اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم واللعن أعدائهم .
الإمام الحسين فوق الوصف والتعريف
أن سيد الشهداء فوق الوصف والتعريف ، وأن عمله فوق رتبة التوفيق. وبما أن المسألة أكبر من أن نستطيع تقريرها بكلماتنا ، فنحن ملزمون أن نطلب فهمها من كلمات أهل البيت الطاهرين صلوات الله عليهم ، بالتأمل فيها وكشف الحجاب عن أذهاننا للوصول الى عمقها .
سأعرض عليكم توجيه الإمام الصادق ليونس بن ظبيان ، بشكل مجمل وأرجو أن تستفيدوا من خبراتكم العلمية لفقه هذا الحديث ، لأن مراتب العلماء إنما هي بدرجة الدراية لا الرواية. قال يونس للإمام الصادق : (جعلت فداك إني كثيراً ما أذكر الحسين ، فأي شئ أقول؟ فقال قل: صلى الله عليك يا أبا عبد الله . تعيد ذلك ثلاثاً ، فإن السلام يصل إليه من قريب ومن بعيد.... قال له يونس: جعلت فداك إني أريد أن أزوره فكيف أقول وكيف أصنع؟ قال: إذا أتيت أبا عبد الله فاغتسل على شاطئ الفرات، ثم البس ثيابك الطاهرة، ثم امش حافياً فإنك في حرم من حرم الله وحرم رسوله ، وعليك بالتكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، والتعظيم لله عز وجل كثيراً، والصلاة على محمد وأهل بيته ، حتى تصير إلى باب الحائر ، ثم تقول:
السلام عليك يا حجة الله وابن حجته.
السلام عليكم يا ملائكة الله ، وزوار قبر ابن نبي الله .
ثم اخط عشر خطوات ، ثم قف وكبر ثلاثين تكبيرة ، ثم امش إليه حتى تأتيه من قبل وجهه ، فاستقبل وجهك بوجهه وتجعل القبلة بين كتفيك ثم قل:
السلام عليك يا حجة الله وابن حجته.
السلام عليك يا قتيل الله وابن قتيله.
السلام عليك يا ثأر الله وابن ثاره.
السلام عليك يا وتر الله الموتور في السماوات والأرض ) .انتهى .
تأملوا جيداً ، فالسلام الأول سلام عام ، وبعده ثلاث تسليمات خاصة ! وهنا المعرفة والحكمة! إن لُباب العلم في كلمات الأئمة المعصومين ، والعقل البشري يحتاج الى مدد إلهي وعناية ربانية ، ليصل الى شعاع من تلك الشموس المتوهجة !
السلام عليك يا حجة الله وابن حجته.. وهذه الصفة سمةٌ عامة للأئمة الذين جعلهم الله ذرية مباركة بعضها من بعض ، لكن ما بعدها صفاتُ وسماتٌ خاصة بالحسين لا يشترك معه فيها غيره ، حتى أبوه صلوات الله عليهم.
السلام عليك يا قتيل الله وابن قتيله.. تعبيرٌ بليغٌ لنوع فريد من الشهادة لله تعالى على خلقه ، شاركه فيه أبوه أمير المؤمنين ، لكن الحسين اختص بأنه قتيل الله وابن قتيله ! فقد كُتِبَتْ له هذه السمة الفريدة من عالم الغيب: قتيل الله وابن قتيله! فلا تجد هذا المنصب الرباني لغيره في كل تاريخ البشرية ، ولا في مقامات الأنبياء والأوصياء والشهداء .
ومن الممكن لنا أن نفهم صفة: قتيل الله وابن قتيله ، وثأر الله في الأرض وابن ثاره.. لكن العبارة المحيرة للعقول هي:
السلام عليك يا وتر الله الموتور ، في السماوات والأرض !
ثم ، بعد هذه المقامات الثلاثة ، قال الإمام الصادق : أشهد أن دمك سكن في الخلد ، واقشعرت له أظلة العرش ، وبكى له جميع الخلائق !!
فصاحب هذا المقام الذي نريد أن نعرِّفه للمسلمين، جوهرٌ منحصرٌ بفرد! وإنجازاته كليٌّ منحصر بفرد ! وفي كل فقرة من هذه الدرر أبحاثٌ تستغرق ساعات ، ولا ندعي الكمال في الشارح ، بل نأمل الإستعداد في المستمع .
والمهم الآن أن نفهم ما الذي حدث حتى صار دم الحسين من سكان عالم الخلد؟! فعالم الخلود مكان التجرد ، وذهاب الروح اليه وسكناها فيه منسجم مع الأصل ، لكن ذهاب الدم وسكنه فيه ، يعني أن الروح حدث فيها تطور فصار مقرها فوق الخلد! وأن الدم صار من نوع الروح فسكن الخلد ! معنى ذلك أن الحسين وصل الى درجة أن الخلد صار مسكناً لدمه الطاهر، أما روحه فمسكنها في درجة فوق الخلد ، لا نعرفها !
أشهد أن دمك سكن في الخلد، واقشعرت له أظلة العرش.. كلامٌ عن عالم أعلى، من إمام مفتوحة له النوافذ على ذلك العالم ! فما معنى سكن الدم في الخلد ، واقشعرار أظلة العرش له؟! وما هذا التقابل والجدلية بين سكن دم الحسين وسكونه في الخلد ، وبين اقشعرار أظلة العرش؟
إنه تعبير يموج بالبحث والمعرفة ! ثم يأتي بعده المشهد العجيب: وبكت له جميع الخلائق!
أين أهل التأمل والنظر وأصحاب الدقة الفكرية؟ لقد استعمل الإمام الجمع المحلى بالألف واللام للخليقة لتفيد التعميم لكل المخلوقات ، ثم جمعها بكلمة (الخلائق) ، ثم فصل الخلائق بعد إجمالها ! فقال: وبكت له السماوات السبع والأرضون السبع ، وما فيهن وما بينهن ومن يتقلب في الجنة والنار من خلق ربنا ، وما يرى وما لا يرى.. كلها بكت من أجل دم الحسين ، فأين الحسين نفسه؟! نعم، كل هذا التجليل والعظمة إنما هو لدم سيد الشهداء الذي يجري في عروقه، والذي أراقه لله تعالى في كربلاء ! أما روحه المتعلقة بذلك الدم ، فلها حديث آخر !
فانظروا الى هذا التحول والإنقلاب الذي حصل في مراتب الوجود ، في نقطة الصعود ونقطة النزول ، من أين امتد إلى أين؟! وإلى أين نصل من باب العلم هذا الذي فتحه الإمام الصادق لأهل الفقه الأكبر ، عندما عرَّف لنا الإمام أبا عبد الله الحسين بدمه وليس بنفسه ولا بروحه فأفهمنا أن دمه الشريف فوق التعريف ، فكيف بصاحب الدم ، ومنزلته ؟!
إقرأ كتاب الكافي من أوله الى آخره ، ولكن قراءة باحث ، وتتبعْ فيه مراتب الوجود ، وقوس النزول والصعود ، لترى أن ما أشرت اليه من تفصيل علامة الوجود الإمام جعفر الصادق بعد إجماله: وبكت له السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن ومابينهن ومن يتقلب في الجنة والنار من خلق ربنا وما يرى ومالا يرى.. يدل على أهل الجنة بكوْا لهذا الدم ، وأهل جهنم بكوا لهذا الدم ! وما ذلك إلا لأن انقلاباً حدث في قوس الصعود وفي قوس النزول ! وأن أعلى نقطة في مراتب الوجود الى أدنى نقطة في مراتبه ، كلها اهتز وجودها ووجدانها أمام دم الإمام الحسين ، فما هذه العظمة ؟!
ولم يقف الإمام الصادق عند هذا ، بل قال كلمة بعده لا يستوعبها إلا من خصه الله برزق من عنده ! قال الإمام :وما يرى ، وما لا يرى !
فكل ما خلق الله مما يرى ولا يرى ، بكى لدم الحسين !
فما هذا المجد الرباني للحسين ، وما قضيته ؟
هذا يعني أنك إذا أردت أن تتلفظ باسم الحسين على المنبر، وتؤدي ما ينبغي من مراسم ذكر اسمه، فغسلت فمك بماء الورد ألف مرة ! فأنت مقصر في آداب ذكر اسمه الشريف! كيف لا ، وأنت لا تستطيع أن تفهم دم الحسين ، وما معنى أنه سكن في الخلد! فكيف تفهم روحه ؟!
وإذا أردنا أن نصوغ المطلب بنظم الدليل البرهاني ، فإن إضافة النكرة الى المعرفة تقلب النكرة فتكتسب بإضافتها التعريف ، هذه قاعدة العَلَم الإضافي، فإذا كان المضاف اليه فوق التعريف ، أخذ المضاف من صفته فصار فوق التعريف ! وهذا هو الدليل البرهاني على أن الإمام الحسين فوق التعريف !
كما أن الإضافة تكون أحياناً إضافة فنائية ، فيكون لها حكم آخر ، حيث تسري آثار المفني فيه الى الفاني وتظهر عليه ! فلننظر الى إضافة الحسين الى الله تعالى ، أي نوع من الإضافة هي ، لكي نفهم لماذا قال الإمام الصادق : السلام عليك يا قتيل الله وابن قتيله !
فمن هو قتيل الله هذا ؟ إرجعوا الى دعاء علقمة بن محمد الحضرمي، واقرؤوا هذا الجملة التي تبين مقام النبي وسلم وبقية أصحاب الكساء يقول: يا من يكفي من كل شئ ولا يكفي منه شئ في السموات والأرض ! أسألك بحق محمد خاتم النبيين،وعلي أمير المؤمنين، وبحق فاطمة بنت نبيك وبحق الحسن والحسين، فإني بهم أتوجه إليك في مقامي هذا وبهم أتوسل ، وبهم أتشفع إليك، وبحقهم أسألك وأقسم وأعزم عليك، وبالشأن الذي لهم عندك، وبالقدر الذي لهم عندك، وبالذي فضلتهم على العالمين، وباسمك الذي جعلته عندهم، وبه خصصتهم دون العالمين ، وبه أبنتهم وأبنت فضلهم من فضل العالمين ، حتى فاق فضلهم فضل العالمين جميعاً .
فمعنى هذا أن هؤلاء الخمسة صار لهم حسابهم الخاص عن كل العالمين ، بما حملهم الله تعالى من اسمه الأعظم ، فلا يقاس بهم غيرهم أبداً ! وذلك الدم المقدس الذي أريق في كربلاء أخذ خصوصياته من هنا ! فهو دم بدن يحمل اسم الله الأعظم ، لكن الى أي حد ، وأي مستوى؟
إن اسم الله الأعظم ثلاث وسبعون حرفاً ، منه حرف مختص بالله تعالى ، لايصل الى مخلوق ولا يصل اليه مخلوق! ومن الإثنين وسبعين حرفاً أعطى الله تعالىعبده عيسى بن مريم أربعة حروف فقط، وبها كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله . كل هذه الآثار كانت بالحروف الأربعة !
أما ابراهيم فقد وصل الى درجة أن يعطى من اسم الله الأعظم ثمانية حروف لم يتجاوز الثمانية !
وأما نبينا وأهل بيته وسلم فقد أعطاهم الله تعالى اثنين وسبعين حرفاً من إسمه الأعظم .
فالحروف الأربعة التي عند عيسى المسيح ، والثمانية التي عند ابراهيم ، الى الإثنين وسبعين حرفاً ، كلها في قلب الحسين ! ولك أن تتصور بدناً يحمل مثل هذا الجوهر الفرد ، ودماً أريق من مثل ذلك القلب بأي حساب يجب أن يحسب ؟!
لا بد أن تعرف دمَ مَنْ هو ؟ ومن أي نوع من المعرفة تغذى ؟
ومن أي نبع سقيت صفاته وملكاته ؟ ومن أجل مَن أريق ، وكيف ؟
وهل يمكن لبشر أن يفهم ذلك الدم الذي يجري فيه اسم الله الأعظم ؟!
لسنا في صدد الحديث عن الجراحات التي وقعت على ذلك البدن الشريف صلوات الله عليه ، وعن تعدادها وتفصيلها ، فغرضنا أن نفهم شيئاً من شهادة الإمام الصادق :أشهد أن دمك سكن في الخلد ! فالإمام الحسين بكل هذه الجراحات التي في بدنه ، وقف في جانب الميدان ليستريح ساعة ، فقد كان التعب بلغ به مبلغه ، فهو على أي حال بشر ، وامتحانه الإلهي هذا يتم في عالم بشريته.وقف وهو يحمل جراحاته ليستريح هنيهة ، فقد رجع من حملاته عليهم ، ورد حملاتهم عليه ، وقبل قليل كان عند جسد أخيه العباس، وجثمان ولده علي الأكبر، ورأى أجساد أصحابه المجدلين في أرض كربلاء هنا وهناك ، والآن هذه جراحاته تستوعب بدنه !
في ذلك الوقت ضربه خبيث بحجر فوقع على جبهته ، فرفع طرف قميصه ليمسح الدم عن وجهه، فماذا حدث؟ أتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب فوقع في صدره فانبعث الدم كالميزاب ، فتلقى الدم بيده فلما امتلأت رمى به إلى السماء ، فما رجع من ذلك الدم قطرة !!
أرجو أن تلتفتوا.. لماذا تلقى الحسين دم قلبه بيده ورمى به الى السماء؟! وكم مرة فعل ذلك؟ وفي إحداها مسح به وجهه وبدنه !
وأي دم صعد الى السماء ، وأي دم مسح به رأسه ووجهه؟
وهل وقع من دمه على الأرض؟
ولماذا لم يتركه الإمام الحسين يجري على الأرض ؟!
ولو جرى على الأرض هل تبقى أرض وأهل الأرض ؟!
إن هذا هو معنى: السلام عليك يا رحمة الله الواسعة ويا باب نجاة الأمة.
أنت يامولاي جعفر بن محمد ينبغي أن تقول أي دم كان ذلك الدم؟!
أخذ الحسين الدم الشريف ونظر اليه وقال: بسم الله وبالله، ثم قال: وفي سبيل الله، ثم رمى به نحو السماء، يعني: إِلَيْه يَصْعَد ُالْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه! قال الإمام الصادق : فما رجع من ذلك الدم قطرة !!
ذلك هو الدم الذي سكن في الخلد !!
يا أحمد بن حنبل ، أنت كتبت في مسندك..
يا ابن عبد البر ، أنت كتبت في استيعابك..
ويا ابن حجر ، أنت كتت في الإصابة..
ويا ترمذي ، أنت كتبت في سننك..
ويا جلال الدين السيوطي ، أنت كتبت في تفسيرك وتاريخك..
ويا بيهقي والخطيب البغدادي ، وأئمة التفسير والحديث..
أنتم جميعاً كتبتم ، فهل فهمتم ما كتبتم من خبر ابن عباس قال رأيت النبي وسلم حزيناً مغبر الثياب وبيده قارورة يلتقط فيها دم الحسين ليرفعه الى العرش،وأن النبي وسلم أخبر ابن عباس بشهادة الحسين فكان كماقال وظهر صدق رؤيا ابن عباس ، وظهرت كرامة للنبي وسلم في دم الحسين !
(قال ابن الأثير في تاريخه:1/82: قال ابن عباس: رأيت النبي الليلة التي قتل فيها الحسين، وبيده قارورة يجمع فيها دماً فقلت: يارسول الله ما هذا ؟ فقال: هذه دماء الحسين وأصحابه، أرفعها الى الله تعالى ) ! انتهى .
وفي رواية: أرفعه الى السماء، وفي رواية: الى العرش.
وفي كلها: دم الحسين وأصحابه ! يا أئمة رواة الحديث ، هل فهمتم ماذا يعني النبي وسلم بذلك؟! يعني أني أنا بستاني الإنسانية، بعثت في أهل الأرض وغرست بستاناً.. وعندما تطلع منه الورود ، لابد أن آتي وأقطفها وآخذها الى الله تعالى، لأن محلها: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ !
أشهد لقد طيب الله بك التراب ، وأوضح بك الكتاب.
السلام عليك يا قتيل الله وابن قتيله.