اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
الغربة في بلاد الأحبة
جلست إلى زوارها، ومن جاء ليطمأن على سلامة وصولها. وطلبت من ابنتها إحضار صينية معدة، لإكرام الضيوف. عليها بعض ما استطاعت إحضاره، من حلويات ومكسرات إيرانية. أخذت تقدمها إليهم، وهي تقص عليهم محنتها، وما قاسته في رحلتها. وهم مبهورين، مشدودة عيونهم وأعصابهم نحوها. كأنهم يستمعون، إلى قصص ألف ليلة وليلة. وهي مرة تبكي، فتنهمر دموعها على وجنتيها انهارا، لهول ما أصابهما. وأخرى تضحك كأنها فقدت عقلها، حتى تنقلب على قفاها. فرحة - تحمد الله - على سلامة وصولهما، رغم فظاعة ما مرتا به.
في العقد الأخير، من أربعينية عمرها. تنهش جسمها الأمراض، وتنتهب أعضائها الآلام. قررت الذهاب لزيارة مراقد آل البيت(ع) - والسياحة في الربوع الإيرانية. قبل أن تزداد آلامها وأمراضها، ويزداد جسمها ثقلا وترهلا. فلا تستطيع الحركة، ويصعب حملها ونقلها.
لم يستطع زوجها مرافقتها، لأسباب شخصية. فشاركتها أختها الفكرة، وشجعت كل منهما الأخرى. أخذتا ابنتيهما، لتكونان لهما ردءا ومعينا. وتقدموا إلى احد حملات السفر والسياحة، كانت احدهما قد رافقتها لأداء فريضة الحج في عام سابق. لها الكثير من الإعلانات الدعائية، على احد القنوات الفضائية المشهورة. وعلى مدار الساعة، تنشر مميزاتها وخدماتها الكثيرة.
وتشجعن وسلمن جوازاتهن، لعمل تأشيرات السفر. ورجعن تغمرهن البهجة، يتطلعن بشوق إلى ذلك اليوم. كأنما قد وعدن جنة الخلد، وملك لا يبلى.
بعد فترة قصيرة اتصل احد مسئولي الحملة، معتذرا لفقدان جواز سفر أبنت أختها. فتنازلت أختها عن السفرة. لكنها لم تتردد، خوف ضياع الفرصة، أو عدم توفرها في فترة لاحقة. أما لقصور مادي، أو لعجز معنوي. فحزمت حقائبها، واستعدت للمغادرة مع ابنتها. وأوصلهما زوجها إلى مطار، وغادرتا إلى البحرين. خلال رحلتهما، لم يلاحظا وجود من عليه غبار الزيارة غيرهما. ولا وجود لأي من كوادر الحملة المزعومين، لا معهما ولا في انتظارهما. وكل من كان حولهما رجال أعمال، ومن جنسيات مختلفة.
بعد أربع ساعات، وهما وحيدتان تنتظران، غادرتا إلى طهران. فتجدد أملهما بوجود من يستقبلهما، في تلك الديار الغريبة. ديارا أول مرة تزورها، وحدها ودون زوجها. وعند وصولهما وجدتا الكثير من الزوار، في حركة دءوبة. فتمنتا أن تكونان ضمنهما، فتنتهي محنتهما. أخذت تلك المجموعات في المغادرة، وحدة تلو أخرى. دون أخذهما معهم، أو الالتفات إليهما - أو الإحساس بغربتهما. فازداد خوفهما، وركبتهما الهموم والغموم.
انتهزت الفرصة قبل خلو المكان، ممن يمكنه أن يتكلم لغتهما. سألت احد الزوار، والخوف يتلبس جسمها، فاخذ يرتعش وينتفض. كورقة على شجرة، تتخطفها الريح في يوم عاصف: هل تعرف هذه الحملة المدون اسمها على تذكرة الحجز؟ جاءها الجواب كالصاعقة من السماء، وقعت على شجرة في وسط فلاة فأحرقتها. هذه الحملة غير معروفة - وغير مألوفة لدينا. اسقط في يدها، ولم تعرف ما ينبغي عليها عمله. وغادر آخر فرد، فسلمت أمرها إلى الله. لعله أن يحدث بعد ذلك أمرا.
مرت ثلاثة ساعات من حين هبوطهما، في الرابعة صبحا كأنها دهرا. وهما وسط قوم غرباء، لا تعرفان لغتهم، ولا يعرفون لغتهما. الساعة السابعة، وصل احدهم كعفريت خرج من جوف الأرض. حاملا بين يديه ورقة، كتب عليها اسم ابنتها. طلب منهما مرافقته، فتبعتاه كسجينتين ذليلتين دون أن تنبسان ببنت شفة. فلم يكن لهما أي سبيل آخر، ولا وسيلة أخرى. تنفستا الصعداء، معتقدتان إن هذا آخر السوء. ولم يخطر ببالهما، إن هذا بداية الهموم. هم الغربة وهموم أخرى لا تزال في طي الغيب.
مرت نصف ساعة وهو واقف ببوابة المغادرة، محاولا إيقاف سيارة أجرة، لتقلهم إلى حيث مفاجئتهما التالية. توجهوا وهما تعتقدان أن وجهتهما إلى الفندق، حيث تنزعان عنهما لباس السفر وغباره. وتضعان رأسيهما على الوسادة، لتخففان عن كاهلهما ونفسيهما ما مرتا به من تعب وإجهاد. ولكن خاب ضنهما، إذ كان طريقه إلى زيارة، الإمام الخميني عليه الرحمة. حاولتا الاعتراض والاحتجاج، بحاجتهما الملحة للنوم والراحة. ولكن حجته كانت: لا يمكن للفندق استقبالكما إلا بعد العصر. توجه بهما مسافة أربع ساعات، دون الالتفات إلى رغبتهما. منطلقا انطلاق السهم من قوسه، غير مكترث لتعرجات وانحناءات الشوارع.
عادوا بعد تلك المسافة، إلى الفندق الذي كان في جوع مزمن إلى الزوار. وبعد عدة أيام من الراحة والاستجمام، طرق عليهما الباب ليبدأ معهما رحلتهما التالية. كان يتوقعان أخذهما إلى الإمام الرضا(ع)، ولكنه توجه بهما إلى شمال طهران. ورغم روعة وجمال ما شاهدتاه، ولكنه لا شيئ أمام الوحدة والغربة اللتان كانتا تعيشانها. عادوا بعد تلك السياحة، ليخلدا إلى الراحة ويستعدا من جديد لإكمال رحلتهما. بعد أيام من تركهما وحيدتين، دون رفقة ومن غير صحبة، تبثان لها هموم غربتها ووحدتهما. جاء ليصطحبهما لزيارة السيدة المعصومة، في مدنية قم المقدسة. وافقتا دون تردد، على أمل اللقاء بأحد من بني جلدتهما.
انقطعت أخبارهما عن زوجها وكافة أهلهما، ولم يكن هناك وسيلة للاتصال بهما. فلا هما اتصلتا، وليس هناك هاتف محدد يمكن الاتصال به. لم يعد لدا زوجها الكثير من الصبر، فقد طال انتظاره. ينظر إلى الباب الخارجي، يتمنى دخولهما عليه. انتظار الفلاح للغيث، بعد أن طال قحطه. اتصل بمكتب الحملة عدة مرات، طالبا مساعدته. فيأتيه الجواب في كل مرة، كأنهم لا يشعرون بحراجة الموقف. سوف نتصل بوكيلنا هناك، ونخبركم بما يستجد. وما أن يخرج من عندهم، حتى ينسى الأمر. فيراجعهم ثانية وثالثة، فكأنهم لا يعرفونه، أو كأنه لم يكلمهم من قبل.
عند المعصومة لم يستغربا عدم وجود احد من بلادهم، بل تفاجئتا لقلت أهل البلاد في مزارها. سألتاه عن ذلك باستغراب، فقال بكل برود: ألا تعرفان أن اليوم الخامس عشر من شعبان! فالناس عند الإمام الرضا(ع)، استعدادا للاحتفال بمولد الإمام المهدي عجل الله فرجه. فانفجرت صارخة في وجهه تسأله: إذا كنت تعلم ذلك، فلما لم تأخذنا إلى هناك مباشرة؟ فأجاب كان الأمر لا يعنيه: حسب الجدول المحدد لكما، لم يحين وقت ذهبكما إلى مشهد بعد. أجابته كلبوة خطف منها جنينها: ولكن تأخذنا إلى هناك، عندما ينفض الجمع ويتفرق الزوار!
عند ذلك لم يجد أمامه، إلا أن يحاول الحجز لهما على أول رحلة. ولسوء التنسيق، لم يصلا إلا بعد انتهاء احتفالات، وفوات المولد. لذا لم يطل مقامهما عند الإمام (ع)، وطلبتا العودة إلى بلادهما. قبل نهاية المدة، ومهما كلفهما ذلك.
بقلم: حسين نوح مشامع - القطيف، السعودية