بسم الله الرحمن الرحيم الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، محمد واله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ، إلى قيام يوم الدين .
قال (( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ))
البحث في هذه الاية ينبغي إن يكون في عدة جهات :
الجهة الاولى : معرفة معنى الاطمئنان .
الجهة الثانية : موارد استعمال ادوات الاستفهام .
الجهة الثالثة : المعنى المراد من الاية الكريمة .
الجهة الاولى : معنى إلطمأنينة : هو السكون والهدوء ، على ماجاء في لسان العرب ، وأما في اصطلاح القرآن الكريم ، فالمعنى بعد متابعة موارد الاستعمال ، هو هذا وليس غيره ، أو على الأقل إنه لايبتعد عنه كثيرا .
الجهة الثانية : في استعمال ادوات الاستفهام في اللغة العربية :
إن السؤال تارة يكون عن أصل الشئ ، واخرى عن خصويات الشئ الخارجية .
فاستعمال ( همزة الاستفهام ) وكلمة ( هل ) في السؤال ، تكون للسؤال عن أصل الشئ ، وأما استعمال كلمة ( كيف ) فيكون للسؤال عن الخصوصيات .
فعلى سبيل المثال : ( تقول هل جاء زيد ) يكون السؤال عن أصل مجئ زيد وأنه أتى أم لم يأتي ، وأما السؤال ( كيف جاء زيد ) فيكون المعنى أن أصل المجئ معلوم ومفروغ عنه ، ولانقاش فيه ، ولكن السؤال يكون عن الخصوصيات والكيفية ، فالجواب يكون انه ( جاء راكبا أو ماشيا أو راكضا ) وماإلى ذلك من الخصوصيات .
تحليل علمي للاية :
وورد إستعمال كلمة (( هل )) في القرآن الكريم عندما سأل الحواريون عيسى
، أن ينزل عليهم مائدة من السماء (( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء )) فإن السؤال كان استطاعة الله تعالى وقدرته ، وليس عن خصوصيات المائدة وانواع الطعام وقالو (( نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ )) مع أن الحواريون كانو مؤمنين بالله ، ولكنهم يريدون العلم الحسي الملموس ، لكي لايتطرق اليهم الشك .
ولان الشك ممكن أن يتطرق الى قلوبهم ، حتى بعد المشاهدة ، هددهم الله تعالى ان من يكفر بعد هذه المعجزة والشهادة ، لايغفر له بل إن عذابه ، سوف يكون اشد عذاب تعرفه العوالم المخلوقة (( قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ )) .
وهذه سنة من الله كانت قد جرت في خلقه ، وهو انه إذا طلبت منه - تعالى وتقدس ذكره - معجزة وانزلها ، ولم يؤمنوا بها ، كان يدمر القوم الذين كفروا بآياته ، ففي موارد كثيرة ، كان يذكر الايات ويكون المراد منها المعجزات التي تظهر على أيدي الأنبياء ، وقد هدد في بعض الحالات إن المعجزة في حالة نزلت ولم يؤمنو بها فإنه سيدمر القوم .
وهنا لانجد أي مؤاخذه لابراهيم
ولاحتى بسيطة ، وهذا دليل إن الله تعالى ، أقر أنه نبيه وخليله لايشك ولايتطرق إليه الشك .
وأما عن طلب نبينا ابراهيم
، فكان الطلب بقوله ( كيف ) ، فأمر الاحياء كان مفروغا عنه ، ومعتقدا به ، ولايتطرق إليه الشك أصلا ، ولكن أراد أن يعرف الكيفية والتفاصيل ، ويراه رؤى العين ، ويلمسها لمس اليد ، ويعرف كيف التفاصيل ، وهذا لاعيب فيه أصلا ، ولأضرب مثلا فيه مع الفارق في القياس طبعا .
لو أن أحداً توصل إلى أختراع ، وإكتشاف معين ، ووضع له دراسة معينة ، وبموجب الدراسة تبين له ، أن هذا الاختراع ناجح بلا أدنى شك ، ولكنه مع ذلك ، يحب أن يرى إختراعه بعد إنجازه ، وإتمام العمل فيه ، فإنه لاشك ، يصبح أكثر راحة ، من مجرد كون هذا الاختراع موجود على الورق أو في العقل والذهن والقلب ، وأكرر القول أن هذا المثال تقريبي فقط ، وهو قياس مع الفارق ، حتى لايفهم من كلامي شئ خاطئ .
ونبينا
لم يكن له أدنى شك ، ولكنه أحب أن يرى إعتقاده ومايؤمن به بهذا الشكل الراسخ الذي لايتطرق إليه الشك ، ويطبقه على الارض .
الجهة الثالثة : المعنى المراد من الاية :
إن لي في المقام عدة تحليلات ، أذكرها تباعا ، إنشاء الله تعالى ، وأسأل الله تعالى أن لايؤاخذني إن أخطأت فيها ، وأن يغفر لي ، فإني ماأردت بها إلا وجهه تعالى شأنه وتقدس ذكره ، وأردت تنزيه نبيه وخليله إبراهيم عليه وعلى نبينا واله السلام ، عن أي منقصة وشائبة ، قد تخطر على قلب أحد .
التحليل الاول :
لاشك أن النبي ابراهيم
، يؤمن ويعتقد تماما ، بأن الموت والإحياء بيد الله تعالى ، والقرآن ذكر شاهدا لهذا ، وهو أنه قال للنمرود عندما تخاصما ( إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) فهو
، كان في مقام المحاججة ، والمخاصمة ، ولو كان عنده أدنى شك في ذلك ، لما استعملها في ذلك المقام ، لانه في مقام إظهار الحق ، ولامجال لأن يأتي بشئ ، إلا إذا كان معتقدا به ، وقادرا على الاستدلال عليه وإثباته ، ولكن النمرود تمسك بطغيانه وجبروته ، ولم يعترف بذلك ، فأتى بشخصين حكم عليهما بالاعدام ، فقتل أحدهما ، وأعفى عن الاخر ، وأعتبر نفسه أنه أحياه (( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ )) وصدقه الناس ، فعندها ، لم يكمل إبراهيم
محاججته في هذه المسألة ، بل انتقل الى مسألة أخرى ، فورا ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) .
وعليه فالنبي ابراهيم
، أراد أن يكون بيده دليلا ملموسا ، إذا تعرض للمحاججة والمخاصمة مرة أخرى ، بحيث لو فعل المحاجج كما فعل النمرود ، فإنه يكون بيده شئ يعرفه ، وجربه بنفسه ، فيقول له مثلا ، أن ربي يحيي الذي قتلته أنت ، ويستعمل العلم الذي أعطاه الله إياه بإحياء الأموات ، وبهذا تستقر نفسه ، ويزداد إطمئنانه ، من ناحية البشر ، وليس من ناحية الله تعالى ، بأنهم لو حاججوه أو خاصموه ، فإن بيده الحجة التي تغلبهم وتذهب بكيدهم وترده الى نحورهم .
فيكون طلبه أن يريه الله تعالى كيفية الاحياء ، هو طلب أن يرى ويتعلم كيف يفعل ذلك ، إذا دعت الحاجة اليه ، ولذلك نرى عندما استجاب الله تعالى دعائه ، لم يقل له إذهب الى المقبرة مثلا ، وسأحيي لك ميتا ، أو يكرر معه قصة عزيز
فيميته مئة عام ثم يحييه الله تعالى مباشرة وبلا وسائط ، بل قال له : أنت في إذن مني ، إذهب وخذ طيرا ، وقطعه ، ووزعه ، ثم إدعي ذلك الطير اليك يأتيك سعيا (( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) .
وهذا معنى اطمئنان قلب ابراهيم
، أنه يهدأ ويسكن ويطمأن من جهة الناس ولايستوحش من مخاصمتهم ومحاججتهم بعد ذلك ، ولو كان الاطمئنان الذي يريده ابرهيم
من جهة قدرة الله تعالى لقال في ختام الاية ، واعلم بان الله قدير ، كما وقع في قصة عزير
، ولكنه تعالى قال (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .
التحليل الثاني :
لاشك أن مراتب الايمان بالله ، والاطمئنان ، بكل النواحي المتعلقة به ، غير متناهية ولاحدود لها ، لان الله تعالى غير متناهي أصلا ، كما أنه لاشك بتفاوت درجات الانبياء في تلك الدرجات ، وأكثر الانبياء درجة فيها ، هو نبينا محمد ( ص ) ، وعليه فكل الانبياء ، بما فيهم نبينا ابرهيم
، هم دون درجة الرسول محمد ( ص ) ، ومعلوم أن هذا لايعني وجود نقص إعتقادي أو عملي في الأنبياء
والعياذ بالله .
وهذا يعني أن درجاتهم قابلة للزيادة ، فإبراهيم
كان يريد زيادة ورفعة الدرجة الاطمئنانية لديه ، لتبلغ الى درجة الرسول محمد ( ص ) او تكون قريبة منها .
وأما عن محاولة الشيطان للاقتراب من الانبياء ، فالذي عندي أنه لايفعل ذلك ، لالنزاهته طبعا ، ولكنه لايتجرأ ، أضف الى ذلك أنه أخذ على نفسه أمام الله تعالى شأنه وتقدس ذكره أنه لن يقترب من المخلصين (( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ )) ولاأقول أنه يفي بوعده الذي قطعه لله تعالى ، ولكنه لايتجرأ بأن يخلف وعده مع الله تعالى مباشرة ، أضف الى ذلك أن الله تعالى ، قال له (( قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ )) .
وعليه نعلم ان الانبياء والعباد المخلصين لاسبيل للشيطان اليهم ، حتى لو فكر او حاول الاقتراب منهم ، فهذا وعد وعهد أخذه الله تعالى شأنه على نفسه .
وأخيرا : أعتذر عن الاطالة ، وقد كتبت هذا على العجلة ، وعلى ماورد ببالي على الفور ، فأرجو ، إن كان من زلة في كلامي ، ان انبه عليها ، ولاتؤخذ عليّ ، وأرجو أن يكون البيان والمراد واضحا ، واستغفر الله لي ولكم
والحمد لله رب العالمين .
أخوكم : مرتضى الفقيه .