اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
الهدوء والسكينة
عاش بأفكاره الخاصة، يحملها أين ما ذهب، ينثرها كما الورود والرياحين على من حوله. فحب الناس ومساعدتهم يملأ قلبه دون تمييز، وحسن الظن والثقة بالآخرين روحه وكيانه. لذا كان يصارع المجتمع من حوله، في محاولة للتجديف بسفينته عكس تياره، فلم يتقبل آراءه، ولم يجاريه ولم يوافقه على أفكاره. حتى انه لم يستطع إنقاذ أهله وأقاربه الأدنين، من هذا الداء العضال.
لذا تراه يبحث عن من يشاطره أفكاره وهمومه، ولو من خارج مجتمعه. فقرر النزوح إلى منطقة أخرى بعيدة، لا يعرف هو فيها احد، ولا يعرفه فيها احد. مصمم على بداية حياة جديدة طلبا للهدوء والسكينة، وعمل علاقات متينة مبنية على الحب والتسامح. منسلخا انسلاخ دودة القز عن شرنقتها وتخلصها من غلافها، لدخولها في طور الفراشة استعدادا لفرد أجنحتها والطيران لبداية حياة جديدة، من أمراض وعاهات مجتمعه السابق.
قطن هو وعائلته الصغيرة، على أمل إنقاذها مما أصاب عائلته الكبيرة. وبمرور الوقت وبحكم عمله واستقراره في المنطقة واختلاطه بالناس من حوله، تبين له ما كان مخفيا عنه تحت الرماد عند أول تطايره، وظهور حمرة ووهج الجمر الملتهب من تحت ركامه.
فأكثر منهم حوله ينتمون لقبيلة واحدة واصل واحد، يتفرعون لبطون وأفخاذ كأرجل الإخطبوط. ولكن التخلف لم يتركهم، وقلة الثقافة والمعرفة لم تنساهم، فذهبت بهم كل مذهب، ونخرت فيهم كما ينخر السوس في الخشب. فظاهره جمال وأناقة، وقوة وتماسك، ولكن باطنه فراغ وخواء، وداء وإعياء.
عرف ذلك من عدة مواقف حصلت له شخصيا أزعجته، وجعلته يلعن ذلك القرار الذي اتخذه ليهرب من واقعه، وبدأ حياة جديدة في مكان نائي. أولها لأحد أبناء المنطقة أحيل على التقاعد بسبب عاهة بسيطة حصلت له، فصرف له راتب تقاعدي وهو جالس في بيته، وصرف لابنه مثله ليجالسه ويخدمه. ومع ذلك يحسد ابن عمه، الذي استطاع بجهاده وكافحه من تكوين ثروة تكفيه عن مد يد السؤال والحاجة للناس. فيأخذ في التبجح مغتاظا حاسدا: أتانا حافيا لا يملك ما يسد رمقه، ولكن انظر إليه الآن من أغنياء المنطقة.
فهز رأسه تعجبا وتأسفا، كيف لم ينجو هذا المجتمع الضيق والصغير من أمراض المجتمعات الكبيرة. فتحرك بركان غيظه الخامد واهتز، ثم عاد لسكونه.
الثاني عند مراجعته احد الدوائر الحكومية، حين طلب منه الموظف المختص معرفة الفخذ الذي ينتمي إليه، ليوجهه لأحد بني عمه ليخدمه. عندها اشتعال بركان قلبه وكاد ينفجر، وارتفع ضغطه فنفث بعض من حممه، ولكنه تمالك نفسه على أمل إنهاء حاجته.
ومع الأخير تأكد له مجانبة اختياره الصواب، فقرر مغادرة المنطقة نهائيا لجهة غير معلومة، وذلك عندما اجتاح زوجته الم فضيع أزعجها عن الهدوء والسكينة في ظلام الليل. انزعاج الجنين في بطن أمه، إذا أهاجها الطلق، فنقلها لأقرب مستشفى لتلقي العلاج.
انتظر طويلا دون تقدم احد ليمد لها يد العون والمساعدة، فينقذها مما هي فيه، كأن بها مرض معدي، يتخوفون انتقاله إليهم.
احتار في أمره وفي هول ما يجري حوله. ولم يستطع تحمل صراخ وزوجته الذي كان يهز كيانه، كشجرة اقتلعت من جذورها وهي تتطوح يمنة ويسرة. فرغم كون الجو صحوا ذلك اليوم، وليس هناك ما ينذر بهبوب عاصفة ترابية، أو عواصف رعدية، أنفجر بركان غضبه واخذ ينفث ما في داخله من حمم على من حوله، دون أن يؤثر ذلك فيهم، أو تلين قلوبهم شفقة عليها.
لم يعد أمامه خيارا غير الاستعانة بمدير المستشفى لعله يجد له حلا. فذهب وهو يقلب الأمر يمنة ويسرة في مخيلته، يتفكر: هل لعامل الحسد أو القرابة علاقة بأمر إنساني كهذا؟