برّ الوالدين وعلاقتهما بالإبن على ضوء القرآن الكريم
بتاريخ : 19-Dec-2011 الساعة : 03:49 PM
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ، إلى قيام يوم الدين .
العلاقة بين الولد ووالديه :
كلنا يعلم أن علاقة الوالدين بالولد ، علاقة شفقة ورحمة ومحبة ، يوقعها الله سبحانه وتعالى في قلب الوالدين ، بحيث أنهما يتخليان عن كل شئ ، في سبيل راحته وإشباعه وترفه ورعايته .
وهذا الشئ موجود عند البشر وغيره من المخلوقات بدافع غريزي ، بلا حاجة لتوصية أو تعليم أو استعطاف أو استرحام ، لامن الخالق ولامن المخلوق .
بل ان الوالدان قد ينهمكان في خدمة ولدهما في كل شؤونه الدنيوية ، الى درجة ربما يخرجان معها عن الطريق الصحيح والسليم ، فربما ينشغل الأب والأم بعملهما عن كثير من الشؤون الدنيوية الضرورية كالاجتماعية مثلا ، أو الاخروية ، في سبيل تأمين وسائل الترف والرفاه لولدهما ، بل وقد يلجآن في بعض الحالات الى الوسائل غير المشروعة كالسرقة او إرتكاب المفاسد لأجل ذلك .
وهذا كله يكون بدافع الغريزة المحضة ، التي تحضهما وتدفعهما لذلك ، لان كلا منهما يرى أن هذا الولد ، هوالهواء الذي يتنشقه والطعام الذي يأكله ، والماء الذي يشربه ، بل هو قطعة منه ، بل هو إمتداده في الحياة ، بل هو نفسه التي بين جنبيه ، وقد عبر عن ذلك مولانا أمير المؤمنين في رسالته الولده الامام الحسن حيث قال : (( وجدتك بعضي بل وجدتك كلي ، حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني ، وحتى كأن الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك مايعنيني من أمر نفسي )) فأنه لم يكتب هذه الكلمات بما هو إمام ، بل كتبها من حيث كونه والدا يعتني بولده ويخاف عليه عواقب الدهر ، ولم يخاطب الامام الحسن بما هو إمام ، بل من حيث كونه إبن يحتاج لرعاية الوالد ، فكانت هذه الرسالة ، رسالة لكل والد يخاف على ولده ، أن يعظه ويخاف عليه الاخرة أكثر مما يخاف عليه الدنيا .
ولان الولد له تلك الميزة والمكانة في قلب والديه والتي يقر بوجودها الوجدان ، ويقرّ القرآن الكريم في مضامين كلامه ، لم يكن بحاجة الى أن يوصي الله تعالى به في القرآن الكريم ، بل على العكس من ذلك ، فالقرآن الكريم ، حاول أن يخفف من حدة الاندفاع بإتجاه الولد ، في موارد عديدة تدّرج فيها حيث قال أنهم لايقرّبون من الله ، ثمّ قال إنهم يلهون عن ذكر الله ، ثم قال إنهم فتنة ، والايات الكريمة بهذا الصدد عديدة ، نذكر منها ، (( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى )) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّه ِ)) (( أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )) .
فنرى في هذه الآيات المباركة نحو إقرار بهذه الغريزة الموجودة عند الابوين ، ويحاول التخفيف منها ، كما نرى في الايات التي حرمت العقوق وأوجبت البرّ نحوا من الاقرار بهذه الغريزة التي جبل عليها الانسان .
ومن هنا يعلم ، أن الوالدان هما المنعم الثاني على الإبن بعد الله سبحانه وتعالى ، فهما السبب المباشر والرئيسي الذي جعله الله تعالى في أصل الوجود ، وكذلك في عامل الحماية والحفاظ والاستمرار .
وكما يجب شكر المنعم الاصلي الذي هو الله سبحانه وتعالى ، بحكم العقل ، فالله سبحانه وتعالى كأنما يرشد الى انطباق تلك القاعدة على الوالدين ((أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ )) ، فعلى الابن ان يطعهما طاعة لاحدود لها ، الا حدّ واحد وهو اذا بلغ طلبهما منه التمرد على المنعم الأصلي ، الذي هو الله سبحانه وتعالى .
فإن أهم وأول مابعث الله تعالى به الانبياء ، هو التخلص من الشرك ، وإتّخاذ التوحيد دينا ، وأن الغاية الحصرية من الخلق من أوله الى اخره هو عبادة الله تعالى (( وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )) ، (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ )) .
وهذه الأمور الثلاثة ( نفي الشريك ، التوحيد ، العبادة ) طلب الله بعدها مباشرة بر الوالدين ، أما تحريم العقوق بعد تحريم الشرك فقوله تعالى : (( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا )) ، وقد ذكر البرّ بهما والاحسان اليهما بعد في التوحيد والعبادة وحرمة الشرك في عدة موارد لاحاجة فعلا لاستقصائها ، وقد أجملها في آية واحدة (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا )) ، وقد حرّم تعالى أدنى درجات الاساءة مهما بلغ صغرها (( فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا )) .
بل تعدى الامر أكثر من ذلك ، فالمشرك الذي يجاهد الناس على الاشراك بالله تعالى ، حكمه حكم المحارب لله ورسوله وتنطبق عليه الاية الكريمة (( إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ )) ، أما عندما يكون المجاهد على الشرك هما الوالدان ، فينقلب الحكم الى العكس ، بل الى النقيض تماما ويكون الامر هو عدم الاطاعة في الشرك ، وبدل الاساءة بالقتل او الصلب وغيرهما يكون الحكم في حق الولد ، هو المصاحبة بالمعروف ((وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )) .
والخلاصة : إن الله تعالى ركزّ على حرمة العقوق وطلب البرّ ، ووجوب الشكر للوالدين ، بإعتبارهما المنعم الثاني على الإبن بعد الله تعالى ، ووصف العاصي لوالديه بالعاصي والجبار والشقي ( ( فقد وصف النبي يحيى (( وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا )) وقال حكاية عن لسان النبي عيسى (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) .
هذا ماأردت بيانه وقد تم بعون الله تعالى ، وأملي من أخواني المؤمنين ، ممن له ملاحظة على شئ ذكرته ، أو التفت الى شئ سقط مني أو فاتني ، أن ينبهني إليه ، أو يلفت النظر ، لأجل أن يتكامل الموضوع والفكرة ، وله من الله الأجر ومني جزيل الشكر .