اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
مذكرات مبتعث-30- الشهر الكريم
على حين غرة وجد مغتربنا نفسه على أعتاب الشهر الكريم، في مجتمع غريب، كأنما التاريخ يعيد نفسه، ليذكره بذلك اليوم الذي وطأة فيه قدماه هذا البلد الأوروبي، بعيدا عن الأهل وبني الوطن، حيث لا أب يوجهه، ولا أم تحن وتعطف.
وها هو مرة أخرى بدون رقيب ينبهه، ولا حسيب يعاقبه، فكان إليه حينها أخذ القرار! فالشهر هو ذاته في كل مكان من العالم، لكنه في الغرب له طعم مختلف. فهو يعرف ما هو مطلوب منه دينيا، وما تعود عليه في بيئته العربية، لكن لهذا الشهر في الغرب طعم آخر. هذا ما شعر به مبتعثنا، في أول يوم من هذا الشهر الفضيل.
فلقد تعود قضاء أيام هذا شهر الكريم بين أهل وذويه، حيث تعد له والدته ما لذ وطاب من أنواع الطعام، كفرخ طير تصطاد له والدته طعامه ثم تلوكه وتمضغه وتضعه بمنقارها في فيه لينا ساغا. لكنه هذه السنة أصبح بعيدا فريدا في مكان نائي. كما تعود بعد رجوعه من المدرسة، الخلود إلى نوم هادئ مريح، كما تنام الدببة خلال سباتها الشتوي، ولا ينتبه إلا عند انطلاق أذان المغرب من منارات مدينته، كجرس إنذار يفزعه من لذيذ أحلامه، إيذانا بتناول طعام الإفطار.
هنا في الغرب وفي هذه الأيام من السنة، النهار طويلا جدا والليل قصير جدا، وليس هناك حساب خاص لأيام شهر رمضان. فهو مجرد شهر كبقية الشهور الهجرية التي لا تذكر، والحياة خلاله رتيبة كبقية أيام السنة الميلادية، ما عدا أيام الإجازة المدرسية.
ولانشغاله بالدراسة خلال النهار، يبقى صائما يعتصره الجوع، ويرهقه التعب. فيكون إفطاره في الساعات المتأخرة من الليل، فلا يستطيع عندها اخذ كفايته من الطعام. ولفرط التعب والإرهاق، يخلد إلى النوم. ثم يبدأ صيامه مع يوم جديد مع صلاة الفجر، وقبل ذهابه للتحصيل العلمي بساعات طويلة.
حتى أصحابه الذين كان يراهم في إجازة نهاية الأسبوع، لم يعد يستطيع زيارتهم إلا لمما وسريعا، كأنهم لم يعودوا له أصحاب، أو قد شب بينهم نزاع صعب إصلاحه.
وكذا الأكل لم يعد يستطع استساغته والتلذذ به كعادته، فغدا يكتفي بالأكل السريع والمجمد لقلة الوقت، كأنه يطبق عله نفسه نظاما غذائيا قاسيا، أو يمر بوقت عصيب من الجوع والقحط. فيتذكر عندها بحرقة ما تعد له أمه من طعام، فيسرح نظره في الأفق يتطلع لذلك اليوم الذي يكون فيه بين أحضانها، تعتني به كطفل صغير. فهو هكذا حتى تتصرم أيام الشهر، ويعود إلى حياته السابقة.
بقلم: حسين نوح مشامع