اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
مذكرات مهجر- 1
في تمام الرابعة صباحا وبعد أداء صلاة الفجر خوفا ووجلا، كما يؤديها المحارب على جبهة القتال. وفي يوم مظلم دامس كاتم، لم نشعر فيه بما يتحرك أو يتنفس حولنا. وتحت جناح الظلام، وقبل طلوع الشمس فتكشفنا بانتشار ضيائها، كنا نمشي على الأقدام رجالا ونساء، كأننا ذاهبون لحضور مجلس عزاء. ما عدا من كان لديه أطفال وعجزة, فلقد خصص لهم حافلة صغيرة لتقلهم.
لم نكن نشعر باختلاف ألوان الملابس على أجسادنا، بل كل ما كان علينا يعكس ألوانا سوداء داكنة. والسكوت والسكون كان يلفنا من كل جانب، كبرنس شتوي ثقيل. ما عدا أصوات الأحذية التي كانت تصطدم بما أمامها من أحجار في محاولة لإثارة الغبار، كأحذية جنود يتدربون في ثكنة عسكرية. وهمهمات تخرج من الأفواه هنا وهناك، تكيل اللعنات والسباب للمسؤولين عن هذا الإذلال والاهانة. وعيون تتطلع للخلف بين الفينة والأخرى، لعل شيء ما يحدث وتنتهي المعاناة.
لقد كنا نقاد كما تقاد الشياة مهرولة هنا وهناك فرحة جذلة، وهي لا تعلم أنها تجر لحتفها. نمر عبر الطرقات والممرات الضيقة الملتوية، والمليئة بالحفر والأحجار الناتئة، كأنها تتحدانا بقوتها وتحفزنا لتجاوزها. وبين البيوت والبنايات المتراصة على جنبات الطرق والحارات، التي كانت في الأيام السابقة تقابلنا ذهبا وإيابا. وقفت اليوم لتوديعنا وداعا حارا، كأم رءوم تودع ابنها البار الوداع الأخير.
بقينا نواصل سيرنا هكذا على الأقدام ولمدة طويلة لم نتمكن من تحديد زمنها، لهول الصدمة. وشعرنا حينها أننا في متاهات، وكلما انتهينا من واحدة خرجت علينا أخرى، كجسم ثعبان ضخم ملتوي ومتداخل في بعضه، حتى وصلنا إلى حافلة كانت بانتظارنا، لتقلنا لوجهة حددت سلفا. ولم يستطع بعض المسافرين اللحاق بنا، لكونهم من قبل صلاة الفجر، يؤدون مراسم الزيارة والدعاء، فطلب منهم اللحاق بنا في سيارات أجرة. وتركنا المدينة دون أداء الوداع الأخير، ودون استلام ملابسنا من المغسلة، والتي كان من المفترض استلامها في اليوم اللحاق.
بدأ هذا الحفل الوداعي الساخر في تمام الساعة الثانية صباحا، من ذلك اليوم المشؤوم، حيث طرقت علينا الأبواب بابا بعد باب، كما تطرق زنزانات على السجناء إيذاننا بترحيلهم. وكان الطرق يخترق طبلة الآذان ليستقر في القلوب، كالبرق الثاقب يخترق أجواء الفضاء، فيرجع صوتا ودويا هائلا لا يحتمل، ينشر الرعب والخوف. فاستيقظ على أثره من كان نائما مرعوبا فزعا، وربما سقط الأطفال من على سرتهم، أو من بين أيدي أمهاتهم، من هول الصدمة. طلب منا بصوت آمر ناهر، كأننا قد اقترفنا ذنبا لا يغتفر وها نحن نتحمل نتائجه، تجهيز حقائب سفرنا وربط أمتعتنا استعدادا للمغادرة البلاد الساعة السابعة صباحا.
كان هذا آخر السوء، لان ما كان قبله لم يكن بأقل منه سوءا. وكان آخر طريق حافلتنا الطائرة العائدة لأرض الوطن، دون توديع الإمام الرضا . هذا بعد إعلامنا قبلها بيومين بإلغاء رحلتنا، ولن يكون هناك طائرة تقلع عائدة بنا للديار قبل يوم الخميس. ففرحنا فرحا كثيرا، وهنئ بعضنا بعضا لتمديد فترة الزيارة.
كان من الممكن إعطاء الحملة درسا لا ينسوه أبدا، وجعلهم عبرة لآخرين أمثالهم، ممن يقتاتون على آلام الآخرين. لكن غياب من بيده الحل والعقد، ومن يمكن التفاوض معه. أو قل هروبه من ساحة المواجهة، وهذا ما تمكن في تصويره لنا كوادرهم ببراعة متناهية. وافتراق كلمتنا وتضعضعها، لخوف البعض من تحمل مصاريف إضافية، جعل هياجنا وانتفاضتنا ووقوفنا أمامهم يذهب أدراج الرياح، وجعلنا نسلم لهم أرواحنا ويقودونا كالأضاحي.
كان هذا في يوم الثلاثاء الموافق (29) شعبان لعام 1434 هجرية.
بقلم: حسين نوح مشامع