اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
اللهم صلى على محمد وآل محمد وعجل فرجهم واللعن عدوهم .
وصاياه
إِن قيمة المرء الاجتماعيّة بما يصنعه للمجتمع من خير، كما أن قيمته الذاتيّة بما يحسنه، ولو لم يكن للصادق إِلا ما اخترناه من كلامه لكفى به دلالة على مقامه العلمي الإلهي وعلى اهتمامه بإصلاح الاُمّة، وقد قرأت شطراً من مواعظه، وهنا نقرئك شيئاً من وصاياه، وستجد فيها جهد ما يبلغه رُعاة الاُمم الربّانيّون وهداتها من الإرشاد الى مواطن الخير والرفق في الدعوة والإخلاص في التوجيه.
وصيّته لابنه الكاظم
دخل عليه بعض شيعته وموسى ولده بين يديه وهو يوصيه، فكان ممّا أوصاه به أن قال :
يا بُني إِقبل وصيَّتي، واحفظ مقالتي، فإنّك إِن حفظتها تعِش سعيداً، وتمُت حميداً، يا بُني إِنَّ من قنعَ استغنى، ومن مدَّ عينيه إِلى ما في يد غيره مات فقيراً، ومن لم يرضَ بما قسمَه اللّه لهُ اتَّهم اللّه في قضائه، ومَن استصغر زلّة نفسه استكبر زلّة غيره، يا بُني من كشف حِجاب غيره انكشف عورته، ومن سلَّ سيف البغي قُتل به، ومن احتفر لأخيه بئراً سقط فيها، ومن داخَل السُفهاء
حُقّر، ومن خالط العُلماء وُقّر، ومن دخلَ مداخِل السوء اتُّهم، يا بُني قُل الحقّ لك أو عليك، وإِيّاك والنّميمة فإنَّها تزرع الشحناء في قُلوب الرجال، يا بُني إِذا طلبت الجُود فعليكَ بمعادنه، فإنّ للجود معادِن، وللمعادِن اُصولاً، وللاُصول فروعاً، وللفروع ثمراً، ولا يطيبُ ثمر إِلا بفرع، ولا أصل ثابت إِلا بمعدن طيّب، يا بُني إِذا زرت فزُر الأخيار، ولا تزُر الأشرار، فإنَّهم صخرة صمّاء لا ينفجر ماؤها، وشجرة لا يخضّر ورقها، وأرض لا يظهر عشبها.
أقول : وقد جاء بعض هذه الفقرات في نهج البلاغة، ولا بدع فّإن علمهم بعضه من بعض، ولعلّ الصادق ذكرها استشهاداً أو اقتباساً.
وصيّته لأصحابه
بعد البسملة : أمّا بعد فاسألوا اللّه ربّكم العافية، وعليكم بالدعة والوقار والسكينة، وعليكم بالحياء والتنزّه عمّا تنزّه عنه الصالحون قبلكم، واتقوا اللّه وكفّوا ألسنتكم إلا من خير، وإِيّاكم أن تذلقوا ألسنتكم بقول الزور والبهتان والإثم والعدوان، فإنكم إِن كففتم ألسنتكم عمّا يكرهه اللّه ممّا نهاكم عنه كان خيراً لكم عند ربّكم من أن تذلقوا ألسنتكم به، فإن ذلق اللسان فيما يكرهه اللّه وفيما ينهى عنه مرداة للعبد عند اللّه، ومقت من اللّه، وصمم وبكم وعمي يورثه اللّه إِيّاه يوم القيامة، فتصيروا كما قال اللّه : «صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون» يعني لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، وعليكم بالصمت إِلا فيما ينفعكم اللّه به من أمر آخرتكم ويؤجركم عليه، اكثروا من أن تدعوا اللّه فإن اللّه يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه، وقد وعدَ عباده المؤمنين الاستجابة، واللّه مصيّر دعاء المؤمنين يوم القيامة عملاً يزيدهم في الجنّة، فاكثروا ذكر اللّه ما استطعتم في كلّ ساعة من ساعات الليل والنّهار، فإن اللّه أمر بكثرة الذكر له، واللّه ذاكر من ذكره من المؤمنين، واعلموا أن اللّه لم يذكره أحد من عباده المؤمنين إِلا ذكره بخير، فاعطوا اللّه من أنفسكم الاجتهاد في طاعته، فإن اللّه لا يدرَك شيء من الخير عنده إِلا بطاعته واجتناب محارمه التي حرَّم اللّه في ظاهر القرآن وباطنه، قال في كتابه وقوله الحق : «وذروا ظاهر الإثم وباطنه» واعلموا أن ما أمر اللّه به أن تجتنبوه فقد حرّمه.
ولا تتبعوا أهواءكم وآراءكم فتضلّوا، فإن أضلّ النّاس عند اللّه من اتبع هواه ورأيه بغير هدىً من اللّه، وأحسنوا الى أنفسكم ما استطعتم، فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها، واعلموا أنه لن يؤمن عبد من عبيده حتّى يرضى عن اللّه فيما صنع اللّه اليه وصنع به على ما أحبّ وكره، ولن يصنع اللّه بمن صبر ورضي عن اللّه إِلا ما هو أهله، وهو خيرٌ له ممّا أحبّ وكره.
وعليكم بالمحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا للّه قانتين كما أمر اللّه به المؤمن في كتابه من قبلكم.
وإِيّاكم والعظمة والكِبر، فإن الكِبر رداء اللّه عزّ وجلّ، فمن نازع اللّه رداءه قصمه اللّه وأذلّه يوم القيامة، وإِيّاكم أن يبغي بعضكم على بعض، فإنها ليست من خِصال الصالحين، فإن من بغى صيّر اللّه بغيه على نفسه، وصارت نصرة اللّه لمن بغى عليه، ومن نصَره اللّه غلب، وأصابَ الظفر من اللّه، وإِيّاكم أن يحسد بعضكم بعضاً، فإن الكفر أصله الحسد، وإِيّاكم أن تعينوا على مسلم مظلوم،
فيدعو اللّه عليكم فيستجاب له فيكم، فإن أبانا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان يقول : إِن دعوة المسلم المظلوم مُستجابة، ولِيَعِن بعضكم بعضاً، فإن أبانا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان يقول : إِن معاونة المسلم خيرٌ وأعظم أجراً من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام.
واعلموا إِنّ الاسلام هو التسليم، والتسليم هو الاسلام، فمن سلَّمَ فقد أسلم، ومَن لم يُسلّم فلا إِسلام له، ومَن سَرَّه أن يبلغ الى نفسه في الإحسان فليطع اللّه، فإن من أطاع اللّه فقد أبلغ إِلى نفسه في الإحسان، وإِيّاكم ومعاصي اللّه أن ترتكبوها، فإنه من انتهك معاصي اللّه فركبها فقد أبلغ في الإساءة إِلى نفسه، وليس بين الإحسان والإساءة منزلة، فلأهل الإحسان عند ربهم الجنّة ولأهل الإساءة عند ربّهم النار، فاعملوا لطاعة اللّه واجتنبوا معاصيه.
أقول : وهذه الوصيّة طويلة وقد اقتطفنا منها هذه الزهر النفّاحة، وهي مرويّة في بدء روضة الكافي للكليني طاب ثراه، وقال : وقد كتب بها الصادق إِلى أصحابه، وأمرهم بمدارستها والنظر فيها، وتعاهدها والعمل بها، فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم، فاذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها.
أجل هكذا يجب أن نتعاهد مثل هذه الوصيّة فإن فيها جماع مكارم الأخلاق العالية.
وصيّته لعبد اللّه بن جندب
عبد اللّه بن جندب البجلي الكوفي صحب الصادق والكاظم والرضا ، وتوكّل للكاظم والرضا، وكان عابداً رفيع المنزلة عندهما، روى الكشي في رجاله أنه قال لأبي الحسن : ألست عنّي راضياً ؟ قال : اي واللّه، ورسول اللّه واللّه راض.
وقد أوصاه الصادق بوصيّة جمعت نفائس من العِظات والنصائح، التقطنا منها الشذرات الآتية، قال :
يا ابن جندب، يهلك المتّكل على عمله، ولا ينجو المجتري على الذنوب برحمة اللّه، قال : فمن ينجو ؟ قال : الذين هم بين الخوف والرجاء كأن قلوبهم في مخلب طائر، شوقاً إِلى الثواب وخوفاً من العذاب.
يا ابن جندب، مَن سرَّه أن يزوّجه اللّه من الحور العين ويتوجّه بالنور فليُدخل على أخيه المؤمن السرور.
يا ابن جندب، إِن للشيطان مصائد يصطاد بها، فتحاموا شباكه ومصائده، قال : يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وما هي ؟ قال : أمّا مصائده فصّد عن برّ الاخوان، وأمّا شباكه فنوم عن أداء الصلاة التي فرضها اللّه، أما أنه ما يعبد اللّه بمثل نقل الأقدام الى برّ الاخوان وزيارتهم، ويلٌ للساهين عن الصلاة النائمين في الخلوات المستهزئين باللّه وآياته في القرآن، اولئك الذين لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزّكيهم ولهم عذاب أليم.
يا ابن جندب، الساعي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه يوم بدر واُحد، وما عذّب اللّه اُمّة إِلا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم.
يا ابن جندب، إِن أحببت أن تجاور الجليل في داره، وتسكن الفردوس في جواره، فلتهن عليك الدنيا، واجعل الموت نُصب عينيك، ولا تدّخر لغد، واعلم أنَّ لك ما قدَّمت، وعليك ما أخّرت.
يا ابن جندب، من حرَم نفسه كسبه فإنما يجمع لغيره، ومن أطاع هواه فقد أطاع عدّوه، ومن يتّقِ اللّه يكفِه ما أهمّه من أمر دُنياه وآخرته، ويحفظ له ما غاب عنه، وقد عجز مَن لم يعدّ لكّل بلاءٍ صبراً، ولكلّ نعمةٍ شكراً، ولكلّ عُسرٍيُسرا، اصبر نفسك عند كلّ بليّة، وفي ولد أو مال أو ذريّة، فإنما يقبض عاريته، ويأخذ هبته، ليبلو فيهما شكرك وصبرك، وارج اللّه رجاءً لا يجرّيك على معصيته، وخِفهُ خوفاً لا ييؤسك من رحمته ولا تغترّ بقول الجاهل ولا بمدحة فتكبر وتجبر وتغترّ بعملك، فإن أفضل العمل العبادة والتواضع، ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك ماخلفته وراء ظهرك، واقنع بما قسمه اللّه لك، ولا تنظر إِلا ما عندك، ولا تتمنّ ما لست تناله، فإن مَن قنع شبع، ومَن لم يقنع لم يشبع، وخُذ حظّك من آخرتك، ولا تكن بطراً في الغنى، ولا جزِعاً في الفقر، ولا تكن فظَّاً غليظاً يكره الناس قُربك، ولا تكن واهناً يحقرك من عرفك، ولا تشارَّ من فوقك، ولا تسخر بمن هو دونك، ولا تنازع الأمر أهله، ولا تطع السفهاء، وقف عند كلّ أمر حتّى تعرف مدخله ومخرجه قبل أن تقع فيه فتندم، واجعل نفسك عدّواً تجاهده، وإِن كانت لك يد عند إِنسان فلا تفسدها بكثرة المنّ والذكر لها، ولكن اتبعها بأفضل منها، فإن ذلك أجمل في أخلاقك وأوجب للثواب في آخرتك، وعليك بالصمت نعدّ حليماً، جاهلاً كنت أو عالماً، فإن الصمت زين عند العلماء وسترة لك عند الجهّال.
ومِن هذه الوصية حكايته لكلام عيسى لأصحابه وهو قوله : وإِيّاكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه، لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب وانظروا في عيوبهم كهيئة العبيد، إِنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا المبتلى، واحمدوا اللّه على العافية.
ثمّ قال : يا ابن جندب، صِل مَن قطعك، واعط مَن حرمَك، وأحسن الى مَن أساء اليك، وسلّم على مَن سبَّك، وانصف من خاصمك، واعف عمَّن ظلمك كما أنك تحبّ أن يعفى عنك، فاعتبر بعفو اللّه عنك، ألا ترى أن شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأن قطره ينزل على الصالحين والخاطئين.
يا ابن جندب، الاسلام عريان فلباسه الحياء، وزينته الوقار، ومروّته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكلّ شيء أساس وأساس الاسلام حُبّنا أهل البيت.
أقول : ما أجمع هذه الوصيّة لجلائل الحِكم ونفائس المواعظ، ولا تمرّ عليك وصيّة ولا عِظة إِلا وحسبت عندها منتهى البلاغة وأقصى التذكير والتنبيه، وتقول : هل وراءها من قول، وإِن أمثال هذه الوصايا جديرة بالتعليق والشرح إِلا انّ ذلك أبعد عن الغاية، فنوكل التدبّر بها الى القارئ الكريم.
وصيّته لعبد اللّه النجاشي في كتابه
قال عبد اللّه بن سليمان النوفلي : كنت عند جعفر بن محمّد الصادق ، فاذا بمولى لعبد اللّه النجاشي وردَ عليه فسلّم وأوصل اليه كتاباً ففضّه وقرأه، فاذا أوّل سطر فيه:
بسم اللّه الرحمن الرحيم، أطال اللّه بقاء سيّدي وجعلني من كلّ سوء فِداه، إِني بُليت بولاية الأهواز فإن رأى سيّدي أن يحدّ لي حدّاً أو يمثل لي مثلاً لأستدلّ
به على ما يقرّبني الى اللّه جلّ وعزّ والى رسوله، ويلخّص في كتابه ما يرى لي العمل به وفيما يبذله وأبتذله، وأين أضع زكاتي، وفيمن أصرفها، وبمن آنس، والى مَن أستريح، ومَن أثق وآمن وألجأ اليه في سرّي، فعسى أن يخلّصني اللّه بهدايتك ودلالتك، فإنك حُجّة اللّه على خلقه، وأمينه في بلاده لا زالت نعمته عليك.
قال عبد اللّه بن سليمان : فأجابه أبو عبد اللّه :
بسم اللّه الرحمن الرحيم، جامَلَكَ اللّه بصنعه، ولطف بك بمنّه، وكلأك برعايته، فإنه وليّ ذلك، أمّا بعد فقد جاء إِليّ رسولك بكتابك فقرأته وفهمت جميع ما ذكرته وسألت عنه وزعمت أنك بُليت بولاية الأهواز فسرَّني ذلك وساءني، فأمّا سروري بولايتك فقلت : عسى أن يغيث اللّه بك ملهوفاً من أولياء آل محمّد صلّى اللّه عليه وآله ويعزّ بك، وساءني من ذلك فإن أدنى ما أخاف عليك أن تعثر بوليّ لنا فلا تشمّ حظيرة القدس.
فإني ملخّص لك جميع ما سألت عنه إِن أنت عملت به ولم تجاوزه رجوت أن تسلم إِن شاء اللّه تعالى، أخبرني أبي عن آبائه عن علي بن أبي طالب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أنه قال : من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه اللّه لُبَّه، واعلم أني سأشير عليك برأي إِن أنت عملت به تخلّصت ممّا أنت متخوّفه، واعلم أن خلاصك ونجاتك من حقن الدماء وكفّ الأذى من أولياء اللّه والرفق بالرعيّة والتأني وحسن المعاشرة، مع لين في غير ضعف، وشدَّة في غير عُنف، ومداراة صاحبك ومن يرد عليك من رُسله، وارتق فتق رعيّتك بأن توافقهم على ما وافق الحقّ والعدل إِن شاء اللّه.
إِيّاك والسعاة وأهل النمائم فلا يلتزقن منهم بك أحد، ولا يراك اللّه يوماً وليلة وأنت تقبل منهم صرفاً ولا عدلاً فيسخط اللّه عليك ويهتك سترك.
فأمّا من تأنس به وتستريح اليه وتلج اُمورك اليه فذلك الرجل الممتحن المستبصر الأمين الموافق لك على دينك، وميَّز عوامك وجرّب الفريقين فإن رأيت هنالك رشداً فشأنك وإِيّاه.
وإِيّاك أن تعطي درهماً أَو تخلع ثوباً أو تحمل على دابّة في غير ذات اللّه لشاعر أو مضحك أو ممتزح إِلا أعطيت مثله في ذات اللّه.
ولتكن جوائزك وعطاياك وخلعك للقوّاد والرُسل والأحفاد وأصحاب الرسائل وأصحاب الشرط والأخماس، وما أردت أن تصرفه في وجوه البرّ والنجاح والفتوّة والصدقة والحجّ والمشرب والكسوة التي تصلّي فيها وتصل بها والهديّة التي تهديها الى اللّه عزّ وجلّ والى رسوله صلّى اللّه عليه وآله من أطيب كسبك.
يا عبد اللّه، اجهد ألا تكنز ذهباً ولا فضّة فتكون من أهل هذه الآية التي قال اللّه عزّ وجلّ : «الذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه».
ولا تستصغرن من حلو أو فضل طعام تصرفه في بطون خالية ليسكن بها غضب اللّه تبارك وتعالى، واعلم أني سمعت من أبي يحدَّث عن آبائه عن أمير المؤمنين أنه سمع النبي صلّى اللّه عليه وآله يقول يوماً : ما آمن باللّه واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جايع، فقلنا : اُهلكنا يا رسول اللّه، فقال : من فضل طعاكم ومن فضل تمركم ورزقكم وخلقكم وخرقكم تطفون بها غضب الرب.
فخرج أمير المؤمنين من الدنيا وليس في عنقه تبعة لأحد حتّى لقي اللّه محموداً غير ملوم ولا مذموم، ثمّ اقتدت به الأئمة من بعده بما قد بلغكم، لم يتلطّخوابشيء من بوائقها صلوات اللّه عليهم أجمعين وأحسن مثواهم.
وقد وجّهت اليك بمكارم الدنيا والآخرة، فإن أنت عملت بما نصحت لك في كتابي هذا ثمّ كانت عليك من الذنوب والخطايا كمثل أوزان الجبال وأمواج البحار رجوت اللّه أن يتحامى عنك جلّ وعزّ بقدرته.
يا عبد اللّه إِيّاك أن تُخيف مؤمناً فإن أبي محمّد حدّثني عن أبيه عن جدّه علي بن أبي طالب أنه كان يقول : مَن نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه اللّه يوم لا ظلَّ إِلا ظلّه، وحشره في صورة الذرّ لحمه وجسده وجميع أعضائه حتّى يورده مورده.
وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عن النبي صلّى اللّه عليه وآله أنه قال : مَن أغاث لهفاناً من المؤمنين أغاثه اللّه يوم لا ظلَّ إِلا ظلّه، وآمنه اللّه يوم الفزع الاكبر، وآمنه عن سوء المنقلب، ومَن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى اللّه له حوائج كثيرة إِحداها الجنّة، ومَن كسا أخاه المؤمن من عري كساه اللّه من سُندس الجنّة واستبرقها وحريرها، ولم يزل يخوض في رضوان اللّه مادام على المكسو منها سلك، ومَن أطعم أخاه من جوع أطعمه اللّه من طيّبات الجنّة، ومَن سقاه من ظمأ سقاه اللّه من الرحيق المختوم، ومَن أخدم أخاه أخدمه اللّه من الولدان المخلّدين وأسكنه مع أوليائه الطاهرين، ومَن حمل أخاه المؤمن من رحله حمله اللّه على ناقة من نوق الجنّة وباهى به الملائكة المقرّبين يوم القيامة، ومَن زوّج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها وتشدّ عضده ويستريح اليها زوّجه اللّه من الحور العين، وآنسه بمن أحبّ من الصدّيقين من أهل بيته واخوانه وآنسهم به، ومَن أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه اللّه على إِجازة الصراط عند زلزلة الأقدام، ومَن زار أخاه المؤمن الى منزله لا لحاجة منه اليه كُتب من زوّار اللّه، وكان حقيقاً على اللّه أن يكرم زائره.
يا عبد اللّه وحدّثني أبي عن آبائه عن علي أنه سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول لأصحابه يوماً، معاشر الناس إِنه ليس بمؤمن مَن لعن بلسانه ولم يؤمن بقلبه فلا تتبعوا عثرات المؤمنين، فإنه مَن اتبع عثرة مؤمن اتبع اللّه عثراته يوم القيامة وفضحه في جوف بيته.
وحدّثني أبي عن علي قال : أخذ اللّه في ميثاق المؤمن ألا يُصدَّق في مقالته، ولا يُنتصف من عدوّه، ولا يُشفي غيظه إِلا بفضيحة نفسه، لأن كلّ مؤمن ملجم، وذلك لغاية قصيرة وراحة طويلة.
أخذ اللّه ميثاق المؤمن على أشياء أيسرها مؤمن مثله يقول بمقالته يتعبه ويحسده، والشيطان يغويه ويعينه، والسلطان يقفو أثره ويتبع عثراته، وكافر بالذي هو مؤمن به يرى سفك دمه دَيناً، وإِباحه حريمه غنماً، فما بقاء المؤمن بعد هذا.
يا عبد اللّه وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عن النبي صلّى اللّه عليه وآله قال : نزل جبرئيل فقال : يا محمّد إِن اللّه يقرأ عليك السلام ويقول : اشتققت للمؤمن اسماً من أسمائي سمّيته مؤمناً فالمؤمن منّي وأنا منه، من استهان بمؤمن فقد استقبلني بالمحاربة.
يا عبد اللّه وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عن النبي صلّى اللّه عليه وآله أنه قال يوماً : يا علي لا تناظر رجلاً حتّى تنظر في سريرته، فإن كانت سريرته حسنة فانَّ اللّه عزّ وجلّ لم يكن ليخذل وليّه، وإِن كانت سريرته رديَّة فقد يكفيه مساويه، فلو جهدت أن تعمل به اكثر ممّا عمله من معاصي اللّه عزّ وجلّ ما قدرت عليه.
يا عبد اللّه وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عن النبي صلّى اللّه عليه وآله أنه قال : أدنى الكفر أن يسمع الرجل عن أخيه الكلمة ليحفظها عليه يريد أن يفضحه بها، اولئك لا خلاق لهم.
يا عبد اللّه وحدّثني أبي عن آبائه عن علي أنه قال : مَن قال في مؤمن ما رأت عيناه وسمعت اُذناه ما يشينه ويهدم مروّته فهو من الذين قال اللّه عزّ وجلّ «إِنَّ الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذابً أليم».
يا عبد اللّه وحدّثني أبي عن آبائه عن علي أنه قال : من روى عن أخيه المؤمن رواية يريد بها هدم مُروّته وثلبه أوبَقهُ اللّه بخطيئته حتّى يأتي بمخرج ممّا قال، ولن يأتي بالمخرج منه أبداً، ومن أدخل على أخيه المؤمن سُروراً فقد أدخلَ على أهل البيت سُروراً، ومن أدخل على أهل البيت سُروراً فقد أدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سُروراً، ومن أدخل على رسول اللّه سُروراً فقد سرَّ اللّه، فحقيق عليه أن يُدخِله الجنّة حينئذٍ.
ثمَّ إِنّي اُوصيك بتقوى اللّه وإِيثار طاعته والاعتصام بحبله، فإنه من اعتصم بحبل اللّه فقد هُدي الى صراطٍ مستقيم، فاتقِ اللّه ولا تؤثر أحداً على رضاه وهواه، فإنّه وصيّة اللّه عزّ وجلّ الى خلقه، لا يقبل منهم غيرها ولا يعظّم سواها، واعلم أن الخلائق لم يوكلوا بشيء أعظم من التقوى فإنّه وصيّتنا أهل البيت، فإن استطعت ألا تنال شيئاً من الدنيا تُسئل عنه غداً فافعل.
قال عبد اللّه بن سليمان : فلمّا وصل كتاب الصادق الى النجاشي نظر فيه فقال : صدَق واللّه الذي لا إِله إِلا هو مولاي، فما عمل أحد بما في هذا الكتاب إِلا نجا فلم يزل عبد اللّه يعمل به في أيام حياته.
فكّر أيها القارئ الكريم في هذه النصائح القدسيّة، وأعد النظر في فقراتها، وانظر ماذا سيبلغه البشر من نهاية السعادة لو وضع الاُمراء وأرباب الدولة هذا الكتاب نُصب أعينهم، ودرج عليه الناس في معاملاتهم بعضهم مع بعض، ولكن البشر لا يزال في سكرته لا يستيقظ لسماع مثل هذه المواعظ.
ومن وصاياه لشيعته
قال زيد الشَّحام : قال لي أبو عبد اللّه : اقرأ من ترى أنه يطيعني منكم ويأخذ بقولي السلام، واوصيكم بتقوى اللّه عزّ وجلّ والورع في دينكم، والاجتهاد للّه، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحُسن الجوار، فبهذا جاء محمّد صلّى اللّه عليه وآله.
أدّوا الأمانة الى من ائتمنكم عليها برَّاً أو فاجراً، فإن رسول اللّه كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعُودوا مرضاهم، وأدّوا حُقوقهم، فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدقَ الحديث وأدَّى الأمانة وحسُنَ خُلقه مع الناس قيل : هذا جعفري، ويسرّني ذلك، ويُدخل عليّ منه السرور، وقيل : هذا أدب جعفر، وإِذا كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعارُه وقيل : هذا أدب جعفر، فواللّه لحدّثني أبي أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي فيكون زينها، أدَّاهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، اليه وصاياهم وودائعهم، تُسئل العشيرة عنه، ويقولون : من مثل فلان ؟ إِنّه أدّانا للأمانة، وأصدقنا للحديث .
وصيّته لمؤمن الطاق
نقتطف من وصيّته لمؤمن الطاق زهراً غضة، قال : يا ابن النعمان إِيّاك والمراء فإنه يحبط عملك، وإِيّاك والجدال فإنه يوبقك، وإِيّاك وكثرة الخصومات فإنها تبعد من اللّه، إِن من كان قبلكم يتعلّمون الصمت وأنتم تتعلّمون الكلام، كان أحدهم اذا أراد التعبّد يتعلّم الصمت قبل ذلك بعشر سنين، فإن كان يحسنه ويصير عليه تعبّد، وإِلا قال : ما أنا لِما أروم بأهل، إِنما ينجو من أطال الصمت عن الفحشاء، وصبر في دولة الباطل على الأذى، اولئك النجباء الأصفياء الأولياء حقاً وهم المؤمنون، واللّه لو قدّم أحدكم ملء الأرض ذهباً على اللّه ثمّ حسد مؤمناً لكان ذلك الذهب ممّا يُكوى به في النار.
يا ابن النعمان إِن أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ولا تمارينّه ولا تباهينّه ولا تشارنّه ولا تطلع صديقك من سرّك إِلا على ما لو اطّلع عليه عدوّك لم يضرّك، فإن الصديق قد يكون عدوّك يوماً.
يا ابن النعمان ليست البلاغة بحدَّة اللسان، ولا بكثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى وقصد الحجّة.
وصيّته لحمران بن أعين
قال : يا حمران انظر الى من هو دونك، ولا تنظر إِلى من هوفوقك في المقدرة فإن ذلك أقنع لك بما قُسم لك، وأحرى أن تستوجب الزيادة من ربّك، واعلم أن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند اللّه من العمل الكثير على غير يقين، واعلم أنه لا ورع أنفع من تجنّب محارم اللّه والكفّ عن أذى المؤمنين واغتيابهم، ولا عيش أهنأ من حسن الخُلق، ولا مال أنفع من القنوع باليسير المجزي، ولا جهل أضرّ من العجب.
وصيّته للمفضّل بن عمر
قال للمفضّل بن عمر : اوصيك ونفسي بتقوى اللّه وطاعته، فإن من التقوى الطاعة والورع والتواضع للّه والطمأنينة والاجتهاد والأخذ بأمره والنصيحة لرُسله، والمسارعة في مرضاته، واجتناب ما نهى عنه، فإن من يتّقِ اللّه فقد أحرز نفسه من النار بإذن اللّه وأصاب الخير كلّه في الدنيا والآخرة ومن أمر بتقوى اللّه فقد أفلح الموعظة جعلنا اللّه من المتّقين برحمته.
وصيّته لجميل بن درّاج
قال لجميل بن درّاج : خياركم سمحاؤكم وشراركم بخلاؤكم، ومن صالح الأعمال البرّ بالاخوان والسعي في حوائجهم، وذلك مرغمة للشيطان وتزحزح عن النيران، ودخول في الجنان، يا جميل اخبر بهذا الحديث
غُرر أصحابك قال : فقلت له : جعلت فداك ومَن غُرر أصحابي ؟ قال : هُم البارُّون بالاخوان في العُسر واليُسر.
قال : يا جميل أما أن صاحب الجميل يهون عليه ذلك، وقد مدح اللّه عزّ وجلّ صاحب القليل فقال : «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومَن يوقَ شحّ نفسه فاولئك هُم المفلحون».
وصيّته للمعلّى بن خنيس
قال للمعلّى بن خنيس وقد أراد سفراً : يا معلّى أعزز باللّه يعززك، قال : بماذا يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله؟ قال : يا معلّى خف اللّه تعالى يخف منك كلّ شيء، يا معلّى تحبّب الى اخوانك بصلتهم، فإن اللّه تعالى جعل العطاء محبّة، والمنع مبغضة، فأنتم واللّه إِن تسألوني وأعطيكم أحبّ إِليّ من ألا تسألوني فلا أعطيكم فتبغضوني، ومهما أجرى اللّه عزّ وجل لكم من شيء على يدي فالمحمود هو اللّه تعالى ولا تبعدون من شكر ما أجرى اللّه لكم على يدي.
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وال محمد و عجل فرجهم
الف الشكر لك اختي الكريمة منتظرة في ميزان حسناتك انشالله
والسلام عليكم ورحمة الله و بركاته