك استيعاب ما هو محتمل الوجود في المستقبل , باعتباره الدين الخالد والخاتم الى يوم القيامة . من هنا نفهم وندرك أهمية الاجتهاد وضرورته في الحياة الانسانية , خصوصا بعد زمان الغيبة , غيبة الامام المهدي عليه السلام , كل ذلك لتقويم أمور الحياة وإبعادها عن حالة الفوضى والاضطراب , ولإستمرار بقاء الدين فاعلا في حياة الناس كأساس لايستغنى عنه في حال من الاحوال . فالانسان مع الاجتهاد , دائما وأبدا في حال تطور وفي حالة انتظام , وفي وضع لايشعر معه , بالبعد عن الواقع الانساني والحياة الفاضلة الكريمة الملائمة له , وهو في إطار التشريع والاسلام , أي منطلقاته كلها من الواقع الايماني والشرعي الذي يريده ويقره الاسلام . ولكن --أولا - وكما أسلفنا - يجب أن يكون هذا الاجتهاد في إطار القران والسنة , ولايكون غير ذلك , وإلا كان اجتهادا في مقابل النص , وتشريعا محضا في قبال الله سبحانه , لأنه كما أسلفنا ما من شيء إلا وله أساس في القران والسنة , وإلا كان بدعة , ( وكل بدعة ضلالة , وكل ضلالة في النار ) ( بحار الانوار المجلسي 355/10 ب 20 ماكتبه الرضا عليه السلام للمأمون ح1 , وورد بلفظ قريب منه في روايات اخرى راجع مثلا بحار الانوار 263/2 ب32 البدعة والسنة ح21 ) . وثانيا لايمكن اعتماد قواعد واسس ومصادر التشريع إلا ماكان في إطار الكتاب والسنة أيضا ويؤدي الى الحكم الموافق لهما , وإلا فيضرب به عرض الجدار , كما ورد في الاخبار الشريفة عن العترة الطاهرة . ( راجع الوسائل , آل البيت 6/27 ب 9 من ابواب صفات القاضي , ح1 -15 - 18 47 وغيرها ) . وشيء ثالث وهو مهم جدا أن يكون المجتهد في وضع اخلاقي وروحي خاص , من حيث الايمان والاعتدال الاخلاقي والسلوكي والورع والتقوى , والخشية من الله سبحانه ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ( سورة فاطر من الاية 28 ) , وأن يكون في أعلى مراتب العدالة , هذا المعنى ضروري لأنه جعل المجتهد في وضع لايغلب للاهواء والاجتهادات الشخصية والباطلة . ثم أن الحكم الذي يستخرجه ويستنبطه المجتهد من القران والسنة , يسمى ب (( الحكم الظاهري )) , لأنه إنما يؤخذ به لقيام الدليل على أعتباره , وعدم امكانية الوصول الى الحكم الواقعي الاولي . وأما إذا كنا قادرين على الحكم الالهي الواقعي كما لو كان الحكم ضروريا أو بديهيا , فلا حاجة للاجتهاد أبدا , بل لايصح الاجتهاد في قبال الواقع المعلوم , وإنما يكون الاجتهاد مع الجهل بالواقع وعدم الوصول اليه لأجل معرفة الوظيفة العملية الظاهرية التي تستوجب براءة الذمة أمام الله سبحانه . أمران مهمان في هذا المقام |
امران مهمان في هذا المقام
ثم أنه بعد هذا البيان الذي ذكرناه حول الاجتهاد , ومن هو المجتهد , لابد من الاشارة الى أمرين مهمين في هذا المقام الامرالاول كيف يقوم المجتهد بعملية الاجتهاد يتصور البعض من الناس , أو أغلب الناس أن المجتهد له الحق في إصدار الفتوى والحكم حسب مقامه ومنزلته بين الناس , وحسب مايراه هذا المجتهد انسجاما مع الظروف والوقائع المحيطة به , طابق القران والسنة أو لم يطابقهما . ولاشك أن هذه نظرة خاطئة , وتصور خطير , وهذا المعنى هو الذي منعت منه الاخبار , حيث تضمنت المنع من أستعمال الرأي والقياس والمصالح المرسلة والاستحسان وغيرها , أي أن الفقيه إذا لم يجد الحكم في الكتاب والسنة لايحق له أن يلجأ الى إجتهاده الشخصي . فالامر ليس كما يتصور , إذ الوقائع المحيطة بالانسان والظروف التي يعيشها , وإن كان ينظر اليها بعين الاعتبار , إلا أن عملية الاجتهاد تتبع أسسا وقواعد لابد من مراعاتها : فلابد أولا من الاطلاع والمعرفة بعلوم القران وأحكامه . وكذلك المعرفة بأمور السنة والاطلاع الكامل على الروايات والاخبار الواردة في المقام , والنظر في شؤونها من حيث الظهور في المعنى , والظهور في العموم أو الاطلاق أو غيرهما , وعدم التعارض والتنافي بين الروايات , وأن يكون فيها بيان كامل في المعنى المراد , بأن تكون الارادة جدية له , أي ليست واردة في مقام التقية ونحوها. وكذلك لابد من توفر العلم والمعرفة التامة الواسعة بالاسس والقواعد الاصولية وغيرها المعتمدة في الاجتهاد . وعندئذ بعد أن تتكامل هذه الامور , يقوم الفقيه بتطبيق تلك (( القواعد )) - المستفادة من القران والسنة والتي تؤكد دورهما- على الواقعة ويعطيها الحكم الملائم . وأضرب مثالا لذلك , ويتضمن عدة أسئلة : السؤال الاول : هل تجب قراءة الفاتحة مع السورة في الصلاة , أم يكتفي بالفاتحة ؟ والجواب : أن الفقيه يعتمد الى القران والسنة , والنظر الى ماورد فيها حول ذلك : ففي القران يقول الله سبحانه ( فاقرؤوا ماتيسر منه ) ( المزمل من الاية 20 ) وهي بإطلاقها تشمل حال الصلاة وغيرها , مما يؤكد أصل وجوب القراءة فقط من دون نظر الى خصوصية كونها في الصلاة أو في غيرها . ثم ينظر في السنة , فيجد الروايات المعتبرة التي تقول بوجوب قراءة الفاتحة , مثل قوله عليه السلام ( لاصلاة له إلا أن يقرأ بها ) ( الوسائل مؤسسة آل البيت م 6 ص 37 ب 1 من ابواب القراءة ح1 ) , - أي بفاتحة الكتاب - , وغيرها من الروايات , ثم يجد في الروايات أيضا مايدل على وجوب قراءة سورة بعد الفاتحة , وأن الاكتفاء بالفاتحة وحدها لايكون إلا في حال الضرورة , من ضيق الوقت أو نسيان السورة أو غيرها . فيخرج بنتيجة : أنه لابد من قراءة الفاتحة والسورة في حال الصلاة في الركعة الاولى والركعة الثانية . وسؤال آخر : لو كان عنده ماء وكان يعرف أنه طاهر , ثم شك في اليوم الثاني بعروض النجاسة عليه , فهل يحكم على هذا الماء بالطهارة أو يحكم عليه بالنجاسة ؟ والجواب : أنه لدينا قاعدة عامة مستفادة من الروايات تسمى بالاستصحاب , وهي أن كل مايشك فيه المكلف مما كان له حالة سابقة , يستطيع أن يستصحب تلك الحالة السابقة . فيطبقها في المقام ويقول : هذا الماء بالأمس كان طاهرا , والآن أشك في نجاسته , فأستصحب عدم النجاسة , وأبني على أنه لايزال على ماكان عليه بالأمس من الطهارة للشك في عروض النجاسة , لأنه لااعتبار بهذا الشك , إلا إذا زال الشك وحصل له العلم فحينئذ لاحاجة للاستصحاب , وهكذا ..... فالحاصل : أن عملية الاجتهاد تتم ( بين ) النظريات والقواعد الاصولية المعتمدة للاستنباط ( وبين ) تطبيق تلك النظريات لاستفادة الحكم الشرعي واستخراجه . فلا مجال في الاجتهاد للرأي الشخصي في الحكم , وإنما هو يبذل جهده وكل إمكاناته العلمية الموجودة لديه على ضوء القران والسنة , لاستخراج الحكم الشرعي , وتسمى ب (( رد الفروع الى الاصول )) , والاصول هي القران والسنة , والفروع هي الوقائع التي يطبق عليها الحكم الشرعي . تنبيه : وبطبيعة الحال أن هذه الامثلة تقريبية ليست هي كل شيء في الاجتهاد , فهناك من العمليات المعقدة الصعبة في هذا المجال , مما يجعل الفقيه يحتاج الى جهد كبير جدا في استخراج الحكم . الأمر الثاني لماذا الخلاف بين العلماء |
الامر الثاني لماذا الخلاف بين العلماء
من الامور التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار بالنسبة للاجتهاد في تحصيل الاحكام الشرعية واستنباطها من أدلتها , وقوع (( الاختلاف بين المجتهدين )) في ذلك . ومن هنا يمكن أن يقال : إذا كان حكم الله واحدا فلماذا الاختلاف بين العلماء . ويمكن أن يجاب عن مثل هذا التساؤل : بأن الاختلاف بين العلماء ليس في الحكم الالهي الواقعي , وإنما الاختلاف في طريق الوصول الى هذا الحكم الواقعي. والاختلاف في الطريق أو في كيفية تحصيل النتائج والحكم , أمر طبيعي يحصل بين العلماء , حتى من غير الفقهاء , فأصحاب الاختصاص في العلوم الاخرى كالأطباء والمهندسين والفيزيائيين والكيميائيين وغيرهم , هؤلاء ايضا يقع بينهم الاختلاف في النتائج لوا واحدة ولأمر واحدة , من جهة الاختلاف في الاسس والقواعد المعتمدة في هذه العلوم , وكيفية تطبيقها , فكل له اسلوبه وطريقته , برغم أن الواقع واحد . فليس غريبا أن يحصل هذا الامر بين أهل الاجتهاد من الفقهاء , خصوصا وهم يبذلون قصارى جهدهم في الوصول الى الحكم المبرئ للذمة بين يدي الله سبحانه , ويبذلون وسعهم في أن يكون هذا الحكم مطابقا للحكم الالهي الواقعي . إذن فليس هناك خلاف أو إختلاف جذري أصلا , وإنما هي المحاولة في الوصول الى الواقع , ومن هنا كان ماورد من القول بأن ( من اجتهد وأصاب فله حسنتان , ومن اجتهد وأخطأ فله حسنة ) ( عوالي اللئالي ابن ابي جمهور الاحسائي 62 حديث 16 , راجع مسند احمد بن حنبل ج4 ص 198 - 204 ) , تأكيدا لهذ الحقيقة . وكذلك تعريف الاجتهاد بأنه بذل الجهد للوصول الى الواقع , يؤكد هذا المعنى , ويؤكد أن المجتهد يتحرك مع الادلة والاسس التي هو مجتهد فيها , ورأيه يكون حجة عليه , وملزم له بين يدي الله سبحانه , بحيث يحاسبه الله إذا خالف رأيه وطريقته . ومن هنا نقول إن الاختلاف بين الفقهاء يكون : (1) نتيجة الفهم في النص , فإذا فهم أحدهم من النص معنى وفهم الثاني معنى آخر , وكان كل منهما معتمدا على حجة ودليل يؤيد ويؤكد فهمه , فلا يجوز له العمل بغير مافهم , كما سنوضح ذلك من خلال الامثلة التي سنذكرها . (2) يكون الاختلاف بين الفقهاء في طريقة التطبيق للقواعد (3) يكون الاختلاف نتيجة قبول النص وعدمه , خصوصا وأن هناك وضعا معينا حول النصوص لدى الشيعة , تولّد نتيجة المواقف السلبية العدائية التي وقفها خصوم الشيعة في العهود الاولى , وبعدها , والاضطهاد غير المعقول وغير المبرر وبمختلف الاساليب . وكان من جملة المواقف السلبية : الدس في النصوص وتزويرها , والتقوّل على أهل البيت عليهم السلام بأقوال لم تصدر عنهم , ولم تكن واردة عنهم أبدا , في مجالات العقيدة والشريعة . وقد ينتقد علينا البعض قولنا عند دراسة بعض النصوص ( أنه وارد مورد التقية ) , أو ( يؤخذ بما خالف العامة ) , في مقام الترجيح للأخبار المتعارضة , ويقول المنتقد ( قد مضى زمن التقية , فلماذا نقول بالتقية !! ) . والجواب : أن ورود هذا الخبر كان من الاساس مراعى به التقية , وواردا في زمن التقية , فلا مجال لتغييره , ولذلك نأخذ بالخبر الآخر الذي صدر عن الامام في غير هذا الحال , وهو ماكان مخالفا للعامة . هذه الامور : هي من الاسباب الموجبة للاختلاف في مواقف الفقهاء في الحكم أو النتيجة . فقد يرى فقيه أن هذا النص غير متكامل الحجية والدليلية , وقد يرى الثاني العكس , وقد يرى بعضهم أن موضوع الحكم ضيق الافق , وقد يرى بعضهم العكس , وهكذا .... فالاختلاف الذي يحصل , ليس لرأي أو رغبة شخصية , وإنما هو نتيجة للأسس والقواعد التي يعتمدها كل فقيه للاستدلال بها ولنعط أمثلة على ذلك : |
ولنعط أمثلة على ذلك
قوله تعالى ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولاتقربوهن حتى يطّهرّن) فقد وقع الاختلاف في قراءة ( يطهرن ) بالتشديد أي حتى يغتسلن , أو بالتخفيف أي حتى يحصل النقاء من الحيض . والاختلاف في جواز المواقعة للمرأة بعد الغسل , أو بعد النقاء من الحيض , إنما هو بسبب القراءة , فمن قرء بالتشديد , أي بنى على التشديد , فلا يجوز – بنظره – المقاربة والمواقعة للمرأة إلا بعد الغسل , بخلاف من قرأ بالتخفيف وبنى عليه فإنه يجّوز ذلك بعد النقاء من الحيض وقبل الغسل . ومن ذلك الاختلاف في آية الوضوء : قال تعالى ( ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وايديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وارجلكم الى الكعبين ) ( المائدة من الاية 6 ) فإن الاختلاف الواقع بين السنة والشيعة في كيفية الوضوء , هو نتيجة الخلاف في القراءة والاعراب في كلمة ( أرجلكم ) فقد قرئت بالجر والنصب وأعربت تارة عطفا على كلمة ( وجوهكم وأيديكم ) وأخرى على ( برؤوسكم ) . فالحكم لدى السنة هو غسل الارجل على القرائتين : لأنهم جعلوا كلمة ( أرجلكم ) معطوفة على ( وجوهكم وأيديكم ) أي أغسلوا وجوهكم وأرجلكم , أما على قراءة النصب فواضح , وأما على قراءة الجر فقد خرجّوه إنما جر بالمجاورة للمجرور . أما الحكم لدى الشيعة فهو المسح على القرائتين وليس الغسل : أما بقراءة الجر فواضح , إذ تكون الاية هكذا ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم فهي عطف على لفظ ( برؤوسِكم ). وأما بقراءة النصب : فلأنها أيضا معطوفة على ( برؤوسِكم ) ولكنّه من العطف على المحل , فإن كلمة ( برؤوسِكم ) في محل نصب إذ المعنى ( وامس رؤوسكم) وأنما أتي بالباء للدلالة على أن المسح ببعض الرأس لاتمامه كما في خبر زرارة عن ابي جعفر عليه السلام , ( وسائل الشيعة آل البيت 411/1 ب23 من ابواب الوضوء , وهو قوله ( ألا تخبرني من أين علمت وقلت أن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك (عليه السلام ) فقال : يازرارة قاله رسول الله ونزل به الكتاب من الله عزوجل الى أن قال : فعرفنا حين قال برؤوسكم , أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء الحديث ) , والعطف على المحل جائز في كلام العرب ومعروف. بل ويمكن أن يكون من عطف جملة على جملة , أي ( وامسحوا برؤوسِكم وامسحوا ارجلَكم ) . وعلى أي حال فالشيعة يرون أن الحكم هو المسح , لأن كلمة ( أرجلكم ) معطوفة على الجملة القريبة أي قوله تعالى ( وامسحوا برؤوسِكم ) وليست معطوفة على الجملة السابقة وهي قوله تعالى ( فاغسلوا وجوهكم وايديكم ) وذلك لعدم جواز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة اجنبية ,فإن ذلك لايناسب الاديب فضلا عن كلام الخالق الذي هو في أرقى درجات البلاغة والاعجاز . والمحصّلة : أن اختلاف الفقهاء في القضايا الفقهية , لايكون اختلافا بدوافع شخصية أو آراء اعتباطية , وإنما هو اختلاف في فهم النص والمقصود منه , واختلاف في اللغة والاعراب , أو اختلاف في أن هذا الحكم طرأ عليه نسخ أم لا , كما في موضوع المتعة والاختلاف الواقع حولها بين السنة والشيعة حيث يقول الشيعة بجوازها واستمرار حليتها الى يوم القيامة لأنها لم يرد نسخ لها على لسان النبي (ص) , وأخواننا السنة يعتمدون الحرمة لأنهم يرون أن حكم الحلية منسوخ , وهذا هو الذي نناقش فيه , أعني نسخ الحلية , وقد بينت كل المناقشات في حوارات واحتجاجات دونّها الطرفان , فليراجع من يريد التوسع في هذا الموضوع . لااختلاف في الضروريات ولا في العقائد |
لااختلاف في الضروريات ولا في العقائد
الاختلاف بين المجتهدين حصرا يكون في غير الضروريات واليقينيات , مثل الصلاة والصوم والزكاة والخمس والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر. واليقينيات والضروريات : هي الامور المعروفة والمشهورة بين المسلمين , ولا ينبغي أن ينكرها أو يناقش فيها أحدا أبدا . ولذلك فمن أنكر ( الصلاة ) أو ( الصوم ) مع تصديقه للنبي (ص) في كامل الامور الاخرى , يكون كافرا , لأنه منكر للضروري وهو الصلاة والصوم , وإنكاره هو تكذيب للنبي (ص) , لأنا آمنا بنبوة محمد (ص) وصدقناه في كل شيء وفي كل ماأخبر به . وكذلك لاتقليد في هذه الامور أبدا أعني في اليقينيات والضروريات , وإنما الاختلاف والتقليد يكون في غيرها , أي في الشرائط أو فيما يعتبر زائدا على هذه الامور , ومما يدخل الشك في اعتباره . كما أنه لاأختلاف ولا تقليد في العقائد الاساسية التي هي ( التوحيد , والعدل , والنبوة , والامامة , والمعاد - أي يوم القيامة - ) , وإنما اصول الدين وكثير من المعتقدات تؤخذ من العقل , والعقل هو الذي يقررّها ويجزم بها , والقران والسنة يأتيان مؤيدين لما توصل اليه العقل وأنه حق , بل حتى المعتقدات التي يكفي فيها الدليل النقلي , ويستدل عليها من القران والسنة , لايقلّد فيها أيضا , وإنما يرجع الى أهل العلم والمعرفة لأجل أنهم يبيّنون تلك الادلة من الايات والروايات ويرشدون الناس اليها مما يوجب الاطمئنان الكامل لديهم والمعرفة التامة فيما هو الحق . وذلك مثل : معرفة عدد الائمة عليهم السلام , ومثل أحوال البرزخ , وعوالم القبر , وعوالم الآخرة والجنة والنار , ومثل الرجعة , وغير ذلك كثير . فإن الاعتماد على أقوال وأدلة العلماء في مثل هذه الامور ليس من باب التقليد وإنما هو للاسترشاد بأقوالهم وأدلتهم على هذه الامور واعتمادها من قبل الاخرين . شرائط التكليف العامة |
شرائط التكليف العامة
ثم أن المكلف - وهو الانسان الذي يجب عليه أن يطيع ويمتثل جميع ما ورد في الشريعة من أحكام وواجبات , وأن ينتهي ويبتعد عن كل ماحرمه الله عليه في الشريعة أيضا - قيامه وأمتثاله بجميع الاحكام مشروط بأمور : (1 ) الحياة فلا يخاطب بالاحكام والتكاليف غير الحي ( 2 ) العقل فلا يخاطب بالاحكام ولا يكلف غير العاقل مثل المجنون , فإن المجنون غير مكلف بالاحكام وغيرها لجنونه. ( 3 ) الالتفات الى التكليف والحكم : بمعنى العلم بالحكم , فالغافل والساهي والنائم لايكلّف . ( 4 ) القدرة على الامتثال ولذلك لايكلّف العاجز , ولايكلف بما لايطاق , سواء كانت القدرة ( شرعية ) أو ( عقلية ) : أما الاولى , فهي القدرة المأخوذة في لسان الدليل شرطا للحكم , كما في الوضوء بالماء , حيث اعتبر فيه شرعا القدرة والتمكن من استعمال الماء , فإذا لم يتمكن ولم يكن قادرا على الماء لايكلف بالوضوء . وأما الثاني : فهي القدرة المعتبرة في التكليف عقلا ولم تؤخذ في الدليل , وهي : مثل بعض موارد التزاحم بين التكليفين [ وإنما قيدناه ببعض موارد التزاحم , لان التزاحم قد يكون بين تكليفين مشروطين بالقدرة العقلية , أو مشروطين بالقدرة الشرعية , أو احدهما مشروط بالقدرة عقلا والاخر مشروط بالقدرة شرعا , ففي القسم الاول يقع التزاحم بين التكليفين لفعلية كل منهما , وحيث إنه يعتبر عقلا القدرة على الامتثال , فلا قدرة هنا لعجزه عن الاتيان بالمتزاحمين , وأما في القسمين الاخيرين , فلا تزاحم أصلا , لأنه إذا كان أحدهما مشروطا بالقدرة شرعا لم يكن هناك مزاحمة أصلا بينهما , لفعلية ماهو مشروط بالقدرة عقلا , وانتفاء موضوع ماهو مشروط بالقدرة شرعا لفرض عدم القدرة عليه شرعا بعد اشتراط عدم المانع من امتثاله ] , كما لو غرق شخصان في الماء وهو قادر على أنقاذ أحدهما , فلا يكلّف بإنقاذهما معا , وإنما يكلّف بإنقاذ واحد منهما , وإذا كان أحدهما أهم من الآخر كما لو كان أحدهما عالما فيتعين إنقاذه دون غيره . ( 5 ) أن لايكون حرج أو ضرر : فوجود الحرج والضرر مانع من التكليف , ولكن بنحو لا يستبيح معه المحرمات , ولذلك نقول : الحرج والضرر لايبيح الزنا , ولاشرب الخمر , ولا أكل مال الغير , بل يجب مراعاة التكليف والرجوع الى المرجع في مثل حالات الضرر والحرج . ( 6 ) البلوغ وهو مايجب اعتباره في التكاليف قطعا , كما تدل عليه الروايات المعتبرة . والبلوغ عند المرأة : يكون بدخولها في العاشرة من العمر , أي تكمل تسع سنوات قمرية وتدخل في العاشرة . والبلوغ عند الذكر : يتحقق بالاحتلام , أو انبات الشعر الخشن على العانة , أو بلوغ خمسة عشر سنة قمرية . وما ذكر من أن البلوغ عند الفتاة لا يكون إلا بأن تحيض , كلام بعيد عن التحقيق العلمي والرصانة العلمية , وهو قول شاذ مرفوض لا يقول به إلا الذين لايأبهون للحكم الشرعي . اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل , وحكم الجاهل |
اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل , وحكم الجاهل
ثم إن التكاليف الشرعية بأجمعها يشترك في تحمل مسؤوليتها وضرورة امتثالها والاتيان بها : ( العالم والجاهل ) , فهما على حد سواء أمام التكليف الشرعي الالهي , وضرورة الالتزام به . نعم يختلفان في أن العالم إذا صدرت منه مخالفة أو تقصير في التكليف فهو غير معذور ويعاقب على مخالفته . وأما إذا كان جاهلا , فإن كان عن ( تقصير ) منه فهو مثل العالم غير معذور عقلا في المخالفة , لأن إمكانية التعلّم لما كانت موجودة لديه وكان قادرا على التعلم فعلا , فاتكليف ثابت وفعلي في حقه وهو لسوء اختياره قصّر . وأما إذا كان ( قاصرا ) بأن كانت إمكانية التعلّم والمعرفة لديه ليست بالمستوى الذي يثبت التكليف في حقه ويجعله فعليا , فهذا يقبح معاقبته لدى المخالفة , لعجزه عن التعلم أو الفحص وغير ذلك . إذن : لابد من توفّر الشروط المذكورة في حق المكلّف حتى يمكن إلزامه بالتكليف . شرائط التكليف الفعلي وأما التكليف الذي يوجّه الى هذا المكلف الجامع للشرائط العامة , والذي يلزم بامتثاله وإطاعته فيشترط فيه امور 1- أن يكون فعليا , بأن يخرج عن دائرة الانشاء أو التقرير , ويخاطب فعلا بحيث يستطيع امتثاله والاتيان به , أي لايكون هناك مانع من ايصال التكليف اليه , كما كان الحال في أول البعثة , حيث إن أحكاما كثيرة لم تكن فعلية لهذا السبب , بل كانت تبلّغ على التدريج . 2- أن يكون منجزا , وذلك بأن لاتكون لدى المكلّف موانع من امتثاله . 3- أن لايكون معلّقا على أمر غير مقدور للمكلّف , بمعنى أن لايكون موضوعه غير مقدور للمكلّف عقلا أو شرعا , كالتكليف بالحج فإنه معلّق على الاستطاعة , وكالتكليف بالزكاة فإنه معلّق على حصول النصاب . 4- أن لايزاحمه تكليف آخر , إذ مع المزاحمة يكون المكلّف مخاطبا : إما بالتخيير بينهما أو بالامتثال الاهم منهما , حسب ماتقتضيه القواعد في كل مورد من موارد المزاحمة . هذا ما أحببت أن أشير اليه في خاتمة حديثي , راجيا من الله القبول والأجر , وأن يكف عنا شر الأعداء وشر الظالمين والمضلين والمضللين , وشر كل ذي شر , وشر من يريد السوء بشريعة ودين سيد المرسلين محمد (ص) , ومنهج الائمة الطاهرين عليهم السلام وعقائد المؤمنين , والحمد لله رب العالمين . |
لقد تمت الطبعة الاولى لكتاب معتقدات الشيعة سنة 2007 ميلادية
توجد طبعة ثانية وفيها اضافات لمواضيع اخرى ونسأل الله التوفيق ناصرحيدر |
الساعة الآن »07:35 PM. |