كان لابد من بداية لحديثي مع الإمام علي بن أبي طالب، فاستأذنته بسؤالي الأول :
سيدي أمير المؤمنين . ما قولك عن الزمان الرديء الذي تعيشه أمتك ؟
( يأتي على الناس زمان لا يقرّب فيه إلاّ الماحل . ولا يظرّف فيه إلاّ الفاجر، ولا يضعف فيه إلاّ المنصف . يعدون الصدقة فيه غُرما . وصلة الرحم مَنّا ، والعبادة استطالة على الناس . فعند ذلك يكون السلطان بمشورة النساء وإمارة الصبيان وتدبير الخصيان (...لكن) إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان ) .
لكن كيف يواجه المرء، يا أمير المؤمنين، آلة الحكم وسلطان الحاكم والوضع العربي كما نعرفه اليوم عاجز ومشلول ؟
(لا خير في الصمت عن الحكم كما أنه لا خير في القول بالجهل ).
لم يعد الجور يا سيدي محصوراً فقط بشخص الحاكم ، فالناس جميعهم يتسابقون إلى الاستبداد ببعضهم البعض !
( أفضلُ الولادة مَن بقي بالعدلِ ذِكره ، واستمدَّه مَن يأتي بعده . (...و) السلطانُ الفاضلُ هو الذي يحرسُ الفضائل ، ويجودُ بها لَمن دونَه ، ويرعاها مِن خاصَّته وعامَّتِه ، حتى تكثُر في أيامه ، ويتحسَّن بها مَن لم تكن فيه . (...لكن ) زمانُ الجائِر من السلاطينِ والوُلاة أقصر من زمان العادل . لأن الجائرَ مُفسِد ، والعادلَ مُصلِح ، وإفسادُ الشيء أسرَع من إصلاحِه . (...إنما) عجباً للسلطان ، كيفَ يُحسِن وهو إذا أساءَ وَجد مَن يُزكَّيه ويَمدحُه ) .
ما زلنا ـ بعد كل هذه الأعوام ـ رعايا في دول سلاطين بعكس ما هو مدون في الدساتير والقوانين .
فماذا ينصح خير السلف، الضحايا من الخلَف ، خصوصاً أن الجامعات الحديثة لا تدرّس الرعايا أساليب التصرف مع السلاطين ؟
(صاحب السلطان كراكب الأسد يغبَطُ بموقعه وهو أعلم بموضعه (...و) أضرُّ الأشياء عليك أن تُعلِمَ رئيسَك أنَّك أعرف بالرياسة منه . (... و)اصبر على سلطانك في حاجاتك ، فلست أكبر شغله ، ولا بكَ قِوامُ أمره . (..أما) إذا قعدت عند سلطان فليكن بينك وبينه مقعدُ رجل ، فلعلَّه أن يأتيه مَن هو آثرُ عنده منك ، فيُريدَ أن تتنحَّى عن مجلسك ، فيكون ذلك نقصاً عليك وشيناً . (...و) إذا خدمتَ رئيساً فلا تلبَس مثلَ ثوبه ، ولا تركب مثلَ مركوبه ، ولا تستخدم كخدمه، فعساك تسلم منه . (...و) إذا زادك الملك تأنيساً، فزِدهُ إجلالاً) .
يا أمير المؤمنين ، الشعب العربي مبتلٍ بدوله وحكامه وإلى الآن لم تنفع كل العلاجات فما العمل ؟
( صوابُ الرأي بالدول : يُقبلُ بإقبالها ، ويذهب بذهابها . (...و) إزالةُ الجبال أسهل من إزالةِ دولةٍ أقبلت ، فاستعينوا باللهِ يورثها من يشاء . (...لكن) أشرفُ الملوك مَن لم يُخالطه البَطَر ، ولم يحُل عن الحق .(...و) أصحاب السلطانِ ـ في المَثَل ـ كقَوم رَقُوا جبلاً ثمَّ سقَطوا منه ، فأقربُهُم إلى الهَلَكةً والتَّلفِ أبعدُهُم كان في المُرتَقَى) .
يطالب السلطان بالعدل فيردُّ بضيق الصدر، فما هو الدواء ؟
( آلة الرياسة سعة الصدر (...و) من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق ) .
ما هي يا سيدي أمير المؤمنين، المزايا التي على الحاكم أن يتجنبها ؟
( لا ينبغي أن يكون الوالي (...) البخيل ، فتكون في أموالهم نهمته . ولا الجاهل ، فيضلهم بجهله ، ولا الجافي ، فيقطعهم بجفائه ، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم . ولا المرتشي في الحكم ، فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ) .
وماذا عن العدو ؟
( إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه ) .
لم نقدر على إسرائيل يا سيدي الإمام، لكننا نعيش عصر التطبيع معها فهل نصالح ؟
( لا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى . فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك . ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه ، فإن العدو ربما قارب ليتغفل ، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن ) .
أين الوطن يا سيدي الإمام ، وقد أصبحنا كلنا نعيش في غربة قاسية ؟
( ليس بلد بأحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك . (...) الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة ) .
إنهم يزيّنون لنا الفقر يا أمير المؤمنين ، في عصر الغنى العربي .
( ألم أقل لابني محمد بن الحنفية : يا بُني إني أخاف عليك الفقر فاستعذ بالله منه ، فإن الفقر منقصة للدين ، مدهشة للعقل داعية للمقت (...) الفقر هو الموت الأكبر (...) ولو كان الفقر رجلاً لقتلته ) .
لقد شح عطاؤنا يا أمير المؤمنين ، حتى يوم كثر مالنا .
( لا تستح من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه . (...) ومن كثرت نِعَمُ الله عليه كثرت حوائج الناس إليه . (..) إن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ، ويكرّمه في الناس ويهينه عند الله . (...لكن) ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى .(...) فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له ) .
لكن الحاجة تدفع إلى الطلب أحياناً كثيرة يا سيدي الإمام ؟
( إن حفظ ما في يديك أحب إليّ من طلب ما في يد غيرك . ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس ) .
نرى صاحب المال يطمع بالمزيد منه !
( الطمع رق مؤبد ) .
ما الفرق بين العاقل والأحمق يا أمير المؤمنين ؟
( لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه ) .
ماذا عن الأحمق ؟
( إنه إن ينفعك يضرك ) .
والفاجر؟
( فإنه يبيعك بالتافه ) .
والكذاب ؟
( فإنه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعّد عليك القريب ) .
أليس من الصعب الحكم على النوايا يا سيدي الإمام ؟
( ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه ) .
لقد اختلط عندنا الحق بالباطل فكيف نميّز بينهما ؟
( الباطل أن تقول سمعت والحق أن تقول رأيت (...و) الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى كل داخل في باطل إثمان : إثم العمل به وإثم الرضى به . (...و) مَن صارع الحق صرعه ) .
الكلام عن الظلم كثير يا سيدنا ، أين يبدأ وأين ينتهي ؟
(أُذكر عند الظلم عدل الله فيك ، وعند القدرة قُدرة الله عليك ) .
لقد أصبح الظلم من معالم أمتك يا سيدي الإمام . فكيف المنتهى ؟
( الظلم ثلاثة : ظلم لا يُغفر ، وظلم لا يُترك ، وظلم مغفور لا يُطلب . (...و) يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم . (...و) يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم ) .
الفوضى كبيرة يا مولاي ، فالحر يُذلّ والأوغاد يرفع شأنهم وينالون الحظوة فأين العدل ؟
( العدل أفضل من الشجاعة ، لأن الناس لو استعملوا العدل ـ عموماً ـ في جميعهم ، لاستغنوا عن الشجاعة . (...و) عاملوا الأحرار بالكرامة المحضة ، والأوساط بالرغبة والرهبة ، والسّفلة بالهوان ) .
يعيش العالم المتحضر يا أمير المؤمنين في عصر العلم ، بينما نحن نعيش في عصر السحر والشعوذة المتستر بالدين فماذا تقول ؟
( تعلَّموا العلمَ صغاراً ، تسودوا به كباراً ، تعلموا العلمَ ولو لغير الله ، فإنه سيصير لله . (...و) تعلَّموا العلم ، وإن لم تنالو به حظاً ، فلئن يُذمَّ الزمان لكم .. أحسن مِن أن يُذمَّ بِكم . (...و) العالمُ مصباح الله في الأرض ، فمن أراد الله به خيراً اقتبس منه ) .
ما الفرق بين العالم والجاهل ؟
( أول رأي العاقل ، آخر رأي الجاهل . (...و) الجاهل صغير وإن كان شيخاً ، والعالم كبير وإن كان حدثاً . (...لكن) العالم من عرف أن ما يُعلَم في جنب ما لا يعلم قليل ، فعدَّ نفسه بذلك جاهلاً ، بما عرف من ذلك في طلب العلم اجتهاداً . والجاهل من عدَّ نفسه بما جهل في معرفة العلم عالماً ، وكان برأيه مكتفياً ) .
أيهما يفضل على الآخر العلم أم المال يا سيدي ؟
( العلم خير من المال . والعلم يحرسك وأنت تحرس المال . المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق .
العلم حاكم والمال محكوم عليه . (...) إن المال من غير علم كالسائر على غير طريق ) .
ليس كل ما يحدث من ظواهر دينية في العالم العربي ، ينطلق من الدين حقاً . هل تشاركني الرأي يا سيدي ؟
(إن أخوف الأشياء على هذه الأمة من الدَّجّال ، أئمة مضلون ، وهم رؤساء أهل البدع . (...و) إن كلام الحُكماء إذا كان صواباً كان دواء ، وإذا كان خطأ كان داء . (...) إحذر التَّلون في الدين ) .
أحوال العبادة في عالمنا قد ساءت يا سيدي الإمام . لم نعد ندري الصواب في عبادة الناس اليوم يا أمير المؤمنين ، ووراء أي إمام نصلّي ؟
(إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار . وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد . وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار ) .
أين حكمة أغنيائنا اليوم ، ونحن نعيش في عصر هدر المال العربي ؟
( إنما لم تجتمع الحكمة والمال ، لعزة وجود الكمال . (...و) أنت مخيرٌ في الإحسان إلى من تُحسن إليه ، ومرتهن بدوام الإحسان إلى مَن أحسنت إليه ، لأنك إن قطعته فقد أهدرتَه ، وإن أهدرتَه .. فلم فعلته ! (... لكن) شاركوا الذي قد أقبل عليه الرزقُ ، فإنه أخلقُ للغنى ، وأجدر بإقبال الحظ عليه ) .
إن المال أفسد حياتنا ، وقد تكالب الناس عليه ، يا سيدي . فماذا ترى ؟
( ثلاث يُؤثِرون المال على أنفسهم : تاجر البحر ، وصاحب السلطان ، والمُرتشي في الحكم . (...) إن الله ـ سبحانه ـ فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلاّ بما مُتِّع بع غني . والله تعالى سائلهم عن ذلك ) .
لقد مررنا يا خليفة رسول الله على مواضيع شتى ولكننا لم نتطرق من قريب أو بعيد على البخل والبخلاء .
لا شك أن لك آراء واضحة في هذا المجال ؟
( إياك ومصادقه البخيل، فإنه يقعد بك عند أحوج ما تكون إليه . (...و) البخل جامع لمساوىء العيوب ، وهو زمام يُقاد به إلى كل سوء . (...و) البخيل مستعجل الفقر : يعيش في الدنيا عيشَ الفقراء ، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء ) .
ما الفرق بين البخيل والسخي يا أمير المؤمنين ؟
( البخيل يسخو من عِرضه بمقدار ما يبخَل به من ماله ، والسَّخيُّ يبخَل من عِرضه بمقدار ما يسخو به من ماله . (...و) السَّخيُّ شجاع القلب ، والبخيل شجاع الوجه . (...و) البُخل عار ) .
كيف نعرف الجاهل والمهان والذي تجوز عليه الرحمة يا أمير المؤمنين ؟
( الجاهل يُعرف بست خصال: الغضب من غير شيء ، والكلام في غير نفع ، والعطيَّة في غير موضعها ، وألاّ يعرف صديقه من عدوِّه ، وإفشاء السِّرِّ ، والثقة بكل أحد . (...و) ثمانية إذا أُهينوا فلا يلومون إلاّ أنفسهم : الآتي طعاماً لم يُدعَ إليه ، والمتأمِّر على رب البيت في بيته ، وطالب المعروف من غير أهله ، والدَّاخل بين اثنين لم يُدخلاه ، والمُستخِفُّ بالسلطان ، والجالس مجلساً ليس له بأهل ، والمُقبل بحديثه على من لا يسمعُه ، ومَن جرَّب المُجرَّب . (...لكن) ثلاثة يُرحمون : عاقل يجري عليه حكم جاهل ، وضعيف في يد ظالم قوي ، وكريمُ قوم احتاج إلى لئيم ).
هناك خيط رفيع بين الذل والكرامة. أليس كذلك يا إمام؟
( زهدُك في راغب فيك ، نقصان حظٍّ ، ورغبتُك في زاهد فيك ذلُّ نفس . (...و) التَّذلُّل مسكنة . (...لكن) التواضع إحدى مصايد الشَّرف ) .
الكآبة سمة من سمات هذا العصر، فما هي أسبابها ؟
( ستة لا تُخطئُهم الكآبة : فقير حديثُ عهد بغنى ، ومكثرٌ يخاف على ماله ، وطالب مرتبة فوق قدره ، والحسود ، والحقود ، ومخالط أهل الأدب ، وليس بأديب ) .
ماذا عن إقبال الدنيا وإدبارها يا سيدي الإمام ؟
( إذا أقبلت الدنيا على أحد ، أعارته محاسن غيره ، وإذا ادبرت عنه سلبته محاسن نفسه . (... و) وإذا أيسرتَ فكل الرجال رجالك ، وإذا أعسرتَ أنكركَ أهلك (...و) إن كنت جازعاً على ما يفلتُ من يديك ، فاجزع على ما لم يصل إليك . (...و) إذا أراد الله أن يسلط على عبد عدواً لا يرحمه سلَّط عليه حاسداً ) .
لقد صَعُبَت الكتابة علينا هذه الأيام ، يا إمام ؟
( تأمَّل ما تتحدَّث به ، فإنما تُملي على كاتبيك صحيفة يُوَصِّلانها إلى ربك ، فانظر : على من تُملي ، وإلى من تكتب ؟
ما هو الدليل إلى العمل الصالح في عهود الفساد ؟
(إحذر كل عمل يعمل به في السر ويستحى منه في العلانية . واحذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره أو اعتذر منه ) .
إننا نعيش زمن الهزائم المّرة والمتكررة ، فما العمل ؟
( الدهر يومان : يوم لك ويوم عليك . فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصبر ) .
الجميع بات يعتقد أن التردي الحالي عائد إلى خلل في التكوين العربي ؟
( من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن ) .
في صراعاتنا العربية عدنا إلى العصبية الجاهلية وداحس والغبراء فهل من نصيحة ؟
( من كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق ) .
لقد أصبحنا اليوم كأمة من غير أصدقاء ؟
( أعجزُ الناس من عجز عن اكتساب الأخوان ، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم . (...لكن) لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك ) .
هل ثمة أمل بعد كل هذا يا أمير المؤمنين ؟
( من وثق بماء لم يظمأ ) .
ألا من مسك ختام لحديثنا هذا يا سيدي أمير المؤمنين ؟
( ما أكثر العبر وأقل الاعتبار ) .
+++++++++++++++++
انتهت المقابلة .