|
عضو مجتهد
|
|
|
|
|
|
|
المستوى :
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
زائر الأربعين
المنتدى :
ميزان الثقلين القرآن الكريم والعترة الطاهرة عليهم السلام
بتاريخ : 03-Mar-2013 الساعة : 11:55 AM
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
-[ 181 ]-
الفصل السادس
في المبدئية والمثالية التي تحلّى بها حَمَلَةُ الدعوة
من شواهد صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : سلوكه (صلى الله عليه وآله وسلم) وسلوك أهل بيته (صلوات الله عليهم) ومثاليتهم وتضحياتهم، حيث يشهد ذلك بمجموعه بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب رسالة حقّة مثالية، همُّه نجاح رسالته وتحقيق أهدافه النبيلة، بواقعية وإخلاص وتضحية فريدة، وأنه قد حَمّلَ أهلَ بيته ثقلَ رسالته ومسؤوليتها ورعايتها، فأخلصوا في ذلك تبعاً له وتفاعلاً معه، فحفظوا تعاليمه، ونشروها حيثما وجدوا لذلك سبيلاً، مهما كلفهم ذلك من عناء وتضحية.
فقد عاش (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يصدع برسالة ربه معروفاً بصدق الحديث وأداء الأمانة، وجاءت رسالته لتؤكد عليهما وعلى المُثُل ومكارم الأخلاق والواقعية والإخلاص وما يجري مجرى ذلك.
وقد انعكس ذلك عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في أقواله وأفعاله وسلوكه ونهجه حين صدع بتلك الرسالة، وتحمل مسؤولية الدعوة لها ونشرها.
-[ 182 ]-
فكان يتجنب اللف والدوران، ويلتزم بالمواثيق والعهود، ويتجرع الأذى والغصص من المشركين والمنافقين بصبر وحلم ومثالية.
وما مدحه القرآن المجيد بأنه على خلق عظيم لولا أنه كان معروفاً بذلك مشهوراً به.
وقد أدرك (صلى الله عليه وآله وسلم) - بممارسته ومعايشته لأتباعه أو بإعلام مِن الله تعالى أو بالأمرين معاً - ما سيلقاه أهل بيته - وهم أعز الناس عليه - مِن بعده من الظلم والجور والقتل والتشريد، وقد أعلن بذلك (1) إقامةً للحجة، مِن دون أن يخرج عن مثاليته وتعاليم رسالته ويلفّ ويدور، أو يغتال، أو يشرّد، أو يُسْقط الأطراف الذين يخشى منهم، مِن أجل أن يسدّ الطريق عليهم، ويمنعهم مِن الاستيلاء على السلطة ويحكم قبضته على الأمور، من أجل أن يحفظ سلطانه من التلاعب، ويحتفظ به لأهل بيته، ويجنبه ويجنبهم مآسي خروجه عنهم وفجائعه.
وجاء أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) من بعده ليلتزم سلوكه ولا يحيد عنه، فهو يأبى - تَحَرُّجاً أو مثاليةً - أن يترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جُثَّةً، أو يوكل أمر تجهيزه لغيره من أهل بيته، ويخرج لينازع الناس سلطانه، كما تنازعوه بينهم.
وبعد أن استولى غيره على الحكم اكتفى بامتناعه عن البيعة وإعلان سخطه وإنكاره إقامةً للحجة، مِن دون أن يثيرها فتنةً يخشى منها على
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تقدمت مصادره في هامش رقم (2) ص: 160.
-[ 183 ]-
مستقبل الإسلام، كما فَعَل غيرُه في نظير موْقِعه.
ثم لم يبخل بنفسه عن نصيحة المستولين وتسديدهم لصالح الإسلام، وإنْ كان في ذلك قوةً لهم وتثبيتًا لسلطانهم أيضًا.
كما أعمل مبدئيته في الشورى، ولم يعط الشرط الذي أعطاه غيره من أجل الوصول للحكم، لأنه مقتنع بعدم شرعية ذلك الشرط، وليس من شأنه أن يعطي شرطاً ثم ينكث به، كما نكث غيره.
ولما انتهى الأمر له وأرادوا بيعته لم يرض بذلك حتى أعلمهم بأنه لهم وزير خير لهم منه أمير، وأنهم مقبلون على أمر له وجوه وألوان، لا يسهل عليهم تحمله، وأنه إذا وَلِـيَ الأمر سار على ما يعلم مما قد لا يعجبهم، أو لا يصبرون عليه (1).
ولما أصروا عليه وبايعوه تحمّل مسؤوليته بمبدئية ومثالية أتعبته وفرقت عنه أصحابه، وبقى متمسكاً بها وإن كلفته الثمن الباهض.
فهو (عليه السلام) لم يرغم من لم يبايعه على البيعة، وإن كان أسلافهم الذين يوالونهم ويرون شرعية سلطانهم قد أرغموه عليها.
ولم يمنع (صلوات الله عليه) طلحة والزبير من العمرة، وإن كانت بوادر الغدر لائحة في الأفق، بل لوّح هو (عليه السلام) أو صرّح بها.
كما لم يمنع (عليه السلام) معاوية وأصحابه الماء لمّا استنقذه منهم، وإن كانوا قد منعوه وأصحابه الماء حينما سبقوهم إليه.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة 7: 33.
-[ 184 ]-
ولما حكّم الخوارج وقطعوا عليه خطبته لم يبادرهم بالعقوبة، بل قال لهم: "لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا..." (1). وكانت سيرته في جميع حروبه أن لا يبدأ عدوه بالقتال.
كما أنه (صلوات الله عليه) لم يرض لنفسه أن يطلب النصر بالجور فيمن ولي عليه (2)، وأبى أن يصلح رعيته بفساد نفسه (3).
وبعكسه في ذلك خصومُه، حيث استغلوا مبدئيته في سبيل الانشقاق عليه وزرع الأشواك في طريقه وإثارة الفتن ضدّه، حتى تمّ لهم ما أرادوا وخرّ صريعاً في محرابه، كما هو معلوم من سيرته وسيرتهم.
بل لم يترك (عليه السلام) مبدأه ومثاليته حتى مع قاتله، فقد أكدّ (عليه السلام) قبل أن يقتله أنه سوف يقتله (4)، ولكنه (عليه السلام) لم يقتله ولم يحجر عليه، لأنه لا يجوز العقاب قبل الجناية. بل لم يمتنع (عليه السلام) من الخروج ليلة قتله للصلاة تسليماً
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الكامل في التاريخ 3: 213 ذكر خبر الخوارج عند توجيه الحكمين وخبر يوم النهر / البداية والنهاية 7: 282 / تاريخ الطبري 3: 114 ذكر ما كان من خبر الخوارج عند توجيه علي الحكم للحكومة وخبر يوم النهر.
(2) شرح نهج البلاغة 2: 203.
(3) شرح نهج البلاغة 6: 102.
(4) المصنف لعبد الرزاق 10: 125 كتاب العقول: باب لا يذفف على جريح / الاستيعاب 3: 1126 في ترجمة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) / الطبقات الكبرى 3: 34 ذكر عبد الرحمن بن ملجم المرادي وبيعة علي ورده إياه.. / أنساب الأشراف 3: 261 أمر ابن ملجم وأمر أصحابه ومقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) / كنز العمال 13: 191 رقم الحديث: 36568، ص: 195 رقم الحديث: 36582 / تاريخ دمشق 42: 554 في ترجمة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) / الكامل في ضعفاء الرجال 3: 464 في ترجمة سدير ابن حكيم. وغيرها من المصادر.
-[ 185 ]-
لمقادير الله تعالى. ولما ظفر بقاتله وأسَرَه كان يحسن إليه (1)، وأوصى بأن لا يُمثَّل به (2).
قال اليعقوبي عند التعرض لبيعة الناس الإمامَ الحسن (عليه السلام) بعد مقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) : "ودعا بعبد الرحمن بن ملجم، فقال عبد الرحمن: ما الذي أمرك به أبوك؟ قال: أمرني أن لا أقتل غير قاتله، وأن أشبع بطنك، وأنعم وطاءك، فإن عاش اقتصّ أو عف، وإن مات ألحقتك به. فقال ابن ملجم: إن كان أبوك ليقول الحق، ويقضي به في حال الغضب والرضا" (3)... إلى غير ذلك من شواهد التزامه بدينه ومبدئيته ومثاليته، بل هو من الوضوح بحدّ لا يحتاج إلى تكلف جمع الشواهد.
وقام بعده ولده الإمام الحسن السبط (صلوات الله عليه) ليتجرع الغصص بصلحه مع معاوية من أجل الحفاظ على البقية الباقية من صالحي المؤمنين الذين ينتظر منهم أن يحملوا دعوة الحق ويبلغوها الناس، ويشدوهم
ـــــــــــــــــــــــ
(1) السنن الكبرى للبيهقي 8: 56 كتاب الجراح: جماع أبواب تحريم القتل ومن يجب عليه القصاص ومن لا قصاص عليه: باب ما جاء في الترغيب في العفو عن القصاص، ص: 183 كتاب قتال أهل البغي: باب الرجل يقتل واحداً من المسلمين على التأويل أو ممتنعين يقتلون واحداً كان عليهم القصاص / مسند الشافعي 1: 313 كتاب قتال أهل البغي / الطبقات الكبرى 3: 37 ذكر عبد الرحمن بن ملجم المرادي وبيعة علي ورده إياه.. / أنساب الأشراف 3: 256، 261 أمر ابن ملجم وأمر أصحابه ومقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) / تاريخ دمشق 42: 557 في ترجمة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) / فيض القدير 1: 331. وغيرها من المصادر.
(2) مجمع الزوائد 6: 249 كتاب الحدود والديات باب: النهي عن المثلة، 9: 142 كتاب المناقب باب: مناقب علي بن أبي طالب في باب بعد باب وفاته / المعجم الكبير 1: 100 سن علي بن أبي طالب ووفاته (رضي الله عنه) / نصب الراية 3: 119 / تاريخ الطبري 3: 158ـ159 أحداث سنة أربعين: ذكر الخبر عن سبب قتله ومقتله / الكامل في التاريخ 3: 257 ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
(3) تاريخ اليعقوبي 2: 214 في خلافة الحسن بن علي.
-[ 186 ]-
إليها، وينكروا على الظالمين، كيلا تضيع معالم الحق ولا يسمع صوته، وإن كان ينتظر من معاوية وحكمه كل شرّ عليه وعلى شيعته. كما ينتظر من كثير من الناس اللوم والتقريع بما في ذلك بعض شيعته.
ثم التزم (عليه السلام) هو وأخوه الإمام الحسين السبط (عليه السلام) من بعده بالعهد مع معاوية ولم يحركا ساكنًا، وإن جدّ معاوية في نبذ العهد ومخالفة شروطه، لئلا يدعا لمعاوية مجالاً للتهريج عليهما بنقض العهد، والنيل من دعوة الحق، بتشويه صورة أئمته وحملته (صلوات الله عليهم).
ولما ولي يزيد نهض الحسين نهضته المقدسة، مع المحافظة على المبادئ والمثل والبعد عن اللف والدوران والتحايل، فأعلن من اليوم الأول عن حق أهل البيت في الحكم، وأنه قد غُصب منهم، وأنه يسير في الحكم بسيرة جده (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبيه، مع ما هو المعلوم من أن هذين الأمرين لا يناسبان هوى الكثرة الساحقة من الناس، فيتقاعسون عن نصره.
وأعلن مراراً - كما أعلن مَن قبله مِن أهل بيته (صلوات الله عليهم)أنّ عاقبة أمره أن يُقتَل (1)، وأنه لابد لمَن يخرج معه أن يوطن نفسه على ذلك (2).
كما أعلن في الطريق لمن تبعه من عامة الناس أن أهل الكوفة قد خذلوه، ليعرف الناس على ماذا يقدمون (3). وبقي على ذلك حتى لقي
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الكامل في التاريخ 4: 38، 39 / مقتل الخوارزمي 1: 191، 226. وغيرها من المصادر الكثيرة
(2) كامل الزيارات: 175 / بصائر الدرجات: 502 / دلائل الإمامة: 188 / بحار الأنوار 44: 367.
(3) تاريخ الطبري 3: 303 وفي هذه السنة كان خروج الحسين (عليه السلام) من مكة متوجها إلى الكوفة: ذكر الخبر عن مسيره إليها وما كان من أمره في مسيره ذلك / الكامل في التاريخ 3: 404 ذكر مسير الحسين إلى الكوفة / البداية والنهاية 8: 169 صفة مخرج الحسين إلى العراق.
-[ 187 ]-
مصرعه المفجع.
كما بقي هذا الخلق والسلوك ثابتاً في الأئمة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) ملازماً لهم.
وقد امتنع الأئمة من ولده (صلوات الله عليهم) عن المطالبة بالحكم والسعي للاستيلاء عليه، بل عُرِض عليهم فَأَبَوْه، وقوفاً عند عهد الله تعالى لهم بعدم تحقق الظرف المناسب لقيام الحكم الصالح الذي يمثل الإسلام بحقيقته وحدوده قبل ظهور قائم آل محمد (عجّل الله فرجه).
مع أنهم لو كانوا أصحاب دنيا ومصالح مادية عاجلة لسارعوا إلى ذلك وانتهزوا الفرص، كما انتهزها غيرهم.
فرْض احترام أهل البيت (عليهم السلام) على المسلمين عامة
وإذا حاول المجادل أن يشكك في الصورة التي يعكسها تاريخ المسلمين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدقه وإخلاصه ومثاليته، لدعوى: أنّ لإيمان المسلمين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقديسهم إياه أثراً مهماً في عكس تلك الصورة عنه من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فإنه لا مجال لذلك في الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام).
لِمَا هو المعلوم مِن أنّ الاتجاه العام للمسلمين مخالف لخطّ أهل البيت (عليهم السلام)، فهم لا يعترفون بإمامتهم، ولا يتفاعلون معهم، ويعادون مواليهم وشيعتهم، ويشنعون عليهم، ويرون شرعية خلافة المستولين على السلطة حتى مَن كان منهم يعلن بغض أهل البيت (عليهم السلام) ومقاومتهم،
-[ 188 ]-
ويأتمون بأئمة المذاهب السائرة في ركاب أولئك المتسلطين، المباينة لنهج أهل البيت (عليهم السلام).
ومع كل ذلك فهم يكادون يُجْمعون على صدق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأمانتهم واحترامهم، بل تعظيمهم وتقديسهم.
ولا تفسير لذلك إلا كون صدقهم (صلوات الله عليهم) وقدسيتهم ورفعة شأنهم حقائق ثابتة قد فرضت نفسها على أرض الواقع وألجأت الناس للإذعان بها رغم كل المثبطات والمعوقات.
ومن الظاهر أن كمالهم (عليهم السلام) وواقعيتهم فرْع عن كمال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وواقعيته، فهم حجته الباقية من بعده الشاهدة بصدقه وحقه.
والحاصل: أن من ينظر لواقع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) في أقوالهم وسلوكهم وجهدهم وجهادهم، ويستوعب ذلك كله بإمعان وتبصر، يجدهم أصحاب رسالة ومبادئ سامية قد اقتنعوا بها وتبنوا الدعوة لها والحفاظ عليها وعلى صفائها ونقائها، وضحوا في سبيل ذلك بالنفس والنفيس، وبإصرار وتصميم.
وليس من المعقول أن يكون ذلك منهم نتيجة اختلاق الدعوة والكذب المتعمد على الله تعالى والافتراء عليه، إذ لم ينتفعوا بذلك في دنياهم، بل صار سبباً لتعرضهم للمحن العظام والمصائب الجسام، وصُبّ عليهم وعلى شيعتهم ومحبيهم من أجله البلاء صبًّا.
كما لا يعقل أن يكون ذلك منهم عن حسن نية نتيجة أوهام خاطئة
-[ 189 ]-
وخيالات فارغة، إذ لا ريب في أنهم (صلوات الله عليهم) في القمة من العقل والرشد والنضوج الفكري، حتى استطاعوا أن يفرضوا أنفسهم على المستوى الإسلامي، بل العالمي.
مواقف أهل البيت (عليهم السلام) تشهد باطلاعهم على حقيقة قطعية
فلابد أن يكون ذلك لحقيقة وصلت إليهم وأدركوها عَيَانًا، بل هو أمر مقطوع به بعد تأكيدهم (عليهم السلام) على أن ذلك عهد معهود قد وصل إليهم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعد ظهور شواهد ذلك وتصديقه في كثير من الموارد لا يسعنا استقصاؤها، إلا أن هناك بعض النكت يقف الإنسان أمامها مبهورًا ويحسن التعرض لبعضها إيضاحاً للحقيقة وتأكيداً للحجة..
تنبُّؤ الصديقة الزهراء (عليه السلام) بمصير الأمة المظلم
منها: تنبؤ الصديقة الزهراء (صلوات الله عليه) بمصير الأمة المظلم، نتيجة افتتانها بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للرفيق الأعلى، وخروجها بالخلافة عن موضعها الذي جعلها الله تعالى فيه، وتقاعسها عن التغيير وإنكار المنكر.
حيث إنها (عليه السلام) - بعد أن احتجت لاستحقاق أمير المؤمنين (عليه السلام) الخلافة وأولويته بها - قالت: "أما لعمر الهكن لقد لقحت [يعني: الفتنة] فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطًا، وذعافاً ممقرًا هناك يخسر المبطلون ويعرف التالون غبّ ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن دنياكم نفسًا، وطامنوا للفتنة جأشًا، وابشروا بسيف صارم وبقرح شامل واستبداد
-[ 190 ]-
من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيدًا، فيا حسرة لكم، وأنى بكم، وقد عميت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون" (1).
وما أصدقه وأروعه من إعلان، حيث بدأت المشاكل والمضاعفات، وتطورت الأمور حتى انفجرت بعد خمسة وعشرين عاماً بمقتل عثمان، وما استتبعه من حروب دامية، ثم حكم معاوية بعد خمس سنوات حكماً دام عشرين عاماً وما انتهك فيه من حرمات كان آخرها ولاية يزيد، الذي كان منه ما كان من فظائع وفجائع بدأت بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته نجوم الأرض من آل عبد المطلب، وأصحابه الصفوة، وانتهاك حرمتهم، وحرمة العائلة النبوية، والتشهير برؤوسهم وبها في البلدان، بنحو تقشعر لهوله الأبدان.
ثم واقعة الحرة الهمجية البشعة بأهل المدينة المنورة، وختمت بانتهاك حرمة الحرم الشريف، وضرب الكعبة المعظمة وهدمها بالمنجنيق.
ثم جاءت خلافة مروان وبنيه فاتخذوا عباد الله خولاً، وماله دولاً، ودينه دغلاً، وتعاقبت الدول وتوالت الحكام على المسلمين ((كُلَّمَا دَخَلَت أُمَّةٌ لَعَنَت أُختَهَا)) (2)، حتى انتهى بهم الأمر إلى ما هم عليه الآن مما هو غني عن البيان وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) بلاغات النساء لابن طيفور: 20 في كلام فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) / جواهر المطالب لابن الدمشقي 1: 168 / شرح نهج البلاغة 16: 234.
(2) سورة الأعراف آية:38.
-[ 191 ]-
كتاب الإمام الحسين (عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية
ومنها: كتاب الحسين (عليه السلام) من مكة لأخيه محمد بن الحنفية.
وفيه: "بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومَن قِبَله من بني هاشم. أما بعد فإنّ مَن لحق بي استشهد، ومَن لم يلحق بي لم يدرك الفتح. والسلام" (1).
فتراه (صلوات الله عليه) وهو في مكة قبل أن يذهب للعراق يعلن أنه ومن معه سوف يستشهدون، ثم يرى أنهم بذلك فاتحون، وأن من لم يلحق به يفوته الفتح المذكور.
وأي فتح هذا بعد القتل؟! لو لم يكن (صلوات الله عليه) صاحب رسالة يرى الفتح في الشهادة، من أجل حفظها من حكام الجور، الذين يقودون حركة الردة ضده، في محاولة تحريفها وطمس معالمها وخنق صوتها. ويعلم بنجاحه في قصده، وتحقق ما يستتبع تلك الشهادة من الفتح العظيم بتجديد حيوية الدين وفاعليته، وسقوط حرمة الظالمين، وما استتبع ذلك من حسن الذكر له (عليه السلام) ولمن معه ولدعوته عموماً في الدنيا، وعظيم الأجر في الآخرة الذي كان (عليه السلام) على بصيرة منه وطمأنينة إليه.
ويشير إلى ذلك حديث ولده الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) مع إبراهيم بن طلحة.. فحينما رجع (عليه السلام) بالعائلة المفجوعة إلى المدينة المنورة استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله، وقال: "يا علي بن
ـــــــــــــــــــــــ
(1) كامل الزيارات: 157 واللفظ له / بصائر الدرجات: 502 / نوادر المعجزات: 110 / دلائل الإمامة: 188 / الخرائج والجرائح 2: 771ـ772. وغيره.
-[ 192 ]-
الحسين، من غلب؟ وهو مغطى رأسه، وهو في المحمل. قال: فقال له علي بن الحسين: إذا أردت أن تعلم من غلب، ودخل وقت الصلاة، فأذِّن ثم أقم" (1).
خطبة زينب الكبرى (عليه السلام) في مجلس يزيد
ومنها: خطبة عقيلة بني هاشم زينب الكبرى (عليه السلام) وهي أسيرة في مجلس يزيد، حين شمخ بأنفه مسرورًا، وقد أعلن بكفره، متوهماً أنه قد قضى على الحسين (عليه السلام) ودعوته بقتله.
تلك الخطبة التي تجلت فيها عظمتها ورباطة جأشها، وعلمها بثمرة تلك النهضة المقدسة، وسوء عاقبة الظالمين في الدنيا والآخرة، حيث قالت (صلوات الله عليه) في كلام لها طويل:
"فَكِدْ كيْدَك، واسْعَ سعيك، وناصب جهدك. فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا. ولا ترحض عنك عارها. وهل رأيُك إلا فَنَدْ، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين" (2).
وصدقت (صلوات الله عليه) في حديثها، فقد بقي الدين وظهرت دعوته، وانتشر ذكرهم (صلوات الله عليهم) وارتفع في الدنيا شأنهم. وانتهى أولئك الظالمون ولم يبق لهم إلا اللعنة والعار.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) أمالي الشيخ الطوسي: 677.
(2) بحار الأنوار 45: 135 / مقتل الخوارزمي 2: 66.
-[ 193 ]-
حديث زينب الكبرى (عليه السلام) مع الإمام زين العابدين (عليه السلام)
ومنها: حديثها (عليه السلام) مع الإمام زين العابدين (صلوات الله عليه) حينما مرّوا بهم على مصارع القتلى في كربلاء وهم منبوذون بالعراء، في استعراض منها لعهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالواقعة وببعض تفاصيلها، وفي جملته:
"ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة. وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام. وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلا ظهوراً وأمره إلا علوّاً" (1).
وبالفعل جهد أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محو قبر الحسين (عليه السلام) وطمس أثره بشتى الوسائل، وفي مختلف العصور، وبمنتهى العنف والقسوة، وباءت محاولاتهم جميعاً بالفشل الذريع والخيبة الخاسرة، وظل قبره الشريف مزاراً ومناراً للدين وكهفاً وملجأ للمؤمنين.
وكلما تقادم الزمن، وتعاقبت العصور، علا نوره وارتفع شأنه بوجه ملفت للنظر.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 28: 57.
-[ 194 ]-
|
|
|
|
|