الطول من الصفات الحميدة!!:
بداية:
أما بعد...
لا يخفى أن للأشكال والهيئات دخلاً في مواقع الأبّهة والإكبار، فإنّها هي التي تملأ العيون بادئ ذي بدء، وهي أوّل ما يقع عليها نظر الانسان قبل غيرها من الصفات غير الظاهرة كالقوة، والبطولة والبسالة، والدهاء والحزم، وغيرها..
ولذلك قيل: «إن للهيئة قسطاً من الثمن»..
ويتأكد هذا في الملوك والأمراء، وذوي الشؤون الكبيرة، فإن الرّعيّة تتفرس في أصحاب الجثث والهامات العظيمة عظيماً في المعنويات، وتترسم فيها كِبَر النفسيات، وشدّة الأمر، ونفوذ العزائم، ويرضخ لها الكبير قبل الضئيل الذي يُحسب أنه لا حول له ولا طول، ومن يضعف دون إدارة الشؤون طوقه وأوقه.
ولذلك فإن الله سبحانه لمّا عرّف طالوت لبني إسرائيل ملكاً عرّفه بأنه: أوتي بسطة في العلم والجسم، فقال: ﴿..إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾(1)، فبعلمه يدير شؤون الناس الدينية والمدنية. ويكون ما أوتي من البسطة في الجسم من مؤكدات الأبهّة والهيبة التي هي بمثابة قوة تنفيذية لمواد العلم وشؤونه...
(2).
الطويل والطوال لغة:
قالوا: إن الطوال، كرمّان: هو المفرط الطول، ولا يكسَّر، وإنما يجمع جمع السلامة..
فيقال للرجل إذا كان أهوج الطول: طَوال وطُوال، وامرأة طَوالة وطُوالة..
وقد أنشد الشاعر في المحتسب حيث قال:
جاءوا بصيد عجب من العجب
أزيـْرق العينين طوال الذنب(3)
وفي حديث الاستسقاء:
«فطَال العباس عمر»، أي غلبه في طول القامة
(4).
ومن الطُول بالضم؛ ما روي أن النبي «
»:
«ما مشى مع طُوال إلا طالهم»(5).
وفي نص أخر:
«ما مشى معه أحد إلا طاله»(6).
وفي نص آخر أيضاً:
«إذا مشى بين طويلين طالهما(7)»(8).
وفي حديث عائشة عند ابن أبي خيثمة:
«لم يكن أحد يماشيه من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله «صلى الله عليه [وآله] وسلم» وربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما فإذا فارقاه نسبا إلى الطول»(9).
ونقول: إننا لا نريد في هذا البحث أن نثبت أو ننفي طول النبي «
» أو عدمه، وذلك لأنّ هناك من يعتبر كونه «
» يطول من يمشي معه أنه من معجزاته «
».
الصفات الحميدة وتلازم الطول مع الهوج:
قد يسأل البعض:
ألا يوجد تناقض بين ما ذكر من أن الطول من الصفات الحميدة وبين ما ورد في الحديث المعرف:
«ما من طويل إلا وفيه هوج»؟
فلماذا نقول إذن: إن الطول من الصفات الحميدة؟!!
ونقول في الجواب:
إننا لم نعثر على أية رواية بهذا المضمون أو ما يفيد هذا المعنى يمكن التعويل عليه، فلا يمكن أن يُستدل علينا بذلك إلا إذا وجدت تلك الرواية المدعاة..
أماما نقله العجلوني عن صاحب المقاصد من قوله:
«عن الحسن بن علي رفعه: إن الله جعل البهاء والهوج ـ بفتحتين أي الحمق ـ في الطول، ورواه بعضهم بلفظ: ما خلا قصير من حكمة ولا طويل من حماقة»(10)..
فالأول مردود: لأنه بالإضافة إلى أنه مروي عند المخالفين، لا اسناد له، بل إن ابن القيم جعله في روضة المحبين من كلام بعض السلف
(11)..
والثاني أيضاً مردود: بما ينقله المناوي في فيض القدير عن السخاوي حيث قال:
«وما اشتهر على الألسنة من خبر ما خلا قصير من حكمة لم أقف عليه»(12).
ثانياً: إن ما نسبه ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه على نهج البلاغة، إلى أمير المؤمنين «
»:
«الطرش في الكرام، والهوج في الطوال، والكيس في القصار، والنبل في الربعة، وحسن الخلق في الحول، والكبر في العور، والبهت في العميان، والذكاء في الخرس»(13).
وإن كان قد حاول البعض أن يستفيد منه فيقول:
«فكل طويل لا يخلو من هوج»(14).
لكننا نقول:
إن ما اسُتدل به لا يصلح للاستدلال به على ما ادّعي بل هو على خلافه أظهر وأبين..
وذلك لأمرين:
الأمر الأول: من ناحية الصدور والسند..
فإن نسبة هذه الرواية إلى أمير المؤمنين «
»غيرثابتة،
لما يلي:
وأما الرواية الثانية المنسوبة أمير المؤمنين
«»، فضلاً عن كونها مروية من طريق المخالفين كذلك، فهي لم يثبت صدورها عن عنه «
» حتى عند أبي الحديد المعتزلي نفسه الذي أوردها في شرحه على نهج البلاغة، فإنه ذكرها في تحت عنوان:
(الحكم المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [«»]»، كما أننا لم نجد من ذكرها غيره أيضاً.
الأمر الثاني: أما من ناحية المتن الدلالة..
لو سلمنا بالرواية من ناحية السند، لكنّنا لا نسلم من ناحية الدلالة على دلالتها على أن كل طويل فيه هوج كما حاول البعض أن يستفيد منه ذلك، وذلك لأن الرواية إنما تتحدت أن الهوج في إنما يكون في الطّوّال، لا أن كل طوّال أهوج..
وبعبارة أخرى: فقد ذكر أهل اللغة، كالفيروز آبادي مثلاً أن:
«الهَوَج ـ محرّكة ـ طول في حمق وطيش وتسرع»(15)..
وهذا يدل على أن مجموع بعض الصفات، ظاهرية كالطول، ومعنوية كالحمق والطيش والتسرع، هو الذي يكون معناه الهوج، لا أن كل طويل يكون فيه هوج أو حمق.
ويؤيد هذا قول الزبيدي في تاج العروس:
«ورجل أهوج بيّن الهوج: أي طويل، به طيش وتسرع »(16).
وقول ابن منظور في لسان العرب:
«رجل أهوج بيّن الهوج: أي طويل، وبه تسرع وحمق»(17).
فلعّل تقارن الطول والحمق في معنى الهوج جعل عند البعض هذا الإلتباس والخلط، والقول:
(بأن كل طويل فيه هوج أو حمق، أو..).
الجمال والإفراط في الطول:
وقد البعض أيضاً: بما أن الإفراط هو زيادة عن الحدّ وتجازوه، وهو لا ينسجم مع الجمال والبهاء، فكيف نوفِق بين الطول المفرط وبين الجمال وحسن المظهر الذي يوصف به الأشخاص؟!
نجيب فنقول:
أولاً: لم يقل أحد أن كل طويل لا بد له يتصف بصفة الجمال والبهاء وحسن المظهر كما قد يتوهمه البعض..
ثانياً: إن الجمال في الجسم يأخذ في معناه العرض وتناسب هذا العرض أو ذاك مع هذا الطول أو ذاك.
وعلى نحو التقريب: فمثلاً إذا كان الشخص طوله عشرة أشبار فيكون العرض المناسب له ثلاثة أشبار أو أربعة، وإذا نقص أو زاد عن ذلك، فيكون السبب في عدم تناسب الجسم كما هو اضح..
ثالثاً: إن تناسب الأجسام وكمالها بل وجمالها أيضاً هو أمر نسبي، إذ ربما يكون الشخص المعتدل طويلاً بالنسبة للقصير، وربما يكون العكس هو الصحيح, كما أنه قد يكون الشخص أمّا أطول وأمّا أقصر من أقرانه ومن هم بسنه، وقد يكون يكون الشخص الطويل بالنسبة لنا قصير بالنسبة لغيرنا.
رابعاً: من المعلوم أيضاً: أن السمنة والضعف لهما تأثيرهما على جمالية البنية الجسدّية للأشخاص، فقد يتصف الشخص بالطول لكن لا يتصف الجمال، وذلك إمّا لكونه ضعيف جداً ، أو لأنه سمين جداً.
خامساً: ونزيد على ما ذكرنا في البداية أن الطول من الصفات الحميدة: كون ذلك إنما هو على نحو الإقتضاء في الإشخاص، ويشترط فيمن يوصف بذلك أن لا يكون فيه مانع من ذلك، فليس بالضروة أن يكون كل شخص طويل أن يكون جميلاً..
ــــــــــــ
(1) سورة البقرة: الآية 247.
(2) الغدير للعلامة الشيخ الأميني ج 2 ص 108 (بتصرف).
(3) قد نسب هذا البيت الى (الفراء)، تارة وإلى (ابن جني) أخرى..( راجع: تاج العروس للزبيدي ج 15 ص 444 وتفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج 8 ص 341 وتفسير الثعلبي ج 8 ص 179 والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي ج 4 ص 492 وزاد المسير لابن الجوزي ج 6 ص 320 وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 11 ص 264 وكشف الرموز للفاضل الآبي ج 2 ص 345..
(4) راجع: تاج العروس للزبيدي ج 15 ص 444 والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير ج 2 ص 330 ولسان العرب لابن منظور ج 1 ص 459.
(5) راجع: تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ج 2 ص 267 ولسان العرب ج 11 ص 411.
(6) راجع: كنز العمال للمتقي الهندي ج 7 ص 162 وسبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ج 2 ص 83 ومسند الشاميين الطبراني ج 4 ص 59 وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 3 ص 272.
(7) في المصدر (طالهم)، وما أثبتناه هو الصحيح.
(8) نظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص 44.
(9) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 2 ص 168 ومسند الشاميين الطبراني ج 4 ص 59 ونظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص 44 وسبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ج 2 ص 83 وفتح الباري لابن حجر ج 6 ص 415 وتحفة الأحوذي للمباركفوري ج 10 ص 81 وفيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ج 5 ص 97 وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 3 ص 356 وراجع: السيرة الحلبية ج 3 ص 434 .
(10) كشف الخفاء للعجلوني ج 2 ص 187 تحت رقم 2209.
(11) روضة المحبين ص 237.
(12) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ج 3 ص 460 وكشف الخفاء للعجلوني ج 2 ص 187.
(13) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 20 ص 303.
(14) الإعجاز العلمي عند الإمام علي «» للدكتور لبيب بيضون ص 107.
(15) راجع: القاموس المحيط للفيروز آبادي ج 1 ص 213 وتاج العروس للزبيدي ج 3 ص 521.
(16) تاج العروس للزبيدي ج 3 ص 521.
(17) لسان العرب لابن منظور ج 2 ص 394.
ملاحظة: هذا البحث هو فصل من كتاب رجلاه تخطان سينشر قريباً إن شاء الله تعالى.