اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
قانون الوراثة :
أدرك الإنسان منذ أمد بعيد ، أن الموجود الحي ينقل كثيراً من الصفات و الخصائص إلى الأجيال التي تليه ، فالجيل اللاحق يكتسب صفات الجيل السابق . فبذرة الزهرة تحفظ في نفسها خصائص الساق و الورقة و الزهرة و الألوان الطبيعية لها ، و بعد الانبات تأخذ بإظهار تلك الخصائص واحدة تلو الأخرى .
إن بذرة المشمش تشتمل على جميع الصفات المائزة للشجرة التي وجدت منها ، فعندما تزرع هذه البذرة ، و تنبت ، و تأخذ بالنمو تظهر تلك الصفات تدريجياً . و هكذا فالقطة الصغيرة تشبه أبويها في هيكلها و شعرها و مخالبها .
و ترث صفات أسلافها . و كذلك الطفل الافريقي فهو يشبه أبوبه في سواد البشرة و تجعد الشعر ، و وضع الأنف و لون العيون في حين أن الطفل الأوروبي يرث المميزات التي يختص بها العنصر الذي ينتمي إليه أبواه في لون البشرة و العيون و الشعر و وضع الأنف و ما شاكل ذلك .
و بصورة موجزة نقول : إن قانون الوراثة من القوانين المهمة في حياة الموجودات الحية . و هذا القانون هو الذي يكفل للنبات و الحيوان و الانسان بقاء صورها النوعية الخاصة بها ... و على هذا الأساس يكتسب الأبناء صفات الآباء من دون حاجة إلى أي نشاط إرادي منهم .
عامل الوراثة :
حققت العلوم التجريبية انتصارات رائعة في مختلف مظاهر الطبيعة . و بذلك كشفت اللثام عن كثير من الحقائق التي كانت مجهولة لدى السابقين و لقد ساير ( علم الأجنة ) و ( البحث عن الخلية ) التقدم العلمي في الجالات الأخرى في تكامله و توسعه يوماً بعد يوم .
لقد استطاع العلماء أن يفحصوا الموجودات الصغيرة بواسطة أجهزة قوية و مكرسكوبات ( مجاهر ) دقيقة ، توصلوا أخيراً إلى أن منشأ ظهور الموجود الحي هو وحدة صغيرة جداً تسمى ( الخلية ) ، و هذه تتكامل تحت شروط معينة ، و تظهر بصورة حشرة أو حيوان أو إنسان . إن اكتشاف هذا السر الدفين عقد قانون الوراثة أكثر ، و أدى إلى توسع البحوث فيه و التساؤل عن أسرار هذه الخلية و كيفية تأثير عوامل الوراثة فيها و أين تكمن ؟
" لقد صرف علماء الحياة وقتاً كثيراً خلف الميكرسكوبات في البحث عن أسرار الخلية . فإن المسألة كانت محاطة بمشاكل عديدة . فهم كانوا يواجهون الخلية من جهة و كيف أن هذا العضو المادي يحتفظ بخواصه الفيزياوية و الكيمياوية ، و من جهة أخرى كانوا يصطدمون بقوانين الوراثة التي أخذت تتضح حسب معادلات رياضية دقيقة تبعاً لقانون ( مندل ) " .
« فأين يكمن عامل الوراثة ؟ و في أي جزء من الخلية ؟ و على أي الأعضاء يقع عبء هذه الظاهرة ؟ أي جزء من ( البروتوبلازم ) و أي جانب من ( النواة ) يجعل الطفل يرث شكل أنف أمه و عيني أبيه . و الصفة الفلانية من أجدادة ؟! » [1] .
و بعد الجهود العظيمة و التتبع الدقيق توصل العلماء إلى أن في الخلية ( نواة ) بيضية الشكل ذات جدار مرن ، توجد في داخلها أجسام صغيرة تظهر عند انقسام الخلية ، و لقد أسموها بـ ( الكروموسومات ) .
« و لقد توصل كثير من علماء الحياة إلى معرفة أعدادها وأثبتوا أن كل خلية من خلايا جسم الانسان تحوي 48 كروموسوماً ، و خلية الفأرة 40 ، و الذبابة 12 ، و الحمص 12 ، و الطماطم 24 ، و النحلة 32 ... ألخ » [2] .
و لقد خطا العلماء في تحقيقاتهم العلمية في هذا المضمار خطوة أخرى ، فتوصلوا إلى أن في ( الكروموسومات ) أجساماً صغيرة جداً أطلقوا عليها إسم ( الجينات ) ، و أثبتوا أن هذه الأجسام هي الناقلة للصفات الوراثية في الحقيقة . فالجينات هي التي تؤثر في انتقال صفات الشعر و البشرة و وضع الأنف و الشفتين و غير ذلك من الصفات من الآباء و الأمهات إلى الأولاد .
« و لقد أثبت علم الوراثة الحديث ، أن الصفات الوراثية تنتقل بواسطة الكروموسومات و تتوزع توزيعاً خاصاً في الخلايا التناسلية و عليه فإن لهذه الكروموسومات أجزاء صغيرة جداً يبلغ عددها العشرات و المئات تسمى بـ ( الجينات ) ، و هي تكون العوامل الوراثية . لقد توصلوا إلى وضع هذه الجينات في نوع من الذباب اسمه ( دروزوفيل ) و عينوا مراكز تلك الجينات بالنسبة إلى الكروموسومات و عرفوا أبعادها ... » [3] .
« إن الصفات الوراثية ترتبط بعوامل معينة تسمى بـ ( الجينات ) وإن عددها كثير جداً . هذا و لا تخلو الجينات من تأثير على بعضها البعض . فقد يرتبط تأثير واحد بعدة جينات بمعنى أن كلاً منها ينقل جزء معيناً من تلك الخواص و الصفات ... » [4] .
الوراثة قبل تطورها :
لم تكن البشرية تجهل قانون الوراثة تماماً فيما مضى ، بل كانوا يجهلون خصوصياتها ، إن علماء الماضي كانوا يعلمون أن في بذرة الزهرة و نواة الشجرة و نطفة الانسان و الحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة .
إن ما اكتشفه علماء الوراثة اليوم ، و توصلوا إليه بأبحاثهم الدقيقة من وجود موجودات صغيرة داخل الكروموسومات تنقل الصفات الوراثية و التي
أسموها ( الجينات ) ليس أمراً جديداً كل الجدة . فالرسول الأعظم و الأئمة الطاهرون ، الذين كانوا يكشفون الحقائق بنور الوحي و الالهام لم يغفلوا أمر هذا القانون الدقيق . بل أشير إليه في بعض النصوص و أطلق على عامل الورائة فيها اسم ( العرق )
و بعبارة أوضح : فإن المعنى الذي يستفيده علماء الوراثة اليوم من كلمة ( الجينة ) هو نفس المعنى الذي استفادته الأخبار من كلمة ( العِرق ) و على سبيل المثال نذكر بعض تلك الروايات .
1 ـ عن النبي ( صلى الله عليه و آله ) : « أنظر في أي شيء تضع و لذلك ، فإن العِرق دساس » [5] . وحينما نراجع المعاجم اللغوية في معنى كلمة ( دساس ) نجد أن بعضها ـ كالمنجد ـ يعلق على ذلك بالعبارة التالية : « العرق دساس أي : أن أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء » [6] .
فهذا الحديث يتحدث عن قانون الوراثة بصراحة . ويعبر عن العامل فيها بالعِراق . فالنبي ( صلى الله عليه و آله ) يوصي أصحابه بألا يغفلوا عن قانون الوراثة بل يفحصوا عن التربة الصالحة التي يريدون أن يبذروا فيها ، لكي لا يرث الأولاد الصفات الذميمة .
2 ـ عن الامام أمير المؤمنين ( ) : « حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق » [7] . و هذا الحديث يثبت إمكان اكتشاف الطهارة العائلية للفرد من السجايا الفاضلة عنده .
3 ـ و هذا محمد بن الحنفية ابن الامام علي ( ) كان حامل اللواء في حرب الجمل ، فأمره علي بالهجوم ، فأجهز على العدو ، لكن ضربات الأسنة و رشقات السهام منعته من التقدم فتوقف قليلاً ... و سرعان ما وصل إليه الامام و قال له : « إحمل بين الأسنة » فتقدم قليلاً ثم توقف ثانية ، فتأثر الامام من ضعف ابنه بشدة فاقترب منه و « ... ضربه بقائم سيفه و قال : أدركك عرق من أمك » [8] .
فهنا يثبت الامام ( ) أن الجبن الذي ظهر واضحاً في ابنه محمد ليس موروثاً منه ( ) لأنه لم يعرف للجبن معنى قط ، فلا بد وأن يكون من أمه ، لأنها لم تكن من الفضيلة بدرجة تكون معها بمنزلة الصديقة الزهراء ( ) .
الشرف الموروث :
يقول الامام علي بن أبي طالب ( ) في الفضائل العائلية : « إذا كرم أصل الرجل كرم مغيبه و محضره »
فمن كان ينتمي إلى نسب عريق في الفضائل كان ملازماً للصفات الخيرة في حضوره و غيابه و ذهابه و إيابه .
و كذلك قال : « عليكم في قضاء حوائجكم بكرام الأنفس و الأصول ، تنجح لكم عندهم من غير مطال و لا من » و من هنا يعلم أن الشرف العائلي في الأفراد يجعلهم يقضون حوائج الناس من دون آن يحملوهم مناً أو يتماهلوا في ادائها .
و روي عنه أيضاً : « عليكم في طلب الحوائج بشراف النفوس ذوي الأصول الطيبة ، فإنها عندهم أقضى ، و هي لديهم أزكى »
كما يقول في مورد آخر : « حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق » . فيستكشف عن حسن أخلاق الانسان شرافة طباع عائلته و كرم نفوسهم .
و كقاعدة عامة يمكن أن نقول : إنه يجب البحث عن الأفراد الشرفاء من بين العوائل الشريفة و العريقة ، فالأسر التي عرفت طوال سنين متمادية بالطهارة و التقوى ، و التي خرجت من جميع الامتحانات في الحياة بنجاح باهر ، لا بد و أن يبرز من بينها رجال شجعان يجاهدون في الصفوف الأولى دائماً ، و كرام يمدون يد المعونة إلى الفقراء في أوقات الأزمة ، و يقدمون ثروتهم بكل خلوص و ارتياح للمحتاجين ، فيسلون بذلك قلوب المصابين و يكونون آباء عطوفين لليتامى ، تملأ قلوبهم الرحمة و الشفقة و الخير و المحبة الناس
.الكاتب : سماحة العلامة الشيخ محمد تقي الفلسفي رحمه الله