اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
مفكرة مبتعث –4- فوائد الإبتعاث
مضى وقت ليس بالقصير على آخر اجتماع لمحمود بوالديه، وأخذ موافقتهما المبدئية على الإبتعاث. رغم كون فكرة سفره خارج البلاد، صعبة على قلبيهما، ولو لم يكن ولدهما الوحيد، ولا ابنهما البكر.
والأمر كما قالت تلك البدوية، عندما سئلت عن اعز أولادها. فأجابت: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يعود.
فكأنهما قد نسيا أو تناسيا الموضوع، بدخوله عليهما ذات يوم، حاملا بين بيده ورقة، يلوح بها في الهواء، كأنها علم فوق سارية.
تعجبا من أمره، ولاح لهما كان به جان.
قالت والدته باستغراب ماذا في يدك؟ وواصلت كلامها دون انتظار جوابه، هل هي نتيجة الاختبار الأخير؟
شعر والده بالضيق لمرور ذكر البعثة في مخيلته، ولكنه سأل مستفسرا، ماذا جرى؟ أراك في غاية السعادة؟!
قال مبديا فرحته، محاولا كتم ابتسامة لم يستطع إخفائها، ليتمكن من صياغة جملة كاملة مفيدة: لقد وصلت الموافقة على المنحة.
فسأله والده كأنه لا يعلم، وأية منحة؟
اجتاحه خوف مفاجأ لرد والده البارد، الذي نزل على قلبه كعاصفة ثلجية، جمدت أجزاء بدنه. فقال متعجبا فاغرا فاه: لقد ناقشنا هذا من قبل، وبناء على موافقتكما ورضاكما مضيت قدما وقدمت أوراقي. وواصل قائلا الآن وبعد الذي تكبدته، تغيران رأييكما، ما الذي استجد؟
بادرت الوالدة لرأب الصدع، وتفادي تفاقم الأمر: نحن لم نغير رأينا، ولكن نريد أن نفهم، إذا كان هناك فرق بين دراستك بجوارنا، وبين ذهابك لما وراء أعالي البحار!؟
فأجابهما محاولا عدم الخروج عن حدود الأدب: قولكما صحيح بالنسبة للشهادة، فهي قد لا تزيد قيمة عن الشهادة المحلية بشيء غير الصيت. وواصل قائلا: وقد يكون كلامكما أيضا معقولا، بالنسبة للمواد الدراسية، فقد لا يكون هناك فرق بين ما يدرس هنا ويدرس هناك.
عندها قال والده منتشيا: العاقل خصيم نفسه.
فأضاف محمود: ولكن هناك فوائد يجنيها المغترب باحتكاكه بالناس، ومنها تعلم اللغة الأجنبية من أفواه أصحابها وبأسلوبهم. كما يكتسب المبتعث خلال وجوده بعيدا عن أهله وبلده، صفة الاعتماد على نفسه، فيقوم بأمور ما كان ليقوم بها وهو بجوار أهله، من أعداد أكله، وغسيل ملابسه، وترتيب مسكنه ومنامه. هذا بالإضافة لبناء الكفاءات، وكسب الخبرات، والاستفادة من تجارب الشعوب. كما لا ننسى مد الجسور مع المجتمعات الأخرى، وأن الله قد جعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف، ولا ننعزل عن بقية خلقه.
قال والده معلقا وبنوع من الاستخفاف: كل هذا تعلمته بمجرد أن عزمت على الاغتراب، الله يعلم ما سوف تكون عندما تعود من هناك!
أحس محمود بشئ من الإحراج، واستوعب أن مخيلته تحمله أبعد من استيعاب الآخرين. فقال يدافع عن نفسه، محاول إخفاء وجهه عن بيه لان لا يرى تغير ملامحه: هذا ما فهمته من تجارب الآخرين الذين ذهبوا قبلي، وعايشوا التجربة عن قرب.
بقلم: حسين نوح مشامع