ومحل الشاهد والاستدلال في هذه الاية كلمة (وَأَرْجُلَكُمْ) .
في هذه الكلمة ثلاثة قراءات، قراءتان مشهورتان: الفتح والجر (وَأَرْجُلَكُمْ) (وَأَرْجُلِكُمْ) ، وقراءة شاذّة وهي القراءة بالرفع: (وَأَرْجُلُكُمْ) .
القراءة بالرفع وصفت بالشذوذ، يقال: إنّها قراءة الحسن البصري وقراءة الاعمش، ولا يهمّنا البحث عن هذه القراءة، لانّها قراءة شاذّة، ولو أردتم الوقوف على هذه القراءة ومن قرأ بها،
فارجعوا إلى تفسير القرطبي ، وإلى أحكام القرآن لابن العربي المالكي وإلى غيرهما من الكتب، كتفسير الالوسي، وتفسير أبي حيّان البحر المحيط، وفتح القدير للشوكاني، يمكنكم الوقوف على هذه القراءة.
والوجه في الرفع (وَأَرْجُلُكُمْ) قالوا بأنّ الرفع هذا على الابتداء (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلُكُمْ) هذا مبتدأ يحتاج إلى خبر، فقال بعضهم: الخبر: مغسولة، وأرجلكم مغسولة، فتكون هذه الاية بهذه القراءة دالّة على وجوب الغسل.
لاحظوا كتاب إملاء ما منّ به الرحمن في إعراب القرآن لابي البقاء، وهو كتاب معتبر، هُناك يدّعي بأنّ كلمة (وَأَرْجُلُكُمْ) بناء على قراءة الرفع مبتدأ والخبر مغسولة، فتكون الاية دالّة على وجوب الغسل .
لكنّ الزمخشري وغير الزمخشري من كبار المفسّرين يقولون بأنّ تقدير مغسولة لا وجه له، لانّ للطرف الاخر أن يقدّر ممسوحة.
ومن هنا يقول الالوسي: وأمّا قراءة الرفع فلا تصلح للاستدلال للفريقين، إذ لكلّ أن يقدّر ما شاء، القائل بالمسح يقدّر ممسوحة والقائل بالغسل يقدّر مغسولة.
نرجع إلى القراءتين المشهورتين أو المتواترتين، بناء على تواتر القراءات السبع.
أمّا قراءة الجر (وَأَرْجُلِكُمْ) وجه هذه القراءة واضح، لانّ الواو عاطفة، تعطف الارجل على الرؤوس، الرؤوس ممسوحة فالارجل أيضاً ممسوحة (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) ، بناء على هذه القراءة تكون الواو عاطفة، والارجل معطوفة على الرؤوس، وحينئذ تكون الاية دالّة على المسح بكلّ وضوح.
أمّا بناء على القراءة بالنصب (وَأَرْجُلَكُمْ) الواو عاطفة، وأرجلكم معطوفة على محلّ الجار والمجرور، على محلّ رؤوسكم، ومحلّ رؤوسكم منصوب، والعطف على المحل مذهب مشهور في علم النحو وموجود، ولا خلاف في هذا على المشهور بين النحاة، وكما أنّ الرؤوس ممسوحة، فالارجل أيضاً تكون ممسوحة.
فبناء على القراءتين المشهورتين تكون الاية دالّة على المسح دون الغسل.
وهذا ما يدّعيه علماء الاماميّة في مقام الاستدلال بهذه الاية المباركة.
ولننظر هل لاهل السنّة أيضاً رأي في هاتين القراءتين أو لا ؟ وهل علماؤهم يوافقون على هذا الاستنتاج، بأنْ تكون القراءة بالنصب والقراءة بالجرّ كلتا القراءتان تدلاّن على وجوب المسح دون الغسل أو لا ؟
أمّا الاماميّة فلهم أدلّتهم، وهذا وجه الاستدلال عندهم بالاية المباركة كما قرأنا.
تجدون الاعتراف بدلالة الاية المباركة ـ على كلتا القراءتين ـ على وجوب المسح دون الغسل، تجدون هذا الاعتراف في الكتب الفقهيّة، وفي الكتب التفسيريّة، بكلّ صراحة ووضوح، وأيضاً في كتب الحديث من أهل السنّة، أعطيكم بعض المصادر: المبسوط في فقه الحنفيّة للسرخسي ، شرح فتح القدير في الفقه الحنفي ، المغني لابن قدامة في الفقه الحنفي، تفسير الرازي ، غنية المتملّي ، حاشية السندي على سنن ابن ماجة ، تفسير القاسمي.
هذه بعض المصادر التي تجدون فيها الاعتراف بدلالة الاية المباركة على كلتا القراءتين بوجوب المسح، وحتّى أنّ الفخر الرازي يوضّح هذا الاستدلال، ويفصّل الكلام فيه ويدلّل عليه ويدافع عنه، وكذا غير الفخر الرازي في تفاسيرهم.
وفي هذه الكتب لو نراجعها نرى أموراً مهمّة جدّاً:
الامر الاول:
إنّ الكتاب ظاهر ـ على القراءتين ـ في المسح على وجه التعيين.
الامر الثاني:
يذكرون أسماء جماعة من كبار الصحابة والتابعين وغيرهم القائلين بالمسح دون الغسل، وسنذكر بعضهم.
الامر الثالث:
إنّهم يصرّحون بأنّ الكتاب وإنْ دلّ على المسح، فإنّا نقول بالغسل لدلالة السنّة على الغسل.
فإذن، يعترفون بدلالة الكتاب على المسح، إلاّ أنّهم يستندون إلى السنّة في القول بوجوب الغسل.
لكنّ الملفت للنظر أنّهم يعلمون بأنّ الاستدلال بالسنّة للغسل سوف لا يتمّ، لوجود مشكلات لابدّ من حلّها وبعضها غير قابلة للحل، فالاستدلال بالسنّة على وجوب الغسل لا يتم، والاعتراف بدلالة الاية على وجوب المسح ينتهي إلى ضرورة القول بوجوب المسح، لدلالة الكتاب ولعدم دلالة تامّة من السنّة، حينئذ يرجعون ويستشكلون ويناقشون في دلالة الكتاب على المسح.
( من كتاب المسح على الرجلين في الوضوء
تأليف
السيّد علي الحسيني الميلاني )