اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
عجوز عقيم
لأول مرة في حياته يبتعد، ويكون وحيداُ لمدة طويلة، في أحد الدول الأوروبية. حيث لم يكن حوله والديه – أو اخوته – أو عشيرته – أو أصدقاءه. وعندما حصلت له الفرصة، حزم أمتعته وقفل راجعاًً. كطائر عائدا إلي مسقط رأسه، بعد رحلة شتوية قاسية. عاد ليجدد العهد، يوفي بالوعد. خرج من بيته عجلاً ليلحق برحلته، محلقاً من مطار لآخر. يحدوه الشوق، ويسبقه الأمل. حتى وصل إلي البوابة المطلة على بقية العالم، ليبدأ مشوار العودة إلى دياره.
خلال تنقله من بوابة إلي أخرى، مر بعجوز عقيم جالسة على جانب الممر. غريبة المنظر - والمظهر، يكسوها هدوء أصحاب القبور. لفتت نظره، فلم يستطع تفادي النظر إليها، فحياها حياءً. فهجمت لتلتحم به، وتبقى إلي جواره. ملتصقة بظهره كظله، أو تؤمه الثاني الذي ولد معه في رحم واحد. ولتدلل على التصاقها به، أجابت عندما سألها مفتش الجمارك: هل أنت معه؟ نعم، بهزة من رأسها، ودون أن تنطق ببنت شفة.
عرف انه مستهدف من قبلها، كأنها قدره المحتوم. لذا قرر التخلص منها بلباقة، خوفا من أثارة الشبهات حوله. فهو أحوج ما يكون إلى الخروج من تلك الديار، ويصل إلى أهله دون ما مشاكل عالقة. وأن يعود دون ما يفسد عليه إكمال دراسته. لذا قرر وضع خطته ليتغلب عليها، ويتخلص منها نهائياً.
طلب منها التقدم أمامه، فاخذ كل منهما طريقه وافترقا. ولكن بدلا من أن تعمه الراحة النفسية – والهدوء الذهني، ركبه الشك في من حوله. وأصبح يرى كل من ينظر باتجاهه، أفعى فاغرة فاها، تستهدفه وتنوي الوقيعة به. غيرت طريقها وحرفت وجهتها، وهو لا يزال يتخوف مما يعتقد أن تسببه له. ومن شدة الهلع الذي أصابه، أخبر حارس الأمن الواقف في طريقه، عله يعينه في محنته.
مضى في دربه لينهي أمور سفره، معتقداً أن مشكلته قد حلت بذلك التصرف. ولكن حصل ما كان يتوقع، فبدل من أن ينتصر له ويوقف إلى جانبه، أصبح متهما. وأخذ إلي غرفة خاصة، ليفتش تفتيشا دقيقا. وكان الوحيد الذي فتش بتلك الطريقة، مما جعل اعتقاده جزماً، أن له علاقة بتلك السيدة. فهم لم يتركوا شيئا حتى ملابسه الداخلية، ومنعوه من لمس أي منها.
أخذ قلبه يخفق بشدة، ويكاد يخرج من صدره. وتصبب جبينه عرقاً، حتى ابتل وجهه. وعمت السخونة جسمه، حتى ابتلت ملابسه إلى قدميه. تلبدت الدنيا في وجهه غيوماً داكنة، وتحولت فرحته كدرا. كفرخ دجاج سقط في بحيرة ليتسلى، فعاد خائفاً يرتعش من البرد.
وعندما تأكدوا من عدم صحة الاشتباه، أخلو سبيله. وأعطي إجابة عائمة، وترك ليعود إلى بلاده. ولكنه لم يحس بالراحة، وبقي ينظر خلفه خوفاً. كأنه يمر خلال غابة مظلمة، يخيفه فيها حتى حفيف الشجر. وبقي هكذا لم يطمأن قلبه، حتى وصل باب داره، رغم وجود ذويه حوله.
بقلم: حسين نوح مشامع – القطيف - السعودية