ونحن في هذه البقعة المباركة من الأرض التي يتمنىالكثير من المسلمين في العالم أن يشهدوها في هذه المناسبة حيث أيام الحج الأكبر ،لابد لنا أن نعرف أين نحن ، وما هذه البقعة ، وما هو شرفها ، ولماذا جمعنا الله سبحانه وتعالى من آفاق الأرض فيها ، وقبل ذلك ، لابد من معرفة السر الذي دفع ابراهيم الخليل إلى أن يضع من ذريته ؛ زوجته هاجر وابنه إسماعيل في هذه البقعة الجرداء .
أولاً وقبل كل شيء ؛ لابد من التذكير بأن هذه البقعة قد شُيّدت على ذكر الله وتوحيده وخلوص العبادة له ، فحينما كان النبي إبراهيم يحمل الأحجار ويجعل بعضها فوق بعض ، وبينما كان النبي إسماعيل يساعده في ذلك ، كان يقف على الصخرة المسماة بمقام إبراهيم ، والتي يشاهدها الحاج وقد انطبع عليها أثر قدمي إبراهيم .
وهذه الصخرة كان منصفاتها الانتقال من مكان إلى آخر ،
وبلطف من الله كانت ترتفع وتنخفض ، حيث يريدالنبي إبراهيم . فهذا المقام كان منذ البدء محطاً لذكر الله ووحدانيته وألطافه .
ثانياً ؛ أن لهذه البقعة المباركة أن الله سبحانه وتعالى قد جعل أفئدة من الناس تهوي إليه وتثوب نحوه ، فترى الناس إذا ما عادوا من البيت الحرام يرغبون بالرجوع إليه مرة أخرى .
فقد يأتي الحاج ـ أول ما يأتي ـ وهو لا يعرف إلى أين جاء ،ولكنه حينما يعود إلى أهله يحس في نفسه شوقاً عارماً إلى تجديد العهد مع البيت وصاحب البيت في مكة المكرمة والديار المقدسة عموماً .
وهذا الأمر بحد ذاته يدعو من رزقه الله نعمة الحج إلى المزيد من الشكر على هذه النعمة ، إذ ليس بالقضية البسيطةأن يختاره الله لضيافته وكرمه ، وضيافته وكرمه الرضوان والجنة .
ثالثاً ؛ أن الحاج إنما قدم إلى هذه البقة المباركة ليغفر الله ذنوبه ويطهر قلبه ويجعله من عباده المخلصين .
وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق أنه سأله رجل في المسجد الحرام ؛ من أعظم الناس وزراً؟
فقال : " من يقف بهذين الموقفين؛ عرفة والمزدلفة ، وسعى بين هذين الجبلين ، ثم طاف بهذا البيت ، وصلى خلف مقام إبراهيم ، ثم قال في نفسه وظن أن الله لم يغفر له ، فهو من أعظم الناس وزراً " [2]فلا يجدر بالحاج أن يشك في ضيافة الله ورحمته التي تتنزّل عليه وهو يؤدي مناسكه .
فعليه ـ والحال هذي ـ أن يزيح عن نفسه حجب الشرك والشك والحسد والبغضاء والتكبر والفواحش ؛ ما ظهرمنها وما بطن .
وليحاول من جهة أخرى الوصول إلى نور الله ، حيث استشعار اللذة في العبادة وتلمّس رضوان الله الأكبر . وليتذكر كل واحد منا أثناء تلكم اللحظات العرفانية ما جاء على لسان الإمام زين العابدين في مناجاته الشعبانية ،حيث يقول : "… وأنرْ أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلَّقة بعز قدسك…" [3] .
من هنا حاولوا حثيثاً أن تصلوا في أيامحجّكم إلى لحظة العبادة الحقيقية ، لتتفتح قلوبكم على نور الله ولو للحظة واحدة . وإذا ما وصلتم وأحسستم بتلك العبادة ، فاعلموا أن توبتكم قد قبلت ، وأن مستقبلكم مضمون ، حيث تعودون إلى أهليكم فتزودهم من نور الله الذي اختاركم لحمله من بين الناس . فنور الله شيء عظيم تعجز الألسن عن وصفه ، ولا يمكنني شرح مواصفاته مهما بذلت من جهد وبأيّ لسان تحدثت ، ولكن كل ما يسعني قوله هو أن لذة الشعور باستقرارهذا النور في قلب الإنسان المؤمن أعظم بكثير من لذة الحياة كلها ، بما فيها لذةالأموال والأولاد والشهوات . ففي لذة النور معرفة الله ، ولمس الحقيقة الأزلية[4] .