كثير من الباحثين عندما وقف على هذه الفقرة فسرها بالعصمة، فقال أن النبي (
) أراد أن يبين للمسلمين أن فاطمة معصومةٌ من الخطأ والزلل فدل على العصمة بقوله ( يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ) إذ لا يتصور أن يناط رضا الله برضا شخصاً إلا إذا كان معصوماً ،ولكن عند التأمل في هذه الفقرة نجد أن المعنى الذي قصد بيانه بها معنى أعمق وأوسع من مقام العصمة، مقام العصمة أحد المقامات المنطوية تحت هذه الفقرة وتحت مضمونها إلا أن مغزاها ومعناها أعمق وأوسع من مسألة العصمة عصمة الزهراء(ع).
هذه الفقرة ترشد إلى مقام المرآتية أن ذات الزهراء (ع) مرآة لذات الله ، مقام المرآتية يتجلى لنا من خلال ثلاث وجوه:
الوجه الأول:
أننا إذا حللنا معنى الرضا سوف يتضح لنا من خلال توضيح معنى الرضا مرآتية ذات الزهراء لذات الله تبارك وتعالى، بيان ذلك:
الرضا رضا الإنسان بفعله ، إذا رضي الإنسان بفعله، إذا رضي الإنسان بفعلهِ مستبطن لعناصر ثلاثة :
1/ إرادة.
2/ أمر.
3/ رضا.
لا يمكن لشخصاً أن يرضى بفعله حتى تجتمع فيه هذه العناصر ، مثلاً:
عندما أقول أنا رضيت بصلاتي ، رضيت بعبادتي ، ما معنى رضيت بصلاتي ورضيت بعبادتي؟
رضاي بصلاتي وعبادتي تعني عناصر ثلاثة أولاً أردة هذه الصلاة، ثانياً أوجدت هذه الصلاة خارجاً، ثالثاً لما رأيت آثارها رضيت بها ، فهناك مراحل ثلاث ، لما علمت أن هذه الصلاة في مصلحتي دنياً و آخرة صممت عليها فهذه هي المرحلة الأولى مرحلة الإرادة.
المرحلة الثانية:
هي مرحلة إعمال القدرة و إيجاد هذه الصلاة ، أنا قمت بحركة أوجدت من خلالها الصلاة فهذه المرحلة الثانية.
المرحلة الثالثة:
لما رأيت آثارها على سلوكي وعلى تصرفاتي وعملي رضيت بها عبادةً ، إذن لا يمكن لإنسان أن يرضى بفعل حتى تجتمع العناصر الثلاثة الإرادة، و الأمر ثم الرضا، هذا أيضاً بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى فالكلام هو الكلام.
لا يمكن أن يرضى الله تبارك وتعالى بفعل جميل حتى تجمع عناصر ثلاثة إرادته تبارك وتعالى، ثم أمره ثم ثنائه على ذلك العمل الجميل، مثلاً الله تبارك وتعالى رضي بفعل علياً (ع) ما معنى أن الله رضي بفعل علياً؟ الله رضي بهذا الوجود الذي كله حياة وعطاء ، هذا الوجود الذي كله حياة و عطاء رضي به الله ، ما معنى رضي به ؟
معناه أولاً أراده ، وثانياً أمر به ، وثالثاً رضي به فرضا الله عن فعل و عن شخص و عن أي أمراً من الأمور رضاه تبارك وتعالى يستبطن عناصر ثلاثة إرادة ثم أمر ثم رضا يعني ثناء على ذلك العمل ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) الله أراد هذه البيعة ثم هيئ المقدمات و المعدات لتحقيق هذه البيعة فلما تحققت البيعة وتبين آثارها العظيمة الجميلة أثنى عليها وذلك رضاه بها.
إذن، رضاه بعمل جميل مسبوق بإرادته وأمره ثم تأتي مرحلة الرضا ألا وهي مرحلة ثناءه ، قال تبارك وتعالى ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ ) فهناك أرد ثم جاءت أمر ، يعني إذا علم بالمصلحة الفعلية في أمر من الأمور ، العلم بالمصلحة الفعلية هذا معنى الإرادة حسب المصطلح الفلسفي ، حسب المصطلح الفقهي أو المصطلح عند فقهائنا إرادته ( إيجاده ) ، حينما يعلم بالمصلحة الفعلية في شيئاً من الأشياء هو يعلم بتمام المصالح من الأزل من الأول ، لكن المصلحة الفعلية ( يعني أن الوقت مناسب للمصلحة الآن ) متى ما علم بالمصلحة الفعلية تحققت الإرادة يعقبها الأمر ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) فإذا كان رضي به ، فعندما يقول النبي محمد (
):
( فاطمة بضعة مني يرضى الله لرضاها ) يعني رضاها رضا الله ، النتيجة ماهي؟
كما أن رضا الله يستجمع إرادته و أمره وثناءه ، رضا فاطمة رضا الله أي أن فاطمة (ع) وعاء لإرادة الله ثم هي وعاء لأمر الله ثم هي وعاء لرضا لله تبارك وتعالى ، لا يتحقق رضا الله في أمراً إلا بعد مرحلتين ، مرحلة إرادته ومرحلة أمره.
إذن، لا يتحقق رضا فاطمة الذي هو رضا الله ، مرآة لرضا الله ، رضا فاطمة رضا الله ، ورضا الله يعني عناصر ثلاثة إرادته ، أمره ثم ثناءه ، فرضا فاطمة (ع) يعني ( اشتمالها على إرادة الله و أمر الله ثم اشتمالها على رضا الله وثناءه صلوات الله وسلامه عليها ) فإرادتها مظهرٌ لإرادة الله ، وأمرها مظهرٌ لأمر الله، ورضاها مظهرٌ لرضا الله، علمها مظهرٌ لعلمه، وولايتها التكوينية على هذا الوجود من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة مظهرٌ لولايته تبارك وتعالى ، ورضاها عن كل فعلاً جميل رضاه تبارك وتعالى.
إذن، كلمة ( يرضى الله لرضاها ) ليست بهذا المعنى العرفي البسيط وإنما هي تشير إلى جامعية الزهراء (ع) لإرادة الله وأمر الله و رضاه تبارك وتعالى.
هذا هو الوجه الأول
الوجه الثاني:
( يرضى الله لرضاها ) ، نحن نعلم أن الله تبارك وتعالى له صفات ذاتيه و فعليه.
صفاته الذاتية:
عين ذاته ، علم عين ذاته ، قدرته عين ذاته ، حياته عين ذاته هذه تسمى صفات ذاتية، الصفات الذاتية لا تتحقق في عالم المادة لأن عالم المادة محدود، والصفة الذاتية لو تحققت في عالم المحدود لكانت ذاته محدودة ، علمه عين ذاته فلا يمكن أن يتحقق علمه في عالم المادة ، عالم المادة مظهر لعلمه لا أنه علمه ، هذا الوجود المادي بل الوجود بأسره مادياً أو مجردً كل الوجود محدود لا محالة ، هذا الوجود المحدود مظهرٌ لعلمه و قدرته و حياته لا أنه علمه وقدرته وحياته ، هو لا محدود فلا يمكن أن يكون المحدود مجسداً للا محدود، هذا واضح.
أما صفاته الفعلية:
فتتحقق في عالم المادة لأن صفاته الفعلية هي فعله ، هي خلقه ، هي إفاضته و الخلق يمكن أن يكون محدوداً و يمكن أن يكون لا محدوداً ن بما أن صفاته الفعلية هي فعله و فعله يتجسد ، يتحقق في عالم المادة ، مثلاً: الشمس خَلقه ، أموالنا رزقه ، إماتتنا إماتته ، إحيائنا إحيائه ، أفعاله تتحقق في عالم المادة بنفسها سواءً كانت محدودة أو لا محدودة ، بعد أن نفرق بين الصفات الذاتية و الصفات الفعلية ، الصفات الذاتية لا تتحقق في عالم المادة ، الصفات الفعلية تتحقق في عالم المادة ، نأتي الآن و نقول:
ما يتحقق به صفاته الفعلية قد يكون محدوداً ضيقاً وقد يكون لا حد له من جهة المنتهى ، مثلاً: رحمة الأم بولدها وجنينها هي رحمة الله ، نفس الرحمة الإلهية ، هي رحمة الاهية ليست مظهر ، رحمته تبارك وتعالى أودعها في قلب الأم ، فرحمة الأم بولدها هي رحمة الله تبارك وتعالى.
رحمة الأستاذ بتلميذة هي رحمة الله تبارك وتعالى ، لكن هذه محققات محدودة ، رحمة الأم بولدها من جهة معينة وهي جهة الشفقة ، رحمة الأستاذ بتلميذة من جهة معينة وهي جهة العلم و التعليم ، ولكن هناك رحمة لله لا حد لها ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) أما رحمة محمد (
) فهي رحمة الله من دون حدٍ ومن دون قيد، جميع الخلق رحمه رحيمية ، رحمة الأم بولدها رحمة رحيمية و لكن رحمة النبي محمد (
) بالعالمين جميعاً بتمام أنحائهم و ألوانهم وأنواعهم رحمته رحمةٌ رحمانية لله تبارك وتعالى، رحمته هي المجسدة للرحمة العامة لله تبارك وتعالى في عالم التشريع و عالم التكوين .
أيضاً الرضا ، الرضا من صفاته الفعلية ، إذن يتحقق في عالم المادة ، رضا الوالدين عن ولدهما رضا الله، ولكن رضاً محدود، رضا الأستاذ عن تلميذه من حيث مستواه رضا الله لكنه رضاً محدود، وهناك مجسدٌ لرضا الله لا حد له ، من هو الذي يجسد رضاه رضا الله لا حد له؟
( فاطمة بضعة مني يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ) أي أن رضاها (ع) محققٌ لرضا الله بنحو لا حد له ولا أمد له ، رضاه بتمام تفاصيله و مراحله ومراتبه متحققٌ في رضا فاطمة (ع).
إذن فبالنتيجة ، هذا لا يتصور و لا يتعقل إلا إذا كانت فاطمة مرآة لله ، ذاتها مرآة لذات الله ، لذالك كان رضاها محققاً لرضا الله بتمام صوره و مراحله وألوانه.
للموضوع بقية .................