اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
مذكرات مبتعث -27- كرسي متحرك
دعي مبتعثنا ذات يوم لزيارة احد الأصدقاء، ولتقديم المواساة له والشد من أزره. فذهب في معية مجموعة من الأصدقاء والأصحاب، وهو لا يعرف ما الذي حدث لهذا الصديق ليستحق كل هذه الحفاوة، وكل هذا التقدير.
ذهب وهو يحاول معرفة السبب وراء هذه الزيارة المفاجأة، فأخذ ينبش ذاكرته محاولا استخراج ما خزن فيها من معلومات. ولكن ومع العصف الذهني الكبير الذي بذله، لم يتوصل إلى جواب عقلاني، يستطيع به ربط الأحداث مع بعضها، والخروج بنتيجة مقنعة. عندها توقف عن التفكير قائلا لنفسه: إذا كان خبر اليوم بأجر مرتفع، فمن الغد يصبح بدون مقابل.
وعند الباب استقبلهم صاحب الدعوة بكل رحابة صدر، وحسن استقبال. فعندها بدى الاستغراب مرتسما على وجه مغتربنا واضحا جليا، كأنه شاهد حيوان مفترسا أو منظرا غريبا، وأثار انتباه جميع من حضر.
دخلوا مجلسه، فتقاطر بقية الأصحاب والأصدقاء من كل حدب وصوب، مهنئين على سلامته وفكاك أسره. فأخذ استغراب مبتعثنا يزداد مع كل وارد جديد، فترتفع لذلك نسبة حب الاستطلاع لديه، لمعرفة التجربة التي مر بها هذا الصديق.
وبعد أن استقر بهم المجلس، وقدمت أصول الضيافة للواردين، اتجهت كل العيون صوب صاحب البيت، تطلب منه تقديم الإيضاحات ومعرفة الملابسات، كما تتطلع صغار الطير إلى أمها انتظارا لإطعامها.
اخذ المضيف موقعه من صدر المجلس، محاولا جذب قلوب الزوار قبل أنظارهم، ليتمكن من سرد مغامرته، كأنه جندي قد رجع للتو من جبهة القتال، فها هو يقص على أهله وذويه ما لاقاه من مصاعب وما وقع عليه من فظائع. وبدأ سرد قصته بقول: تعودت الذهاب إلى قلب المدينة التجارية بعد غياب قرص الشمس، لمشاهدة الفقراء والمشردين، وهم يتسكعون في الشوارع والأزقة. ولم أكن اعتقد في يوم ما، أن يحل بي ما حصل.
شدت هذه الكلمات الحضور، وأخذت آذانهم وعيونهم تطلب المزيد.
في ذلك اليوم كما هي عادتي، أوقفت سيارتي في أحد الشوارع، وأخذت اتمشى على قدمي.
فتطلع مغتربنا إلى قدميه، اللتان بدتا له على خلاف طبيعة الناس العاديين.
واصل كلامه قائلا: كنت أتطلع للإثارة والمتعة، كأنني على شاطئ البحر أتطلع إلى أمواجه تتلاطم أمام عيني، أو في وسط غابة غناء، أشم عبير الورود واستمع إلى زقزقة العصافير. ومع عودتي إلى مكان سيارتي لم أجدها، ولكثرت تطلعي وتنقلي في المكان، لفت نظر احد المتسكعين. فاتجه نحوي يسألني ما لذي تفقده، وإذا كان بإمكاني تقديم المساعدة؟
استغربت بداية أن هذا النوع من الناس، يقدم مساعدة للآخرين دون أن يكون لديه نية خبيثة! فأخبرته عن فقدان سيارتي.
فأخذني معه في سيارته، يتنقل بي من سيارة إلى أخرى على أمل أن نجد سيارتي، ولكن دون ما فائدة. عندها سألني هل عندك بعض النقود؟
فتوقفت دقات قلبي، وارتج علي وتلعثم لساني، واعتراني خوف فضيع، كأن الموت قد مثل أمام عيني. لم استطع أن أقول لا، فهززت رأسي دليلا على الموافقة، كأني طالب مؤدب واقف يجيب أستاذه.
وجه لي كلامه بعينين حمراوين، كأنهما جمرتان تقدحان نارا: نحتاج إلى مائة دولار لنتمكن من إعادة سيارتك؟
على الفور ولفرط خوفي من ردة فعله، أخرجت محفظتي ولم يكن بها إلا أربعين دولارا. فقال إن هذا المبلغ لا يكفي ويتوجب عليك دفع الباقي!
تطلع إليه الحضور، مخافة أن يكون قد نوا به شرا، ولكنهم لم ينبسوا ببنت شفة، متطلعين لإكمال قصته.
أخذني معه من صراف آلي إلى آخر، ومن شارع لآخر، لكن لسوء الحظ كانت كلها مقفلة، لتأخر الوقت لما بعد منتصف الليل.
عندها تسائل احد الحضور، وقد استحوذت على مشاعره القصة، هل نوى بك شرا؟!
هذا ما اعتقدته، فلقد قال لي: ينبغي عليك البقاء معي حتى الغد، لتتمكن من الحصول على بقية المبلغ!
لم استطع الممانعة أو المقاومة، مع أن قلبي قد أمتلئ رعبا وخوفا منه، ومن شكله المقزز، ورائحته العفنة. ولكن ولعدم معرفتي بالمنطقة التي نحن فيها، ولوضعي الصحي الخاص، ذهبت معه.
أخذني إلى أقرب فندق، لا يرتاده حتى الفقراء من الناس، لشدة وضاعته، ولكثرة القاذورات المحيطة به إحاطة العقد بالمعصم. وحجز غرفة لي وله، وتركني أنام على السرير، وهو نام على الأرض، لكنه لم ينسى إحضار احد الموموسات معه. قدم لي الشراب والمخدر، فرفضته، لكن الغريب أنه لم يجبرني على تناوله.
انشغلا ببعضهما، وأخذت أبخرة وروائح المسكر والمخدرات، تتطاير من بين شفتيهما وجسميهما، محلقة في فضاء الغرفة، كأنها بحيرة تتبخر مياهها بفعل شدة الحرارة.
لم تغمض عيني طوال الليل، أتطلع يمنة ويسرة، وأتحين الفرصة للهرب، منتظرا إغفائهما، وخروج خيوط أول إشراقة للشمس، فأتمكن من رؤية طريقي.
مع خروج مبتعثنا من بيت المضيف، أخذ يتطلع إلى قدميه، والكرسي المتحرك الذي كان قاعدا عليه، وهو يهز
بقلم: حسين نوح مشامع