الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى) تشير الآية الشريفة إلى بعدين مهمين في عمل الإنسان وجزاءه:
البعد الأول: العلاقة مع الخالق سبحانه.
البعد الثاني: العلاقة مع النفس.
ومن الطبيعي أن من خلال هذين البعدين تظهر علاقة ثالثة وهي علاقة الإنسان بالآخرين فإذا ما حسن الإنسان علاقته بخالقه وبنفسه حسنت علاقته بالمجتمع وحدود تعامله مع الناس.
وفي قوله تعالى (وأما من خاف مقام ربه) توضيح لشكل العلاقة مع الخالق سبحانه إذ تتمثل بوجودين: وجود الرب ووجود التابع فبين الوجودين أطر وقوانين في التعامل أساسها الخوف من مقام الرب وصورة الخوف باطنية المنشأ ليس لها ظهور واضح إلاّ من خلال العمل بالأوامر الإلهية والانتهاء عما نهى عنه مقام الرب ولذا جاء عن الإمام أمير المؤمنين الهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنتك بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.
وها هنا مسألة أخرى يشير إليها الإمام… في مقام الرب إذ أنّ من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فله الجنة ولكن الإمام… لا يرى لما بعد الخالق لذّة وفوزاً أو إشارة إلى أن الخوف من مقام الرب يحتمل المراد به مقام المعبود وليس المتعلق كالخوف من النار أو لذة الجنة
ورد في تفسير مقام الخالق سبحانه أقوال جاء منها في مجمع البيان للطبرسي ما يلي: (أي خاف مقام مسألة ربّه عمّا يجب عليه فعله وتركه)
وقال السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان:
(المقام اسم مكان يراد به المكان الذي يقوم فيه جسم من الأجسام وهو الأصل في معناه ككونه اسم زمان ومصدراً ميمياً لكن ربما يعتبر ما عليه الشيء من الصفات والأحوال محلاً ومستقراً للشيء بنوع من العناية فيطلق عليه المقام كالمنزلة كما في قوله تعالى في الشهادة (فآخران يقومان مقامهما) وقول نوح… لقومه على ما حكاه الله (إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله) وقول الملائكة على ما حكاه الله (وما منا إلاّ له مقام معلوم).
فمقامه تعالى المنسوب إليه بما أنه رب هو صفة ربوبيته بما تستلزمه أو تتوقف عليه من صفاته الكريمة كالعلم والقدرة المطلقة والقهر والغلبة والرحمة والغضب وما يناسبها، قال ايذاناً به (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى) وقال (نبئ عبادي إني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم)
فمقامه تعالى الذي يخوّف منه عباده مرحلة ربوبيته التي هي المبدأ لرحمته ومغفرته لمن آمن واتّقى ولأليم عذابه وشديد عقابه لمن كذّب وعصى.
وقيل: المراد بمقام ربه مقامه من ربّه يوم القيامة حين يسأله عن أعماله وهو كما ترى.
وقيل: معنى خاف مقام ربّه خاف ربّه بطريق الإقحام كما قيل في قوله (أكرمي مثواه)
فعبادة الأولياء والصالحين خوفاً من مقام الربوبية بكل صفاته من قدرة ورحمة وعلم وعظمة وهذه المرتبة تحتاج إلى نفوس صافية ومطمئنة كما سيأتي في تقسيم الأنفس وورد في أصول الكافي بإسناده إلى داود الرقي عن أبي عبد الله… في قول الله عز وجل (ولمن خاف مقام ربّه جنتان) قال:
من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
وفي أصول الكافي بإسناده عن يحيى بن عقيل قال: قال أمير المؤمنين…:
إنما أخاف عليكم اثنتين:
اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فانّه يصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرةنار أو لذة الجنة
وأما البعد الثاني فهو علاقة العبد بنفسه التي تحرّكه وفق إشارات باطنية وقد قسّم القرآن الكريم هذه الأنفس إلى ثلاثة:
1ـ النفس المطمئنة: قوله تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية).
2ـ النفس اللوامة: قوله تعالى (ولا أقسم بالنفس اللوامة)
3ـ النفس الأمارة: قوله تعالى (وما ابرئ نفسي أن النفس لأمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي إن ربي غفور رحيم).
قال الشيخ النراقي في جامع السعادات في النفس واسمائها وقواها الأربع:
فحدّها (النفس) أنها جوهر ملكوتي يستخدم البدن في حاجاته وهو حقيقة الإنسان وذاته والأعضاء والقوى آلاته التي يتوقف فعله عليها ولها أسماء مختلفة بحسب اختلاف الاعتبارات فتسمى (روحاً) لتوقف حياة البدن عليها و(عقلاً) لادراكها المعقولات و(قلباً) لتقلبها في الخواطر وقد تستعمل هذه الألفاظ في معان أخرى تعرف بالقرائن ولها قوى أربع:
قوة عقلية ملكية وقوة غضبية سبعية، وقوة شهوية بهيمية، وقوة وهمية شيطانية.
والأولى: شأنها إدراك حقائق الأمور، والتمييز بين الخيرات والشرور، والأمر بالافعال الجميلة، والنهي عن الصفات الذميمة.
والثانية: موجبة لصدور أفعال السباع من الغضب والبغضاء، والتوثب على الناس بأنواع الأذى.
والثالثة: لا يصدر عنها إلا أفعال البهائم من عبودية الفرج والبطن والحرص على الجماع والأكل.
والرابعة: شأنها استنباط وجوه المكر والحيل والتوصل إلى الأغراض بالتلبيس والخدع.
والفائدة في وجود القوة الشهوية بقاء البدن الذي هو آلة تحصيل كمال النفس، وفي وجود الغضبية أن يكسر سورة الشهوية والشيطانية، ويقهرهما عند انغمارهما في الخداع والشهوات، واصرارهما عليهما، لأنهما لتمردهما لا تطيعان العاقلة بسهولة، بخلاف الغضبية فإنها تطيعها وتتأدب بتأديبها بسهولة...
والفائدة في القوة الوهمية إدراك المعاني الجزئية، واستنباط الحيل والدقائق التي يتوصل بها إلى المقاصد الصحيحة..
هذا وقيل: ما ورد في القرآن من النفس المطمئنة واللوامة والأمارة بالسوء إشارة إلى القوى الثلاث أعني العاقلة والسبعية والبهيمية.
والحق أنها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها، فإذا غلبت قوتها العاقلة على الثلاثة الأخر وصارت منقادة لها مقهورة منها وزال اضطرابها الحاصل من مدافعتها سميت (مطمئنة) لسكونها حينئذ تحت الأوامر والنواهي وميلها إلى ملائماتها التي تقتضي جبلتها وإذا لم تتم غلبتها وكان بينها تنازع وتدافع وكلما صارت مغلوبة بارتكاب المعاصي حصل للنفس لوم وندامة سميت (لوامة) فإذا صارت مغلوبة منها مذعنة لها من دون دفاع سميت (أمارة بالسوء) لأنه كلما اضمحلت قوتها العاقلة وأذعنت للقوى الشيطانية من دون مدافعة فكأنما هي الآمرة بالسوء
الخوف من المعبود ونهي النفس عن الهوى غالباً وعرفا هما متلازمان والقلّة ممن ينهى نفسه عما تهواه ومع ذلك لا يخاف مقام ربّه وقد ورد في الأحاديث الشريفة أن الأصل في مجازات الله لخلقه هو الخوف من مقام الله تعالى ونهي النفس عن الهوى، وأن كل الطاعات والأعمال منبثقة عن نهي النفس عن الهوى وخوف الله كما ورد في سفينة البحار بعض الأحاديث الشريفة منها عن الإمام أمير المؤمنين… أنه قال:
(لو صمت الدهر كلّه وقمت الليل كلّه وقتلت بين الركن والمقام بعثك الله مع هواك بالغاً ما بلغ إن في جنةٍ ففي جنة وإن في نارٍ ففي نار).
فالإنسان الذي يقضي كل أيامه بالصوم ولياليه بالسهر والعبادة وختم أمره بالشهادة في سبيل الله مرهون بهوى النفس وما أعظم تلك الأعمال فقد ورد في بعض الأحاديث (بين الركن والمقام أفضل بقعة على وجه الأرض) وفي بعض الأحاديث أنه (الحطيم) لتحطيم الذنوب فيه.
كل هذا مربوط بهواك في الدنيا أي أن القلب أين كان متعلقاً؟ والفكر وراء أي شيء يركض؟
فأياً كان الهوى وأية نسبة كانت بعثك الله بتلك النسبة أو أن النتيجة مربوطة بالهوى فان كان الهوى بالجنة فجائزتك الجنة وأما إذا كان الهوى بالحيل الشيطانية فالعاقبة إلى النار.
في حديث آخر عن أبي عبد الله… (احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم).