بسم الله الردمن الرحيم
**وكان أمير- المؤمنين
إذا أخذ في الوضوء يتغير وجهه من خيفة اللهتعالى، وكانت سيدتنا فاطمة
تنهج (2) في صلاتها من خشية الله تعالى (3)وروي عن النبي
قرأ عليه أُبيّ سورة النساء، فلما وصل إلىقوله تعالى: ( فكيف إذا جئنا من كل اُمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) (4) فبكىالنبي
.
فأنظروا أيها الناس إلى الشهيد كيف يبكي، والمشهود عليهم يضحكون!؟وأنظروا الى الخليل والحبيب والصفيّ والصديقة الطاهرة، كيف يخافون هذا الخوفالعظيم، وهم الشهداء والشفعاء!؟ ومن يستشفع بهم ويرجو النجاة غداً بحبهم كيف هوآمن لاهٍ! كأنه لم يسمع الله تعالى يقول (أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون) (5) وقال أهل التفسير: السامد هو اللاهي، وقيل: الضاحك،وقيل: الساكت.
فتيقظوا - عباد الله ـ من الغفلة، وحاسبوا أنفسكم على الصغيرة والكبيرة،كما قال أمير المؤمنين
:إن الله تعالى يسائلكم - معشر عباده - عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة،والظاهرة والمستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وإن يعفو فهو أكرم.
وأعلموا ـ عباد الله ـ أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركواأهل الدنيا في دنياهم ، ولم يشاركهم أهل الدنيا، في آخرتهم ، سكنوا الدنيا بأفضل ماسُكنت، وأكلوها بأفضل ما اُكلت، فحفظوا في الدنيا بما حظي المترفون، وأخذوا ماأخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ، والمتجر الرابح، اصابوا لذة زهدالدنيا في دنياهم، وتيقنوا أنهم جيران الله غداً في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقصلهم نصيب من لذة.
فاحذروا ـ عباد الله ـ الموت وقربه، وأعدّوا له عدته، فإنه يأتي بأمر عظيم،وخطب جليل، يأتي بخير لا شر بعده أبداً، وبشر لا خير بعده أبداً، فمن أقرب من الجنة منعامليها!؟ ومن أقرب من النار من عامليها!؟ وأنتم طرد الموت الذي إن أقمتم لهأخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلكم، الموت معقود بنواصيكم،والدنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا ناراً قعرها بعيد، وحرها شديد، وعذابها جديد،وحليتها حديد، دار ليس فيها رحمة، ولا تسمع فيها دعوة، ولا تفرج فيها كربة (1)،فاتقوا الله، ولا تسخطوه برضى أحد من خلقه، فإن في الله خلفاً من خلقه، وليس في غيرهخلف منه .
**فانتبه أيها الإنسان لنفسك، واعلم أنك مسؤول عن ألقليل والكثير، والنقيروالقطمير، والفتيل والذرة والحرف، وما تضمر في نفسك، وزمرات (2) عينك وخيانتها،وتمثل في نفسك -إن أردت أن يخشع قلبك ، وتقشعر جوارحك ، وتجري دمعتك -أهول يوم القيامة، وكربها وفرقها، وشدة عظائمها، وخروجك من قبرك عرياناًحافياً، شاحباً لونك ، شاخصاً بصرك ، تنظر مرة عن يمينك ، ومرة عن يسارك ، إذالخلائق كلهم في شأن غير شأنك ، ومعك ملائكة موكّلون بك غلاظ شداد، منهم سائقوشهيد، سائق يسوقك إلى محشرك ، وشهيد يشهد عليك ، بعملك ، فحينئذ تنزل الملائكةمن أرجاء السماوات ، جسام عظام ، وأشخاص ضخام شداد، اُمروا أن يأخذوابنواصي المجرمين إلى موقف العرض ، مهول خلقهم .
قال رسول الله
: «إن لله ملكا ما بين شفري عينيه مسيرةمائة عام» .
وقال أمير المؤمنين
: «إن لله ملائكة لو أن ملكاً هبط إلى الأرض لمتسعه ، لعظم خلقه ، وكثرة أجنحته ، ومنهم من لو كلفت الجن والأنس أن يصفوه ماقدروا على وصفه ، لبعد ما بين مفاصله ، وحسن تركيب صورته ، وكيف يوصف منما بين منكبه وشحمة اذنه مسيرة سبعمائة عام !؟ ومنهم من يسد الأفق بجناح منأجنحته دون عظم بدنه
ومنهم من السماوات إلى حجزته (1)، ومنهم من قدماه على غير قرار في جوالهواء الأسفل ، والأرضون إلى ركبته، ومنهم لو اُلقي في نقرة إبهامه جميع المياه لوسعتها،ومنهم من لو اُلقيت السفن في دموع عينيه لجرت دهر الداهرين .فتبارك الله أحسنالخالقين » .
روى هذا الحديث مسنداً الشيخ أبو جعفر ابن بابويه الفقيه رحمه الله ، في كتابهكتاب (الخصال)(2) .
**فانتبه لنفسك -أيها الأنسان - كيف تكون حالك إذا شاهدت مثل هؤلاءالملائكة العظيمي الخلق ، ليأخذوك إلى مقام العرض ، وتراهم على عظم أشخاصهممنكسرين ، لشدة خوف يوم المحشر، مما يرون من غضب الجبار على عباده ، وعند نزولهملا يبق نبي ولا صدّيق ولا صالح إلاّ ويخرون لأذقانهم خوفاً من الله ، كأنهم همالمأخوذون ، فهذا حال المقربين ، فما ظنك بالعصاة المجرمين !
وعند ذلك تقوم الملائكة صفاً محدقين بالخلائق من الجوانب ، وعلى جميعهمشعار الذل والخضوع ، وهيبة الخوف والمهابة لشدة ذلك اليوم .
ثم تقبل الملائكة فينادون وأحداً واحداً يافلان بن فلانة، هلمّ إلى موقفالعرض ، فعند ذلك ترتعد الفرائص، وتضطرب الجوارح ، وتبهت العقول ، ويتمنى أقوامأن يذهب بهم إلى النار، ولا تعرض قبائح، أعمالهم على الجبار، ولا يكشف سرهم علىملأ الخلائق . فعند ذلك يخرج النداء: يا جبرئيل ، إئت النار، فجاءها جبرئيل وقاللها: يا جهنم ، أجيبي خالقك ومليكك. فقادها جبرئيل على غيظها وغضبها، فلم تلبثبعد النداء أن فارت وزفرت إلى الخلائق وشهقت ، وسمع الخلائق شهيقها وزفيرها،وانتهضت خزانها متنكرة على الخلائق ، غضباً على من عصى الله وخالف أمره .
فأخطر ببالك حال قلوب العباد وقد امتلأت فزعاً ورعباً، فتساقطوا وجثوا علىالركب ، وولوا مدبرين ، وسقط بعضهم على الوجوه، وينادي الظالمون والعصاة بالويلوالثبور، ونادى كل واحد من الصديقين : نفسي نفسي . فبينا هم كذلك إذ زفرت النارزفرة ثانية، فتساقط الخلائق على وجوههم ، وشخصوا بأبصارهم ينظرون من طرف
خاشع خفي ، واُنهضت قلوب الظالمين فبلغت الحناجر كاظمين ، فعند ذلك يقال: يا ابنآدم ، ألم أكرمك وأسوّدك (1) وأزوجك ، وأسخر لك الخيل والابل والأنعام ، وأنعمعليك بالشباب ؟ ففي ماذا أبليته ؟ وأمهل لك في العمر، ففي ماذا أفنيته ؟ وأرزقك المال ،ففي ماذا أنفقته ؟ ألم أكرمك بالعلم ، فماذا عملت فيه؟فانظر خجلك وحياءك عند تعداده عليك إنعامه وأياديه ، ومقابلته بمساوئك ،وأنت قائم بين يديه بقلب محزون خافق وجل ، وطرف خاشع ذليل منكسر، ثمأُعصيت كتابك الذي لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
أوما علمت أن جوارحك شهوده، وأعضاءك جنوده، وضمائرك عيونه ،وخلواتك عيانه، فكم من فاحشة نسيتها! وكم من طاعة غفلت عنها! وكم من ذنوبكشف لك عن مساوئها! فخجلت منها حيث لاينفع الخجل ، ووجلت حيث لاينفعالوجل، فليت شعريَ بأي قدم تقف بين يديه! وبأي لسان تجيب عندالعرض عليه !وبأي قلب تعقل! فتفكر في عظم جنايتك وذنوبك ، إذ يقول لك : يا عبديَ أما استحيتمني! بارزتنى بالقبيح ، واستحيت من خلقي، فأظهرت لهم الجميل ، وبارزتنى بالقبيح ،أكنت أهون عليك من عبادي ، استخففت بنظري إليك، واستعظمت خلقي .
يا أبن آدم ، ما غرك بي، فاذا عملت؟ وبماذا أجبت الرسل ؟ ألم أكن رقيباًعليك ، وأنت تنظر بعينك إلى مالا يحل لك ! ألم أكن رقيباً على أذنيك ،و أنت تسمع بهمامالا يحل لك ! وكذا يعدد عليه جميع جوارحه وأعضائه .
فانظر لنفسك ، فإنك بين أن يقال لك : قد تفضلت عليك بالغفران ، فيعظمسرورك وفرحك ، ويغبطك الأولون والآخرون . وأما أن يقال للملائكة : خذوه فغلٌوهثم الجحيم صلّوه ، فعند ذلك لوبكت عليك السمماوات والأرض لكان ذلك جديراً بك ،لعظيم مصيبتك ، وشدّة حسرتك على ما فرطت من طاعة الله ، وعلى ما بعت من آخرتكمن دنيا دنيئة لم تبق لك .
واعلم أنه لن ينجومن هول ذلك اليوم إلا من حاسب في الدنيا نفسه ، ووزنفيها بميزان الشرع أعماله وأقواله وخطراته (2)، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله
عليه واله : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا» وإنماحسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحاً، ويتدارك ما فرط منتقصير في فرائض الله، ورد المظالم حبة بعد حبة، ويستحل كل من تعرض له بلسانه ويدهويطيب قلوبهم، حتى يتوب (1) ولم تبق عليه مظلومة ولا فريضة، فهذا يدخل الجنة بلاحساب .
وإن مات قبل ذلك كان على أمر خطر من أهوال ذلك اليوم، فنعوذ بالله منشر ذلك الموقف، حين تتذكر ما أنذرك الله على لسان رسوله
حينقال: ( ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار *مهطعين مقنعي رؤسهم لا يرتد إليهم طرفهم وافئدتكم هواء) (2) فما أشد فرحك اليومبتمضمضك بأعراض الناس وتناولك أموالهم، وما أشد حسرتك في ذلك اليوم إذا وقفبك على بساط العدل، وقوبلت بميزان السياسة والعدل، وأنت مفلس فقير عاجز مهين،لا تقدر على أن ترد حقاً أو تقيم عذراًفدع التفكر فيما أنت مرتحل عنه ، واصرفه إلى مورده واحذره ، واجتهد فيماينججك منه ، واستمع إلى قوله تعالى : (وان منكم إلأ واردها كان على ربك حتمآَ مقضياً*ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً) (3) فإن كنت تعلم من نفسك التقوى، فأنتمن الناجين، وإن لم تكن كذلك، فأنت من الظالمين فيها جثياً، فأشعر قلبك هول ذلك المورد، فعساك تستعد للنجاة(4) منه .
وتأمل في حال الخلائق ، وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبيناهم فيكربها وأهوالها واقفون ينظرون حقيقة آياتها، إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات، وأظلتعليهم بادرات، وسمعوا لها زفيراً وجرجرة تفصح عن شدة الغيظ، فعند ذلك أيقنالمجرمون بالعقاب، وجثت الاُمم على الركب، حتى أشفق البراء من سوء المنقلب.
وخرج ملك من الزبانية ينادي: يافلان بن فلان، المسوف نفسه في الدنيابطول الأمل ، المضيع عمره في سوء العمل. فيبادرونه بمقامع حديد، ويستقلبونه بعظائم.
التهديد، ويسكنونه في دار ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك ، مبهمة المهالك ، فعند ذلكيندمون على ما فرطوا في جنب الله فلا ينجيهم الندم ، ولا ينفعهم الأسف ، بل يكبونعلى وجوههم من فوق النار، فهم بين مقطعات النار وسرابيل القطران ، يتحطمون فيدركاتها ، ويضطربون بين غواشيها ، تغلي بهم النار كغلي القدور، وينادون بالويلوالعويل ، ومهما دعوا بالثبور صب فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود،فمن كان من أهل الشفاعة أدركته ، لقوله صلى الله عليه : «ادخرت شفاعتي لأهلالكبائرمن أمتي» .
و قوله
: «يخرجون من النار بعد ما يصيرون حمماً(1) وفحماً» ومنكان من أهل الخلود، فالويل له بالعذاب الدائم المقيم ، نعوذ بالله من ذلك .
**واعلم أن تلك الدار التي عرفت غمومها وهمومها، يقابلها دار اُخرى وهيالجنة، فإن من بعد منها استقر لا محالة في جهنم ، فاستشعرالخوف في قلبك بطول الذكر فيأهوال الجحيم ، واستثر الرجاء بطول الفكر في النعيم المقيم ، الموعود لأهل الاحسان ،وسق نفسك بسوط الخوف، وقدها بزمام الرجاء إلى الصراط المستقيم ، فبذلك تنال الملكالعظيم ، وتسلم من ألعذاب الأليم .
فتفكر في أهل الجنة، في وجوههم نظرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ختامهمسك ، جالسين على منابر من الياقوت الأحمر، في خيام من اللؤلؤ الرطب الأبيض ، فيهابسط من العبقري الأخضر، متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمروالعسل ، محفوفة بالغلمان والولدان ، مزينة بالحورالعين من الخيرات الحسان ، كأنّهنّالياقوت والمرجان ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، يمسون (2) في درجات الجنان . إذااختالت في مشيها، حمل أعطافها سبعون ألفاً من الولدان ، عليها من طرائف الحريرالأبيض ما تتحير فيه الأبصار، مكلّلاً بالتيجان المرصّعة باللؤلؤ والمرجان ، كَحلاتغنجات(3) عطرات آمنات من الهرم البؤس، ومقصورات في قصور من الياقوت،نبتت وسط روضات الجنات ، قاصرات الطرف عين ، ثم يطاف عليهم وعليهن بأكوابوأباريق وكأس من معين ، بيضاء لذة للشاربين .
1 ـ الحمم: الرماد والفحم وكل ما احترق في النار « الصحاح ـ حمم ـ 5: 1905».
2 - في تنبيه الخواطر: يمشين .
3 ـ إمرأة غَنجة : حسنة الدل ، وقيل : الغنج ملاحة العينين «لسان العرب - غنج - 2 : 337».
وقيل : إن في الجنة حوراء يقال لها: العيناء، إذا مشت يمشي عن يمينهاويسارها سبعون ألف وصيفة، وهي تقول : أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟وقال آخر: ترك الدنيا شديد، وفوت الجنة أشد، وترك الدنيا مهرالاخرة.
وقال أيضاً: في طلب الدنيا ذلّ النفوس ، وفي طلب الجنة عز النفوس ، فياعجباً لمن يطلب الدنيا بذلّ النفوس والتعب ، ولا يطلب الاخرة بعز النفوس والراحة(1).
ابن بابويه ، عن محمد بن [ أبي](2) القاسم ، عن محمد بن علي الكوفي ، عن محمدأبن خالد، عن بعض رجاله ، عن داود الرقي ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر
قال: « قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ قالوا: بلىيا أميرالمؤمنين ، قال : من لم يقنّط الناس من رحمة الله ، ولم يؤمنهم من عذاب الله ، ولميرخص لهم في معاصي الله ، ولم يترك القرآن رغبة(3). ألا، لا خير في علم ليس فيهتفهم، الا، لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، الا، لا خير في عبادة ليس فيها تفقه» (4).
ونسئلكم الدعاء