اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
مفكرة مبتعث -14
الغربة والتغيير
مضت السنوات، تليها أخرى مثلها، تحت سياط الآم الغربة، وتحمل معاناة الابتعاد والانفصال عن الوطن والأهل. كانفصال طائر مغرد عن بيئته، وانقطاعه عن سماء حريته، ووضعه في زنزانة ذهبية.
اضطر للرضوخ مرغما، لإكمال دراسته، والحصول على شهادة علمية، تمكنه من خدمة بلده ومجتمعه. تأقلم طائر سجين، مع وضعه الجديد، واستسلامه مجبورا، لأن لا يذوي ويموت، وليتمكن من إتمام مشوار حياته.
في بعض أيام إجازته الدراسية، كان ينزل إلى بلاده، ليمضي بعض من الوقت مع الأهل والأصحاب. يتذكرون الماضي، ويتدارسون الأوقات الحلوة والمرة التي جمعتهم.
لوحظ تبدل في شخصيته، وتغير في تصرفاته، وتجدد في أخلاقه، لم يكن قد ألفوها من قبل.
أصبح ذو شخصية قوية، يعرف متى يقول لا أو نعم، ويثبت عليها. ويتحلى بالصبر والدماثة في تعامله، وحسن العشرة مع الكبير والصغير. فيوقر الكبير، ويحترم الصغير. ولديه حب اطلاع، لا حدود له، فيذهب وراء المعلومة حتى يقتنع بها.
ونهم عجيب للعلم، فلا يقنع بسفاسف الأمور، ويصر على الذهب لطلب العلم ولو في الصين. كل ذلك من اجل أن يوسع مداركه، يزيد في معلوماته.
ويعتمد على نفسه، وينهي أموره بيده، ودون مساعدة من أحد.
في أحد الليلي أجتمع مع أصحابه القدماء، وفي مجلس أحدهم. وبعد تقديم أصول الضيافة والكرم، بدأت الفكاهة والسمر. فنظروا إليه جميعا، وقد نفذ صبرهم، كمن ينتظر ولادة أول مولود له، فلا يهدأ ولا يستكين، حتى يراه بين يديه.
انتظروا بلهفة، وعلى أعينهم علامات استفهام كبيرة!
لم يتمالك أحدهم نفسه، ولم يستطع كبح جماحها. فخرج السؤال من فمه عفويا: كيف حصل ذلك، كيف تغيرت بهذه السرعة؟
أجاب وهو فرحا مسرورا، لملاحظة الآخرين للتغير الذي طرأ عليه: فاعتدل في مجلسه، وجلس مستريحا، كأنه يحضر نفسه لخطبة حماسية: عندما تكون بعيدا عن اهلك وأصحابك، ولا تجد من يواسيك، ويربت على كتفك، ويؤدي عنك مختلف أمورك! عندها لا يكون أمامك، إلا التأقلم مع من حولك. فكان علي معاشرة أناس من جنسيات مختلفة، وتحمل آخرين ذو أمزجة متباينة، لم أكن لأعاشرهم أو أتعامل معهم، لو كانت في بلدي ومسقط رأسي.
كانوا حوله يتقافزون كأطفال، يحاولون الوصول لصدر أبيهم، لينهلوا من عطفه وحنانه، وينالوا انتباهه. فسأله آخر وهو يناوله كوب الشاي، كيف قررت الاعتماد على نفسك، وقد كنا في الماضي نستجديك لتساعدنا فتمتنع؟
ابتسم، وقد أنهى كوب الشاي وطلب آخر، فشاهد نفسه في حديقة غناء، ذات ماء غير آسن، والأنهار تجري من تحته، والسماء ترمي من غيومها برذاذ لطيف، يسقط على أوراق الأشجار فيزيدها جمالا.
قال: لم يكن أمامي إلا الاعتماد على نفسي، لإعداد أكلي وتجهيز ملابسي وترتيب سريري، لعدم وجود من يقوم بذلك دوني.
وقفز آخر ليسأله باستغراب، وكيف أصبحت تهتم بالدراسة، وقد كنت لا تقرأ إلا ليلة الاختبار؟
فطلب منه صحن حلى، فرد وهو يشعر بأنه نجمل الحفل، وقطب الرحى: صدقت لقد كنت كذلك، لكن تركي لوطني، وابتعادي عن أهلي، وتحمل أهلي وصبرهم على ذلك، على أمل أن ابني مستقبلي. ولا ننسى محاولاتي المستميتة، للحصول على بعثة دراسية حكومية.
كذلك مفارقتي لأعز أصحابي، قالها وهو ينظر إليهم واحدا واحد، وهم يشاهدون الدموع تتساقط من بين جفون عينيه، دون محاولته منه لمنعها. فهل ارجع خائبا، منكسا رأسي، دون هدف ودون مستقبل!
حاول أحدهم إخراجه من تلك السحابة الكئيبة، التي كادت أن تعمهم، وتمطرهم بوابل من الدموع. فسأله من طرف خفي، كأنه يريد استفزازه، وكيف أصبحت تهتم بالمعلومات العامة، وتبحث عنها بجد، بينما كنت في ما مضى، تسأم من البحث، وتتركها إذا لم تجدها جاهزة قريبة بين يديك؟
فطلب منه دور حلى آخر، فهو بطل المهمات الصعبة، ولأحد يخالف له طلب. رد وهو يتطلع لأصاحبه بنظرة فاحصة، كأنه قد فضح أمره: الجو العام هناك يختلف تماما، ويساعد على البحث والاكتشاف. كما إن للعلم أهميته، وموقعه المرموق. والمتعلم هناك لا يفقد قيمته، لكثرة من حوله من المتعلمين. بل يحصل على الاحترام والتقدير، وموقع في المجتمع لا يستهان به.
عند نهاية السهرة، سأله احد الحضور، هل تنصحنا بالاغتراب، والحصول على بعثة للدراسة؟
لم يرد عليه بلسانه، لكنه أفهمه بنظرة من عينيه، وهو يسلم مغادرا.
بقلم: حسين نوح مشامع