اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
مفكرة مبتعث -5-
نجح محمود في إقناع والديه، بالفائدة التي يحصل عليها الطالب، من دراسته خارج دياره. أو هكذا اعتقد، لسكوتهما عن التذمر والشكوى، فاخذ في إنهاء إجراءات البعثة. وخلال انتظاره وصول تذاكر السفر، تقدم للسفارة المعنية، لاستخراج التصاريح المطلوبة.
كان يعد الأيام انتظارا لركوبه الطائرة، وخروجه من وطنه، وتحليقه فوق بلاد غريبة لم يكن يعرفها، ومعاشرة قوم غرباء لم يألفهم أو يعرفهم من قبل. حلق به الخيال بعيدا، يرسم له صورا يستخرجها من ذاكرته وخبراته السابقة. أحيانا صورا واقعية ويتمكن تقبلها وفهمها، وأخرى بعيدة عن الواقع وموغلة في الخيال.
ومع انه لا يزال يذهب لجامعته، لم يعد الشخص نفسه الذي كان قبل ذلك. وصار يسرح بعيدا وراء قطعان الخيال، كما تسرح الأغنام وراء رعاتها في البراري. بعيدا عن قاعة الدراسة، ونفورا من التحصيل العلمي.
اخذ والداه يعدان الأيام، والخوف يملا قلبيهما، من ذلك اليوم الذي يفارقهما فيه. فوجوده في جامعته ينسيهما أمر غربته، وما أن تلوح لهما طلعته، حتى يتذكران فراقه، فتهيج له ألامهما، ويتكدر صفو حياتهما.
كانت الحياة بالنسبة إليه تسير ببطئ شديد قاتل، كحركة السلحفاة عائدة لجحرها، لأنه ينتظر شئ يبهجه.
أما بالنسبة لهما كانت سريعة، تجري كالبرق الخاطف، خوف فقد فلذت كبديهما.
دخل عليهما ذات يوم كدخلته الأولى، ولكن هذه المرة ملوحا بجوازه وتذاكر سفره.
اهاجتهما مرارة الفراق، ونقص عليهما الفراغ الذي سيخلفه وراءه، ذلك الفراغ الذي لا يشعر به إلا من ذاق مرارته، وأحس بلهيبه في جوفه.
سأله والده محاولا عدم إظهار جزعه: قررت فراقنا والبعد عن يا ولدي؟!
يا والدي من يسمع كلامك يعتقد إني ذاهب لساحة حرب، أو لصحراء قاحلة. كلها عدد من سنين، ستمضي سريعا دون الشعور بها. وبعدها ارجع لكم حاملا شهادتي، وسوف تفخر بي. أعود وقد كسبت الخبرة، وتعرفت على عادات وتقاليد قوم آخرين، تزيد من ثقافتي، وتوسع مداركي.
اخذ وقت الفراق يدق الأبواب، ومع كل يوم يمر يزداد خوفهما، تزداد دقات قلبيهما الضعيفين.
قال الوالد واللوعة تأكل من روحه، كما تأكل النار في الهشيم : قلبي على ولدي يتفطر، وقلب ولدي مثل الحجر.
سمعها محمود فهب يقبل رأس أبيه ويديه، قائلا: يا والدي هدأ من روعك، الفراق مكتوب علينا، رضينا أم أبينا. وهذه فرصة قد لا تتكرر ثانية، وكان عليه انتهازها.
تدخلت الوالدة كعادتها في الوقت المناسب لتخفيف التشنج، ولترطيب الأجواء: يا ولدي إذا أنهيت جميع شؤونك، وجهزت جميع احتياجاتك، والدك لديه بعض النصائح والإرشادات يريد إيضاحها لك.
فهز الوالد رأسه موافقا، فلقد نسي ذلك في زحمة الأحداث وتسارعها. وقال: ولدنا الحمد لله عاقل وفاهم، ولكن لا يستغني الإنسان عن النصيحة.
فقال محمود جالسا إلى أبيه بكل أدب: تفضل يا أبي، فكلي آذان صاغية.
يا ولدي عليك بالاجتهاد في دراستك، والحصول على درجات عالية. فهذا واجبك الوطني، مقابل الأموال التي تصرف عليك.
عليك الالتزام بالقيم والمبادئ التي ربيت عليها، وان لا يغررك بهرجة الغرب وزينته.
وفي مقابل ذلك عليك اكتساب ايجابياتهم، فلا بد لديهم عادات حسنة لا توجد عندنا، سوف تعرفها عندما تكون بينهم.
كما أوصيك بالتلاحم والتعاون مع بقية الطلاب المبتعثين، ولا تبعد نفسك عنهم. فهم في الغربة اهلك وعشيرتك، ومن يبتعد عن أهله وعشيرته، فانه يبعد عنهم يد واحدة، ويبعد عنه أيادي كثيرة.
بقلم: حسين نوح مشامع