اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
لا تحاسد بين علماء الآخرة و العارفين
الاسباب المذكورة انما تكثر بين اقوام تجمعهم روابط يجتمعون لاجلها في مجالس المخاطبات و يتواردون على الاغراض، فاذا خالف بعضهم بعضا في غرض من اغراضه، ابغضه و ثبت فيه الحقد، فعند ذلك يريد استحقاره و التكبر عليه، و يكون في صدد مكافاته على المخالفة لغرضه، و يكره تمكنه من النعمة التي توصله الى اغراضه، فيتحقق الحسد. و لذا ترى انه لا تحاسد بين شخصين في بلدتين متباعدتين، لعدم رابطة بينهما، الا اذا تجاورا في محل واحد، و تواردا على مقاصد تظهر فيها مخالفة بينهما فيحدث منهما التباغض، و تثور منه بقية اسباب الحسد. و ترى كل صنف يحسد مثله دون غيره، لتواردهما على المقاصد، و تراحمهما على صنعة واحدة فالعالم يحسد العالم دون العابد، و التاجر يحسد التاجر دون غيره، الا بسبب آخر سوى الاجتماع على الحرفة، و هكذا يغم من اشتد حرصه على حب الجاه و احب الصيت و الاشتهار في جميع اطراف العالم و شاق التفرد بما هو فيه، فانه يحسد كل من في العالم ممن يشاركه في الفن الذى يتفاخر به.
ثم منشا جميع ذلك حب الدنيا، اذ منافعها لضيقها و انحصارها تصير محل التزاحم و التعارك، بحيث لا يمكن وصول منفعة منها، كمنصب او مال الى احد الا بزوالها عن الآخر. و اما الآخرة، فلا ضيق فيها، فلا تنازع بين اهلها. و مثالها في الدنيا العلم، فانه منزه عن المزاحمة، فمن يحب العلم بالله و صفاته و افعاله و معرفة النظام الجملى من البدو الى النهاية لم يحسد غيره اذا عرف ذلك ايضا. اذ العلم لا يضيق عن كثرة العالمين، و المعلوم الواحد يعرفه الف الف عالم، و يفرح كل واحد منهم بمعرفته و يلتذ به، و لا ينقص مالديه بمعرفة غيره، بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الانس و ثمرة الافادة و الاستفادة. اذ معرفة الله بحر واسع لا ضيق فيه، و كل علم يزيد بالانفاق و تشريك غيره من ابناء النوع، يصير منشا لزيادة اللذة و البهجة، و قس على العلم التقرب و المنزلة عند الله و غيرهما من النعم الاخروية. فان اجل ما عند الله من النعم و اعلى مراتب المنزلة و القرب عنده تعالى لذة لقائه، و ليس فيها ممانعة و مزاحمة، و لا يضيق بعض اهل اللقاء على بعض، بل يزيد الانس بكثرتهم.
و قد ظهر مما ذكر: انه لا تحاسد بين علماء الآخرة، لانهم يلتذون و يبتهجون بكثرة المشاركين في معرفة الله و حبه و انسه، و انما يقع التحاسد بين علماء الدنيا، و هم الذين يقصدون بعلمهم طلب المال و الجاه. اذ المال اعيان و اجسام، اذا وقعت في يد واحد خلت عنها ايدى الآخرين. و الجاه ملك القلوب، واذا امتلا قلب شخص بتعظيم عالم، انصرف عن تعظيم الآخر، او نقص عنه لا محالة، فيكون ذلك سببا للتحاسد. و اما اذا امتلا قلبه من الابتهاج بمعرفة الله، لم يمنع ذلك من ان يمتلىء غيره به.
فلو ملك انسان جميع ما في الارض، لم يبق بعده مال يملكه غيره لضيقه و انحصاره. و اما العلم فلا نهاية له، و مع ذلك لو ملك انسان بعض العلوم لم يمنع ذلك من تملك غيره له.
فظهر ان الحسد انما هو في التوارد على مقصود مضيق عن الوفاء بالكل، فلا حسد بين العارفين و لا بين اهل العليين، لعدم ضيق و مزاحمة في المعرفة و نعيم الجنة، و لذا قال الله سبحانه فيهم:
«و نزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين .
بل الحسد من صفات المسجونين في سجن السجين.
فيا حبيبي، ان كنت مشفقا على نفسك، طالبا لعمارة رمسك، فاطلب نعمة لا مزاحمة فيها، و لذة لا مكدر لها. و ما هي الا لذة معرفة الله و حبه و انسه، و الانقطاع الى جناب قدسه، و ان كنت لا تلتذ بذلك، و لا تشتاق اليه، و تنحصر لذاتك بالامور الحسية و الوهمية، فاعلم ان جوهر ذاتك معيوب، و عن عالم الانوار محجوب، و عن قريب تحشر مع البهائم و الشياطين، و تكون مغلولا معهم في اسفل السافلين. و مثلك في عدم درك هذه اللذة، مثل الصبى و العنين في عدم درك لذة الوقاع. فكما ان هذه اللذة يختص بادراكها رجال اصحاء، فكذلك لذة المعرفة يختص بادراكها:
و لا يشتاق غيرهم اليها، اذ الشوق بعد الذوق، فمن لم يذق لم يعرف، و من لم يعرف لم يشتق، و من لم يشتق لم يطلب، و من لم يطلب لم يدرك، و من لم يدرك كان مطرودا عن العليين، ممنوعا عن مجاورة المقربين، محبوسا مع المحرومين في اضيق دركات السجين.
«رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله» «و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قريين) .