(يقول السيد الحكيم حفظه الله) :
-[ 215 ]-
المقصد الثالث
في الإمامة
وهي إمامة الأئمة الاثني عشر من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين تقدم ذكرهم في مقدمة الكتاب.
كثيراً ما تتعرض الدعوات الإصلاحية لتناقضات ومشاكل تَحُول دُون تقدمها وانتشارها وسيطرتها من أجل تطبيقها وتنفيذ تعاليمها على المجتمعات التي يفترض تكيفها معها، إما لقصور في الدعوة نفسها، أو لمعوقات خارجية تقف في وجهها.
وإن من أهمّ تلك التناقضات والمشاكل ما يعرض على الدعوة من خلافات وانشقاقات، نتيجة الاجتهادات الخاطئة، أو التحريف المتعمد، من أجل الأهداف والمصالح المناقضة لصميم الدعوة وأهدافها.
وكم عصفت الخلافات والانشقاقات بالدعوات حتى مسختها، وقضت عليها أخيرًا.
إضرار الخلاف والانشقاقات بالأديان
بل تنحصر محنة الأديان السماوية بذلك، لأنها في مأمن من القصور والتناقضات الذاتية بعد أن كانت مشرعة من قبل الله عزّ وجل، وهو الخالق المدبّر اللطيف الخبير الحكيم والذي ((يَعلَمُ خَائِنَةَ الأعيُنِ وَمَا تُخفِي الصُّدُورُ)) (1) و ((لاَ يَعزُبُ عَنهُ مِثقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرضِ)) (2) وهو ((بِكُلِّ شَيءٍ مُحِيطٌ)) (3). حيث لابد من كون النظام الذي يشرعه هو الأكمل، والصالح للتطبيق من دون أن تترتب عليه شيء من السلبيات.
تحذير القرآن الكريم مِن التفرُّق في الدين
ولعلّه لذا حذّر القرآن الكريم من التفرق والاختلاف، وحثّ على الوحدة والوفاق، وأكد على ذلك وشدد فيه،
قال سبحانه وتعالى: ((وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا)) (4).
وقال عزّ وجل: ((وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُم البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (5).
وقال عزّ من قائل: ((إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً لَستَ مِنهُم فِي شَيءٍ إنَّمَا أمرُهُم إلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفعَلُونَ)) (6)... إلى غير ذلك.
(4)، (5) سورة آل عمران آية: 103، 105.
(6) سورة الأنعام آية: 159.
إعلان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تفرُّق أمته
ولكن مع كل ذلك فقد أعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مسبقاً عن اختلاف أمته وتفرقها، كما تفرقت الأمم السابقة واختلفت بعد أنبيائها، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : "اختلفت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، سبعون فرقة في النار، وواحدة في الجنة. واختلفت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، إحدى وسبعون فرقة في النار، وواحدة في الجنة. وستختلف هذه الأمة على ثلاثة [كذا في المصدر] وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون فرقة في النار، وواحدة في الجنة..." (1).
وهو المناسب لِمَا ورد مستفيضاً أو متواتراً عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن هذه الأمة ستجري على سنن الأمم السابقة، ففي الحديث: "لتتبعن سنن مَن كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم.
قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمَن؟!" (2)، حيث لا إشكال في
(1) مجمع الزوائد 6: 233 كتاب قتال أهل البغي: باب منه في الخوارج، واللفظ له، 7: 258 كتاب الفتن: باب افتراق الأمم واتباع سنن من مضى / تفسير القرطبي 4: 160 / تفسير ابن كثير 2: 78 / سنن الدارمي 2: 314 كتاب السير: باب في افتراق هذه الأمة / مصباح الزجاجة 4: 179 كتاب الفتن: باب افتراق الأمم / مسند أبي يعلى 6: 341 فيما رواه أبو نضرة عن أنس / المعجم الكبير 8: 273 فيما رواه أبو غالب صاحب المحجن واسمه حزور / اعتقاد أهل السنة 1: 103 / السنة لابن أبي عاصم 1: 32 باب فيما أخبر به النبي (عليه السلام) : أن أمته ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة وذمه الفرق كلها إلا واحدة، وذكر قوله (عليه السلام) : إن قوما سيركبون سنن من كان قبلهم / الترغيب والترهيب 1: 44 / حلية الأولياء 3: 227. وغيرها من المصادر الكثيرة.
(2) صحيح البخاري 6: 2669 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : لتتبعن سنن من كان قبلكم، واللفظ له، 3: 1274 كتاب الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل / سنن ابن ماجة 2: 1322 كتاب الفتن: باب افتراق الأمم / مجمع الزوائد 7: 261 كتاب الفتن: باب منه في اتباع سنن من مضى / المستدرك على الصحيحين 1: 93 كتاب الإيمان / صحيح ابن حبان 15: 95 باب إخباره عن ما يكون في أمته من الفتن والحوادث: ذكر البيان بأن قوله: سنن من قبلكم، أراد به أهل الكتابين / مسند أحمد 2: 327، 511 مسند أبي هريرة، 3: 89 مسند أبي سعيد الخدري / مسند الطيالسي 2: 289 ما روى أبو سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وسلم) : عطاء بن يسار عن أبي سعيد. وغيرها من المصادر الكثيرة.
افتراق الأمم السابقة، كما تكرر ذكر ذلك في القرآن المجيد، ونراه عياناً في بعضها.
وعد الأمة بالفتن والتحذير منها
وهو المناسب أيضاً لما تكرر في الكتاب العزيز والسنّة الشريفة من تحذير المسلمين من الفتن ووعدهم بها، وأنهم لابد أن يمتحنوا ويغربلوا، ويخرج كثير منهم عن الدين الحق، وينحرفوا عن الصراط المستقيم،
قال تعالى: ((فَليَحذَر الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أمرِهِ أن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أو يُصِيبَهُم عَذَابٌ ألِيمٌ)) (1).
وقال سبحانه: ((وَاتَّقُوا فِتنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ)) (2).
وقال جلّ شأنه: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ أفَإن مَاتَ أو قُتِلَ انقَلَبتُم عَلَى أعقَابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلَى عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيئاً وَسَيَجزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)) (3).
وقال عزّ وجل: ((أحَسِبَ النَّاسُ أن يُترَكُوا أن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لاَ يُفتَنُونَ* وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ
(2) سورة الأنفال آية: 25.
(3) سورة آل عمران آية: 144.
وقال عزّ من قائل: ((مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤمِنِينَ عَلَى مَا أنتُم عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِن الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطلِعَكُم عَلَى الغَيبِ)) (2).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" (3) وفي أحاديث الحوض: "إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى" (4)... إلى غير ذلك.
شدة التحذير وقسوة التهديد
والملفت للنظر الحقيق بالانتباه أن هذه الآيات والأحاديث وغيرها قد تضمنت عبارات مرعبة ومضامين قاسية، كالتعبير بالانقلاب، والارتداد، والخبث، والكفر، والحكم على الخارج عن دعوة الحق بأنه هالك ومن أهل النار. ومقتضى ذلك أن يكون الخروج عما عليه الفرقة المحقة - أياً كانت - من الخطورة والجريمة، بحيث يكون سبباً للهلاك الأخروي، ولا ينفع معه الحفاظ على صورة الإسلام وإعلان دعوته. وهو المناسب لما ورد في الأمم السابقة،قال الله تعالى: ((وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُم البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ* يَومَ تَبيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسوَدُّ
(1) سورة العنكبوت آية: 2ـ3.
(2) سورة آل عمران آية: 179.
(3) صحيح البخاري 1: 56 كتاب العلم: باب الإنصات للعلماء، 2: 619 كتاب الحج: باب الخطبة أيام منى، وغيرهم.
(4) صحيح البخاري 5: 2407 كتاب الرقاق: باب في الحوض، واللفظ له / تفسير القرطبي 4: 168 / مسند عمر بن الخطاب: 86 / تغليق التعليق 5: 186 كتاب الرقاق: باب في الحوض.
وُجُوهٌ فَأمَّا الَّذِينَ اسوَدَّت وُجُوهُهُم أكَفَرتُم بَعدَ إيمَانِكُم فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُم تَكفُرُونَ* وَأمَّا الَّذِينَ ابيَضَّت وُجُوهُهُم فَفِي رَحمَةِ اللهِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ)) (1).
وقال سبحانه: ((وَلَو شَاءَ اللهُ مَا اقتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعدِهِم مِن بَعدِ مَا جَاءَتهُم البَيِّنَاتُ وَلكِن اختَلَفُوا فَمِنهُم مَن آمَنَ وَمِنهُم مَن كَفَرَ)) (2).
وقال عزّ وجل: ((وَمَا اختَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعدِ مَا جَاءَتهُم البَيِّنَاتُ بَغياً بَينَهُم فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اختَلَفُوا فِيهِ مِن الحَقِّ بِإذنِهِ وَاللهُ يَهدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ)) (3).
لابد مِن وضوح الحجة على مواقع الخلاف المُفرِّق للأمة
وإذا كان مواقع الخلاف بهذه الأهمية في الدين فلابد من وضوح الحجة عليها وجلائها، بنحوٍ لا يقبل العذر والاجتهاد، بل يكون الخروج عنها عن مشاقة وعناد متعمد، أو عن ضلال يعمي البصائر، مع التقصير في الفحص عن الحق والتعرف عليه، لتقليد، أو تعصب، أو نحوهما مما لا يصلح لأن يكون عذراً عند الله تعالى،
كما قال عزّ من قائل: ((وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِن الجِنِّ وَالإنسِ لَهُم قُلُوبٌ لاَ يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أعيُنٌ لاَ يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لاَ يَسمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنعَامِ بَل هُم أضَلُّ أُولَئِكَ هُم الغَافِلُونَ)) (4).
(1) سورة آل عمران آية: 105ـ107.
(2)، (3) سورة البقرة آية: 253، 213.
(4) سورة الأعراف آية: 179.
والوجه في لزوم وضوح الحجة أن مِن أهم مقاصد البعثة والنبوة إقامة الحجة الكافية على معالم الهدى والإيمان التي يتوقف على معرفتها النجاة من النار والفوز بالجنة ((لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيَى مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)) (1) و ((لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ)) (2)،كما قال عزّ من قائل: ((وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوماً بَعدَ إذ هَدَاهُم حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَا يَتَّقُونَ إنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ)) (3). وقد استفاضت بذلك الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
بل الأمر أظهر من ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى أعدل وأكرم من أن يدخل عبيده النار من دون حجة واضحة ترفع الجهل وتقطع العذر، ولا تدع مجالاً للريب والنظر والاجتهاد والتخرص.
وذلك كله يقضي بما ذكرنا من أن مواقع الخلاف الذي ينتهي بالآخرة إلى تفرق الأمة وانقسامها، والتي تكون معياراً في السلامة من الهلاك الأبدي، لابد أن تكون من البيان والجلاء ووضوح الحجة بحيث ينحصر سبب الخروج عنها في المشاقة والعناد المتعمد، أو العمى والضلال غير المعذِّر،ولا مجال لأن تكون مورداً للاجتهاد المعذِّر لو أخطأ.
ويؤكد ذلك ما سبق من قوله تعالى: ((وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُم البَيِّنَاتُ)) (4) لظهوره في وجود البينات الكافية
(1) سورة الأنفال آية: 42.
(2) سورة النساء آية: 165.
(3) سورة التوبة آية: 115.
(4) سورة آل عمران آية: 105.
في المنع من اختلاف المسلمين لو تابعوها ولم يتعمدوا الخروج عنها، ولا فرطوا في الوصول إليها.
ومثله حديث العرباض بن سارية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (1). لصراحته في وضوح الحق وجلائه، بحيث لا يلتبس على الأمة لو طلبته، وأن ليل الفتن وظلمات المحن ودياجي الشبهات والضلالات لا تقوى على التعتيم عليه وتضييع معالمه وطمس آثاره، فضلاً عن قلب الحقائق، بحيث يبدو الحق باطلاً والباطل حقًّا،ومِن ثم لا يكون الزائغ عن الحق والخارج عنه معذوراً ناجيًا، بل هو هالك لعناده أو تفريطه.
ويترتب على ذلك أمور حقيقة بالملاحظة والمراعاة..
الأمر الأول: أن معالم الفرقة المحقة الناجية - أيّاً كانت - وأصول
(1) مسند أحمد 4: 126 حديث العرباض بن سارية عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، واللفظ له / تفسير القرطبي 7: 138 / سنن ابن ماجة 1: 15 باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين / المستدرك على الصحيحين 1: 175 كتاب العلم / السنة لابن أبي عاصم 1: 19 / المعجم الكبير 18: 247 ما رواه عبدالرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية، ص: 257 ما رواه جبير بن نفير عن العرباض / الترغيب والترهيب للمنذري 1: 47 / مصباح الزجاجة 1: 5 كتاب اتباع السنة. وغيرها من المصادر.
هكذا روي الحديث في هذه المصادر. لكن رواه الشيخ الجليل الحسن بن أبي الحسن الديلمي كما يلي: "قال العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) موعظة ذرفت العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مُودِّع، فما تعهد إلينا؟ قال: لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدها إلا هالك. ومن يَعِش منكم يرى اختلافاً كثيرًا، فعليكم بما عرفتم من سنتي بعدي، وسنة الخلفاء الراشدين من أهل بيتي، فعضوا عليهم بالنواجذ، وأطيعوا الحق ولو كان صاحبه عبداً حبشيًّا، فإن المؤمن كالجمل الألوف حيثما قِيدَ استقاد". إرشاد القلوب 1: 37 الباب الخامس: في التخويف والترهيب.
عقائدها المنجية من الهلكة لابد أن تكون من الوضوح والبيان وقوة الحجة وجلائها بحيث لا تحجبها الشبهات، ولا تضيع في خضم الخلاف والخصومات، بل ليلها كنهارها، كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم). وأن الخارج عنها هالك، إما لتعمده الخروج عن الحق عناداً أو مشاقة لله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو لتفريطه وتقصيره في الفحص بنحو لا يعذر فيه.
لابد مِن شدّة التثبُّت في الفحْص عن الحق
ونتيجة ذلك فعلى ذوي الرشد من المسلمين - على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم - أن يعرفوا خطر ما هم فيه من الخلاف والشقاق، فإنّ جماعات منهم - على الإجمال - قد تركوا الحق الواضح والحقيقة البيضاء الناصعة، التي يهلك مَن زاغ عنها، لا لخفائها، بل لتسامحهم في التعرف عليها، أو لتعصبهم ضدها، بنحو يكون سبب خسرانهم، بل هلاكهم الدائم.
فعليهم أن لا يكونوا من هذه الجماعات الهالكة، بل يبحثوا عن تلك الحقيقة باهتمام وإصرار شديد، وبموضوعية خالصة، وتجرد عن التراكمات والمسلمات الموروثة، والتعصب والعناد القاتِلَين، ليصلوا إليها من طريق أدلتها القوية وحججها الجلية، التي لا تخفى على من يبحث عنها.
والحذر من أن يكتفوا في أمر الدين والمذهب بالدعاوى المجردة والأقوال المرسلة والاجتهادات والتخرصات التي لا تستند إلى ركن وثيق، ولا تصلح عذراً بين يدي الله تعالى يوم يعرضون عليه ويوقفون بين يديه.
لا ينبغي حُسْن الظن بالأشخاص قبْل معرفة الحق
الأمر الثاني: أنه لا ينبغي حسن الظن بالأشخاص - مهما كان شأنهم عند طائفتهم - بعد افتراق الأمة ووقوع الخلاف فيها، إذ بالنظر لِمَا سبق يعلم بخروج بعض الأطراف عن الحقيقة الجلية الواضحة، وفي الكل مَن هو مِن أهل العلم والمعرفة، ومَن هو منسوب عند أهل فرقته للتقوى والورع، بل فيهم مَن له قدسيته عندهم.
ولا وجه مع ذلك لتنزيه بعضهم عن تعمُّد الخروج عن تلك الحقيقة أو عن العمى عنها، وترجيحهم على غيرهم بعد عدم عصمتهم ووقوع الخلاف فيهم. بل لابد أولاً من معرفة تلك الحقيقة من طريق أدلتها ثم جعلها هي المعيار في تمييز الرجال.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : "اعْرِف الحَقَّ تعْرف أهْلَه" (1)، وقيل: إن الحارث بن حوت أتاه، فقال: أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟! فقال (عليه السلام) : "يا حارث إنك نظرت تحتك، ولم تنظر فوقك فحِرْتَ، إنك لم تعرف الحق فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف مَن أتاه" (2).
وليس من المقبول منطقياً - بعد ذلك - معرفة الحق بالرجال وقبول قولهم فيه، إلا أن تثبت عصمتهم، أو تُجمع الأمة على صدقهم وجلالتهم.
وأولى بذلك ما إذا ثبت خروج بعض الأشخاص عن تلك الحقيقة
(1) تقدمت مصادره في هامش رقم (1) ص: 25.
(2) تقدمت مصادره في هامش رقم (1) ص: 26.
الواضحة، حيث لا معنى مع ذلك للثقة به في بعض ما يتعلق بها من حوادث تؤيدها أو تؤكدها أو تقف ضدها، إذ كما تعمَّد الخروج عن الحقيقة المذكورة، أو عمِيَ عنها، مع وضوحها وجلائها، كذلك يمكن أن يتعمد إهمال تلك المؤيدات والمؤكدات، أو يعمى عنها، أو يتشبث بالطحالب والأكاذيب ضدها.
نعم بعد معرفة الحق بأدلته القوية وبراهينه الجلية قد يتسنى حسن الظن بإخلاص الطائفة التي تدين به وصدق لهجة أفرادها، ولاسيما إذا كان الحق الذي لزمته ودعت إليه ضعيفاً مادّيّاً يعاني من الضغوط والمطاردة من قبل القوى الفاعلة، فإنّ تمسُّك ذوي المعرفة به مع كل ذلك يناسب إخلاصهم واهتمامهم بالحقيقة للحقيقة، ونبل مقاصدهم، المناسب لحسن الظن بهم، أو القطع بصدقهم.
غاية الأمر أن ذلك وحده لا يكفي في إثبات أنهم على الحق قبل النظر في دليلهم.
لابد مِن وضوح أدلة الإمامة
الأمر الثالث: حيث كانت الإمامة من أهمّ أسباب خلاف الأمة وافتراقها، بحيث يرى كل فريق ضلال غيره وهلاكه، فلابد من كون الاستدلال عليها نفياً وإثباتاً من الرصانة والقوة بحيث يجعلها من الواضحات الجلية، وتكون بيضاء ليلها كنهارها، ليكون الاختلاف فيها اختلافاً بعد قيام البينة ووضوح الحجة، والخروج عنها سبباً في الهلاك
وهو المناسب لما استفاض عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: "مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات مِيتةً جاهلية" (1).
أو: "من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية" (2).
أو: "من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية" (3).
أو: "من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهلية" (4).
أو: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" (5)، ونحو ذلك.
(1) ينابيع المودة 3: 372 / طبقات الحنفية: 457.
(2) مسند أحمد 4: 96 حديث معاوية بن أبي سفيان / حلية الأولياء 3: 224 في ترجمة زيد بن أسلم / المعجم الكبير 19: 388 فيما رواه شريح بن عبيد عن معاوية / مسند الشاميين 2: 437 ما انتهى إلينا من مسند ضمضم بن زرعة: ما رواه ضمضم عن شريح بن عبيد / مجمع الزوائد 5: 218 كتاب الخلافة: باب لزوم الجماعة وطاعة الأئمة والنهي عن قتالهم.
(3) السنة لابن أبي عاصم 2: 503 باب في ذكر فضل تعزيز الأمير وتوقيره / مسند أبي يعلى 13: 366 حديث معاوية بن أبي سفيان.
(4) مجمع الزوائد 5: 224 كتاب الخلافة: باب لزوم الجماعة وطاعة الأئمة والنهي عن قتالهم / المجروحين 1: 286 في ترجمة خليد بن دعلج.
(5) صحيح مسلم 3: 1478 كتاب الإمارة: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن / السنن الكبرى للبيهقي 8: 156 كتاب قتال أصل البغي: جماع أبواب الرعاة باب الترغيب في لزوم الجماعة والتشديد على من نزع من الطاعة / تفسير ابن كثير 1: 518 في تفسير الآية (59) من سورة آل عمران / مجمع الزوائد 5: 218 كتاب الخلافة: باب لزوم الجماعة وطاعة الأئمة والنهي عن قتالهم / الكبائر للذهبي: 169 في الكبيرة (45) الغدر وعدم الوفاء بالعهد / السنة لابن أبي عاصم 2: 503 باب في ذكر فضل تعزيز الأمير وتوقيره / المعجم الكبير 19: 334 فيما رواه ذكوان أبو صالح السمان عن معاوية.
ورويت هذه الأحاديث أو ما يقرب منها في المصادر الشيعية ومنها: الكافي 1: 376 كتاب الحجة: باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى حديث: 1، 3، 2 / 1: 378 كتاب الحجة: باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام حديث: 2. وراجع1: 180 كتاب الحجة: باب معرفة الإمام والرد إليه، وص:374 كتاب الحجة: باب من دان الله عزوجل بغير إمام من الله جلّ جلاله / بحار الأنوار 23: 76ـ 95 باب: وجوب معرفة الإمام وأنه لا يعذر الناس بترك الولاية وأن من مات لا يعرف إمامه أو شك فيه مات ميتة جاهلية وكفر ونفاق.
وعلى ذلك لابد لكل مُدَّعٍ في الإمامة من الأطراف المتخاصمة والفِرَق المختلفة من أن تكون أدلته بالنحو المذكور، ولا يكفيه التشبث بالحجج الضعيفة والتخرصات والاجتهادات والاستبعادات من دون أن يستند إلى ركن وثيق.
ونسأل الله سبحانه وتعالى بمنّه وكرمه أن يمدّنا في ذلك بالتوفيق والتأييد، والعون والتسديد، ويعصمنا من الزلل في القول والعمل. إنه أرحم الراحمين، وولي المؤمنين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبعد أن انتهى الكلام في هذا المقدمة فلندخل في المطلوب، وهو الاستدلال على الإمامة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنحو المدعى للإمامية الإثني عشرية الذي تقدم شرحه في المقدمة من هذا الكتاب.