اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
أرذل العمر
مع وصوله مقر عمله يبدء بتوزيع المهام والمسؤوليات بين العمال والمراقبين، يمر بين ألآت التصنيع وينتقل بين مسارات التعبئة والتغليف ليطمأن على سير العمل حتى نهاية دوامه. مرة يطلق ضحكة مدوية وابتسامة عريضة، كنسمة ربيعية تبتهج وتنشرح على أثرها صدور من حوله، أو ينفجر عن صرخة تصم الأذان كزعقة غراب تأذن بالخراب والدمار، يفزع لها من تحت إمرته فيهبون لتنفيذ أوامره وهم يتذمرون، ودون أن ينسى إشعال مدخنته لتصل بين فمه وعنان السماء، يضعها نسيانا بدل القلم على أذنيه أو بين أصابعه، ولا يرفعها حتى تلتهم بعض أجزاء من لحمه.
أثنتي عشر سنة من الخدمة المتواصلة، وعلى وتيرة واحدة دون كلل أو ملل حتى أثناء الإجازة الأسبوعية. وعند استحقاق الإجازة السنوية والتي يأخذها رغما عن إدارته، بعد تأجيلها لعدة سنوات في محاولة لجمع اكبر قدر ممكن من المال يرسله إلي أهله وأطفاله، يسافر لرؤيتهم لفترة قصيرة لا تكفي لتعرفهم عليه كأب حنون وزوج رؤوف، يغادرهم بعدها ليعودوا يتذكروه فقط عند حاجتهم للمال.
في احد الأيام كان يعمل ليلا، وقبل تمكنه من أداء دوره المعتاد أحس بالآم تنهش أكتافه كأسنان التماسيح، فستأذن لمراجعة الطبيب، فأعطي بعض المهدءات ورجع لمتابعة عمله.
قبل خروج أول خيوط شمس النهار من مكمنها، شوهد وهو يتهاوى على الأرض فاقدا توازنه، كخيمة فاقدة أعمدتها وأوتادها. فنقل على الأكتاف إلى اقرب مستشفى، وقد وثق من حمله أن روحه قد فارقت جسده. فلا عرق ينبض، ولا عين تطرف، ولا استجابة لنداء.
أخذت الأجهزة الكهربائية بأسلاكها العنكبوتية تلتف حوله تهزه هزا عنيفا، تصارع العالم الآخر صراعا مستميتا من اجل إبقائه حيا، رغم ضعف قوته وهوان جسمه. فانتصرت أخيرا بجذبه إليها، وبقي يتنفس بصعوبة محاولا التشبث بأذيال الحياة.
أدار مسؤولوا المستشفى أقراص الهواتف في بحث دءوب عن مستشفى اكبر، لديه الإمكانيات الطبية اللازمة لمتابعة علاجه. واستمر البحث حتى قبيل انتصاف النهار، دون وجود بارقة أمل لإنقاذه. تعسر الأمر في وجود من يقبله، فتدخل مدير المستشفى شخصيا وحرك علاقاته الخاصة حتى تمت الموافقة.
نقل فاقدا لحيويته ونشاطه على وجه السرعة، وأعيد تقيده إلى الآلات والأسلاك لعدة أيام حتى تمكن من استرداد صحته، ولكنه فقد أهم شئ في وجوده وهو القدرة على التحكم في تصرفاته ومشاعره، كأنما رد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علما شيئا.
بقلم: حسين نوح مشامع - القطيف، السعودية
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
اقتباس
قبل خروج أول خيوط شمس النهار من مكمنها، شوهد وهو يتهاوى على الأرض فاقدا توازنه، كخيمة فاقدة أعمدتها وأوتادها. فنقل على الأكتاف إلى اقرب مستشفى، وقد وثق من حمله أن روحه قد فارقت جسده. فلا عرق ينبض، ولا عين تطرف، ولا استجابة لنداء.
أخذت الأجهزة الكهربائية بأسلاكها العنكبوتية تلتف حوله تهزه هزا عنيفا، تصارع العالم الآخر صراعا مستميتا من اجل إبقائه حيا، رغم ضعف قوته وهوان جسمه. فانتصرت أخيرا بجذبه إليها، وبقي يتنفس بصعوبة محاولا التشبث بأذيال الحياة.
ترى اليس هذا حال الكثير من الاباء في هذا الزمن الرديء