اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
الظالمون (أو المتعسفون) سواء بسواء، ينقسمون إلى ثلاثة: أولهم ظالمٌ حملته عصبيته وحقده البغيض على الظلم أو التعسف، وثانيهم ظالمٌ دفعته مصالحه غير المشروعة إلى الظلم، وثالثهم ظالم جَهُولٌ لا مصلحة له ولا علم لديه إنما أعان الظالمين في ظلمهم عن جهل.
فأول الظالمين (أو المتعسفين) وأبلغهم تنكيلاً هو ذاك الذي حملته عصبيته وحقده على الظلم الذي هو بطبعه وغريزته شخصٌ صَلفٌ قاسي القلب، وهو ممن أشار إليهم القرآن الكريم بقوله: «قستْ قلوبُهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجرُ منه الأنهار وإن منها لم يَشَّققُ فيخرُجُ منه الماء، وإن منها لما يهبطُ من خشية الله» (البقرة: 74).
فهذه الصورة الإلهية الرائعة تصور لنا الصم البكم العمي المتمثل في هذا المتعسف أو الظالم الصَّلف المتعصب الذي يظلم لا لمصلحة يرجوها إنما لإرضاء ضغائن قلبه وإطفاء نار حقده، والذي لا تفيد فيه النصيحة وإنْ استحسنها، ولا يُقوِّمُه الحق وإن استدركه وعَلِم به، ولا توقفه الخشية وإن لمسها، ذلك لأن نيران الحقد قد كمنت في صدره فلا تنطفئ إلا بموته أو بظفره.
وهذه الشخصية ذاتها لحظها القانون في نظرته إلى المتعسفين، فيقول: «يكون استعمال الحق غير مشروع إذا لم يقصد به (أي المتعسف) سوى الإضرار بالغير». أي بمعنى أن من التعسف هو ذلك الفعل الصادر من الشخص الذي لا يهدف من وراء فعله وتصرفه جلب أي مصلحة مشروعة لنفسه إنما فقط لغاية الإضرار بالغير حتى وإنْ حاق به ضرر هو الآخر. وهذه الصورة تماثل تماماً صورة «الظالم» الأول سابق الذكر، ما يؤكد أنهما صِنوان وإنْ اختلفا في الاسم فقط.
أما الظالم (أو المتعسف) الثاني الذي دفعته مصالحه غير المشروعة إلى الظلم فهو وإنْ يكن أهون شراً وأقل قسوة من الأول من حيث انه لا يظلم أو يتعسف إلا لمصلحة يبتغيها، إنما يظل هو الآخر حاملاً وصف الصم البكم العمي، استناداً لما صوَّره لنا القرآن الكريم بقوله: «ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة... أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعِهم وأبصارِهِم وأولئك هم الغافلون، لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون». (النحل:106، 107، 108).
وحيث ان عبارة «استحبوا الحياة الدنيا» الواردة في النص القرآني سالف الذكر تعني المصلحة، وهي بالطبع المصلحة الدنيوية، فإن هذه الشخصية المقصودة في النص هي إذاً ذاتها الشخصية التي لحظها القانون المدني البحريني في المادة (28) المشار إليها سلفاً، بقوله «يكون استعمال الحق غير المشروع (أي من قبل المتعسف) إذا كانت المصالح أو المصلحة التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة، أو إذا كانت المصالح أو المصلحة التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها».
وعليه فإن هذه الصورة هي الأخرى تماثل تماماً صورة «الظالم» الثاني سابق الذكر، ما يؤكد لنا ثانية أن «الظالم» و «المتعسف» صِنوان وإن اختلفا في الاسم فقط.
وأما الظالم (الثالث) الذي لم تتشرب روحه بالحقد وليست له مصلحة إنما ظلم عن جهل وعن غير دراية، «الذي من أخلاقه الإجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والحكم بما لا يعلم». فهذا الظالم كسابقيه آفة في المجتمع، ولهذا قال عنه الإمام علي ابن أبي طالب (ع) بأنه «شجرة لا يخضر عودها وأرض لا يظهر عشبها» وهو «ميت بين الأحياء».
هذه الشخصية ذاتها قد شخصها القانون المدني حيث يشير في أكثر من موقع بقوله: «إن الجهل بالقانون لا يعفي من المسئولية»، و «إن القانون لا يحمي المغفلين».
وعليه فإن هذا الظالم يظل هو الآخر منعوتاً بـ «الظالم» ويحمل سوءة الظُلم، وهو ليس بمنأى من الحساب ولا يحق له أن يتوسَّل بجهله ليدرأ عن نفسه العقاب. ومن خلاصة ما تقدم ننتهي إلى أن «الظالمين» و «المتعسفين» أياً تكن درجاتهم فهم متماثلون، ومن ثم نلخص إلى القول إن «التعسّف» و «الظُلم» صنوان