اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
شهدت المجتمعات البشرية على مر التاريخ أنواعاً متعددة من الصراعات الفكرية ، ومحور الأعم الأغلب من هذه الصراعات - إن لم تكن كلها - هو الصراع بين القديم المحافظ الذي يرفض أي مظهر من مظاهر التغيير وبين الجديد المتحرر الذي يهدف إلى نبذ الجمود والتقوقع ويسعى إلى الانفتاح على آفاق أخرى مغايرة تتسم بالجدة والحداثة .
ويبرز هذا الصراع في أوضح وجوهه في ميدان الأدب والثقافة والفن. حيث تتكرَّس القيم وتتبلور المفاهيم لتنصب في قوالب صلبة ثابتة على شكل تقاليد تكتسب مع مرور الزمن صفة القدسية ليُطلق عليها مدارس تارة ، واتجاهات تارة أخرى ، ومذاهب تارة ثالثة.
وأي تجربة بشرية ، إذا ما وضعت في سياقاتها التاريخية وظروفها الموضوعية ، لا تعدو أن تخرج من دائرة ذلك الصراع القديم المتجدد . ولعل التجربة التي عاشها المجتمع العربي عشية ظهور الإسلام تدخل في نفس هذا الإطار وخاصة إذا ما نُظر إليها على أساس أنها تجربة فكرية محضة تسعى من خلال استعمال آليات الفكر وأدواته المجردة إلى تحقيق أهداف روحية عليا.
فقد اتسم المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام بشغفه بالبيان واهتمامه بالكلمة فأكرم فرسانها - من شعراء وخطباء - أيما إكرام وأسبغ عليهم آيات الاحترام والمجد والرفعة. وما كان تدوين روائع شعراء تلك الفترة بماء الذهب وتعليقها على جدران الكعبة إلا وجهاً من وجوه ذلك الإكرام والتعظيم لتلك النفائس ولمبدعيها.
وكانت القصائد العربية محكومة بضوابط قاسية لايمكن التسامح بالخروج عليها. وتشمل هذه الضوابط شكل القصائد ومضمونها. فقد صُبت القصائد - من حيث الشكل - بقوالب عمودية تحكمها إيقاعات محددة أطلق عليها فيما بعد الخليل بن أحمد الفراهيدي اسم بحور الشعر ، وتحكمها أيضاً قوافي تتخذ من وحدة الحرف الأخير أو ما يسمى بالروي نمطاً تسير عليه من مطلعها إلى آخر بيت فيها. وسارت تلك القصائد - من حيث المضمون - على أنساق متشابهة فغالباً ما تبدأ بالوقوف على الأطلال أو بالتشبب بالحبيبة لتنتقل إلى التفاخر بالقوم وكرم القبيلة وذكر مآثر الأهل وشجاعتهم في الحروب ومقارعة الأعداء.
وبظهور الإسلام ونزول سور القرآن الكريم صُدم وعي الأمة بنمط من القول لم يألفه الناس من قبل . فالنص القرآني شكَّل بحق كسراً كاملاً لكل ما تعارف عليه بلغاء العرب آنذاك من معايير وضوابط أدبية. فقد غابت - من حيث الشكل - تلك القوالب التقليدية التي صب بها الشعراء قصائدهم لتُطرح بدلاً عنها تلوينات من نوع آخر ، لا صدر فيها ولا عجز . قد تأخذ شيئاً من الإيقاع وقد تتخلّى عنه تماماً ، وقد تلتزم القافية على شكل سجع وقد تكسرها بعفوية ، وقد تطول لتشمل مئات المقاطع وقد تقصر لتقتصر على سطر واحد فقط.
أما من حيث المضمون فقد تجاوز النص الجديد الأنماط السائدة وشرع يفتح الكون بتفاصيله أمام أنظار الناس وعقولهم ليقرأه لهم من زوايا لم تخطر لهم يوماً ببال. ولم يكن الكون - كعالم للشهادة بموجوداته الحسية - بعده الأوحد ، بل تعداه إلى أبعاد أخرى ميتافيزيقية خارج حدود الحواس ليصور للناس عالم الغيب وما جرى سابقاً وما يجري حالياً وما سيجري لاحقاً عليهم وعلى جميع العالمين. فأقسم لهم بالتين وبالزيتون وبالنهار وبالليل وبالشمس وبالقمر وبالضحى وبالفجر وبالأرض وبالسماء وبمواقع النجوم. ولفت أنظارهم إلى تنفس الصبح بعد وطأة الليل المظلم وإلى عملية إنسلاخ النهار منه ، وإلى منازل القمر وجريان الشمس إلى مستقرٍّ ما ، وقصَّ عليهم أروع القصص وما جرى على الأنبياء والرسل السابقين ففتنوا بأسلوبه الفذ والفريد الذي لا يفصّل حيث يكون الاختصار كافياً ولا يبخل بالتفاصيل حيث تكون ثمة ضرورة للإطناب.
وأُعجب بلغاء العرب قبل عوامِّهم بالخطاب القرآني نصاً ومضموناً ، وأخذتهم الحيرة في وصفه فأعترفوا بإعجازه البياني رغم اختلافهم في مسألة نبوة حامله. ومصدر هذا الإعجاب هو فرادة ذلك النص وتميُّزه عما ألفوه من نصوص كثيرة وهم فطاحل الشعر وفرسان الكلمة.
وكسِّنَّة من سنن التاريخ حيث الصراع بين المحافظين على القوالب القديمة وبين المنفتحين على كل ما هو جديد بروح الفهم والشفافية ، سعى البعض إلى إنكار إعجاز هذا النص فأعتبره سحراً يؤثر تارةً وأساطير الأوَّلين تارةً أخرى . بل ظنَّ البعض الآخر إمكانية الإتيان بمثله فسعى إلى محاكاته وتأليف نصوص على غراره ، وقد باءت جميع تلك المحاولات بالفشل الذريع وذهبت أدراج الرياح ، وكتب التاريخ حافلة بأسماء أولئك وبنصوصهم البائسة.
فالقرآن الكريم إذا ما نظرنا إليه من ناحية أدبية محضة يُعتبر ، وفق سياقه التاريخي وظروف نزوله الموضوعية ، نصاً حداثوياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى . لأنه خروج كامل على الأطر والأنماط الأدبية السائدة آنذاك ليس على مستوى الشكل فحسب بل وعلى مستوى المضمون أيضاً.
-- منقول --