وسط هالة من الزهو والإنتشاء احتفت الصحف التركية الصادرة الجمعة 15-1-2010 بـ "النصر الدبلوماسي" الذي أحرزه لاعبو الدبلوماسية التركية بإجبارهم إسرائيل على تقديم إعتذار رسمي مكتوب يقطر ندماً على الإهانة التي وجهتها وزارة الخارجية الإسرائيلية لتركيا في شخص سفيرها بتل أبيب، وهو النصر الذي راى خبراء أتراك أنه "طوى العصر الذهبي لإسرائيل الذي كانت تفعل فيه ما تشاء في المنطقة دون خوف من العقاب".
وتعليقاً على هذا الإعتذار الذي جاء بعد ساعات قليلة من تهديد الرئيس التركي عبد الله غول، بسحب السفير ما لم تبادر تل أبيب إلى تقديم إعتذار مقبول، قال الكاتب الصحفي مراد ياكين، في صحيفة "راديكال" إن الإنذار الذي وجهه غول لإسرائيل بسحب السفير يمكن تفسيره بأنه "وضع النهاية للعصر الذهبي لإسرائيل في المنطقة، والذي كانت تفعل فيه ما يحلو لها دون حساب أو خوف من عقاب حقيقي، وهو بداية لعصر جديد ستكابد فيه إسرائيل كثيراً لتعيد بناء صورتها من جديد".
وبالمثل رأى الكاتب الصحفي سميح اديز بجريدة "حريت" أن الخطأ الدبلوماسي الذي ارتكبته إسرائيل "سيزيد من عزلتها في الشرق الأوسط، وستشعر كلما مر الوقت بأنها بحاجة أكبر للحفاظ على تحالفها مع تركيا؛ وهذا يعني أنها لن تخاطر مستقبلا ًبارتكاب أي شيء يفقدها تركيا".
واستشهد على ذلك بقول الون ليل، المدير العام السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية والخبير في شؤون تركيا، لصحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية الخميس: "إن إسرائيل الآن باتت في حاجة لتركيا أكثر من حاجة تركيا لإسرائيل".
ونفس الكلام رددته وسائل إعلام تركية أخرى من بينها موقع "تايم تورك" على الانترنت، حيث اعتبر الإعتذار بمثابة نصر دبلوماسي لتركيا، وقال إن الإعتذار "إذعانا إسرائيلياً لتركيا"، ونصراً لدبلوماسيتها.
ونشرت وزارة الخارجية التركية تفاصيل رسالة الإعتذار التي وجهها نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، داني ايالون، الأربعاء 13-1-2010، إلى السفير التركي، ومما جاء فيها على لسان ايالون: "بالرغم من أننا نختلف في وجهات النظر حول بعض القضايا، فإنه يجب أن تتم مناقشتها وتحل فقط عبر القنوات الدبلوماسية في أجواء من الإحترام المتبادل.. أنا لم يكن لدي أي نية لإهانتك بشكل شخصي، وأنا أعتذر للطريقة التي أعربت بها لك عن احتجاجي على بعض الأمور، وأرجو أن تبلغوا هذا الإعتذار إلى الشعب التركي الذي نكن له الإحترام العظيم".
وقبلت أنقرة الإعتذار الذي قال عنه رئيس الوزراء، رجب طيب إردوغان، انه تمت صياغته بالشكل الذي كنا نريده، مؤكداً من جديد في تصريحات صحيفة عقب عودته الخميس من زيارة لروسيا، إن أنقرة ستواصل انتقاداتها لإسرائيل ما استمرت الأخيرة في اعتداءاتها بالأراضي الفلسطينية، ورفضها لمبادرات السلام.
واعتبر إردوغان أن النجاح الدبلوماسي الذي احرزته حكومته "يتضمن دروساً يتعين الإستفادة منها حول كيفية التحرك بشأن مثل هذه المسائل.. الذين تعذر عليهم الإستفادة من هذه الدروس عليهم تحديد مواقفهم ومسيراتهم القادمة وفقاً لذلك"، دون أن يوضح بشكل مباشر المقصود بمن يريده أن يستفيد من هذه الدروس.
ونشبت أزمة السفير التركي بين الجانبين الثلاثاء إثر قيام ايالون باستدعاء السفير التركي اوجوز تشيليكول، ليبلغه الإحتجاج على انتقادات حكومة بلاده لإسرائيل وقيام محطة تلفزة تركية ببث مسلسل "وادي الذئاب" الذي يتناول صراعاً بين المخابرات التركية والمخابرات العامة الإسرائيلية "الموساد"، ويظهر أفراد الأخيرة يخطفون الأطفال ويطلقون الرصاص على كبار السن.
ولم يقتصر الأمر على هذا العرف الدبلوماسي "الإستدعاء"، بل قام ايالون بعدد من التصرفات "المهينة"، حيث تجاهل مصافحة السفير التركي، وأجلسه على مقعد منخفض عن المقاعد التي يجلس عليها ايالون ورفاقه، ولم يقدم له أي مشروب، كما أنه اكتفى بوضع العلم الإسرائيلي دون العلم التركي على المنضدة التي تتوسط مقاعدهم، وطالب مصوري وسائل الإعلام بالتركيز على هذه الامور.
"تغيرنا"
الموقف التركي المنتفض مما حدث من إسرائيل مع سفيرها والذي وصل إلى التهديد بسحب السفير، ثم الإذعان الإسرائيلي لهذا التهديد أثار تساؤلات خارج وداخل تركيا عن سبب التغيرات الواضحة في علاقات الجانبين، والتي تجلت بوضوح في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة العام الماضي.
المحلل التركي حسن كانبولات، رئيس مركز الدراسات الاستراتجية للشرق الأوسط، بأنقرة (اورسام)، رد هذه التغيرات إلى التغير في أولويات تركيا بالمنطقة، والتغير في الشكل والدور الذي تريده لنفسها فيها، فبعد عقود من العزلة التي فرضتها معظم الحكومات التركية السابقة الموالية للغرب على التحرك التركي إزاء الشرق الأوسط، سحبت تركيا إحدى قدميها من الغرب ليصبح لها قدم في الغرب وقدم في الشرق، بحد قوله.
وأضاف لصحيفة "زمان" التركية: "منذ بدأت تركيا مفاوضاتها مع الإتحاد الأوروبي لنيل عضويته عام 2005 خطت فصلاً جديداً في سياستها الخارجية التي باتت ترتكز على لعب دور حيوي وأساسي في تحقيق الإستقرار بالمنطقة - وهو الدور الذي تقدمه ورقة في مفاوضاتها- فمدت جسور التعاون الإستراتيجي مع منطقة البلقان والقوقاز والشرق الأوسط".
ولفت كانبولات إلى أن هذا التعاون "لا يعتمد على مجرد علاقتها بالحكومات، بل توجهت للشعوب بمشاريع اقتصادية وثقافية وغيرها، وعلى هذا فإن إسرائيل لم تعد الحليف الأقرب لتركيا، والعلاقات العسكرية معها لم تعد هي المحرك الوحيد لمواقف تركيا إزاءها، وبات أمام تركيا مراعاة مواقف وآراء شعوب بقية دولة المنطقة ومصالحها معها؛ حتى تثبت أنها لاعب نزيه جدير بلعب دور في تحقيق الإستقرار والسلام".
واستشهد المحلل التركي على ذلك بتصريحات لأحمد داود أوغلو قال فيها: "إن تركيا لا تستطيع أن تتوسع من تحالفها العسكري مع إسرائيل في هذه المرحلة التي تقاوم فيها الأخيرة السلام.. تركيا ليس من مصلحتها أن تبدو أمام الرأي العام في المنطقة متورطة في الأعمال العسكرية الإسرائيلية".
وإن كان هذا هو الرد السياسي والإعلامي التركي على سياسات إسرائيل الأخيرة فإن بهادير اوزدينير، كاتب سيناريو مسلسل "وادي الذئاب"، الذي تذرع به داني ايالون ليهين السفير التركي قال لصحيفة "حريت" إنه رداً على ما فعلته إسرائيل فإننا سنزيد من الأعمال التي تثير حنقهم، بل سنحول المسلسل إلى فيلم إذا تطلب الأمر".
وبشكل ساخر أضاف: "الإساءة التي اقترفتها إسرائيل كانت خطأ، ولو أننا أنفقنا تريليون دولار على الدعاية (للمسلسل) لما حصلنا على هذه النتيجة".
تاريخ من الإعتذارات
ولا يعد الإعتذار الإسرائيلي الأخير لتركيا هو الأول الذي تجبر على تقديمه لعدد من الدول الإسلامية والعربية عن إساءات قام بها بعض مسؤوليها.
ففي ديسمبر عام 2004 قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اريل شارون، إعتذاراً إلى الرئيس المصري، محمد حسني مبارك، عن قيام جنوده بقتل 3 جنود مصريين على الحدود بطلق ناري، قال إنه كان خطأ؛ حيث اشتبهوا في أن الجنود يتبعون المقاومة الفلسطينية.
وفي فبراير 2006 قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بالوكالة وقتها ايهود اولمرت، إعتذارا لكل من حسني مبارك والعاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، عن تصريحات أدلى بها قائد المنطقة العسكرية الوسطى في إسرائيل، الجنرال يائير نافيه، قال فيها أنه يتوقع ألا يكون هناك ملك أردني آخر في المستقبل في بلد بات معظم سكانه من الفلسطينيين، وعن تصريحات لنائب رئيس الأركان الإسرائيلي، الجنرال موشيه كابلينسكي، قال فيها أن هناك مؤشرات أولى على زعزعة ممكنة لنظام مبارك المتين.
وفي اكتوبر 2008 تلقى مبارك إعتذارا من الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، ورئيس وزرائه أولمرت عن تصريحات النائب الإسرائيلي وقتها، افيجدور ليبرلمان، التي انتقد فيها مبارك لعدم قيامه بزيارة إسرائيل إلا مرة واحدة طوال مدة رئاسته.
وفي يناير 2009 تلقت مصر إعتذاراً جديداً قدمه السفير الإسرائيلي، شالوم كوهين، عن إصابة عدد من المصريين في رفح قرب الحدود بشظايا الحرب الإسرائيلية على غزة.
وفي فبراير 2009 تلقت تركيا إعتذاراً من إسرائيل على تصريحات قائد القوات البرية، الجنرال افي مزراحي، التي هاجم فيها مسؤولين أتراك بسبب انتقاداتهم للإعتداءات الإسرائيلية في غزة، وقال إن على الأتراك أن يتذكروا ما وصفه بـ"احتلال" تركيا لشمال قبرص، وعملياتها العسكرية ضد الأكراد قبل أن يفكروا في انتقاد إسرائيل.