بسم الله الرحمن الرحيم
فضل السورة
عن أبي عبد الله - - : " من قرأ سورة التكاثر في فريضة كتب الله له ثواب أجر مائة شهيد ، ومن قرأها في نافلة كتب له ثواب خمسين شهيدا ، و صلى معه في فريضة أربعون صفا من الملائكة إنشاء الله " .
وفي أصول الكافي باسناده عن أبي عبد الله - - قال : " قال رسول الله - وسلم - من قرأ " ألهاكم التكاثر " عند النوم وقي فتنة القبر " .
تفسير نور الثقلين / ج 5 - ص 660
الاطار العام
بين حاجة الانسان و حرصه مسافة كبيرة ، و ما يلهيه عن ذكر الله و عن المكارم ليست حاجته ، بل حرصه الذي يبعثه يحرضه على التكاثر في الأموال و الأولاد ، حتى إذا زار قبره لم ينفعه ماله و ولده شيئا ، و حوسب على نعيم الله ، و تلاشى عنه ما يلهيه ، لأنه سوفيرى الجحيم عين اليقين . و هكذا تعالج السورة حالة التلهي بالدنيا عبر التذكرة بالموت ثم العقاب و الحساب
ألهاكم التكاثر
بينات من الآيات
[1] جاء في حديث شريف : " يا ابن آدم ! ان كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فأيسر ما فيها يكفيك ، و ان كنت تريد ما لا يكفيك فكل ما فيها لا يكفيك " ، و جاء في حديث آخر عن النبي - - : " يقول ابن آدم : مالي مالي ، و مالك منمالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت " (1) .
و هكذا الذي يسعى نحو إشباع حرصه و طموحه يزور قبره قبل ان يحقق معشار حرصه ، هل سمعت بقصة أصحاب البلايين ؟ ألا فكرت في سبب اجتهادهم في الحصول على المزيد من حطام الدنيا وهم يملكون اضعاف ما قد يحتاجونه ؟ ! انهم لا يزالون - حسب ظنهم - في وسط الطريق ، لانهم يبحثون دوما عن أعلى رقم ، و الارقام لا تنتهي ، و قال قال لي أحدهم : انه لا يحصي ما يملك ، و قال آخر : ان سبب(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 660 .
جهده البالغ ليس الحصول على الثروة ، بل استباق غيره فيها ، ولما سألته : و الى متى ؟ قال هناك دائما من هو أغنى مني ، فأنا في بحث دائم !
و هذا هو التكاثر الذي يستبد بمشاعر الانسان و لا يدع متسعا للتفكير في الآخرة .
[ ألهاكم التكاثر ]
اي شغلكم الاهتمام بالتكاثر فأنساكم الآخرة ، و قد اختلف المفسرون في الذي ألهاهم هل هو المفاخرة و المباهاة حسبما يأتي في بيان شأن النزول ، أم التجارة و التشاغل بأمر المعاش حسبما جاء في رواية ابن عباس عن النبي - - أنه قرأ : "ألهاكم التكاثر " و قال : " التكاثر : الأموال التي جمعها من غير حقها ، و منعها من حقها ، و شدها في الأوعية " (1) .
يبدو ان الدافع النفسي الى التكاثر ، و التنافس في الأموال و الأولاد هو الذي ألهاهم ، سواء تجسد في السعي نحوهما او في المباهاة بهما ، لان هذا الدافع موجود بالتالي هنا و هناك .
و لذلك لا أجد تناقضا بين ما يظهر من معنى اللفظ من التشاغل بالتجارة و بشؤون الأولاد ، و ما ذكر في قصة نزول السورة من المباهاة و المفاخرة بذلك ، لانهما يدخلان تحت عموم اللفظ ، و ينتهيان الى الدافع ذاته .
أما شأن النزول فان المفسرين اختلفوا فيه كثيرا ، مما يدل على ان مراد السابقين من شأن النزول ان السورة تنطبق على ما يقولون ، و لا تدل بالضرورة انها نزلت فيهم حقا ، و هكذا قال بعضهم : انها نزلت في اليهود ، حيث تفاخرت قبائلهم على بعضهم ، و قال البعض :
بل في قبيلتين من الأنصار ، و قال ابن عباس : بل في حيين(1) المصدر / 662 .
من قريش و هما بنو عبد مناف و بنو سهم . و أضاف : تعادوا و تكاثروا بالسادة و الاشراف في الاسلام ، فقال : كل حي منهم : نحن أكثر سيدا ، و أعز عزيزا ، فكثر بنو عبد مناف سهما ، ثم تكاثروا بالأموات فكثرتهم سهم ، فنزلت " ألهاكم التكاثر " بأحيائكم ،فلم ترضوا حتى " زرتم المقابر " مفتخرين بالأموات .
بلى . لا يزال الناس يفتخرون بأمجاد الغابرين ، و يتكاثرون بمن أمسوا ترابا ، و كأنهم يغنون عنهم شيئا من أمور دينهم او دنياهم ، هيهات . يقول الامام أمير المؤمنين - - و قد تلا هذه الآيات :
" ياله مراما ما أبعده ! و زورا ما أغفله ! و خطرا ما أفظعه ! لقد استخلوا منهم أي مدكر ، و تناوشوهم من مكان بعيد ! افبمصارع آبائهم يفخرون ، ام بعديد الهلكي يتكاثرون ! يرتجعون منهم أجسادا خوت ، و حركات سكنت ، ولأن يكونوا عبرا أحق من أن يكونوا مفتخرا ، ولأن يهبطونهم جناب ذلة أحجى من ان يقوموا بهم مقام عزة لقد نظروا اليهم بأبصار العشوة ، و ضربوا منهم في غمرة جهالة " (1) .
من عبر التاريخ ما ينقله الرواة عن مصير هؤلاء المتكاثرين المتفاخرين ، يقول قتادة : كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان ، و نحن أعز من بني فلان ، وهم كل يوم يتساقطون الى آخرهم ، و الله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم (2) .
و كلمة أخيرة : ان الانسان لا يني يكافح حتى يزداد مالا و ولدا ، حتى إذا انهارت قواه ، و لما يبلغ مناه تراه يتفاخر بالغابرين ، و يتكاثر بأهل القبور البالية . ما أكفر الانسان ، وما أبعده في الضلال ! أفلا يعتبر بمن هلك من قومه ، و يقول : اني من(1) المصدر / ص 661 نقلا عن نهج البلاغة .
(2) القرطبي / ج 10 - ص 169 .
بعدهم لهالك ، أفلا ارتدع عن التلهي بالدنيا ، و أنا وارد موردهم ، و نازل بمنازلهم .
[2] و يبقى الانسان سادرا في غفلته ، لاهيا بالتنافس على حطام الدنيا ، حتى يزور المقابر ، ليرى بيت الوحشة مظلما لم ينوره بمصابيح الصلاح ، و لم يمهده بحميد الفعال ، فلا ينفعه يومئذ مال و لابنون ، و لا يغنيه مجد و لا فخر .
جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق - - : " إذا وضع الميت في قبره مثل له شخص ، فقا له : يا هذا ّ! كنا ثلاثة : كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك ، وكان أهلك فخلفوك و انصرفوا عنك ، و كنت عملك فبقيت معك ، أما إني كنت أهون الثلاثة عليك" (1) .
[ حتى زرتم المقابر ]
و لعل التعبير بـ " حتى " للدلالة على ان التكاثر الذي يضر بصاحبه هو الذي يتصل بالموت فلو تاب صاحبه من قبل نفعته توبته ، و للدلالة ايضا على ان التكاثر يبقى يلهي صاحبه حتى الموت ، فعلينا ألا نسترسل معه ، و لا ينظر بعضنا الى ما أنعم الله علىالآخر من أزواج و أموال و أولاد ، بل ينظر في أمور الدنيا الى من دونه ، وفي شؤون الآخرة الى من هو فوقه ، قال تعالى : " و لا تمدن عينيك الى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير و أبقى " .
و السؤال : لماذا قال : " زرتم المقابر " أجابوا : لان العرب يقولون لمن مات قد زار قبره ، و يبدو ان التعبير يوحي ايضا بأن من يموت لا يفنى ، انما ينتقل من عالم لآخر فهو كالزائر .
(1) بحار الانوار / ج 6 - ص 265 .
و قيل : ان معنى زيارة المقابر : التفاخر بالأموات ، و التكاثر بعددهم ، حسبما سبق في بيان نزول السورة ، و قلنا هناك : ان الآية تتسع لهذا المعنى ايضا ، و لذلك ذكر بعض المفسرين أهمية زيارة القبور وأنها تذكر الانسان بالموت ، و تزهده في الدنيا ، و ذكروانصا مأثورا عن رسول الله - - انه قال : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا ، و تذكر الآخرة " (1) .
و قد حث الاسلام على ذكر الموت ، و الذي يتم بعضه بزيارة القبور ، حتى جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر - - : " ما أكثر ذكر الموت انسان إلا زهد في الدنيا " (2) و حينما سئل النبي - - عن أكيس المؤمنين من هو ؟
قال - - : " أكثرهم ذكرا للموت ، و أشدهم استعدادا " (3) .
[3] و الــذي يردع النفس من التلهي بالتكاثر خشيته من لقاء ربه عندما يزور قبره ، و يواجه عمله .
[ كلا سوف تعلمون ]
و العلم ينقض الشك ، كما ينقض الإنذار التلهي ، و هذه الآية إنذار من رب العالمين بان هذا التكاثر سوف يعلم ان من جمعه لم ينفعه .
[4] و لان نزعة التكاثر عميقة النفاذ في النفس ، بالغة الأثر في قرار الانسان ، وما أهلك الانسان مثل الفخر ، ولا أضله مثل التكاثر ، لذلك عاد السياق و أكد(1) القرطبي / ج 20 - ص 170 .
(2) بحار الانوار / ج 126 .
(3) المصدر .
الإنذار تلو الإنذار .
[ ثم كلا سوف تعلمون ]
و على الانسان ان يشتغل بإصلاح نفسه عن لهو التكاثر بذكر الموت هادم اللذات و مفرق الجماعات ، حتى لا يفاجئه ملك الموت و هولاه ساه .
و قد ذكر البعض : ان هذه الآية مجرد تأكيد للآية السابقة ، بينما ذهب البعض الى ان هذه الآية تذكرنا بعذاب الآخرة ، بينما الأولى تنذر بعذاب الدنيا الذي يجري حين الموت و بعده في القبر على امتداد أيام البرزخ و الى حين يبعثون ، و قد ورد نص مأثور عن الامام أمير المؤمنين - - في ذلك ، حيث روى زربن حبيش عنه ، قال : " ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت " ألهاكم التكاثر " الى قوله " كلا سوف تعلمون " يريد في القبر " ثم كلا سوف تعلمون " بعد البعث " (1) .
و هكذا حذرنا أولياء الله من فتنة القبر و عذابه ، فهذا الامام علي ابن ابي طالب - - يكتب لمحمد بن أبي بكر : " يا عباد الله ! ما بعد الموت - لمن لا يغفر له - أشد من الموت ، القبر فاحذروا ضيقه و ضنكه و ظلمته و غربته ، ان القبر يقولكل يوم : أنا بيت الغربة ، أنا بيت التراب ، أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الدود و الهوام . و القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار . ان العبد المؤمن إذا دفن قالت له الأرض : مرحبا و أهلا ، قد كنت ممن أحب أن تمشي على ظهري فاذا وليتك فستعلم كيف صنيعي بك ، فيتسع له مد البصر ، و ان الكافر إذا دفن قالت له الأرض : لا مرحبا بك و لا أهلا ، لقد كنت من أبغض من يمشي على ظهري فإذا وليتك فستعلم كيف صنيعي بك ، فتضمه حتى تلتقي(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 661 .
أضلاعه " (1) .
[5] لو علم الانسان ما يصير اليه لما ألهاه التكاثر لأن المعرفة تورث الخشية ، هكذا قال ربنا سبحانه : انما يخشى الله من عباده العلماء " ولكن حجب الشك و الغفلة و الشهوات تمنع عنه بصائر العلم و اليقين .
[ كلا لو تعلمون علم اليقين ]
إذا أسلمت النفس البشرية لهدى الله آمنت ، وإذا طهرت من الشكوك و الظنون أوتيت اليقين ، و لليقين درجات ، وما أوتي الانسان أشرف من اليقين ، هكذا جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر - - حيث قال : " انما هو الاسلام ، و الايمان فوقه بدرجة ، و التقوى فوق الايمان بدرجة ، و اليقين فوق التقوى بدرجة ، و لم يقسم بين الناس شيء أقل من اليقين " قال الراوي : قلت : فأي شيء اليقين ؟ قال : " التوكل على الله ، و التسليم لله ، و الرضا بقضاء الله ، و التفويض الى الله " (2) .
هكذا جعل الامام أسمى درجات الايمان و أشرفها اليقين ، مما يدل على ان اليقين هو : طهارة القلب من دنس الشرك و الشك و الظنون ، و سائــر وساوس ابليس و همزاته .
و جاء في حديث آخر تفسير اليقين بالتغلب على خوف المخلوق ، قال الامام الصادق - - : " ليس شيء إلا وله حد " فقال الراوي : فما حد التوكل ؟ قال الامام - - : " اليقين " فقال السائل : فما حد اليقين ؟
(1) بحار الانوار / ج 6 - ص 219 .
(2) بحار الانوار / ج 6 - ص 218 .
قال الامام - - : " ألا تخاف مع الله شيئا " (1) .
و اليقين يجعل عمل المـــؤمن مقبــــولا ، بل و يعظم ثوابه ، يقول الامام الصادق - - : " ان العمل الدائم القليل مع اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير اليقين " (2) .
أرأيت الذي يصلي و قلبه متصل بنور الله ، و نفسه طاهرة من الرياء ، و العجب و الاستكبار ، و يجاهد ، و نيته لله وحده ، كمن يصلي و قلبه مليء بالوسواس ، و يزكي رياء ، و يجاهد للاستعلاء في الارض ؟!
لذلك كان أئمة الهدى - - يجأرون الى الله في طلب الزيادة من اليقين ، و يحثون اتبــاعهم علــى مثـل ذلك ، هكذا جاء في الحديث : كان علي بن الحسين ( الامام زين العابدين ) يطيل القعود بعد المغرب يسأل الله اليقين . (3)و روي عن الامام أمير المؤمنين - - أنه قال في خطبة له : " أيها الناس ! سلوا الله اليقين ، و ارغبوا اليه في العافية ، فإن أجل النعمة العافية ، و خير ما دام في القلب اليقين ، و المغبون من غبن دينه ، و المغبوط من غبط يقينه " (4).
ولا يبلغ الانسان درجة اليقين إلا بعد العروج في درجات التسليم و الايمان و التقوى و كلها تقتضي المزيد من العمل الصالح و الخالص لوجه الله و المنبث على سائر جوارح البدن ، و جوانح النفس ، و حتى بعد الحصول على اليقين عليه ان يسعى جاهدا حتى يتجاوز عقد الشك و الإرتياب بالتفكر و التعلم و الدعاء . ألا ترى كيف(1) المصدر / ج 70 - ص 142 .
(2) المصدر / ص 147 .
(3) المصدر / ص 176 .
(4) المصدر .
سعـــى إبراهيم نحو اليقين حين سأله ربه سبحانه قائلا : " رب أرني كيف تحيي الموتى " . فلما قال له ربه : " أولم تؤمن قال بلى و لكن ليطمئن قلبي " . و لم يكن في قلبه ذره شك و لكنه حسب حديث مأثور عن الامام الرضا - - " أراد من الله الزيادة في يقينه " (1) .
و علامة صدق اليقين دوام الاستقامة على صراط الحق ، وألا يتخذ الانسان وليجة من دون الله و رسوله ، و يكون مستعدا لكل تضحية و في كل موقع . أولا سمعت قصة الأعرابي الذي جاء الى رسول الله و قال : يا رسول الله بايعني على الاسلام فقال له الرسول - صلى اللهعليه وآله - .
" على أن تقتل أباك " .
فكف الأعرابي يده ، و أقبل رسول الله - - على القوم يحدثهم .
و قد بين بعضهم درجات اليقين حسب فهمه بثلاث :
( ألف ) : علم اليقين ، و ضرب مثلا له كمن يعلم بوجود النار لما يراه من ضوئها أو دخانها .
( باء ) : حق اليقين و مثله كمن يرى النار بعينه مشاهدة .
( جيم ) : عين اليقين مثل الذي يلامس النار فيحس حرارتها .
و هذا - حسبما يبدو لي - مجرد أمثلة ، وإلا فقد يكون يقين من يعلم بوجود النار بسبب علائمها أشد من الذي يلامسها ؛ لان قلبه أوعى لحقيقتها من صاحبه . أرأيت(1) المصدر / ص 177
الطبيب قد يكون أفقه بحالة المريض و خصائص دائه من المريض ذاته ، و لذلك جاء في الحديث : " رب حامل فقه الى من هو أفقه منه " (1) و لا ريب أن هناك في المسلمين الأواخر من كان أشد يقينا بصدق الرسالة من بعض الذين عاصروا النبي و صاحبوه ، كل ذلك لأناليقين ليس مجرد علم بل روح في القلب ، تجعله يطمئن الى العلم و يسكن اليه ، كما الايمان و التقوى ، و بتعبير آخر : ان اليقين - كما قلنا في بداية الحديث - نقطة التقاء العلم بالإرادة ، كما ان الايمان : التسليم و الاذعان للعلم ، و عزم و عقد عزمات القلب علىقبول مشاهدات العلم مهما بلغ الثمن ، و هذا لا يكون بمجرد ظهور آيات الحقيقة للنفس ، بل و ايضا بتصديق النفس لها ، و السكون اليها ، و لذلك يكون يقين المؤمن بالغيب أشد من علم الكافر بالشهود ، و يبلغ اليقين ببعضهم حدا يعايشون الغيب بكل جوارحهم ، و يقول أميرهم الامام علي - - : " و الله لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا " (2) و يقول في صفة المؤمنين :
" فهم و الجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون ، و هم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذبون " (3) .
جــاء في الكافي ، عن محمد بن يحيى ، عن احمد بن محمد ؛ و علي ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن أبي محمد الوابشي و ابراهيم بن مهزم ، عن اسحاق بن عمار قال : سمعت أبا عبد الله - - يقول : " أن رسول الله - - صلى بالناس الصبح فنظر الى شاب في المسجد وهو يخفق و يهوي برأسه ، مصفــرا لونـه ، قد نحف جسمه ، و غارت عيناه في رأسه ، فقال له رسول الله - - كيف أصبحت يا فلان ؟ قال : أصبحت يا رسول الله ! موقنا ، فعجب رسول الله من قوله ، و قال له : إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك ؟
(1) اصول الكافي / ج 1 - ص 403 .
(2) غرر الحكم و درر الكلم / ص 603 .
(3) نهج البلاغة / خ 193 - ص 303 .
فقال : ان يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني ، و أسهر ليلي و أظمأ هواجري ، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني انظر الى عرش ربي و قد نصب للحساب ، و حشر الخلايق لذلك ، وأنا فيهم ، و كأني أنظر الى أهل الجنة يتنعمون في الجنة و يتعارفون على الآرائك متكئون ، و كأني أنظر الى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون ، و كأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي .
فقال رسول الله - - هذا عبد نور الله قلبه بالايمان ، ثم قال له : الزم ما أنت عليه فقال الشاب : ادع الله لي يا رسول الله ان أرزق الشهادة معك ، فدعا له رسول الله - صلـــى الله عليه وآله - فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي - - فأستشهد بعد تسعة نفر و كان هو العاشر " (1) .
[6] ان الكافر ليرى الجحيم بعينه ، يلامسها بجوارحه ، فيعلم يقينا أنه مواقعها ، وأنه كان في ضلال عنها مبين ، بينما المؤمن يعي وجود النار ، و يشاهدها ببصائر قلبه ، فيعلم يقينا بها .
[ لترون الجحيم ]
[7] أوليس الأحجى بنا و الأحرى أن نؤمن بها و نحن بعيدون عنها ، و قبل أن نردها ثم لا نصدر منها ؟ !
[ ثم لترونها عين اليقين ]
قالوا : ان الآية تشير الى أن كل البشر يردون النار أو يمرون عليها . لقوله سبحانه : " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " .
(1) موسوعة بحار الانوار / ج 70 - ص 159 .
فيمر عليها بعضهم كالبرق ، و بعضهم كالريح و بعضهم كالطير ، و يتباطئ بعضهم بذنوبه حتى يحترق بنارها قليلا ، و بينما يغط بعضهم فيها و يمكث المذنب فيها بقدر ذنبه ، قبل ان يتطهر كليا و يدخل الجنة ، و منهم الخالدون فيها أبدا و العياذ بالله .
[8] لكي لا يلهينا عن الآخرة التكاثر بحطام الدنيا لابد ان نعرف اننا مسؤولون يومئذ عن النعيم ، و كلما زادت نعم الله علينا طال وقوفنا للحساب عند ربنا ، فهل نملك الجواب الصواب ؟ !
يقال : ان النبي سليمان يختلف عن إخوانه الأنبياء ألف عام يوقف للحساب ، يسأل عن ملكه و نعيمه بينما هم يتنعمون في الجنة .
قالت أم كلثوم بنت أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - : لما كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قدمت اليه عند إفطاره طبقا فيه قرصان من خبز الشعير ، و قصعة فيها لبن و ملح جريش ، فلما فرغ من صلاته أقبل على فطوره ، فلما نظر اليه و تأمله حرك رأسه و بكى بكاءا شديدا عاليا ، و قال : " يا بنية ! ما ظننت ان بنتا تسوء أباها كما قد أسات أنت إلي " قالت : و ماذا يا أباه ؟ قال : " يا بنية ! اتقدمين الى أبيك إدامين في فرد طبق واحد ؟ أتريدين ان يطول وقوفي غدا بين يدي الله عز وجل يوم القيامة أنـــا أريـد ان أتبع أخي و إبن عمي رسول الله - - ما قدم اليه إدامان في طبق واحد الى ان قبضه الله ، يا بنية ! ما من رجل طاب مطعمه و مشربه و ملبسه إلا طال وقوفه بين يدي الله عز وجل يوم القيامة ، يا بنية ان الدنيا في حلالها حساب و في حرامها عقاب وقد أخبرني حبيبي رسول الله - - ان جبرئيل - - نزل اليه و معه مفاتيح كنوز الأرض و قال : يا محمد ! السلام يقرؤك السلام و يقول لك : إن شئت صيرت معك جبال تهامة ذهبا و فضة ، و خذ هذه مفاتيح كنوز الأرض ولاينقص ذلك من حظك يوم القيامة ، قال : يا جبرئيل و ما يكون بعد ذلك ؟ قال : الموت ، فقال : إذا لا حاجة لي في الدنيا ، دعني أجوع يوما و أشبع يوما ، فاليوم الذي أجوع فيه أتضرع الى ربي و أساله ، و اليوم الذي أشبع فيه أشكر ربي و أحمده ، فقال له جبرئيل : وفقتلكل خير يا محمد " . ثم قال : " يا بنية ! الدنيا دار غرور و دار هوان ، فمن قدم شيئا وجده ، يا بنية ! و الله لا آكل شيئا حتى ترفعين أحد الإدامين " فلما رفعته تقدم الى الطعام فأكل قرصا واحدا بالملح الجريش ، ثم حمد الله و أثنىعليه ، ثم قام الى صلاته فصلى ... " (1) .
ولو وعى الانسان هذه الحقيقة كبح شهوة التكاثر في نفسه ، و لم يدع هذه الحالة تلهيه عن ذكر الله .
[ ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم ]
ما هو النعيم ؟ اختلف المفسرون ، بل و اختلفت النصوص ، و يبدو أن الكلمة تتسع لكل الأقوال و لو بدرجات مختلفة ، فقد ينفي نص أن يكون طعام الانسان و شرابه مما يسئل عنه يوم القيامة ، فقد جاء في مجادلة الامام الصادق ( ع ) مع أبي حنيفة :
قال أبو حنيفة : أخبرني جعلت فداك عن قول الله عز وجل : " ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم " قال " فما هو عندك يا أبا حنيفة ؟ " قال : الأمن في السرب ، و صحة البدن ، و القوت الحاضر . (2) فقال : " يا أبا حنيفة ! لئن وقفك الله أو أوقفك يوم القيامة حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها و شربة شربتها ليطولن وقوفك " .
قال : فما النعيم جعلت فداك ؟ قال : النعيم : " نحن الذين أنقذ الله الناس بنا(1) موسوعة بحار الانوار / ج 42 - ص 276 .
(2) المصدر / ج 10 - ص 209 .
من الضلالة ، و بصرهم بنا من العمى ، و علمهم بنا من الجهل " قال : جعلت فداك فكيف كان القرآن جديدا أبدا ؟ قال : " لانه لم يجعل لزمان دون زمان فتخلقه الأيام ، ولو كان كذلك لفنى القرآن قبل فناء العالم " ، بينما يثبت ذلك نص آخر ، فما هو تفسير اختلاف النصين ؟ يبدو أن أحدهما ينفي المسؤولية بمعنى العقاب بينما يثبت الثاني السؤال . أو أن الأول ينفي التشديد في السؤال ، بينما الثاني يثبت السؤال . و يدل على ذلك ما جاء في الحديث المأثور عن النبي - - : " كل نعيم مسؤول عنهصاحبه إلا ما كان في غزو أو حج " (1) .
و نعود و نتساءل : عماذا يسأل العبد يوم القيامة ؟ بلى . أنه يسأل عن طعامه من أين اكتسبه و كيف صرفه ، و في حديث مفصل قال النبي - - لأبي بكر و عمر " و الذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم . يوم القيامة " و كانا قد خرجاجائعين فصاحبا رسول الله الى ضيافة مالك بن التيهان - أحد الأنصار - فأكرمهم بقراه فقال لهما الرسول ذلك ، و اضاف : " أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم " (2) .
و روي عن الامام أمير المؤمنين في تفسير النعيم ، أنه قال : " النعيم : الرطب و الماء البارد " (3) .
كما يسأل المرء عن مجمل ماله من أين اكتسبه و فيم صرفه ، هكذا في الأحاديث المأثورة : يسأله عن شبابه فيما أفناه ، و ماله فيما أنفقه ، و عن أمنه و عافيته . أليست الصحة نعمة كبيرة و جاء في الحديث عن النبي - - : " نعمتان(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 665 .
(2) القرطبي / ج 20 - ص 175 .
(3) تفسير نمونه / ج 27 - ص 286 .
مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ " (1) .
و في نص معروف : " نعمتان مجهولتان الصحة و الأمان " .
و عن جاهه عند الناس : فقد جاء في الحديث عن رسول الله - - : " إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد مــن عباده فيوقفه بين يديه ، فيسأله عن جاهه ، كما يسأل عن ماله " (2) .
ولكن أعظم نعمة يسأل العبد عنها يوم القيامة هي نعمة الهداية و التي تتجلى في الرسالة و في الرسول و فيمن استخلفه الرسول من أئمة الهدى ، أوليست نعمة الرسالة هي التي من الله بها على عباده إذ قال : " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم " .
و قال : " يمنون عليك ان أسلموا قل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله يمن عليك ان هداكم للاسلام " .
و هكذا كانت ولاية أئمة الهدى أعظم مصداق للنعيم المسؤول عنها يوم القيامة ، و بذلك استفاضت النصوص - مثل الحديث المأثور عن الامام الرضا - قال له بعض الفقهاء : يقول الله عز وجل : " ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم " اما هذه النعيم في الدنيا وهو الماء البارد .
فقال له الرضا ( ) و علا صوته : " كذا فسرتموه أنتم ، وجعلتموه على ضروب ، فقالت طائفة : هو الماء البارد ، و قال غيرهم : هو الطعام الطيب ، و قال آخرون : هو طيب النوم " ثم نقل الامام الرضــا عليــه السلام حديثا عن آبائه ، جاء فيه: " ان الله عز وجل لا يسأل عباده عما تفضل عليهم به " ثم قال : " و لكن(1) القرطبي / ج 20 - ص 177 .
(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 664 و هناك نصوص أخرى في هذا الحقل .
النعيم حبنا أهل البيت ، و موالاتنا يسأل الله عنه بعد التوحيد و النبوة ، لأن العبد إذا وفى بذلك أداه الـى نعيم الجنة الذي لا يزول " ثم نقل الامام الرضا - - حديثنا عن آبائه عــن رسول الله - - صريحا في هذا التفسير (3).
منقوووووووووووووووول من فيس بوك
سماحة الشيخ هادي المدرسي