الزمن عنصر أساس في إيجاد وإنجاز وتحقيق كل شيء فهو بالنسبة للوجود كالماء بالنسبة للحياة.. فكما أنّ الحياة لا تكون إلّا بوجود الماء: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾.. كذلك وجود الأشياء
والحوادث والأعمال، لا يمكن أن يكون إلّا بوجود الزمن..
لذا كان الزمن عنصراً أساساً، وضرورة لإيجاد الأشياء وتحقّقها.. ولذا كانت قيمته وأهميته بالغة في الحياة.. أهمية الماء بالنسبة لها.. فكما أنّ انعدام الماء يعني انعدام الحياة، فإنّ ضياع الوقت
وتضييعه وعدم الانتفاع به، يعني انعدام القدرة على إيجاد أي شيء أو إنجازه.. وبالتالي إعدام طاقة الانسان وإمكانيته وقدرته الفكرية والمادية والنفسية.. وتفويت الفرص والمناسبات، وهدر قيمة
الأشياء إعدامها، والحيلولة دون ولادتها وتكوينها.
من هنا كان عنصر الزمن أغلى عنصر في حياة الانسان وأثمن شيء يملكه الناس في الحياة.. فليست الحياة بالنسبة للانسان إلّا ما يترك فيها من أثر.. وإلّا ما ينجزه ويحقِّقه من فعل.. فهي حقله
ومزرعته التي يزرع فيها جهده ونشاطه وطاقته وإمكاناته.. ويحصد ثمار جهده ونتيجة عمله.. فهي كما وصفها سيِّد الحكماء الامام عليّ ابن أبي طالب 7: «الدُّنيا مزرعة الآخرة»..
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
تكملة الموضوع قرأة لكتاب (لا تُضَيــّع )
وكم ينسى الانسان أهمية الزمن وقيمة العمر، وهو كل رأسماله الذي ينفق منه، ويتصرّف فيه.. وهو رأسمال محدود.. ورصيد محدود، وكل لحظة زمنية تمّر من العمر تنقصه.. وتذهب منه، ولا يمكن
تعويضها وإعادتها.. فهو كمسافة الطريق بالنسبة إلى المسافر.. فكل خطوة يخطوها تقطع جزءاً معيّناً من المسافة وتنقص الطريق لتقرب من النهاية.. لذا فالانسان الناضج الذي يملك حسّاً حياتياً،
وإدراكاً سليماً، ومعرفة صحيحة لقيمة الحياة وأهمية الزمن، يحترم وجوده وحياته، ويحرص على كل لحظة ودقيقة وساعة من ساعات العمر.. فهي جزء من حياته، يعمل جاهداً على توظيفها،
والاستفادة منها. لئلّا تضيع هدراً فيضيع عمره وقدرته.. ثمّ ينظر إلى ما ضيّع وفرّط بعين الحسرة والندم.. وبعد فوات الأوان وتجاوز الإمكان..
ويحكي لنا القرآن الكريم عن هذا الانسان المضيِّع النادم، الذي أغفل طاعة الله ونسيه، وضيّع عمره في اللّهو والعبث والضّياع والضلال والفراغ.. ولم يستفق من غفلته وغيبة وعيه إلّا في ساعة
الحسرة والندم.. فيتذكّر ضياع القوّة والمال والجاه والامكانات، وعدم استثمارها في الخير وفي طاعة الله.. فيعضّ على يديه ندماً وحسرة، يشكو من الضّياع والخذلان وسوء العاقبة.. فيصفه القرآن
وهكذا يصوّر القرآن هذا النموذج من الناس المضيِّع الذي أفنى عمره في غفلة ولهو وعبث، وضيّع ماله وسلطانه وعمره، بعد أن خاطبه القرآن وأرشده في موقع آخر من بيانه وإيضاحه الطريق
والمنهج السوي للتعامل مع الحياة، ورسم كيفية الاستفادة من طاقة الانسان وجهده في مجال الخير والبناء والهداية والاصلاح.. ﴿ولكِنْ لِيَبْلُوكُم فيما آتاكُم فاسْتَبِقُوا الخَيْرات﴾، فيُحدِّد له الهدف والغاية
والاختبار والابتلاء، ليكشف الانسان عن محتوى ذاته، ويفصح عن هويّته وحقيقته الكامنة – خيِّرة كانت أو شرِّيرة – ويحثّه على السِّباق والتسابق من أجل الخير.. لا من أجل الصراع العابث، واستهلاك
الطاقة في التنازع والتسابق في مجال الشرِّ والعداوة والضّلال والفساد.. فروح الآية ومضمونها حثّ على استثمار الزمن وتوظيف لحظات العمر، ومسابقة حركة الحياة، وعجلة المسير قبل فوات الأوان،
وضياع الفرص.
لذا يشرح رسول الانسانية وترجمان القرآن الهادي محمّد 6 هذه الحقيقة، ويوضِّح معناها ومدلولها بقوله6:
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
وصلنا الى
فقد لا يفكِّر الانسان صاحب المال والقوّة والوقت ومَنْ هو في مرحلة الشباب بتلك القوّة والفرص والحيوية التي يملكها ولا يقدِّر قيمتها وأهميتها.. فلا يدرك ولا يستفيد من قدرته على طلب العلم..
وقدرته على العبادة.. وقدرته على عملِ الخير.. وقدرته على المشاركة في النشاطات الاجتماعية.. ولكنّه يحسّ بالحسرة والندم على تلك القدرة والحيوية عندما يفتقدها وهو في مرحلة الشيخوخة عندما
يشيب وتهرم طاقاته وقواه، وعندما يفقد إمكاناته وفرصه التي اُتيحت له، وعندما يصبح عاجزاً عن طلب العلم وعن العمل والمشاركة في مشاريع الخير وأعمال البرّ والجهاد... إلخ، فيظلّ يتذكّر أيّام
الشباب وحيويّة الشباب وما تيسّر له من قوّة وإمكان.. نادماً على ما فرّط فيها.. آسِفاً عليها يوم كان بوسعه أن يعمل ويكسب ويوفِّر، ويطلب العلم، ويشارك في أعمال الخير، ويتزوّد من العبادة... إلخ.
فكم من صاحب مالٍ ضيّع ماله ولم يستخدمه، ولم يوظِّفه فيما يحقِّق خيره وصالحه، وكم من صاحب قوّة وصحّة ونشاط قد أهدر صحّته ونشاطه، وكم من صاحب وقت وفراغ قتل وقته وأحرق الزمن كما
تُحرق أكداس القمامة، جاهلاً قيمة هذا العنصر الحيوي في الحياة..
وظواهر التضييع وأسبابه كثيرة في حياة الناس.. فالذي يدرس بدقّة وعناية سبب مشكلة الانسان ومحنته الأخلاقية والاقتصادية والتعبّدية والاجتماعية، يجد أنّ التضييع والتفريط سبب أساس من أسباب
التخلّف وخلق المشكلة الحضارية الكُبرى التي يعاني منها الانسان..
فالانسان يعاني من حالات نفسية وسلوكية ثلاث: ان شاء الله في التكملة
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
وصلنا الى
فالانسان يعاني من حالات نفسية وسلوكية ثلاث:
الإسراف:وهو استعمال الأشياء والموجودات؛ كالماء والطعام والشراب واللِّباس... إلخ استعمالاً يتجاوز حدّ الحاجة والصّرف المعقول.
التبذير: عبارة عن إتلاف وتضييع ما هو موجود، من مال وأشياء نافعة لدى الانسان.
التضييع: وهو إهمال الطاقات والفرص والإمكانات وتعطيلها وعدم الاستفادة منها... فالتضييع عمل سلبي وسلوك هدّام يفرزه الجهل والوضع النفسي غير السّوي.. العالم والمتعلِّم والشخصية السويّة،
حريصون على ما وهبهم الله من قدرات ومن صحّة وشباب ومال ووقت... إلخ، يتصرّفون بحكمة وواقعيّة، لا يفرِّطون بشيء من هذه الطاقات، ولا يهدرون استثمارها..
لذا فإنّ الاسلام دين العمل والواقعيّة، كان حريصاً على توظيف طاقة الانسانية واستثمارها.. طاقاتها الطبيعية والبشرية التي فيها خيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة.
فقدحبا الله الانسان بطاقات الطبيعة الخيِّرة المعطاء، من الأرض والخصب، والماء العذب المتدفِّق، وثروات الحيوان والمعادن.. وطاقة الشمس... إلخ، ومنحه طاقات عُظمى، لو أنّه تصرّف بها وفقَ منهج
إلهي سليم لأخصبت الأرض، وعمرت الحياة، وازدهرت الحضارة، وعاش الانسان في ظلال الأمن والسلام.
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
وصلنا الى
إنّ الاسلام لم يحثّ الانسان وينمِّي وعيه وحسّه من أجل توظيف الطاقات والامكانات وتحذيره من تعطيلها وحسب... بل وجعله مسؤولاً ومحاسباً عنها يوم القيامة، فهي أمانة وطاقة حمِّل بها ورضيَ بحملها، وعليه أداؤها وتوجيهها الوجهة الصحيحة التي أرشده خالقه إليها، وبيّن له كيفيّة استعمالها. فلا شيء في هذا الوجود يعرف العبث والضّياع.. وكلّ شيء خُلِقَ بقدر، ووُضعَ موضعه، ليؤدِّي دوره، ويحقِّق غاية وجوده.. وما وضع بيد الانسان وحمل مسؤولية توجيهه وتوظيفه، فأنه مسؤول عنه ومحاسَب عليه، لذلك يأتي الحديث النبويّ الشريف ويشرح هذه الحقيقة العلمية للانسان، ليوقظ وعيه وحسّه الاجتماعي والعبادي ويفجِّر في نفسه ينابيع الخير، ويُبعده عن التضييع والتفريط والتردِّي في مهاوي الضّياع والفقر والمعصية..
قال رسول الله 6: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن عمله كيفَ عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه»[1].
فالنصّ النبويّ الشريف يفيض بالقِيَم والمعاني، ويفصح عن المنهج والدقّة والتنظيم، ويضع الانسان أمام المسؤولية الكُبرى يوم القيامة.
فالانسان مسؤول عن الزمن وأهميته في الحياة، وغير مسموح له باتلافه وتضييعه في الثرثرة والفراغ والنوم والكسل والمجالس الفارغة المضيِّعة.
فكم من الساعات والأيام والسِّنين يضيِّعها الانسان في التسكّع في المقاهي والأندية والطرقات ومجالس قتل الزمن وحرقه...
وقد لا يشعر الكثير من الناس بأهمية هذا العنصر، فتراه يضرب موعداً مع صديقه أو الزبون الذي اعتاد التعامل معه إن كان حرفيّاً أو صاحب عمل، ثمّ لا يعنيه أن يؤخِّر العمل، أو يخالف الموعد عدّة أيّام أو ساعات، ولا يُقدِّر أهمية الزمن، وخطورة تأخير الموعد، وتضييع الوقت.
وملايين الساعات مع الزمن تُحرق كلّ يوم بنوم الكسالى الذين يدفنون الزمن الحيّ في مقبرة الفراش، ويستهلكون الحيوية والنشاط في التمطِّي والتثاؤب وفي الجلوس على الأرصفة والتجوال في الشوارع والتجمّعات هنا وهناك بلا هدف ولا غاية بنّاءة.
لقد نظّم خالق الوجود الحياة البشرية ...........في التكملة ان شاء الله تعالى