بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدالله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم اجمعين .......
أعزائي تعودنا في كل عام وفي شهر عاشوراء وفي يوم عاشر بالتحديد نستمع إلى ذلك الخطيب الحسيني والصوت المميز الذي يلقي على مسامعنا مقتل الإمام الحسين صلوات الله عليه .
أعتقد أن أغلبنا يعرف من هوالخطيب المرحوم عبدالزهرة الكعبي ....
فلنتعرف عن نبذه من حياته من كتاب .......
(( الشيخ الكعبي صوت حزين ودمعة ساكبة )) ...
يقول الكاتب وهو أحد تلاميذه ...
ولد الشيخ الكعبي في قرية كانت مستريحة بجوار ربوة من روابي كربلاء ، التراب الطاهر والطقس المقدس ، حيث تنمو الكرامة والعزة ، ويرتفع الشرف وتكتمل الاخلاق متالقة عالية تحت ظلال الشهادة والبطولة .. تحت قباب ابي الاحرار ومعلم الثائرين ابي عبد الله الحسين ـ عليه افضل الصلاة وازكى السلام ـ .
فهو ـ اي الكعبي ـ ابن العزة والكرامة والاباء . . عاش بين الجوع والريح والمطر .. تذوق مرارة الحرمان ، ومرارة السجون . . ومرارة الغربة ، كل ذلك من اجل الحق . . من اجل العدالة الاجتماعية . . من اجل ان يكون للظالم خصما ، وللمظلوم عونا .
كان في سن الخامسة عندما ادخله ابوه في الكتّاب ، والكتّاب عبارة عن مدرسة تجمع عددا من الاطفال تلقى عليهم فيها دروس الدين والاخلاق والعقيدة . . وتغرس في نفوسهم الصغيرة ، المبادئ الكبيرة ، لينشأوا اقوياء اشداء ، في عقيدتهم واخلاقهم ونظرتهم للحياة . .
في هذا المكان كان الشيخ الكعبي ينمو ، ويترعرع ويتدرج في سلم التكامل والأدب . . حتى برع في الفصاحة والبلاغة ، والقدرة على البيان منذ نعومة اظفاره ، فكان يحفظ القرآن كله ، بالاضافة الى عشرات الألوف من القصائد والاشعار والامثال العربية ، مع دراية عميقة للأحاديث النبوية الشريفة ، ولفكر اهل البيت ـ عليهم افضل الصلاة وازكى السلام ـ .
كان ابوه الشيخ فلاح الكعبي ـ رحمه الله ـ من خيرة الرجال ، ومن الصالحين الذين تترك اعمالهم مودة في القلوب ، ومحبة في النفوس .
لقد نشأ الشيخ الكعبي في هذه الاجواء التي صنعت منه خطيبا مفوّها ، ورائدا من رواد الحق والفضيلة . لم تكن تاخذه في الله لومة لائم فكان يقول كلمة الحق ويجاهر بها ، حتى ولو كان ذلك يكلفه الاطاحة براسه ، او ايداعه في السجون . . ولعمري انه لشرط اساسي ان يكون الخطيب شجاعا وجريئا وباسلا .
نعم ، ان القدرة على الصراحة بالحق شرط اساسي في نجاح الخطيب وفلاح الداعية الاسلامي ، وذلك لسبب بسيط ، وهو :
ان علاقة اللسان بالقلب تشبه علاقة الظل بالشمس ، فكلما كان القلب قويا وثابتا ، كان اللسان بليغا ومنطلقا . .
على ان قوة الجنان التي تقوي اللسان ، او قل :
قوة اللسان التي تدل على قوة الجنان ، انما هي منحة وعطية من الله ، ولا ينالها إلا ذو ايمان واخلاص وصفاء .. لا ينالها إلا كل صادق كريم . . والصدق صفة ملازمة لقلوب المؤمنين الذين يخافون الله عز وجل ويخشونه .
يقول الحق :
«الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احداً إلا الله» ..
ومن هنا نجد هذه الآية الكريمة قد ذكرت شرطا اساسيا في التبليغ الا وهو الخوف من الله لأن الخطيب الذي يخاف الله ، ويخشاه ، لا يخاف احدا سواه ، ولا يخشى احدا غيره ، وهذه هي بحد ذاتها صفة طيبة تجعل من الشخص انسانا فريدا في مواقفه ، ووحيدا في عمله .
واني لأذكر جيدا ، كيف كان استاذنا الكبير الشيخ الكعبي يلقي بهذه المفاهيم علينا ونحن مجموعة من تلامذته ، فكان يحاول بشتى الطرق ان يغرسها في اعماقنا فنرتوي منها ونطلب المزيد .
وكان يفسر ذلك بقوله :
( ان اللسان يعتمد على القلب اعتمادا كليا الى درجة ان اللسان هو الذي يكشف عن حقيقة الانسان ) .
ثم يستطرد قائلا :
انظروا الى امامنا ومولانا علي امير المؤمنين ـ ـ كيف يصور هذه الحقيقة بقوله : ( تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت طي لسانه ) .
ويقول :
( ما اضمر ابن آدم شيئا إلا وظهر على فلتات لسانه وصفحات وجهه ) .
او كما يقول زهير ابن ابي سلمى :
ومهما تكن عند امرىء من خليقة وان خالها تخفى على الناس تعلم
وكان ـ رحمه الله ـ يستدل بتلك الآية التي جاءت في قصة يوسف ، فيقول :
ان يوسف الصديق لم يكن ليصل الى تلكم المنزلة التي بلغها ، لولا لسانه ومنطقه .. وكل ذلك كان يعتمد على صدق يوسف وقوة قلبه ، حتى قال الحق سبحانه وتعالى :
« فلما كلمه قال انك اليوم لدينا مكين امين » [ يوسف : 54 ] .
ثم يضيف الشيخ قائلا ، وهو يخاطب مجموعة من تلامذته الذين درسوا الخطابة عنده ، واخذوا دروس المنبر من تحت يديه ، كان يقول لهم :
ان شدة الارتباط بين اللسان والقلب تجعلنا نأخذ الحالة النفسية التي يكون عليها الخطيب ساعة المنبر ، بعين الاعتبار ، فاذا كان الخطيب يشعر بضيق في صدره فانه لا ينبغي له ان يصعد المنبر وهو في هذه الحالة ، لأن ضيق الصدر يقتل القدرة على الابداع في المنبر وفي البيان ..
بخلاف سعة الصدر وانشراحه ، وراحة النفس ، حيث يساعد ذلك على الانطلاقة في الخطابة والمنبر ـ وكل ذلك ـ والكلام ما زال للشيخ ـ نستفيده من القرآن الكريم ، حيث يقول في آيتين جاءتا على لسان نبي الله موسى ـ ـ ففي الآية الاولى يقول :
« ويضيق صدري ولا ينطلق لساني »[ الشعراء : 13 ] .
فأكد الربط بين ضيق الصدر وتعثر اللسان ـ في حين انه بين في الآية الثانية ان انشراح الصدر ، يجعل اللسان متدفقا بالبيان ، فيقول :
« قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي امري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي » [ طه : 25 ـ 28] .
وعندما يلقي هاتين الآيتين امامنا ، فانه كان يحذرنا ـ نحن الخطباء المبتدئين ـ ان نصعد المنبر من دون النظر الى هذه الحقيقة بعين الاعتبار .
كان يقول :
لا يصعدن احدكم المنبر وهو في حالة مزاج رديء ، بل لابد للواحد منا ، ان يستعيد نشاطه وحيويته قبل الصعود على المنبر ، كأن يتوضأ ويصلي ركعتين ، ثم يبدأ باستنشاق عميق ، لأن استنشاق الهواء ، يحيي الخلايا في الدماغ ، وينشط الدورة الدموية ، بالاضافة الى الصلاة التي تشرح الصدر ، وتجعل الإنسان اكثر قدرة على البيان والخطابة ، بالإضافة الى ان الصلاة تضفي على الخطيب جوا من الخشوع ، وتخلع عليه رداء السكينة والوقار قبل صعوده المنبر .
وعلى فكرة الخطابة ومدى تأثيرها في الناس ، فان الشيخ الكعبي كان يقول لنا :
اجعلوا الامام زين العابدين اسوة لكم في الخطابة ، فانه قبل ان يصعد المنبر في الشام حدد مهمته بكلمات ، فقال : اصعد هذه الاعواد لأتكلم بكلمات فيهن لله رضا ولهؤلاء الجالسين اجر وثواب . فخط بهذه الكلمة الذهبية طريقا لكل الخطباء والوعاظ ، والمبلغين حيث يكون هدف الخطيب مصوبا نحو شيئين هما : رضا الله ، ونفع الجماهير .
والكلام اذا كان يرضي الله ، فانه يؤثر في الناس تاثيرا ايجابيا وتربويا ، لأن رضا الله معناه ان المتكلم يخاف الله ويخشاه ، واذا كان يخاف الله ويخشاه فانه يصبح من رجال الاصلاح ، وحملة الرسالات والمبادئ ، بخلاف الذي لا يخشى الله ، ولا يخافه ، فانه يصبح رجل دنيا وطالب حطام ومادة ، فيتخذ من المنبر وسيلة للارتزاق والعيش ، وليس وسيلة لغاية سامية شريفة . . وهذا ما يسبب نفور الناس ، وانفضاضهم من حول الخطيب ، لان الخطيب بهذه الحالة ، يصير طالب مال ومادة ، وليس طالب حق وعدالة . .
كما انه ليس هناك شيء اسرع في اسقاط الخطيب من نفوس الناس ، مثل الحالة المادية التي يلتصق بها بعض الخطباء فيحول المنبر ، الى متجر مادي ، وليس الى محراب للايمان والعقيدة .
ثم يضيف الشيخ عبد الزهراء الكعبي ـ رحمة الله عليه ـ قائلا : ومن هنا كان الشرط الاساسي في تبليغ رسالات الانبياء ، هو انهم لا يسألون الناس اجرا ماديا على ما يبلغون من رسالات الله ومناهجه ، وانما كانت الاجرة هي التقوى ، والمودة ، ومحبة اهل البيت ـ ـ :
« قل لا اسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربى » [ الشورى : 23 ] .
هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، كان القرآن الكريم يشير الى حقيقة علمية ، ويكشف عن قاعدة في علم النفس الاجتماعي وهي ان الداعية او الخطيب ، اذا سأل الناس مالا مقابل اتعابه وتبليغه ، فان الناس سينفضون من حوله او يتركونه وحيدا ليس معه احد . يقول القرآن الكريم :
« اتبعوا من لا يسئلكم اجرا وهم مهتدون »[ يس : 21]
فكانما طبيعة البشر انهم يتبعون الذي لا يطلب مالا ولا عقارا . وهذه حقيقة لا يرقى اليها الشك ، وقد جاءت هنا في حقل التبليغ ، وليس في غيره ، لاننا احيانا كثيرة نطلب المال من الناس بعنوان الحقوق الشرعية :
« وفي اموالهم حق للسائل والمحروم » [ الذاريات : 19] .
ويقول : « والذين في اموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم » [ المعارج : 24 ـ 25 ] .
بل احيانا يكون اخذ المال بمثابة عملية تربوية ، ومحاولة جادة لتطهير النفوس ، من الشح والبخل والحرص والطمع ، بل من كل امراض النفس الامارة بالسوء ، يقول القرآن الكريم :
« خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلوتك سكن لهم » [ التوبة : 103 ]
هكذا كان يتحدث الشيخ الكعبي مع طلابه ، وتلامذته الذين خرج منهم خطباء كبارا يشار اليهم بالبنان ، وقد كان لكلامه هذا اثر عظيم في نفوس طلابه وتلامذته ، لانه لم يكن كلاما فارغا بعيدا عن التطبيق ، وانما كان قولا مشفوعا بالعمل ، فالشيخ الكعبي ما كان يعامل احداً على اساس المادة واخذ المال في مقابل المنبر ابداً .. وانما كان يصعد المنبر لاداء رسالة مقدسة ..
بل اكثر من ذلك ، فقد عرفناه اذا ساله احد اصحاب المجالس عن المقدار الذي يجب ان يقدمه اليه من المال ، فانه كان يرفض القراءة ، ولا يصعد المنبر في مثل هذه الاجواء المادية اللزجة الدبقة ..
واكثر من ذلك فقد رايناه لا يفتح ظرفا فيه مال يعطى اليه من قبل اصحاب المجالس ، وانما كان يتركه في بيته كما هو ، دون ان ينظر اليه ، او يعده مثلا .
على انه كان في الغالب يعطي ما ياخذ من المنبر للفقراء والمساكين والمحرومين فيوزع المال ، على الاسر الفقيرة ، وهي كانت بالمئات ، حيث كان الشيخ الكعبي يرعاها بعطفه ورافته ، وكرمه وكبر نفسه ، فكان يتفقد العوائل الفقيرة ، وكان يدلف اليهم في اوقات خاصة ، لا يراه فيها احد ، ولا يعرفه احيانا حتى صاحب الحاجة ، فكان يقضي حوائج الناس دون ان يذكر لاحد منهم ماذا صنع وهذه لعمري ، من خصال الانبياء واخلاق اهل البيت ـ عليهم افضل الصلاة وازكى السلام ـ .
فاين نحن الآن من بعض الناس الذين يجعلون هذا الطريق المقدس ، طريق تجارة ومادة وطمع ؟! اعاذنا الله واياكم من رجفات الطمع ، وسورات الحرص والبخل والجبن ، فانها غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله .
وخلاصة الكلام :
ان الخطيب الحسيني الذي يراه الكعبي ، انما هو صاحب رسالة ، وحامل مبدا لا يبتغي من وراء تبليغ رسالته الا رضى الله عز وجل ، وهذه نفحة طيبة ، من نفحات الشيخ الكعبي ـ رحمة الله عليه ـ التي كان يغمرنا بها بين فترة واخرى ..
حتى تركت هذه النفحات في نفوسنا معينا لا ينضب ابدا ، وعطاء لا يعرف الانقطاع ، لانه عطاء متصل بالعطاء الكبير ، بالكوثر الذي لا يتوقف عن التدفق والجريان .
على ان هذه الكلمات ، انما هي نداء صادق من الشيخ عبد الزهراء الكعبي الى كل خطيب وداعية ، ان يجعل المنبر وسيلة مقدسة ، لغاية شريفة ، وليس وسيلة للتجارة والربح والمادة .
واقراوا معي اذا شئتم قوله تعالى :
«اتبعوا من لا يسئلكم اجرا وهم مهتدون » [ يس : 21 ] .
الكتاب يستحق القراءة ومشوق أنصحكم بقراءته ففيه الموعظة والعبرة ...
إليكم الرابط أحبتي ...
لبيك ياعطشان