الخاصية الأولى: خاصية الوسطية الإيجابية في التعامل مع أهل البيت عند الاثني عشرية.
والخاصية الثانية: خاصية الواقعية في التعامل مع الصحابة عند الاثني عشرية.
والخاصية الثالثة: خاصية غيبة الإمام الثاني عشر في المذهب الاثني عشري.
هذه هي مراحل دراسة المذهب الاثني عشري التي ينبغي بل يجب الالتزام بالترتيب المذكور عند طرح هذا المذهب للوهابيين. وإليك فيما يلي بحثاً مختصراً حول كل منها حسب الترتيب المذكور(1).
والشكل الآتي يبيّن خلاصة المنهج الجديد في عرض المذهب الاثني عشري على الوهابيين.
____________
(1) تناولنا أكثر هذه المباحث في القسم الثاني من هذا الكتاب الذي تحدثت فيه عن رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية.
المرحلة الأولى
مرحلة المعرفة الانتسابية للمذهب الاثني عشري.
(ولا تَلْبِسوا الحقَّ بالباطلِ)(1).
إنّ أول ما يجب مراعاته والالتزام به لمن يريد أن يكتب عن المذهب الاثني عشري من غير أتباع هذا المذهب، ـ حتى يتجنب جريمة التشويه لحقائق وخصائص هذا المذهب ـ هو أن يبدأ قبل الكتابة عن الاثني عشرية بملاحظة هذه المرحلة، ففي هذه المرحلة ا لهامة والضرورية سوف ندرك أنّه يوجد جفوة أصيلة ومفارقة عميقة بين (حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه) وبين (مشخصات الغلو)، بين الحقائق والخصائص الإسلامية العظيمة عند الاثني عشرية وتلك الصفات ا لهجينة والمبتذلة للفرق المغالية المنحرفة، بين العقيدة الإ لهية الإسلامية عند الاثني عشرية وتلك الأساطير البشرية المجوسية.
في هذه المرحلة الأولى ا لهامة سوف نتعرّف على النتائج الخطيرة التي نشأت من مشكلة الخلط بين (الفكر الإسلامي الاثني عشري) و(الفكر المغالي)، وكان لهذا الخلط الأثر الكبير على اتباع الوهابية؛ حيث نسبوا للاثني عشرية أموراً غريبةً غرابةً تامةً عنها وعن حقائقها وخصائصها.
____________
(1) سورة البقرة: من الآية 42.
وإنّني على يقين بأنّ (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) لن تدرك كما هي في صفائها ونقائها إلاّ عند الالتفات إلى هذه المرحلة الأُولى ا لهامة والأساسية.
ونحن في هذا الكتاب أطلقنا عليها (مرحلة المعرفة الانتسابية للمذهب الاثني عشري)؛ لأنّه لا بد لنا قبل أنْ نشرع في دراسة (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) أن نميّز بين ما هو من صميم الاثني عشرية، وما هو من صميم الغلو؛ فعدم التمييز بينهما جعل أتباع الوهابية ينسبون للاثني عشرية الاساطير والخرافات المتعلّقة بالفرق المغالية المنحرفة. وفي هذه المرحلة سوف نفصل الأُمور التي نُسبت إلى الاثني عشرية، وهي في حقيقة الأمر من نصيب فرق الغلاة، ومن ثَمّ فهي (مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية). ولمّا كانت (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) مستمدّة من القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة؛ فلا بد أن تتباين وتنفصل عن المقالات الإلحادية والوثنية المستمدّة من المجوسية واليهودية والمسيحية.
وإنَّه لن يتم تصحيح دراسات الوهابية عن حقائق الاثني عشرية وخصائصها إلاّ في اليوم الذي يتحررون من مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة.
وفي هذه المرحلة قمنا في البداية بتوضيح وتبيين (مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند أتباع الوهابية)، وبعد أن انتهينا من تبيينها وتوضيحها
ولا بد هنا أن ننبّه إلى أنّ قدماء أهل السنّة قد تحرروا من هذه المشكلة، كما تحرر منها ـ أيضاً ـ المتأخرون والمعاصرون من أهل السنّة، ومن ثَمّ نجدهم دافعوا عن المذهب الاثني عشري وهاجموا الذين ما زالوا يخلطون بينه وبين فِرَق الغلاة(1).
وقبل استكمال الحديث عن هذه المرحلة لا بد من التحدّث عن حقيقة حتمية في هذا المنهج الذي رسمناه وهي:
إنّ هذا المنهج ينقسم إلى ثلاث مراحل ـ كما أشرنا إلى ذلك ـ، ولقد سارت هذه المراحل الثلاث بطريقة خاصة وترتيب معين؛ لا بد من الالتزام بتلك الطريقة وهذا الترتيب دون أدنى تغيير أو تحوير.
وأنا على يقين وجزم بأنّ عدم الالتزام بذلك سوف يفقد هذا المنهج مقوّماته الاساسية وهدفه ا لهام، وهو تصحيح دراسات الوهابية عن المذهب الاثني عشري، وتبيين الفرق بين منهج أهل السنّة وبين منهج الوهابية في دراسة هذا المذهب.
ونحن على يقين بأنّه لن تخلص كتابات أتباع الوهابية عن المذهب الاثني عشري من التشويه والانحراف والمسخ إلاّ حين تلتزم بهذا المنهج.
وحين نلقي صورة مجملة لأسباب نجاح قدماء أهل السنّة ومتأخريهم ومعاصريهم بالقياس إلى الوهابية، في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها؛ سوف يتبين لنا أنّ العامل الأوّل في نجاحهم هو أنّهم لم يقعوا في مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفِرَق الغلاة.
____________
(1) سوف نذكر أقوال علماء أهل السنّة في خطورة مشكلة الخلط بين المذهب الاثني عشري وبين فرق الغلاة عند الوهابية في هذه المرحلة.
ولا يمكن لأتباع الوهابية أن يدركوا (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) إلاّ عند التأمّل الكامل في خطورة الخطأ في هذه المرحلة.
ومن ثَمَّ فنحن لا نبغي من القارئ الكريم مجرد القراءة السطحية الساذجة لهذه المرحلة، القراءة التي لا تغوص في المعاني والافكار؛ إنّما نحن نبتغي من القارئ القراءة المتأمّلة العميقة التي تدرك ا لهدف من كتابة هذه المرحلة.. نبتغي استجاشة ضمير أتباع الوهابية لقراءة هذه المرحلة؛ لأنّه تولّد من الخطأ في هذه المرحلة كل الاخطاء التي ارتكبوها في تفسير (حقائق الاثني عشرية وخصائصها). نبتغي من كتابة هذه المرحلة ا لهامة أن يعود أتباع الوهابية إلى المنهج السليم والصحيح في دراسة (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) الذي نهجه قدماء أهل السنّة ومتأخريهم. وهذا المنهج الصحيح هو الذي يريده الله وتفرضه الأمانة الدينية.
لقد كنت ـ قبل أن أصحو من غفلتي عن هذه المرحلة ا لهامة والخطيرة ـ أنسبُ للمذهب الاثني عشري التصورات المجوسية والوثنية، وأنسب إليه الأساطير الجاهلية، وأنسب إليه الشطحات الصوفية، وأنسب إليه كل أفكار فِرَق الغلاة وما فيها من لوثةٍ وثنية.. وجمعت كل ذلك في كتابي (الصلة بين الاثني عشرية وفرق الغلاة)؛ كما بيّنت ذلك بصورة مفصلة في كتابي (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
لقد نسبت في كتابي (الصلة بين الاثني عشرية وفرق الغلاة)(1) كل الأفكار الوثنية المغالية إلى المذهب الاثني عشري، وكنت أحسب أنني مُصيبٌ في كتابته. وبعد أن أدركت هذه المرحلة اكتشفت خطئي، وعلمت أنّ الخطأ في فهم مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية يساوي الخلط بين المذهب الاثني عشري وفرق الغلاة. وبعد أن تمّ تصحيح خطئي في فهم هذه المرحلة (مرحلة المعرفة الانتسابية) أصبحت أميز بين ما نُسب للاثني عشرية ـ وهو ليس منها ـ وبين ما نفي عنها ـ وهو منها ـ، وعندئذٍ أحرقت ذلك الكتاب قبل طباعته بفترة قصيرة.
____________
(1) إن أكبر مشكلة كنتُ أعاني منها حينما كنت وهابياً؛ أنني كنتُ أحسب أنّ كل أنواع الغلو والشرك الموجودة عند غلاة الصوفية توجد بشكل أكبر عند الاثني عشرية، لكنني بعد دراسة طويلة للاثني عشرية وقراءة العشرات من كتبهم التي تتبرأ من الشرك والغلو عند غلاة الصوفية؛ تبين لي الفرق الجوهري بين الاثني عشرية وبين بعض الطرق الصوفية المغالية والجدير بالذكر هنا أنني تناولت موقف الاثني عشرية من الشرك والغلو عند غلاة الصوفية في كتابي (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة).
ولا شك أنّ للبيئة الفكرية التي نشأت فيها صلةً كبيرة في تكوّن هذه المشكلة عندي؛ فقد درست في المعاهد الدينية الوهابية في مدينة صنعاء (عاصمة اليمن) التي كانت تنشر كتباً حول الاثني عشرية، ألفها أُناسٌ لا يدركون خطورة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، ومن ثَمَّ فهم يخلطون بينها وبين فِرَق الغلاة، وينسبون الخرافات والتصورات الوثنية المغالية إليها. واثرّت عليّ تلك الكتب تأثيراً قوياً. وكانت تلك المعاهد تكتفي بتلك الكتب التي كتبت حسب منهج الوهابية، وهو منهج يخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة. ولم تكن تلك المعاهد الوهابية تسمح بنشر الكتب التي كتبها علماء أهل السنّة عن المذهب الاثني عشري؛ التي تعتمد على منهج يخالف منهج الوهابية، ويرى هذا المنهج أنّهم يخلطون بين الاثني عشرية والغلاة وينسبون انحرافات الغلاة إلى الاثني عشرية.
وبعد مرور فترة زمنية تهيأت لي الفرصة لقراءة بعض الكتب التي كتبت حول المذهب الاثني عشرية والتي كتبها كبار أهل السنَّة، وكانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي؛ لأنني وجدتها تختلف عن منهج الوهابية اختلافاً جوهرياً، وتدرك
(بعد أن قضيت ردحاً طويلاً من الزمن أدرس فيها عقائد الأئمة الاثني عشر بخاصة وعقائد الشيعة بعامة؛ فما خرجت من هذه الدراسة الطويلة التي قضيتها... بشيء ذي بال)(2).
ويرى كبار أهل السنة أنّ الوهابيين لا يدركون خطورة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية. ومن ثَمَّ كان من الطبيعي أنّهم لا يفصلون بين الاثني عشرية والغلاة، وفي هذا يقول المفكّر الإسلامي السنِّي المصري أنور الجندي ـ رحمه الله ـ في كتابه القيم (الإسلام وحركة التاريخ):
(ومن الحق أنّ يكون الباحثُ يقظاً في التفرقة بين الشيعة [يعني: الاثني عشرية] والغلاة، هؤلاء الذين هاجمهم أئمة الشيعة أنفسهم وحذروا مما يدسونه)(3).
والعلامة المفكر الإسلامي المصري علي عبد الواحد وافي ـ رحمه الله ـ(4) عالج هذه المشكلة في كتابه القيّم (بين الشيعة وأهل السنَّة) ومما قاله:
____________
(1) رئيس قسم الأدب العربي في جامعة عين شمس.
(2) في سبيل الوحدة الإسلامية للعلامة مرتضى الرضوي: ص 45. مطبوعات مكتبة النجاح بالقاهرة، ط / 2 سنة 1979. وراجع تمام عبارته في (ص 24 ـ 26) من هذا البحث.
(3) عبارة مقتطفة من: ص 421.
(4) قال أحد قادة المنهج الوهابي في دراسة الاثني عشرية وهو (إحسان الهي ظهير) في ترجمة العلامة (علي عبد الواحد وافي): (إنّه علمٌ من أعلام مصر)، ثم يقول: (لقد سمعتُ الكثير من علم الدكتور
=>
وقد بذل إمام أهل السنّة في العصر الحديث (الشيخ محمد الغزالي) ـ رحمه الله ـ جهوداً عظيمة مثمرة في تصحيح منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية؛ كما بذل جهوداً جبارة في مقاومة المقلِّدين لمنهج الوهابية من أهل السنّة المعاصرين، وبذل جهوداً كبيرة في معالجة المصابين بمشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة، أو بتعبيرٍ أدق: في معالجة المصابين بمشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، وفي هذا يقول:
(ومن هؤلاء الأفاكين [ الذين يخلطون بين الاثني عشرية والغلاة] من روّج أنّ الشيعة أتباع عليّ، وأن السنيين أتباع محمدٍ، وأن الشيعة يرون علياً أحق بالرسالة، أو أنّها أخطأته إلى غيره. وهذا لغوٌ قبيح وتزوير شائن)(2). وهو لا ينطبق إلاّ على الفرق المغالية المنقرضة.
وقد توسع الإمام الغزالي ـ إمام أهل السنة في العصر الحديث ـ في كتابه القيّم (ليس من الإسلام) في نقد منهج المتأخرين من أهل السنّة، المقلدين
____________
<=
علي عبد الواحد وافي، وحدّثني عنه العديد من الأصدقاء حتى دفعني الشوق إلى لقائه، وإذا أنا أطرق باب مصر وأدخلها طالباً للعلم). انظر كتاب إحسان ا لهي ظهير (بين الشيعة وأهل السنة ص 6). ولكن إحسان ا لهي ظهير بعد أن وصف العلامة السنّي علي عبد الواحد وافي بأوصاف عظيمة قال: (إنّه انخدع بالمذهب الاثني عشري)!
ونحن نقول: هل من المعقول أن ينخدع بالمذهب الاثني عشري كبار علماء أهل السنَّة في العصور القديمة والمتأخرة والحديثة؟!
ولماذا لم ينخدعوا بالفرق المغالية الأخرى من غير الاثني عشرية، على فرض أنّ الاثني عشرية من فرق الغلاة كما تحسب الوهابية؟!! وليست القضية محصورة بالعلامة الدكتور علي عبد الواحد وافي.
(1) انظر كتابه: ص 11.
(2) رسالة التقريب: ص 250، العدد 3، السنة الأُولى، شهر شعبان 1414 هـ.
(نسب [(1)بعض الذين يخلطون بين الاثني عشرية وفرق الغلاة] إلى الإمامية ـ افتراء وتنكيلاً ـ نقصان آيات من القرآن)(2).
ويرى بعض مفكري أهل السنَّة أنّ منهج الوهابية يعتبر منهجاً متطرفاً في دراسة الاثني عشرية، ومنهجاً مُخلِّطاً بين الاثني عشرية والغلاة، ومنهجاً منحرفاً في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية. وقد تبنى هذا الرأي المفكر الإسلامي السنّي المصري (محمد البهي)(3) ـ رحمه الله ـ وقال في صدد نقده منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية:
(وسَّعت [الوهابية] شقة الخلاف بين السنّة والشيعة، وأصبحت الفجوة كبيرة في النزاع المذهبي بين السنّة والشيعة منذ القرن الثامن عشر الميلادي، بل أصبحت أشدّ من ذي قبل. وكان لزيادة الفجوة على هذا النحو أثرٌ سلبيٌ للدعوة الوهابية)(4).
ويقول العلامة السنّي (عبد الحليم الجندي) ـ حفظه الله ـ عن الذين يخلطون بين الاثني عشرية والغلاة أنّهم:
(... نسبوا عمل الغلاة إلى الشيعة... فأحدثوا بذلك أثراً كاذباً في فهم الآخرين بدعاوى هم [أي الاثني عشرية] منها براء، مثل: إنّ الإمام هو الله ظهوراً واتحاداً وهو غلو يبلغ الكفر)(5).
____________
(1) التزمت حتى يتم التمييز بين ما أنقله من المصادر وبين تعليقي أن اضع تعليقاتي بين معقوفتين [].
(2) عبارة مقتطفة: من ص 48.
(3) كان من كبار علماء أهل السنَّة في العصر الحديث، ويعد من الذين جمعوا بين الدراسة الأزهرية القديمة والدراسة الحديثة في الجامعات الاوربية، وتميز بسعة ثقافته وقوة منطقه. وهو من الشخصيات التي اعتمد عليها في كتبه الشهيد سيد قطب، واعتمد عليها ـ أيضاً ـ الشيخ محمد الغزالي في بعض كتبه، وقد كان وزيراً للأوقاف المصرية.
(4) في كتابه القيم (الفكر الإسلامي في تطوره)، الفصل الرابع والأخير: ص 140.
(5) الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي: ص 235، ا لهامش رقم 1.
(إنّ خصوم الشيعة نسبوا إليهم ما يعلمون وما لا يعلمون... لا يكتفي خصوم الشيعة من الشيعة بما يسمعون عنهم أو بما يرون من سيرتهم وإنّما يضيفون إليهم أكثر مما قالوا وأكثر مما سمعوا، ثُمّ لا يكتفون بذلك... بل يحملون ذلك كلّه على أصحاب أهل البيت... وخصومهم واقفون لهم بالمرصاد، يحصون عليهم كل ما يقولون ويفعلون، ويضيفون إليهم أكثر مما قالوا ومما فعلوا، ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال... ثم يتقدم الزمان فيزداد الأمر تعقيداً وإشكالاً، ثم تختلط الأُمور بعد أن يبعد عهد الناس بالأحاديث...)(2).
وقد ذكرنا ـ سابقاً ـ أنّ من كبار علماء أهل السنّة الذين أدركوا خطورة مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة؛ العلامة الدكتور علي عبد الواحد وافي(3)، الذي عالج هذه المشكلة في كتابه (بين الشيعة وأهل السنّة)، وقال في الرد على الوهابية الذين يخلقون ضجة مفتعلة بين السنّة والاثني عشرية:
(... الخلاف بيننا وبينهم ـ أي بين السنّة والاثني عشرية ـ مهما بدا في ظاهره كبيراً لا يخرج في أهمِّ أوضاعه عندنا وعندهم من حيز الاجتهاد المسموح به)(4).
ومن كبار مفكري أهل السنّة الذين أدركوا أنّ الخلط بين المذهب الاثني عشري وفرق الغلاة عند أتباع الفرقة الوهابية يعدّ هو السبب في إصرارهم على
____________
(1) أعلن الدكتور طه حسين توبته عمّا كتبه في الطعن الذي وجهه للقرآن الكريم في كتابه (الشعر الجاهلي) أو في كتابه (الأيام)، كان ثمرة هذه التوبة كتابه القيم (مرآة الإسلام). ونحن نرفض الذين ما زالوا يحاكمونه إلى كتبه التي تراجع عنها، يجب أن يحاكم بما انتهى إليه لا بما بدأ به.
(2) عبارة مقتطفة من: ص 35.
(3) انظر: ص 33 ـ 34 من هذا الكتاب.
(4) كتاب (بين الشيعة وأهل السنّة) للعلامة الدكتور عبد الواحد وافي: ص 4.
(تعتبر قضية تكفير الشيعة [يعني الاثني عشرية] إحدى الأطروحات الرئيسية في الفكر الوهابي)(1).
كل هذه الأقوال التي نقلناها عن كبار أهل السنّة تعتَبرُ أنّ منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية قد قادهم إلى الخلط والتخليط بين الاثني عشرية والغلاة، ومن ثَمّ وقعوا في انحراف كبير في مرحلة المعرفة الانتسابية لهذا المذهب.
ويرى بعض علماء أهل السنّة أنّ التصور الذي يحمله أتباع الوهابية عن الاثني عشرية مناقض أو مصادم لحقيقتها ولخصائصها، ومُسَاوٍ ومتحدّ مع حقيقة الغلو؛ كما نلمس ذلك في كتابات المفكر الإسلامي السنِّي سالم البهنساوي ـ حفظه الله ـ صاحب (السنّة المفترى عليها). وهو يعدُّ من الذين التفتوا إلى خطورة مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرقة الغلاة عند الوهابية، أو بتعبير أدق وأصح: إلى خطورة خطأ الوهابية في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية. وكتابه يحتوي على دراسة عميقة تدعو إلى ضرورة تصحيح منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية، وتبين خروجهم عن منهج أهل السنّة في دراسة هذا المذهب. كما انتقد كل التهّم التي شاعت في وسط الوهابيين، ومن أهم هذه التهم التهمة القائلة بـ (أنّ للاثني عشرية مصحفاً آخر...)، فهاجم البهنساوي هذه التهمة وقال:
(إنّ المصحف الموجود بين أهل السنّة هو نفسه الموجود في مساجد وبيوت الشيعة)(2).
____________
(1) إيران من الداخل، فهمي هويدي: ص 322، ط / 2، 1408 هـ ـ 1988م، مركز الاهرام للترجمة والنشر.
(2) عبارة مقتطفة: من ص 6.
وحينما أخذوا معلوماتهم عن الاثني عشرية من تلك المقالات أُصيبوا بمرض الخلط بين المذهب الاثني عشري وبين فرق الغلاة، وأُصيبوا بمشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، ومن هؤلاء الذين يرون هذا الرأي المفكر الإسلامي السنّي (أنور الجندي)، والذي سبق أن ذكرنا عبارة مقتطفة من كلامه حول ذلك(1).
وكان الإمام حسن البنا ـ زعيم الحركة الإسلامية السنّية في العالم ـ من أكثر المتحمسين لتصحيح منهج الوهابيين في دراسة الاثني عشرية، ومن أكثر المحاربين للذين يخلطون بين الاثني عشرية والغلاة أو للذين يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية؛ كما كان الإمام حسن البنا ـ رضوان الله عليه ـ يعجب ـ كثيراً ـ من الذين يخلطون بين الاثني عشرية والغلاة! (مع العلم بأنّ أئمة الشيعة [يعني: أئمة وعلماء الشيعة الاثني عشرية] قد أثروا التأليف الإسلامي ثروة لا تزال المكتبات تعج بها)(2).
وكان الكاتب الإسلامي السنّي الكبير (عبّاس محمود العقاد) ـ رحمه الله ـ من الذين أدركوا دور مشكلة الخلط بين الاثني عشرية، أو دور مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية؛ التي هي وراء كل الأكاذيب المنسوبة للمذهب الاثني عشري. وكان يتمنى ـ لولا أن وافته المنية ـ أن يكتب كتاباً في
____________
(1) انظر: ص 33 من هذا البحث.
(2) عبارة مشهورة للإمام حسن البنا نقلها عنه تلميذه وزعيم الاخوان المسلمين الاستاذ عمر التلمساني المصري في كتابه القيم (ذكريات لا مذكرات): ص 250.
(إنّه يريد ـ قبل أن يموت ـ أن يؤلف دراسة موضوعية عن المذهب الشيعي، فقد أدخلت عليه أكاذيب(1) أفسدت صورته عند كثير من الناس [الذين لا يميزون بين حقيقة الاثني عشرية وبين تلك الاكاذيب]، ولم يتسع عمره لأن يكتب هذا الكتاب)(2).
وكان المؤرّخ السنِّي (محمد كرد علي) ـ رحمه الله ـ يهاجم الذين يخطئون في المرحلة الأُولى، ويخلطون بين الاثني عشرية والغلاة ولا يميزون بين قادة الاثني عشرية وقادة الغلاة.. ويقول:
(أما ما ذهب إليه بعض الكتاب [الذين يخلطون بين قادة الغلاة وقادة الاثني عشرية] من أنّ مذهب التشيع من بدعة عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء؛ فهو وهم وقلة علم بتحقيق مذهبهم. ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة(3) وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله، وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك؛ علم مبلغ هذا القول من الصواب)(4).
والمرشد الروحي ـ السابق ـ للإخوان المسلمين في العالم، الإمام (عمر التلمساني) ـ رحمه الله ـ يعجب من الذين يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، ثُمّ يقولون: بأنّ الاثني عشرية من فرق الغلاة. مع أنّ الواقع يثبت ويؤكد بأنّ (الفقه الشيعي(5) أغنى العالم الإسلامي من حيث التفكير)(6).
____________
(1) وكل هذه الاكاذيب نسبت ظلماً وزوراً إلى المذهب الاثني عشري.
(2) انظر كتاب (لعلك تضحك) للكاتب المصري أنيس منصور: ص 201 الطبعة الثالثة، 1998، مطبعة نهضة مصر ـ القاهرة.
(3) يعني عند الاثني عشرية.
(4) انظر كتاب (خطط الشام): ج 6، ص 251.
(5) يقصد الفقه الاثني عشري.
(6) صرح بذلك لـ (مجلة العالم الإسلامية) المشهورة، العدد 91.