اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
مقطع من بكائية رأس الحسين للشاعر اللبناني جوزيف حرب
ذَرْذِرِي فتيت الرياحين ، وانسجي من حبير البجع ، وكنار الحمام ، مكاسر الكفنِ الأبيض .. واحفري الجفنَ عميقاً عميقاً حتى مغارق الدمع ، فلقد أقبل الليل وحن جسد الحسين إلى النوم جملةً سماوية بين هلالين من جناحي ملاك .
كربلاء .. يا مساحة المرارة ، وموشحة الحزن ، وغرف الغمام العراقية وشبابة الفرات التي بحّت ما شربت ، وحارسة المصابيح التي اشتعلت بزيت مساريج الجنة ، رققي من حواشي الريح ، واملئي الأباريق ، ومدي الوسادة الزينبية ، فلقد أقبل الليل ، ورجعت من كوفة الزمن القديم ..
هبيني كربلاء أُرح رأس الحسين على يديَّ ..
أنا لست من أنزل الحسين في العراء من غير ماء وغير حصن . .
ولست من شك سيفه بين منكَب الحسين وعنقه ..
ولست يا كربلاء من قطع الكتف اليسرى ..
أنا لست الأبرص بن ذي الجوشن أحز بالسيف في عنق الحسين . .
ولست من أوطأ الجياد عظام صدره . .
ولست عبيد الله بن زياد أضرب ثناياه بعصا الملك . .
ولست جند عمر بن سعد أطوف بالرأس وهي على الرمح في مسالك الكوفة . .
ولست يزيد بن معاوية أنكتُ بقضيب العرش في شفتي الحسين اللتين قبلتهما شفتا الرسول الكريم.. حتى ارتوتا من عبير ريحانة الجنة.
هبيني كربلاء.. أُرِح رأس الحسين على يديَّ .
هبيني سراويله اليمانية التي مزقها كي لايقتسمها من بعده القتلة ..
هبيني جبة الخز والعمامة ، وورق النيل الذي اختضبت به تقاسيم الحسين .
ويالعطش عبد الله الرضيع . . وقد مرى الهجير عرقه وهدلت رباعية أطرافه.. وتقطرت هُنانةُ خاصرتيه ، ورنقت عيناه ، وومح جلده ، وتخّ نفَسه وبُح صوته، ودير به مغشياً عليه ، فرفعه الحسين بين يديه وخاطب الواقفين دون ماء الفرات ، يا أهل الفرات... يا أهل الكوفة.. خافوا الله واسقوا هذا الطفل، إذا كنت أنا في اعتباركم أستوجب الموت، فما ذنب هذا الطفل الصغير ؟! يا قوم ، خافوا الله واذكروا عذاب يوم أليم .
أراك لا تنسينَ يا كربلاء كيف صاح به أحد الجند ، خذ.. اسقه ، وأوتر القوس ورمى الطفل بسهم اختلجت عليه أحشاؤه !
فهبيني كربلاء أرح رأس طفل الحسين على يديّ .
هبيني ذؤابتيه المرسلتين ، وخلاخيل قدميه ، ومِشملته ، وقميصه المشقوق ، والعقد والعود والبكاء الذي ما ترسّل من بين أجفانه ، مخافة أن يتملح فمه إذا لا مست قطراتُ دمعه شفتيه .
عندما يحمّل الرجال رؤوسهم همّ العالم ويصفو دمهم زيتاً للحقيقة ، وتتوثب في سواعدهم جياد المعارك العلوية ، يمرّ في خاطري الحسين بن علي مقدساً في رسالة ، جنة في جسد ، سدرة في منتهى ، شهيدَ عقيدة باعها بربه واشتراها بدنياه ، وكانت نسبة أن تعيش هي غداً، من نسبة أن يموت هو اليوم . إنه الومض المقدس ..