اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
اللهم صلى على محمد وآل محمد وعجل فرجهم
تنزيه الأنبياء كافة عن الصغائر والكبائر :
( واعلم ) أن جميع ما تنزه الأنبياء عنه ، ونمنع من وقوعه منهم من يستند إلى دلالة العلم المعجز إما بنفسه أو بواسطة ، وتفسير هذه الجملة ، أن العلم المعجز إذا كان واقعا موقع التصديق لمدعي النبوة والرسالة ، وجاريا مجرى قوله تعالى له : صدقت في أنك رسولي ومؤد عني .
فلا بد من أن يكون هذا المعجز مانعا من كذبه على الله سبحانه في ما يؤديه عنه ، لأنه تعالى لا يجوز أن يصدق الكذاب ، لأن تصديق الكذاب قبيح ، كما قلنا إن الكذب قبيح ، فأما الكذب في غير ما يؤديه عن الله وسائر الكبائر فإنما دل المعجز على نفيها ، من حيث كان دالا على وجوب إتباع الرسول وتصديقه فيما يؤديه ، وقبوله منه ، لأن الغرض في بعثة الأنبياء ، تصديقهم بالأعلام ، المعجز هو أن يمتثل ما يأتون به ، فما قدح في الامتثال والقبول وأثر فيهما ، يجب أن يمنع المعجز منه ، فلهذا قلنا : إنه يدل على نفي الكذب والكبائر عنهم في غير ما يؤدونه بواسطة ، وفي الأول يدل بنفسه ، فإن قيل : لم يبق إلا أن تدلوا على أن تجويز الكبائر يقدح فيما هو الغرض بالبعثة من القبول والامتثال ، قلنا : لا شبهة في أن من نجوز عليه كبائر المعاصي ولا نأمن منه الإقدام على الذنوب ، لا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئا من ذلك ، وهذا هو معنى قولنا إن وقوع الكبائر منفر عن القبول ، والمرجع فيما ينفر وما لا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه ، وليس ذلك مما يستخرج بالأدلة والقياس ، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه ، وأنه من أقوى ما ينفر عن قبول القول ، فإن حظ الكبائر في هذا الباب لم يزد على حد السخف والمجون والخلاعة ولم ينقص منه .
فإن قيل : أو ليس قد جوز كثير من الناس على الأنبياء الكبائر مع أنهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرايع ، وهذا ينقض قولكم إن الكبائر منفرة .
قلنا : هذا سؤال من لا يفهم ما أوردناه ، لأنا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق ، وأن لا يقع امتثال الأمر جملة .
وإنما أردنا ما فسرناه من أن سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه ، وإنا مع تجويز الكبائر نكون أبعد من قبول القول .
كما إنا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى قبول القول .
وقد يقرب من الشئ ما لا يحصل الشئ عنده ، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده ، ألا ترى أن
عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجره وتبرمه منفر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول ، ولا يخرجه من أن يكون منفرا ، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ولا يخرجه من أن يكون مقربا ، فدل على أن المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه .
فإن قيل : فهذا يقتضي أن الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة ، فمن أين أنها لا تقع منهم قبل النبوة ، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير .
قلنا : الطريقة في الأمرين واحدة ، لأنا نعلم أن من يجوز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال وإن تاب منهما ، لا يكون حال الواعظ لنا الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارفا للكبائر مرتكبا لعظيم الذنوب ، وإن كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا ، وفي نفوسنا كحال من لم نعهد منه إلا النزاهة والطهارة ، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور ، ولهذا كثيرا ما يعير الناس .
وخرج من استحقاق العقاب بها لا نسكن إلى قبول قوله ، كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الأحوال ولا على وجه من الوجوه .
ولهذا من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وإن وقعت التوبة منها ، ويجعلون ذلك عيبا ونقصا وقادحا ومؤثرا .
وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضا عن تجويزها في حال النبوة ، وناقصا عن رتبته في باب التنفير ، وجب أن لا يكون فيه شئ من التنفير ، لأن الشيئين قد يشتركان في التنفير ، وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه .
ألا ترى أن كثير السخف والمجون والاستمرار عليهما والانهماك فيهما منفر لا محالة ، وأن القليل من السخف الذي لا يقع إلا في الأحيان والأوقات المتباعدة منفر أيضا ، وإن فارق الأول في قوة النفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب من الأول من أن يكون منفرا في نفسه .
فإن قيل : فمن أين قلتم إن الصغائر لا تجوز على الأنبياء في حال النبوة وقبلها ؟
قلنا : الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمل ، لأنا كما نعلم أن من يجوز كونه فاعلا لكبيرة متقدمة قد تاب منها واقلع عنها ولم يبق معه شئ من استحقاق عقابها وذمها ، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز عليه ذلك .
وكذلك نعلم أن من يجوز عليه الصغائر من الأنبياء ( ع ) أن يكون مقدما على القبائح مرتكبا للمعاصي في حال نبوته أو قبلها ، وإن وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوز عليه فعل شئ منها .
فأما الاعتذار في تجويز الصغائر بأن العقاب والذم عنها ساقطان فليس بشئ ، لأنه لا معتبر في باب التنفير بالذم والعقاب حتى يكون التنفير واقعا عليهما ، ألا ترى أن كثيرا من المباحات منفر ولا ذم عليه ولا عقاب وكثيرا من الخلق والهيئات منفر وهو خارج عن باب الذم .
على أن هذا القول يوجب على قائله تجويز الكبائر عليهم قبل البعثة ، لأن التوبة والاقلاع قد أزالا الذم والعقاب اللذين يقف التنفير على هذا القول عليهما .
فإن قيل : كيف تنفر الصغاير وإنما حظها تقليل الثواب وتنقيصه ؟ لأنها بكونها صغائر قد خرجت من اقتضاء الذم والعقاب ، ومعلوم أن قلة الثواب غير منفرة .
ألا ترون أن كثيرا من الأنبياء قد يتركون كثيرا من النوافل مما لو فعلوه لاستحقوا كثيرا من الثواب ، ولا يكون ذلك منفرا عنهم .
قلنا : إن الصغاير لم تكن منفرة من حيث قلة الثواب معها ، بل إنما كانت كذلك من حيث كانت قبائح ومعاصي لله تعالى ، وقد بينا أن الملجأ في باب المنفر إلى العادة والشاهد .
وقد دللنا على أنهما يقتضيان بتنفير جميع الذنوب والقبائح على الوجه الذي بيناه .
وبعد : فإن الصغاير في هذا الباب بخلاف الامتناع من النوافل ، لأنها تنقص ثوابا مستحقا ثابتا . وترك النوافل ليس كذلك . وفرق واضح في العادة بين الانحطاط عن رتبة ثبتت واستحقت ، وبين قوتها . وإن لا تكون حاصلة جملة .
ألا ترى أن من ولي ولاية جليلة وارتقى إلى رتبة عالية ، يؤثر في حالة العزل عن تلك الولاية والهبوط عن تلك الرتبة ، ولا يكون حاله هذه كحاله لو لم ينل تلك الولاية ولا ارتقى إلى تلك الرتبة . وهذا الكلام الذي ذكرناه يبطل قول من جوز على الأنبياء الصغائر على اختلاف مذاهبهم في تجويز ذلك عليهم على سبيل العمد أو التأويل .
إلا أن أبا علي الجبائي ومن وافقه في قوله إن ذنوب الأنبياء لا تكون عمدا ، وإنما يقدمون عليها تأويلا ، ويمثل لذلك بقصة آدم ( ع ) ، فإنه نهي عن جنس الشجرة دون عينها فتأول فظن أن النهي يتناول العين ، فلم يقدم على المعصية مع العلم بأنها معصية قد ناقض ، فإنه إنما ذهب إلى هذا المذهب تنزيها للأنبياء ، واعتقادا أن تعمد المعصية مع العلم يوجب كبرها ، فنزهه عن معصية وأضاف إليه معصيتين ، لأنه مخطئ على مذهبه في الإعراض عن تأمل مقتضى النهي ، وهل يتناول الجنس أو العين لأن ذلك واجب عليه ومخطئ في التناول من الشجرة ، وهاتان معصيتان .
وبعد : فإن تعمد المعصية ليس يجب أن يكون مقتضيا لكبرها لا محالة ، لأنها لا يمتنع أن يكون مع التعمد لصاحبها من الخوف والوجل ما يوجب صغرها ، ويمنع من كبرها .
وليس له أن يقول إن النظر فيما كلفه من الامتناع من الجنس أو النوع لم يكن واجبا عليه ، لأن ذلك إن لم يكن واجبا عليه فكيف يكون مكلفا ، وكيف يكون تناوله معصية ؟ ولا بد على هذا من أن يخطر الله تعالى بباله ما يقتضي وجوب النظر في ذلك عليه . وإذا وجب عليه النظر ولم يفعله فقد تعمد الإخلال بالواجب ، ولا فرق في باب التنفير بين الإقدام على المعصية والإخلال بالواجب . فإذا جاز عنده أن يتعمد الإخلال بالواجب ولا يكون منه كبيرا ، جاز أن يتعمد منه نفس التناول ولا يكون منه كبيرا . ف
أما ما حكيناه عن النظام وجعفر بن مبشر ومن وافقهما ، من أن ذنوب الأنبياء تقع منهم على سبيل السهو والغفلة ، وأنهم مع ذلك مؤاخذون بها ، فليس بشئ ، لأن السهو يزيل التكليف ويخرج الفعل من أن يكون ذنبا مؤاخذا به ، ولهذا لا يصح مؤاخذة المجنون والنائم .
وحصول السهو في أنه مؤثر في ارتفاع التكليف بمنزلة فقد القدرة والآلات والأدلة ، فلو جاز أن يخالف حال الأنبياء في صحة تكليفهم مع السهو ، جاز أن يخالف حالهم لحال أممهم في جواز التكليف مع فقد سائر ما ذكرناه وهذا واضح ، فأما الطريق الذي به يعلم أن الأئمة لا يجوز عليهم الكبائر في حال الإمامة ، فهو أن الإمام إنما احتيج إليه لجهة معلومة ، وهي أن يكون المكلفون عند وجوده أبعد من فعل القبيح وأقرب من فعل الواجب على ما دللنا عليه في غير موضع ، فلو جازت عليه الكبائر لكانت علة الحاجة إليه ثابتة . فيه . وموجبة وجود إمام يكون إماما له ، والكلام في إمامته كالكلام فيه ، وهذا يؤدي إلى وجود ما لا نهاية له من الأئمة وهو باطل أو الانتهاء إلى إمام معصوم وهو المطلوب .
ومما يدل أيضا على أن الكبائر لا تجوز عليهم ، أن قولهم قد ثبت أنه حجة في الشرع كقول الأنبياء ( ع ) ، بل يجوز أن ينتهي الحال إلى أن الحق لا يعرف إلا من جهتهم ، ولا يكون الطريق إليه إلا من أقوالهم على ما بيناه في مواضع كثيرة ، وإذا ثبت هذا جملة جروا مجرى الأنبياء ( ع ) فيما يجوز عليهم وما لا يجوز ، فإذا كنا قد بينا أن الكبائر والصغائر لا يجوزان على الأنبياء ( ع ) قبل النبوة ولا بعدها ، لما في ذلك من التنفير عن قبول أقوالهم ، ولما في تنزيههم عن ذلك من السكون إليهم ، فكذلك يجب أن يكون الأئمة منزهين عن الكبائر والصغائر قبل الإمامة وبعدها ، لأن الحال واحدة . وإذ قد قدمنا ما أردنا تقديمه في هذا الباب فنحن نبتدئ بذكر الكلام على ما تعلقوا به من جواز الكبائر على الأنبياء ( ع ) من الكتاب .