اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
بين السماء والارض
حتى شهره التاسع ويوم ولادته، بقي منتصبا ورأسه إلى الأعلى. أبا تعديل وضعه ليتمكن من الخروج سالما، من رحم أمه. محاولاً إيصال رسالة رفض ونفور إلى والديه، وإلى القابلة التي كانت تحاول إخراجه إلى الدنيا. مترفع عنها، كأنها أقل من طموحه. كأنما سمع عنها وعن أحوالها، وهو جنين في بطنها، فقرر من حينها واتخذ قراره.
ولكن لم يكن هناك مهرب من إخراجه عنوة، حتى وإن رفض هو ذلك، فأخذت إلى أقرب مستشفى. فبدل من أن تجابه بما يريحها، ويخفف عنها آلامها. قوبلت بلهجة شديدة، وأوامر عسكرية: بروتوكول المستشفى تحتم الولادة القيصرية، حتى لو وجد أمل قوي في خروجه عن طريق رأسه. لم يأخذوا بالحسنى، ولم تكن هناك محاولة طيبة لإقناعهم. بل عاصفة ثلجية عاتية، وقلب قاسي لا يرحم يبس أطرافهم.
كان الأبوان جديدي عهد بالزواج، وجديدي عهد بالإنجاب. ففرا به كما يفر الصحيح من الأجرب. خوفا عليه من الموت، وخوف عليها من خطر الجراحة. وهي في تلك الحالة العصيبة، تتلوى من الألم - وتعتصر من المخاض. وهو مصر على موقفه، لم يتزحزح عنه قيد أنملة، لا يريد أن يخرج إلا بتلك الوضعية. ولم تكن في وعيها الكامل لتفكر، ولم تكن في حالة مستقره لتقرر.
عندها توجه بها الأب إلى مشفى آخر في المنطقة، مقتنعاً بالولادة القيصرية. فلم يعد هناك منفذ منها ولا مهرب، ولا منجى لها إلا بها. فدخلت غرفة العمليات من فورها، وغادرها الأب مطمأنا إلى تنفيذ ما اتفقا عليه. كأنما هم أنهك كاهله، فتخلص منه بذلك الاتفاق. ذهب مبتهجاً منتظرا ولي عهده، ومن سيحمل اسمه مستقبلاً. ذهب فرحا ينتظر البشارة، والبهجة تملأ قلبه. لم يفارق سماعة الهاتف، وكان ينهر كل من يحاول استعماله. كأنما هو أول إنسان ينجب له، وولده أو ل إنسان يولد في الدنيا.
جاءه الخبر كمن أرسل على جنته حسبانا (بلاء وهلاك)، فأصبحت صعيداً زلقا(ارض ملساء لا تثبت عليها القدم). عندما اتصلت به زوجه لتخبره، أنها ولدت دون ما عملية قيصرية. لم يصدق ما جرى، ولم يستطع أن يبدي مشاعره أو يخفيها. هل يصرخ فيها مؤنبا؟! أم يلوم نفسه على تركها بمفردها؟!
لقد وقع أوراقاً رسمية، على أن تجرى لها العملية. كيف غيرت الاتفاقية، ووضعت وضعاً طبيعياً، وهم يعلمون خطأ ما يقدمون عليه؟! فأصبِح كمن وجد ماء جنته غورا فَلم يَستَطع له طلبا، وأحيط بِثَمرة فؤاده ومن انتظره كل هذه الشهور. فأخذ يقلب كَفَيه علَى ما دبر - وفكر - وقرر.
خرج الجنين إلى الدنيا معكوساً، لا كما يخرج الأجنة الأصحاء. يأتون صارخين ضاجين، مستقبلين الدنيا برؤوسهم. وهذا يستقبل العالم هامداً منطوياً على نفسه، مقدماً رجليه أمامه. لم يصرخ في من حوله، ولم يلومهم على إخراجه من جنته التي إعتادها، ودون أن يحرك بنت شفة.
ولادته وسحبه عن طريق أرجله، تسبب في خنقه وحجب الهواء عنه. فجعل صدره ضيِقا حرجا، كأنما يصعد في السماء. وبقي في المستشفى تحت العناية والملاحظة. وبقية أمه مرسال غرام ومبعوث حب وهيام، بينه وبين أبيه. فيوم تكون معه وإلى جواره، ويوم آخر ترجع إلى بيتها لتكون برفقة والده.
بقي هو يراوح بين العناية المركزة، والملاحظة العامة. وانتهى محطة للتجارب، ومعمل للأبحاث. يغير له نوعية الدواء، من يوم للآخر، حسب حالته وما يستجد عليها. ولكن لا يعلم متى سيخرج من قمقمه، وينظم إلى والديه. ولا يعلم ذويه أهو من الأحياء، فيفرحوا يبتهجوا وينشروا خبره بين الناس. ولا هم على يقين إنه من الأموات، فيسلموا أمرهم إلى الله ويستقبلوا التعازي. فهم كالمعلق بين السماء والأرض، لا يستطيع الانطلاق إلى أعلى فينجو، ولا يمكنه النزول إلى سطح ارض فيسلم.
بقلم: حسين نوح مشامع – القطيف - السعودية