الصفحة 119

بل خالف الوهابيون ـ من حيث لا يحتسبون ـ جمهور الأُمة، حيث ذهب جمهور أهل السنَّة إلى (أنّ الأحاديث الآحادية(1) لا يجوز الاحتجاج بها في المسائل العقائدية، وذلك لعدم القطع بثبوتها).

وكل من بحث عن هذه القضية اتضح له أنّ هذا هو مذهب جمهور الأُمة، وأنّه مذهب إمام الحرمين في (البرهان)، والسعد في (التلويح)، والإمام الغزالي في (المستصفى)، والإمام ابن عبد البرّ في (التمهيد)، والإمام ابن الأثير في مقدمة (جامع الأصول)، وصفي الدين البغدادي في (قواعد الأُصول)، والإمام ابن قدامة الحنبلي في (روضة الناظر)، وعبد العزيز البخاري في (كشف الأسرار)، وابن السبكي في (جمع الجوامع)، والمهدي في (شرح المعيار)، والإمام الصنعاني في (إجابة السائل)، وابن عبد الشكور في (مسلم الثبوت)، والإمام الشنقيطي في (مراغي الصعود)... الخ... الخ... وغيرهم كثير من كبار قدماء أهل السنَّة ومتأخريهم ـ رحم الله امواتهم وحفظ أحياءهم ـ.

وحتى يزداد الأمر وضوحاً أذكر أقوالاً أُخرى في توضيح وتبيين هذه القضية، لعل الله يهدي إخواننا الوهابيين إلى الرشاد فلا يتهمون مخالفيهم بالغلو لأجل هذه القضية الخلافية.

وفي هذه القضية يقول الإمام الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ:

(خبر الواحد لا يقبل في شيءٍ من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها).

وقال الإمام أبو اسحاق الشيرازي ـ رحمه الله ـ:

(أخبار الآحاد لا توجب العلم)(2).

____________

(1) ذهب جمهور العلماء أنّ الحديث الآحادي هو ما عدا المتواتر.

(2) التبصرة: ص 298.


الصفحة 120
وقال الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ:

(... خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلومٌ بالضرورة، فإنا لا نصدق بكل ما سمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين..)(1)!

وقال العلامة الشيخ ابن عبد الشكور ـ رحمه الله ـ:

(الأكثر من أهل الأُصول ومنهم الأئمة الثلاثة على أنّ خبر الواحد إن لم يكن معصوماً لا يفيد العلم مطلقاً، سواء احتف بالقرائن أو لا)(2).

إلى أن قال:

(ولو أفاد خبر الواحد العلم لأدى إلى التناقض إذا أخبر عدلان بمتناقضين...)(3).

وقال الإمام أبو منصور عبد القاهر البغدادي ـ رضوان الله عليه ـ:

(وأخبار الآحاد متى صح إسنادُها، وكانت متونها غير مستحيلةٍ في العقل كانت موجبةً للعمل بها دون العلم)(4).

وقال الإمام البيهقي ـ رحمه الله ـ:

(... ترك أهلُ النظر من أصحابنا الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الإجماع..)(5).

وقال الإمام فخر الدين الرازي ـ رحمه الله ـ:

(اعلم أنّ المراد في أُصول الفقه بخبر الواحد الخبر الذي لا يفيد العلم واليقين)(6).

____________

(1) المستصفى للإمام الغزالي: 1 / 145.

(2) مسلم الثبوت بشرح فواتح الرحموت: ج 2، ص 121 ـ 122.

(3) المصدر السابق.

(4) أُصول الدين للإمام عبد القاهر البغدادي: ص 12.

(5) الاسماء والصفات للإمام البيهقي: ص 357.

(6) المعالم للإمام فخر الدين الرازي: ص 138.


الصفحة 121
وقال ـ أيضاً ـ ينتقد الذين يأخذون بأخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد:

(... ثُمّ إنّهم يتكلمون في ذات الله تعالى وصفاته بأخبار الآحاد، مع أنّها في غاية البعد عن القطع واليقين)(1).

وفي الأخير أذكر ما جاء في هذه القضية عن المعاصرين من أهل السنَّة.

قال الإمام الشيخ محمد الغزالي المصري ـ رحمه الله ـ:

(لقد تخرجتُ في الأزهر من نصف قرن، ومكثتُ في الدراسة بضع عشرة سنة، لم أعرف خلا لها إلاّ أنّ أحاديث الآحاد يفيد الظن العلمي، وأنّه دليل على الحكم الشرعي ما لم يكن هناك دليل أقوى منه. والقول بأنّ حديث الآحاد يفيد اليقين ـ كما يفيد المتواتر ـ ضرب من المجازفة المرفوضة عقلاً ونقلاً)(2).

ويقول ـ أيضاً ـ في أثناء رده على الوهابيين الذين اتهموا كبار علماء أهل السنَّة وعلماء الاثني عشرية بالغلو بسبب رفضهم بعض العقائد الوهابية الشاذة الثابتة بأخبار الآحاد:

(حديث الآحاد يعطي الظن العلمي أو العلم الظني، ومجاله الرحب في فروع الشريعة لا في أُصو لها. ونحن نؤكد أنّ خبر الواحد قديماً وحديثاً ما كان يفيد إلاّ الظن... ومع ذلك ففي عصرنا قوم [يعني: الوهابية] يريدون بخبر الواحد إثبات العقائد التي يكفر منكرها، وهذا ضرب من الغلو الممجوح)(3).

وقال الإمام يوسف القرضاوي ـ حفظه الله ـ:

(حديث الآحاد وإثبات العقائد... وهذا... مؤسس على أمرين:

1 ـ إنّ العقائد لا بد أن تُبنى على اليقين لا على الظن.

2 ـ وإنّ أحاديث الآحاد ـ وإن صحتْ ـ لا تفيد اليقين، بل لا يفيد اليقين إلاّ المتواتر.

____________

(1) انظر كتابه (أساس التقديس).

(2) السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث للإمام الشيخ محمد الغزالي: ص 74.

(3) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين للشيخ الإمام محمد الغزالي: ص 68.


الصفحة 122
ونصوص القرآن تؤيد الأمر الأول؛ [يعني: أنّ نصوص القرآن تؤيد أنّ العقائد لا بد أن تبنى على اليقين لا على الظن] فإنّ الله تعالى ذم المشركين بقوله: (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم:28).

وأقوال جمهور علماء الأُصول (أُصول الدين وأُصول الفقه) تؤيد الأمر الثاني [يعني: تؤيد أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين].

وهذا التوجه في التعامل مع أحاديث الآحاد في العقائد هو الشائع لدى المدارس والجامعات الدينية الشهيرة في العالم الإسلامي، مثل: الأزهر، والزيتونة، والقرويين، وديوبند، وما تفرع منها)(1).

ويقول الشهيد المفكر الاسلامي سيد قطب ـ رضوان الله عليه ـ:

(وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة، والمرجع هو القرآن، والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أُصول الاعتقاد)(2).

وفي هذا يقول الإمام الأكبر محمود شلتوت ـ رحمه الله ـ:

(.. وهكذا؛ نجد نصوص العلماء (متكلمين وأصوليين) مجتمعة أنّ خبر الآحاد لا يفيد اليقين، فلا تثبت به العقيدة، ونجد المحققين يصفون ذلك بأنه ضروري لا يصح أن ينازع أحد في شيء منه)(3).

إلى أن يقول:

(ومن هنا يتأكد ما قررناه من أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة، ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات؛ قولٌ مجمع عليه، وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء)(4).

وهكذا وهكذا هنالك عشرات الأقوال بين أيدينا التي ذكرها كبار أهل السنّة في هذه القضية، وإنّما ذكرناها من أجل إقناع إخواننا الوهابيين أن يعذروا علماء أهل السنّة الذين خالفوهم في هذه القضية، الخلافية ولا داعي لجعلها سبباً في تمزيق الصف الإسلامي.

____________

(1) انظر كتاب: (الشيخ الغزالي كما عرفته رحلة نصف قرن) للإمام الشيخ يوسف القرضاوي ـ حفظه الله ـ: ص 123 ـ 124.

(2) في ظلال القرآن، الشهيد المفسِّر سيد قطب: 6 / 4008.

(3، 4) الاسلام عقيدة وشريعة للإمام شلتوت: 74 ـ 76.


الصفحة 123

صورة مختصرة عن السبب الثالث من أسباب مشكلة الخلط عند الوهابية(1):

للاثني عشرية مواقفها الشديدة من الغلو والغلاة، تلك المواقف التي بها تفردت عن سائر المذاهب الإسلامية، ولم يتخذ أيُّ مذهبٍ من مذاهب الإسلام مواقفاً حاسمة وشديدة من الغلو والغلاة كمواقف الاثني عشرية الشديدة ضد الغلو والغلاة؛ لأنّ الاثني عشرية في حقائقها وفي خصائصها تخالف تلك التصورات المنحرفة للغلاة، والمذهب الاثني عشري ـ بسبب استلهام حقائقه وخصائصه من القرآن الكريم والسنّة الصحيحة ـ لا يلتقي مع التصورات المجوسية والوثنية والغنوصية(2) للغلاة، منذ أول الطريق إلى منتهاه. وهو ـ بناء على الحقائق الثمان الرئيسية، وبناء على كل خصائصه التي لا تفارق القرآن والسنّة أبداً ـ لم يفكِّر لحظة واحدة بضم الغلو والغلاة إلى الإسلام، بل إنّ المذهب الاثني عشري يسعى لاستنقاذ الغلاة من التصورات الوثنية وضمهم إلى الإسلام، وهنالك الكثير من الغلاة الذين استنقذهم المذهب الاثنا عشري من الوثنيات وضمهم إلى الإسلام.

ونحن لسنا بحاجة لأن نبين لهم أكثر من ذلك إذ الواقع خيرُ دليلٍ، فلقد شاهدت وحاورت وصادقت بعض الغلاة الذين هجروا الغلو وضمهم المذهب الاثني عشري إلى الإسلام.

* * * *

____________

(1) أشرنا سابقاً إلى أنّ الاسباب والعوامل الأُخرى للمشكلة قد تناولناها في كتابنا (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة).

(2) الغنوصية: أصل بمعنى الغنوص ـ المعرفة. والمقصود بها التوصل بنوع من الكشف إلى المعارف العليا، أو هو تذوق تلك المعارف تذوقاً مباشراً. انظر (نشأة الفكر الفلسفي 1 / 186) للنشار. ويدخل من ضمن الغنوصية كل الفرق المنحرفة والوثنية والمذاهب ا لهندية كالبراهمه والتناسخية وغيرها، كما تدخل ـ أيضاً ـ المذاهب المجوسية كالزرادشتية والمانوية وغيرها.


الصفحة 124
ونحن لم نكتب هذا البحث إلاّ لأنّ جهل إخواننا الوهابيين بمواقف المذهب الاثني عشري من الغلو والغلاة؛ من الأسباب الرئيسية لتضّخم مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وبين فرق الغلاة عند الجماعة الوهابية، ومن ثَمّ فاخواننا من اتباع الجماعة الوهابية بحاجة ماسة إلى تبيين وتوضيح (مواقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة)، تقرِّب إليهم هذه المواقف كما هي في مصادرها في كتب الاثني عشرية.

وقارئ هذا البحث لا بد له أنْ يعلم أنّ التباين بين المذهب الاثني عشري وبين فرق الغلاة من البديهيات؛ لأنّ الاثني عشرية تتبع النصوص القرآنية كلمة كلمة وتتمسك بالسنّة ولا تتخطاها..

وهذا البحث إنّما كتب للذين لديهم شبهة؛ إذ الشبهة قد تجعل الأمر البديهي الصريح بحاجة إلى توضيح. ولا شك أنّ الذي يتبع منهج كبار علماء أهل السنَّة في العصور القديمة والعصر الحديث لا يحتاج إلى هذا البحث؛ لأنّهم لا يشكون في المفارقة والمباينة بين الاثني عشرية وفرق الغلاة(1).

وهذا البحث يتناول سبباً من أهمِّ الأسباب التي وسّعت مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند الجماعة الوهابية. ولا شك أنّ الجماعة الوهابية لو كانت تعلم موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة لما خلطت بين الاثني عشرية وبين فرق الغلاة.

____________

(1) راجع ما قاله حول هذا الموضع العلامة والمفكر السنِّي أنور الجندي ـ رحمه الله ـ في كتابه (الإسلام وحركة التاريخ): ص 421. وانظر ص 33 من كتابنا هذا. وانظر ـ أيضاً ـ ما قاله العلامة السنِّي مصطفى الشكعة في كتابه (إسلام بلا مذاهب) ص 187. وارجع إلى ص 34 ـ 42 من هذا الكتاب.

وارجع إلى جدول آراء الفرق الأربع عند ذكرنا لآراء الفريق الأول (الوهابية)، والفريق الثاني والفريق الثالث (أهل السنة)، والفريق الرابع (الاثني عشرية) من كتابنا (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).


الصفحة 125
ويشتمل هذا البحث على خمسة أقسام:

القسم الأول: يتناول (موقف الاثني عشرية من التصورات الوثنية للغلاة).

القسم الثاني: يتناول (موقف الاثني عشرية من التشريعات الوثنية للغلاة).

والقسم الثالث: يتناول (موقف الاثني عشرية من الشخصيات الوثنية للغلاة).

القسم الرابع: يتناول (موقف الاثني عشرية من الروايات الوثنية للغلاة).

القسم الخامس: يتناول (موقف الاثني عشرية من الكتب الوثنية للغلاة).

وفيما يلي صورة للأقسام الخمسة التي تبين وتوضّح موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة:


الصفحة 126

الصفحة 127

الصفحة 128

الصفحة 129

القسم الأول(1): موقف الاثني عشرية من التصورات الوثنية للغلاة:

للمذهب الاثني عشري دور عظيم في انقاذ المسلمين من العقائد الوثنية والتصورات المنحرفة للغلاة.. ولم يكن مستطاعاً أن تنحصر التصورات المنحرفة للغلاة لولا تلك الجهود العظيمة التي بذ لها المذهب الاثني عشري في مواجهة الغلو والغلاة. وسوف يتَّضح ويتبين لنا الطريقة المنهجية والموضوعية التي اتخذها المذهب الاثني عشري في مواجهة الغلو والغلاة، مما جعل الغلو ينحصر ويتأقلم في شرذمة قليلة.. ولولا الاثنا عشرية لانتشرت تصورات الغلاة بين المسلمين.

* * * *

لقد كانت أهم الصور المنحرفة التي وقف المذهب الاثني عشري منها موقفاً حاسماً هي: الصورة التي تقتضي (تأليه الإنسان) وسلب صفة العبودية منه. وتلك الصورة ناشئة من عدم الفصل بين طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية، وبين مقام الإله ومقام الإنسان، وبين خصائص الإله وخصائص الإنسان.

لقد بيّن الأئمة الاثنا عشر ـ من لدن الإمام علي إلى الإمام المهدي ـ، في المئات من أقوا لهم المدّونة في كتب الاثني عشرية مقام (الإنسان) ومكانته، وصرّحوا بأنّ الإنسان مهما ارتقى في مراتب الكمال من المحال أنْ يرتقي من مقام العبودية إلى مقام الألوهية، ومن المحال أنْ يحصل على خاصّية من خصائص الذات الإ لهية. وأقوال الأئمة الاثني عشر هي استلهام من نصوص القرآن والأحاديث النبوية الصحيحة، وتبيين لما نزل في القرآن وما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.

____________

(1) تناولنا هذا القسم وبقية الأقسام الأُخرى التي تبين موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة في كتاب مستقل تحت عنوان (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة)، وسوف نذكر هنا خلاصّة القسم الأُول من ذلك الكتاب.


الصفحة 130
ومن هنا تجد أُسلوب القرآن وأُسلوب السنّة بصورة واضحة وجلية في كلماتهم المفردة وفي عباراتهم المركبّة، وتجد تأثيرهما ـ القرآن والسنّة ـ بصورة ملموسة في كلِّ أقوا لهم. ولا بد للقارئ من التأمّل في أقوا لهم حتى يلاحظ انبثاقها وتولّدها من القرآن والسنّة النبوية.

ونحن نجد في كلّ أقوا لهم ما يقتضي شمول العبودية لكل شيء، وتفرّده ـ سبحانه ـ بالألوهية وأنها من مختصاته، فهي ألوهية لله ـ سبحانه ـ وعبودية لكل ما عداه ـ سبحانه ـ، وكل ما عداه فهو من عبيده.. ولأنّ أساس انحراف الغلاة يتمثّل ويتجسّم في تأليه الإنسان أو إعطاء خاصّية من خصائص الألوهية للعبيد؛ فقد كثرت أقوال الأئمة الاثني عشر على تأكيد صفة العبودية لكلّ ما عدا الله، ولأنّ الغلاة ـ لعنهم الله ـ ادّعوا إلوهية الأئمة الاثني عشر ـ والعياذ بالله ـ أو ادّعوا لهم خاصّية من خصائص الألوهية ـ والعياذ بالله ـ، فقد ركّزت أقوال الأئمة الاثني عشر تركيزاً كبيراً على تقرير وتأكيد عبوديتهم لله ـ تعالى ـ، وسلك الأئمة الاثنا عشر كل المسالك، واتبعوا شتى أساليب الإبانة والتعبير لتقرير صفة العبودية لله ـ تعالى ـ، والخضوع التام له، ولتقرير صفة البشرية لأنفسهم.

ولقد توسع الأئمة الاثنا عشر في استعراض حقيقة وصفهم بالعبودية والخضوع لله، وكل ذلك لأنّ نفي (حقيقة وصفهم بالعبودية) هي القاعدة التي يرتكز عليها الغلاة ـ لعنهم الله ـ، وهي القاعدة التي تنبثق منها كل تصوراتهم المغالية المنحرفة. والخضوع لمقام الألوهية جلي في جميع أقوال الأئمة، من لدن الإمام علي إلى الإمام المهدي. واحتلت هذه الحقيقة مساحة كبيرة في كتب الاثني عشرية التي جمعت أقوال الأئمة الاثني عشر.

إنّ حقيقة صفة العبودية للأئمة الاثني عشر يقررها الأئمة الاثنا عشر في مئات الأقوال المروية عنهم في كتب الاثني عشرية، وسنحاول أنْ نستعرض بعض الأقوال الواردة عنهم في تقرير هذه الحقيقة، وعلى القارئ الكريم أنْ لا

الصفحة 131
ينسى أنْ يتذكر الأثر الحاسم لأقوال الأئمة الاثني عشر في محو التصورات الوثنية للغلاة، ولا ينسى ـ أيضاً ـ دور أصحاب الأئمة الاثني عشر الذين حفظوا هذه الأقوال ورعوها ودوّنوها حتى وصلت إلينا.

ونحن نبتغي ونهدف من عرض أقوال الأئمة الاثني عشر أنْ يكون قارئ هذا البحث على علم بأنّ هذه الأقوال إنّما تواجه الغلو وفرق الغلاة؛ الذين يقول بتكفيرهم علماء الاثني عشرية، لكننا نأسف لإخواننا الوهابيين الذين لم يدركوا أقوال الأئمة الاثني عشر، وظنوا أنّها موجهة نحو الاثني عشرية لا الغلاة، ومن هنا نجدهم في كتاباتهم يذكرون هذه الأقوال تحت باب (أقوال الأئمة الاثني عشر في ذم المذهب الاثني عشري).

ولو كان الوهابيون غير مصابين بـ (مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وبين فرق الغلاة) لما وقعوا في هذا الخطأ الخطير، لكن لا غرابة في هذا الخطأ الخطير بعد أنْ سيطرت عليهم (مشكلة الخلط).

* * * *

والآن نمضي في عرض صفة (عبودية الأئمة الاثني عشر) من خلال أقوا لهم التي آمن بها أتباع المذهب الاثني عشري، فقد روي عَنْ الإمام جعفر الصادق عن آبائه أنّه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ترفعوني فوق حقّي فإنّ الله ـ تعالى ـ اتّخذني عبداً قبل أن يتّخذني نبياً))(1).

وهذه الحقيقة ((اتّخذني عبداً)) توسّع الأئمة الاثنا عشر في عرضها؛ لأنها تبين أنّ مقام الإنسان مهما بلغ من الكمال فهو مقام العبودية لله سبحانه.

وروي عن الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ أنه قال: ((.... إيّاكم والغلو فينا، قولوا: إننا عبيد مربوبون...)).

____________

(1) ذكر الشيخ عبد الحليم الجندي في كتابه (الإمام الصادق) بعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت والتي تؤكد عبوديتهم لله سبحانه.


الصفحة 132
وحقيقة ما قاله الإمام علي ((أننا عبيد مربوبون)) هي الحقيقة الأساسية والرئيسية، والحقيقة الواقعية التي آمن بها كلّ أتباع المذهب الاثني عشر.

ويرى المراجع لكتب الاثني عشرية اهتمام الأئمة الشديد في وصف أنفسهم بأنّهم عبيد لله ـ سبحانه ـ، ومربوبون له وكل كتاب من كتب الاثني عشرية عندما يتناول صفات الأئمة الاثني عشر يذكر هذه الحقيقة.

وهذه الصفة (صفة عبودية الأئمة الاثني عشر لله سبحانه) هي الصفة الأساسية للأئمة الاثني عشر عند الاثني عشرية، وتهتم كتب الاثني عشرية بتقرير صفة عبودية الأئمة الاثني عشر لله ـ سبحانه ـ في مواضع كثيرة، حتى استقرت هذه الحقيقة في نفوس كل الاثني عشرية، ووجدت حية قوية واقعية.

وعندما كنت أراجع أقوال الأئمة الاثني عشر حول هذه الحقيقة أقف متأملاً، وأقوم بتطبيق ما يذكره علماء الأئمة الاثني عشر وما ذكره الأئمة أنفسهم، فأجد تمام المطابقة بينهما، وأن ما قاله علماء الاثني عشرية هو عين ما ذكره الأئمة، حتى أصبحت عبودية الأئمة الاثني عشر ـ عند الاثني عشرية ـ من الحقائق الأساسية في هذا المذهب العظيم، وأصبحت هذه الحقيقة تملي على الاثني عشرية حياتهم، وتواجههم في كلِّ درب، وتعايشهم بالليل والنهار... عند ذلك لم يعدْ للغلو في الأئمة الاثني عشر مجال عند الاثني عشرية، ولم يعد للغلاة مكان.

وقد وضعت الحواجز القوية والمنيعة بين الاثني عشرية وبين الشرذمة القليلة المغالية المنبوذة من قبل الاثني عشرية، وبطلت ومحيت التصورات الوثنية للغلاة التي كان يعتقد بها شرذمة من الغلاة، وثبت في عالم الواقع الاثني عشري ـ الذي عشناه ولمسناه في فترة طويلة ـ حقيقة صفة عبودية الأئمة الاثني عشر لله سبحانه.

إنّ كل اثني عشري يدرك ويؤمن بما قاله الإمام الثامن (الإمام الرضا) من الأئمة الاثني عشر حيث يقول ـ رضوان الله عليه ـ: ((إنّ من تجاوز بأمير المؤمنين ـ كرم الله وجهه ـ العبودية فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين))(1).

____________

(1) راجع ما نقله العلامة عبد الحليم الجندي في كتابه الإمام جعفر الصادق، حيث نقل بعض روايات أهل البيت التي تفصل بين مقام الالوهية ومقام العبودية.


الصفحة 133
وكل اثني عشري يؤمن بما قرره الإمام الرضا ـ رضوان الله عليه ـ من الفصل التام بين مقام الألوهية ومقام العبودية، وبين خصائص الألوهية وخصائص العبودية.

وعبودية الإمام علي لله ـ تعالى ـ هي القضية الأولى والقضية الكبرى في مذهب الاثني عشرية، الذين يؤمنون بكل ما ورد عن الأئمة الأحد عشر الذين جاءوا بعد الإمام علي؛ من أقوال تنفي الألوهية عن الإمام علي، وتنفي عنه أي خاصية من خصائص الألوهية، وتثبت وتقرر للإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ صفة العبودية لله ـ سبحانه ـ والخضوع له.

وكلّ اثني عشري يؤمن بما قال الإمام الرضا ـ رضوان الله عليه ـ في هذه العبارة المقتطفة: ((... أوليس علي ـ كرم الله وجهه ـ كان آكلاً في الآكلين، وشارباً في الشاربين، وناكحاً في الناكحين، ومحدثاً في المحدثين؟!

وكان مع ذلك مصليّاً خاضعاً بين يدي الله ذليلاً، وإليه أوّاهاً منيباً، أفمن هذه صفته يكون إ لهاً؟ فإنّ كان هذا إ لهاً فليس منكم أحدٌ إلاّ وهو الله؛ لمشاركته له [يعني: للإمام علي] في هذه الصفات الدالات على حدوث كل موصوف بها))(1).

وتتجلى هذه الأقوال بصورة واضحة وصريحة في كلمات علماء الاثني عشرية(2)؛ التي انبثقت وتولّدت من أقوال الأئمة الاثني عشر في تقرير عبوديتهم لله ـ سبحانه ـ. وكما انبثقت أقوال الأئمة الاثني عشر من الكتاب والسنة النبوية، فقد انبثقت أقوال علماء الاثني عشرية من أقوال الأئمة الاثني عشر ـ عليهم السلام ـ كما تتجلى هذه الحقيقة الأساسية في كل كتب الاثني عشرية، وتتجلى ـ أيضاً ـ في الواقع الفعلي المعاش للاثني عشرية المعاصرين.

* * * *

____________

(1) المصدر السابق.

(2) ذكرنا أكثر هذه الأقوال في كتابنا (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية) عند تناول الحقائق الثمان للاثني عشرية.