اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم واللعن أعدائهم .
الغيب والشهادة لغة واصطلاحا ونسبة بينهما
لا يختلف معنى الغيب والشهادة في الاصطلاح القرآني والروائي عمّا هو في المفاهيم اللغويّة.
قال الراغب الأصفهاني: «الغيب مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين، يُقال غاب عنّي كذا، قال تعالى: (أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ)(النمل: 20)، واستعمل في كلّ غائب عن الحاسّة وعمّا يغيب عن علم الإنسان بمعنى الغائب». وقال ابن منظور: «الغيب: كلّ ما غاب عنك».
ولا فرق بين أن يكون الغائب عن المشاعر والحواسّ ماضياً أو في الحال أو الاستقبال، ويدلّ على الأوّل قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) (آل عمران: 44)، الوارد في قصّة زكريا ومريم عليهما السلام، وعلى الثاني قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة: 3)، وقوله: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) (سبأ: 14) وقوله حكايةً عن إخوة يوسف: (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) (يوسف: 81). وأمّا الثالث فهو المتيقّن من الغيب.
وأمّا الشهادة فهو الحضور؛ قال الراغب: «الشهادة هي الحضور مقترناً بالمشاهدة، سواء بالعين الظاهرة أو بعين البصيرة».
وبنفس هذا المعنى جاء في النصّ القرآني كقوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) (الرعد: 9).
قال الآلوسي: «عالم الغيب أي الغائب عن الحسّ، والشهادة: أي الحاضر له». وقال الطباطبائي: «الغيب خلاف الشهادة، وينطبق على ما لا يقع عليه الحسّ».
فما قيل من اختصاص الغيب بما لم يكن وسيكون ضعيف، والاستدلال عليه بما ورد «عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله في قول الله عزّ وجلّ: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) الغيب ما لم يكن، والشهادة ما قد كان» لا يدلّ على الاختصاص بل على الاستعمال.
الغيب والشهادة أمران إضافيّان
إنّ الغيب والشهادة من المعاني الإضافيّة، فإنّ الشيء الواحد قد يكون غيباً بالنسبة إلى شيء لأنّه خارج عن دائرة رؤيته ومعرفته، ويكون نفس ذلك الشيء شهادة لآخر لأنّه مشهودٌ له. ومردّ ذلك إلى كون الأشياء لها حدود لا تنفكّ عنها، فما كان خارجاً عن حدّ الشيء لا يكون مشهوداً له فيكون غيباً بالنسبة إليه، وما كان داخلاً في حدّ الشيء فهو شهادة بالنسبة إليه ومشهودٌ له.
من قبيل ما يجري في فكر الإنسان فهو شهادة بالنسبة لذلك الإنسان وغيب لآخر، ومن قبيل عالم البرزخ فهو غيب بالنسبة للإنسان الذي يعيش في دار الدُّنيا وشهادة لمن انتقل من هذه النشأة إلى نشأة البرزخ. كذلك علم الله تعالى بذاته فهو شهادة بالنسبة إليه تعالى وغيب بالنسبة لباقي مخلوقاته.
إذن الغيب والشهادة من المعاني الإضافيّة النسبيّة بقياس الأشياء بعضها إلى بعض.
ومن أهمّ النتائج المترتّبة على هذه الحقيقة، أنّه لا يوجد هناك شيء يكون غيباً بالنسبة له تعالى، وذلك لأنّه بعدما ثبت في أبحاث التوحيد أنّ الله تعالى عالم بكلّ شيء ومحيط بكلّ شيء، لا يشذّ عن علمه شيء من الأشياء، فلا يقع شيء خارج عن علمه، فعلى هذا فلا معنى لأن يكون شيء من الأشياء غيباً بالنسبة إليه تعالى، فكلّ ما هو موجود فهو داخل في دائرة إحاطته وإن فرض أنّ ذلك الشيء غيب بالنسبة إلى غيره؛ قال تعالى: (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (فصّلت: 54)، وقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة: 231)، وقال: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النساء: 176)، وقال: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنعام: 101).
وبحسب الاصطلاح المنطقي لا يتّصف الحقّ تعالى بأنّه عالم الغيب; لأنّه لا يوجد بالنسبة إليه غيب أصلاً، فيكون نفي العلم بالغيب عنه من باب السالبة بانتفاء الموضوع، لذا نقل الآلوسي عن البعض أنّه قال: «إنّه سبحانه لا يعلم الغيب على معنى أن لا غيب بالنسبة إليه جلّ شأنه».
من هنا قد يُقال: إذن ما معنى إطلاق القرآن عليه تعالى بأنّه «عالم الغيب» وأنّه تعالى: (عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (سبأ: 48)؟ والجواب: أنّ ذلك ليس وصفاً بحال نفس الموصوف، بل هو وصف بحال متعلّق الموصوف، بمعنى أنّ شيئاً ما إذا كان غيباً بالنسبة إلى بعض مخلوقاته وغير مشهود له،
فهو معلوم له تعالى بنحو الشهادة والحضور، وعليه فكلّ شيء سواء كان غيباً أو شهادةً بالنسبة إلى مخلوقاته فهو شهادة بالنسبة إليه تعالى، قال في الميزان: «فيصير معنى قوله (عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أنّ الذي يمكن أن يعلم به أرباب العلم وهو الذي لا يخرج عن حدّ وجودهم والذي لا يمكن أن يعلموا به لكونه غيباً خارجاً عن حدّ وجودهم، هما معاً معلومان مشهودان له تعالى لإحاطته بكلّ شيء».